الغارة الإسرائيلية على غزة 1955 أو عملية السهم الأسود (חץ שחור حتس شاحور). أو المذبحة الإسرائيلية
شجّع موشي ديان الذي كان وقتها رئيساً لأركان الجيش، على تنفيذ العملية، إذ كان يسعى منذ توليه هذا المنصب عام 1953 إلى خلق أخطاء تغذي الصراع عسكرياً، متبنياً في ذلك نظرية التحرش ثم الرد تحت ذريعة الانتقام، وساعده على ذلك أستاذه رئيس الوزراء ديڤيد بن گوريون الذي كان وقت تنفيذ الغارة وزيراً للدفاع إلى جانب رئاسته للحكومة وهما المنصبان اللذان بدأ بهما حكم إسرائيل. وكان هذا التحرش بالفعل هو ما نجمت عنه الغارة الإسرائيلية المسماة بعملية السهم الأسود على غزة.
فقد شنت إسرائيل في 28 فبراير واول يوم من شهر مارس عام 1955، غارة على غزة عندما كانت غزة تحت الحكم المصري، رداً على هجمات الفدائيين المتكررة وعلى استيلاء مصر على السفينة الإسرائيلية بات گاليم. وقد نتج عن الغارة الإسرائيلية استشهاد 38 جندي مصري وثمانية جنود إسرائيليين. وقد كان تلك الغارة الأكبر من نوعها ضد دولة عربية منذ انتهاء حرب فلسطين في 1949.
الأمر العملياتي للجنود الإسرائيليين لتنفيذ مجزرة غزة 1955 وهذا الأمر وغيره من خرائط تنفيذ العملية موجود على موقع إرشيف جيش الدفاع الإسرائيلي (www.archives.mod.gov.il/) وقد تم الإفراج عنها ونشرها في الصحف الإسرائيلية بتاريخ 17-2-2012
موقعمخيم الجيش المصري في قطاع غزة
تعتبر عملية "السهم الأسود" في أرشيف الجيش الإسرائيلي من أهم العمليات وأنها فُرضت من قبل شارون وديفيد للردّ على أعمال القتل والمخابرات من جانب المصريين في قطاع غزة، وقال شارون "الهدف من هذه العملية هو دخول معسكر للجيش المصري في قطاع غزة وقتل جميع الجنود وتفجير كل الأسلحة والقنابل الموجودة فيه، وتخريب منشآته بالكامل حتى تتم العملية بنجاح".
وتعتبر عملية السهم الأسود إحدى المجازر الكثيرة التي قام بها الكيان الإسرائيلي ضد سكان قطاع غزة. والجدير بالذكر هنا ان إسرائيل قامت بهذه العملية رغم وجود هدنة وقف إطلاق نار بين مصر والكيان الإسرائيلي، وكان موقف قائد فرقة الأمم المتحدة المرابطة هناك لحفظ هدنة وقف إطلاق النار الكندي "اللفتنانت جنرال E.L.M." بيرنز، كان حاسماً جداً من هذه العملية ومما وصفه بـ"الاستفزاز المستمر من القوات الإسرائيلية والكيبوتسات المسلحة". وكان استنتاجه: "أن انتقام إسرائيل أمر لا ينتهي"، كما وصف هذه الاعتداء الهمجي كما يلي:
"طابع ومدى هذه العملية من ناحية الأضرار التي تسببتها لا سيما الخسائر البشرية الفادحة تجعل منها تجاوزاً شديداً لهدنة إطلاق النار".
وقد برر الكيان الصهيوني اعتداءه بأعمال تخريبية مصرية سبقت ذلك. لم تصادق أي دولة على التبريرات الإسرائيلية حتى الولايات المتحدة الأميركية، مما أدى في 29 آذار 1955 إلى إدانة إسرائيل على فعلتها في مجلس الأمن في جمعية الأمم المتحدة، لكن دون أن ينتج عن ذلك أي عواقب.
وتأتي مذكرات رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق موشي شاريت لتكشف أن قادة إسرائيل عام 1955، ثبت لهم أن "احتلال غزة لن يحل أي مشكلة أمنية"، وأن الدولة العبرية قامت على مبدأ القوة التي تضمن لها درجة من التوتر من خلال افتعال حرب مع أي طرف عربي. ويقول شاريت في مذكراته:
"إن الخطر العربي أسطورة اخترعتها إسرائيل لأسباب داخلية.. ولم تستطع النظم العربية إنكارها تماماً، رغم أنها كانت على الدوام في خوف من استعدادات إسرائيل لحرب جديدة".
وإن احتلال غزة وشبه جزيرة سيناء المصرية كان على "أجندة" القادة في إسرائيل، التي تستمدّ قدرتها على البقاء من "خلق الأخطار" و"اختراع الحروب".
وبالفعل تبين فيما بعد أن هذه المذبحة في قطاع غزة عام 1955 لم تكن إلا تحضيراً لاحتلال قطاع غزة في سنة 1956. وكانت إحدى نتائج هذه المذبحة تحول رئيس مصر آنذاك جمال عبد الناصر عن الغرب إلى المعسكر الشرقي، بسبب دعم الغرب لإسرائيل بالسلاح.
ويقول شاريت في مذكراته ايضاً:
"إن عودة بن غوريون إلى رئاسة الوزراء في نهاية 1955 تزامنت مع رغبة أميركا التي كانت مهتمة بإسقاط نظام الرئيس جمال عبد الناصر، فأعطت إسرائيل الضوء الأخضر للقيام بغزو مصر".
وذلك بعد أن قامت مصر بتأميم شركة قناة السويس أشعلت "إسرائيل" حرب السويس العدوانية، بالاشتراك مع بريطانيا وفرنسا عام 1956 وتسمى "العدوان الثلاثى"، إثر رفض البنك الدولي –بإيعاز أميركي – تقديم قرض لمصر لبناء السد العالي مما أدى إلى قيام كل من فرنسا وانجلترا بالتنسيق مع إسرائيل، بشن هجوم شامل على مصر بدأ في 29 أكتوبر/ تشرين الأول 1956، بدخول القوات الإسرائيلية إلى سيناء، وهو ما اعتبرته فرنسا وإنجلترا (وفقاً للسيناريو المرسوم مسبقاً) ذريعة للتدخل في منطقة القناة. وقد كشف أرشيف الجيش الإسرائيلي عن ملفات سرية من وقت حرب السويس في عام 2006.
خطة حملة سيناء – على رأس علبة سجائر
"ما تراه هو نسخة، وكان الأصل على مربع السجائر"، نائب رئيس الوزراء شيمون بيريز، والوثيقة التاريخية التي كشف عنها أرشيف الجيش الإسرائيلي. وقبيل الذكرى السنوية الـ50 لحملة سيناء (أزمة السويس) في أكتوبر ونوفمبر 1956 والمبينة ثلاثة سهام كيفية المضي قدماً في جيش الدفاع الإسرائيلي على خط اليد والرسم. ورسمت من قبل موشي ديان".
ورغم انسحاب القوات المصرية من سيناء، فإن الضغط الدولي السوفياتي والأميركي والمقاومة المصرية، قد أدّت إلى إنهاء العمليات في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني، وانسحاب إسرائيل عام 1957 من سيناء.
ويقول السيناتور "فولبرايت" في كتابه ثمن الإمبراطورية( ) بأن الرئيس "أيزنهاور" كان الرئيس الوحيد الذي وقف متحدّياً الصهيونية، ولا سيما عندما خاطبهم بقوله:
"إذا لم تنسحبوا فسوف نقطع عنكم المعونات كلها".
وكان يدرك بأن إسرائيل كانت تريد من هذا الغزو دفع الأردن لمشاركة المصريين في القتال، كي تضع يدها على الضفة الغربية، والقدس الشرقية، وبغزوها مصر تضع يدها على غزة، تحت إطار المشروع المتدرّج لإقامة إسرائيل الكبرى، مع العلم بأن إسرائيل قد حازت على اعتراف الحكومة الأميركية، بدون أن تحدد الدولة الأميركية حدود الدولة العِبرية، مما ألحق الضرر ليس بإدارة الرئيس "أيزنهاور" فقط، وإنما بالإدارات الأميركية اللاحقة.
ومهما يكن من أمر فإن الإدارة الأميركية، وبعد وقف "الاعتداء الثلاثي" على مصر، بدأت تقوم بدورها كبديل للدول الاستعمارية السابقة، وأخذت تتعاطى مع الشرق الأوسط كمنطقة نفوذ، آخذة بعين الاعتبار دائماً تفوق إسرائيل العسكري وإمدادها بالمعونات المادية والعسكرية، فما كان من "عبد الناصر" إلاّ الانضمام إلى فكرة "عدم الانحياز"، ولكنه سرعان ما واجه مجابهة عنيفة من المعسكرين الشرقي والغربي.
وبعيد حرب السويس وزوال آثار العدوان الأخير وضع "موشيه ديان" مخططاً في صورة وثيقة سرية لتقسيم الشرق الأوسط.
وثيقة موشيه ديان 1956-1957 لتقسيم الشرق الأوسط
وثيقة هيئة أركان الجيش الإسرائيلي والتي وردت في كتاب خنجر إسرائيل للمؤلف الهندي " كارنجيا" على العمل لتنفيذ سيناريو يقوم على إحياء العداوات التاريخية بين شعوب المنطقة وإعطائها أبعاداً دينية وطائفية ومذهبية.
أهداف المؤامرة المباشرة في المرحلة الأولى في العدوان
وفي أوائل عام 1957 بدا واضحاً أن العدوان لم يحقق أهدافه اذ اضطر العدو إلى الانسحاب.
فقد كان هدف إسرائيل الدائم الانفراد بمنطقة الشرق الأوسط، بإفناء الوجود العربي أو إجلائه. وهذا واضح تماماً في احدى فقرات مخطط موشيه ديان التي تقول:
"وهذه العملية لن تكلفنا سوى إجلاء 1.600.000 (مليون و600 ألف) عربي عن أرضهم".
وكان هذا المخطط وليد ظروف دولية وأطماع استعمارية يمكن تلخيصها بثلاثة:
1 إن ايزنهاور وكان وقتئذ رئيساً لأميركا، وعد بن غوريون بحل مشاكل إسرائيل خلال عشرة أعوام.
2 إن فرنسا كانت تلعب دوراً استعمارياً في الوطن العربي آنذاك.
3 إن مصالح بريطانيا وأميركا متشابكة كالنسيج مع مصالح الصهيونية.
ترجمة جزء من الوثيقة (الخطة الاستراتيجية للجيش الإسرائيلي لعام 1956- 1957
من الأصل العبري)
"إن الغاية من الحرب بين إسرائيل والعرب هي لتبديل خط الحدود القائم وإن احتلال الأراضي التي تدّعيها إسرائيل سيحسن حالة بلادنا الاقتصادية والسياسية…
إن الحاجة للاستيلاء على الأراضي التي تدّعيها إسرائيل يمليها هدف الصهيونية الأساسي وهو إنشاء دولة سكانها ما بين 3 إلى 4 ملايين، وذلك خلال حياة جيل واحد. ويعتقد بأن السكان اليهود في إسرائيل سيبلغون لغاية عام 1957 1,800,000 ومهمتنا هي اغتصاب الأراضي العربية وتوطيد سيطرتنا عليها، ووضع ثروتها المادية في خدمة السكان اليهود والأقلية الوطنية التي تقيم في إسرائيل.
يضاف إلى هذا أن الهدف السياسي وراء اغتصاب الأراضي العربية هو تقوية وضع إسرائيل السياسي عن طريق اغتصاب الطرق الاستراتيجية المهمة في الشرق الأوسط، وإقامة ممر عبر البلاد العربية، ومنع الوحدة العربية ونشر الدعاية المؤاتية لإسرائيل بين أقليات الشرق الأوسط.
إن متطلبات دفاعنا تجعل من الضروري الاستيلاء على المناطق التالية:
المنطقة الجنوبية، غزة: ستضمن هذه المنطقة سلامة مراكزنا الحيوية وستمكننا أيضاً من اغتصاب القطاع الجنوبي لشبه جزيرة سيناء وتأمين منفذ من إيلات.
شبه جزيرة سيناء: سيجعل احتلالها الهجوم المصري أثراً مستحيلاً وبالفعل ستكون مصر نفسها في خطر دائم من المهاجمة.
المنطقة الشرقية، غربي الأردن (المثلث)، تلال الخليل وشرقي الأردن بما في ذلك المناطق الصحراوية. إن الاستيلاء على هذه المناطق سيمكن إسرائيل من إقامة حدودها مع العراق والعربية السعودية.
المنطقة الشمالية، وتتضمّن الجولان وحرمون والليطاني: أن هجوماً يشن في هذا القطاع سيجعل بالإمكان الاستيلاء على الجولان ويوغان وهرمان واليرموك وشمالي الجليل حتى نهر الليطاني.
الأقليات العربية:
لتقويض الوحدة العربية وبث الخلافات الدينية بين العرب يجب اتخاذ الإجراءات منذ اللحظة الأولى من الحرب لإنشاء دول جديدة في أراضي الأقطار العربية:
دولة درزية (منطقة الصحراء وجبل تدمر).
دولة شيعية، تشمل قسماً من لبنان (إريتز أشر) أي منطقة جبل عامل ونواحيها.
دولة مارونية (جبال لبنان حتى الحدود الشمالية الحالية للبنان).
دولة علوية (اللاذقية حتى الحدود التركية).
دولة كردية (شمالي العراق).
دولة أو منطقة ذات استقلال ذاتي للأقباط.
وستوزع الأراضي العربية (بما في ذلك المنطقة الصحراوية) بين الدول الجديدة.
تبقى المناطق العربية التالية: دمشق، جنوب العراق، مصر، وسط العربية السعودية وجنوبها. ومن المرغوب فيه إنشاء ممرات غير عربية تشق طريقها عبر هذه المناطق العربية".
ومن الواضح هنا ومن قراءتنا للمخطط الكامل أن للثالوث الاستعماري بريطانيا، أميركا/ إسرائيل، مصالح منفردة خاصة بكل واحدة منها ومصالح مشتركة.
تبلورت المصالح المشتركة في قضيتين أساسيتين، هما: القضاء على الوحدة العربية والسيطرة على المنطقة العربية. ثم القضاء على حركة الثورة العربية.
أما المصالح المنفردة فهي كالتالي:
بريطانيا:
1- بقاء احتكاراتها النفطية في منطقة الخليج العربي سليمة.
2- بقاء وجودها الاستعماري في الجنوب العربي بأقل التكاليف.
3- السيطرة على قناة السويس.
الولايات المتحدة:
1- إقامة قواعد عسكرية في القطر السوري تعزز وجود الأسطول السادس في البحر المتوسط والقواعد الأخرى في الشمال الأفريقي العربي، وتطويق الاتحاد السوفياتي.
2- سلامة احتكاراتها النفطية في منطقة الخليج العربي.
3- توظيف الرأسمالية الأميركية في الوطن العربي.
4- مرور هذه الرساميل إلى افريقيا عن طريق إسرائيل مروراً متستراً يغافل الحركة القومية في هذه القارة.
5- الإطلال على آسيا وأفريقيا لضرب حركات التحرر القومي فيها.
إسرائيل:
1- تفتيت الكيانات الإقليمية المجاورة لها.
2- الاحتلال العسكري ومن ثم البشري لمناطق أوسع من الأرض العربية تحقيقاً للحلم الصهيوني في إقامة دولة تمتدّ من النيل إلى الفرات.
3- استقدام ملايين المهاجرين الجدد لاستعمار الأرض العربية بشرياً.
4- إفناء العرب كوجود وكمقاومة.
5- السيطرة على خط أنابيب التابلاين البترولية.
6- الوصول إلى منطقة الخليج العربي بما فيها الكويت.
7- تقسيم الشرق الأوسط إلى دويلات طائفية عاجزة.
وكانت بداية تنفيذ مخطط "موشى ديان" هي أن في عام 1958 عندما اقترح "بن غوريون"، أول رئيس وزراء للكيان الإسرائيلي على الرئيس الأميركي إيزنهاور بتاريخ 24/7/1958 في رسالة وجهها إليه "إقامة سد منيع ضد المد الناصري" (أي التيار القومي) وللوقوف أمام التوسع السوفياتي من "إسرائيل" وتركيا وإيران.( )
وبعد ذلك خططت "إسرائيل" والولايات المتحدة لحرب حزيران العدوانية عام 1967، ولأهدافها السياسية والاقتصادية وحاولت الولايات المتحدة دون معاقبة العدو على حربه العدوانية وإجباره على دفع التعويضات طبقاً لأهداف ومبادئ الأمم المتحدة والقانون الدولي.
الاستعمار الصهيوني وإعادة تخطيط الشرق الأوسط 1967
وتعرف هذه الحرب في الفكر العربي باسم النكسة، بينما تطلق عليها إسرائيل والكتابات الدولية "حرب الأيام الستة"، وقد مثلت هذه الحرب كارثة متعددة الأبعاد، لم تمح آثارها كاملة من الذاكرة العربية حتى الآن، حيث تعرّضت جيوش ثلاث دول عربية لهزيمة ساحقة من جانب القوات الإسرائيلية، خلال أيام 5-10 يونيو/ حزيران 1967، وأسفر العدوان عن احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان وشبه جزيرة سيناء، وتجسد الإرهاب والتمييز العنصري الصهيوني ضد سكان المناطق العربية المحتلة في سياسة الضم الزاحف والقبضة الحديدية ومخططات خلق الوقائع الجديدة، التي تستهدف في مجملها تقطيع أوصال المناطق المحتلة والتضييق على سكانها ودفعهم لمغادرتها والهجرة منها لزرعها بالمستوطنين الصهاينة وتهويدها.
وبدأت المخططات الإسرائيلية لمستقبل الوطن العربي بالظهور بعد الحرب العدوانية مباشرة، وبعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان، وتمسك العدو الإسرائيلي بالأراضي العربية المحتلة لإجبار العرب على القبول بمخططاته السياسية والاقتصادية.
وقد كان الدعم الشعبي الذي حصلت عليه إسرائيل خلال الربع الأخير من القرن العشرين على أساس عدد من الأساطير والفزاعات، واكثرها تكراراً كانت الخاصة بأمن إسرائيل، وتحت زعم أن تهديدات خطيرة ودائمة يواجهها بقاء المجتمع اليهودي في فلسطين تتم تغذية تلك الأسطورة دائماً من أجل إثارة صورة مخيفة لدى الرأي العام لسماح وتشجيع استخدام كميات كبيرة من الأموال العامة لدعم إسرائيل عسكرياً واقتصادياً، ويبقى أمن إسرائيل هو الذريعة الرسمية التي من خلالها تتنكر ليس فقط إسرائيل بل ايضاً الولايات المتحدة الأميركية لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره في وطنه.
وطوال السنوات الماضية منذ الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين تم قبول تلك الذريعة كتفسير شرعي لانتهاك إسرائيل للقرارات الدولية التي تدعو إلى عودة الشعب الفلسطيني إلى وطنه.
كما تم السماح لإسرائيل بأن تحتجّ بأمنها لتبرير رفضها الانسحاب من الأراضي العربية الفلسطينية التي احتلتها في عام 1967. ولا يزال الأمن هو المبرر الذي تقدمه الحكومات الإسرائيلية المتتالية للمذابح التي ترتكبها على نطاق واسع ضد المدنيين في فلسطين ومصادرة الأراضي العربية من أجل إقامة مستوطنات يهودية في الأراضي المحتلة، وللترحيل وللاعتقالات السياسية التعسفية ولإتمام هذه السياسة كان لا بد من اللجوء إلى المزيد من المخططات التي تساعد في تفتيت الشرق الأوسط لكي تلهو الدول في مشاكلها الداخلية وتبتعد عما يحدث على أرض فلسطين من انتهاكات. وكانت حليفة إسرائيل في هذه المخططات هي الولايات المتحدة الأميركية. ففي عام 1970 ظهرت للعيان مؤامرة الأميركي "زييجينيو بريجنسكي" والذي يعتبر أول من وضع معالم المخطط الشيطاني لتفتيت العالم العربي دويلات وصاحب نظرية (التحالف مع الأصولية الدينية في الشرق الأوسط)( ) لتنفيذ مخطط التفتيت والتقسيم، فبريجنسكي وهو صاحب نظرية استبدال الأنظمة في الشرق الأوسط بجماعات أصولية إسلامية تتم مساعدتها لبلوغ السلطة مقابل التبعية والهدف في تنفيذ المخططات المعدّة في الغرب سلفاً.
"لكن قادة إسرائيل بعد حرب الأيام الستة رأوا أن هذه الحرب قد أنهت جميع الحروب بين العرب وإسرائيل ويجب على العرب طلب الاستسلام" ( ) وليس السلام.
وفي يوم السادس من أكتوبر عام 1973، انطلقت أكثر من 220 طائرة إلى سيناء الأسيرة في توقيت واحد متّجهة صوب أهدافها المحدّدة وبهذا اندلعت الشرارة الأولى لحرب التحرير الكبرى، فذاق الإسرائيليون، أول مرّة منذ إقامة دولتهم، مرارة الهزيمة، لقد حطمت الحرب بالنسبة إلى الإسرائيليين "أساطير" عديدة منها "إمكانية المحافظة على الوضع الراهن الناجم عن حرب الأيام الستة" و"الاستخفاف بالرأي العام العالمي" و"الثغرة الأبدية" بين القوى العسكرية الإسرائيلية والقوة العربية. لقد ساد في إسرائيل بعد الحرب مشاعر القنوط والكدر على الحكومة الإسرائيلية.
وبعد انتصار مصر على إسرائيل في حرب 6 أكتوبر، أعلن الرئيس محمد أنور السادات في مجلس الشعب يوم 16 أكتوبر عام 1973 مبادرته الثانية للسلام.
أما مبادرة السادات الثالثة للسلام فكانت من خلال زيارته للقدس حيث ألقى خطاباً أمام الكنيست الإسرائيلي في 20/11/1977 أعلن فيه عن استعداده لإبرام معاهدة سلام بشروط. وتمت معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل "معاهدة كامب ديفيد". وجاء في نص الاتفاقية التي وقعت في مارس 1979:
"إن حكومة جمهورية مصر العربية وحكومة دولة إسرائيل اقتناعاً منهما بالضرورة الماسة لإقامة سلام عادل وشامل ودائم في الشرق الأوسط وفقاً لقراري مجلس الأمن 242، 338 إذ تؤكدان من جديد التزامهما بإطار السلام في الشرق الأوسط المتفق عليه في كامب ديفيد ويعتبر المؤرخ في 17 سبتمبر 1978.
وإذ يلاحظ أن الإطار المشار إليه إنما قصد به أن يكون أساساً للسلام ليس بين مصر وإسرائيل فحسب، بل أيضاً بين إسرائيل وأي من جيرانها العرب كل في ما يخصه".
وبعد إبرام اتفاقيات السلام مع مصر سادت حالة اللاسلم واللاحرب (أي الجمود)، وبالرغم من توقيع إسرائيل خلال معاهدات السلام مع مصر على عدم التعرض للفلسطينيين، إلا أننا نجد أن إسرائيل قامت بالعديد من العمليات الإرهابية ضد المجالس المحلية والبلدية، وطرد السكان وتهجيرهم.
وفي فجر 15 آذار 1978، اجتاحت قوة من الجيش الإسرائيلي، قدرت بنحو 30 ألف جندي بسلاحهم المدرع والجوي والبحري، جنوب لبنان، من محاور عدة. مما أسفر عن احتلال معظم المناطق الواقعة جنوب الليطاني، وتشريد أكثر من 200 ألف من أهالي الجنوب والمخيمات الفلسطينية فيه، قتل عدد كبير من المدنيين. وبعد هذا الاجتياح وبالتحديد في العام 1982 تم وضع وثيقة "استراتيجية إسرائيل للثمانينيات"( )، وتعتبر هذه الوثيقة البيان الأكثر صراحة وبتفصيل واضح حتى الآن من الاستراتيجية الصهيونية في الشرق الأوسط.
ولكي نستوعب تماماً إطار الخطة، يجب أن نستعرض سريعاً الأحوال الإقليمية والعالمية في ذلك الوقت، ففي أوائل سنة 1982، كان الاتحاد السوفياتي ما زال قائماً، يحتل أفغانستان، يهيمن على شرق أوروبا، ويناطح أميركا في حرب باردة، إسرائيل عقدت اتفاقية السلام مع مصر وسلمت معظم سيناء، تحت غطاء دولي وفرته الحرب العراقية – الإيرانية التي كانت في أوجها، وكذلك الحرب الأهلية اللبنانية.
لبنان كان واقعياً مقسماً لـ 5 دويلات آنذاك، ما بين شمال في أيدي المسيحيين التابعين لسليمان فرنجيه بتأييد من سوريا، وشرق ينتشر فيه الجيش السوري، ووسط يسيطر عليه الجيش اللبناني، ومحاذاة نهر الليطاني التي تهيمن عليها منظمة التحرير الفلسطينية، وجنوب موالٍ لإسرائيل بقيادة ميليشيات سعد حداد.
فكرة انقسام لبنان تلك كانت تروق جداً للإسرائيليين بشرط إعادة توزيع الأقسام لتحقق لهم أكبر قدر من الأمن، بعد التخلص من الجيش السوري ومنظمة التحرير.
من هنا، نبتت في ذهن "عوديد يينون" فكرة لبننة العالم الإسلامي كله، فهي تقريباً الطريقة الوحيدة التي قد يتمكّن بها شعبٌ صغير مثل الشعب اليهودي من حكم مساحة تمتدّ من النيل للفرات، بالإضافة للمصلحة العقدية المادية في التقسيم الطائفي للمنطقة. رأى يينون فائدة أخرى في إرساء شرعية دولة إسرائيل، بما أن كل طائفة ستكون لها دولة، فوجود دولة يهودية يصبح مبرراً تماماً من الناحية الأخلاقية.
"استراتيجية لإسرائيل في الثمانينات"( )
نظرة عامة على العالم العربي والإسلامي "طبقاً لنص الوثيقة العبرية"
إن العالم العربي الإسلامي هو بمثابة برج من الورق أقامه الأجانب – فرنسا وبريطانيا في العشرينيات – دون أن توضع في الحسبان رغبات وتطلعات سكان هذا العالم.
لقد قُسّم هذا العالم إلى 19 دولة كلها تتكون من خليط من الأقليات والطوائف المختلفة، والتي تُعادي كل منها الأخرى، وعليه فإن كل دولة عربية إسلامية معرضة اليوم لخطر التفتت العرقي والاجتماعي في الداخل إلى حد الحرب الداخلية، كما هو الحال في بعض هذه الدول.
وإذا ما أضفنا إلى ذلك الوضع الاقتصادي يتبين لنا كيف أن المنطقة كلها، في الواقع، بناء مصطنع كبرج الورق، لا يُمكنه التصدي للمشكلات الخطيرة التي تواجهه.
في هذا العالم الضخم والمشتت، توجد جماعات قليلة من واسعي الثراء وجماهير غفيرة من الفقراء. إن معظم العرب متوسط دخلهم السنوي حوالي 300 دولار في العام.
إن هذه الصورة قائمة وعاصفة جداً للوضع من حول (إسرائيل)، وتُشكل بالنسبة (لإسرائيل) تحديات ومشكلات وأخطار، ولكنها تُشكل أيضاً فرصاً عظيمة.
اعتبرت الخطة أن أهم محاور الاستراتيجية المستقبلية لإسرائيل عقب الانتهاء من لبنان، يجب أن تتركز في تقسيم العراق لـ3 دول: شيعية – سنية – كردية، ومن بعد لبنان والعراق، مصر وليبيا والسودان وسوريا والمغرب العربي وإيران وتركيا والصومال وباكستان، استمدّ يينون واقعية مخططه من إشكالية أن الحدود العربية الحالية غير قابلة للدوام؛ مما يجعل الدول العربية أشبه ببيوت مبنية من أوراق اللعب:
– الحدود وضعتها دول استعمارية دون اعتبار لهويات الشعوب وتوجهاتها ورغباتها.
o معظم الدول العربية تضمّ طوائف عدة غير منسجمة.
o الحكم تستحوذ عليه طائفة بعينها (في بعض الأحوال الطائفة الحاكمة أقلية مثلما هو الحال في سورية والعراق ولبنان والبحرين).
o توجد صراعات على الحدود بين دول عربية عدة.
o تصارع الأيديولوجيات بين الإسلاميين والقوميين والوطنيين سيصعد الصراعات الداخلية في كل دولة.
بعد 4 أشهر من نشر هذا المخطط، قامت إسرائيل بغزو لبنان ولم تخرج إلا بعد 18 سنة، أبادت وطردت خلالها الفلسطينيين هناك، وفعلت ما يكفي لإخراج الجيش السوري، ولولا اتفاق الطائف وظهور حزب الله في الجنوب لكان لبنان مقسماً الآن إلى 5 دويلات.
فقد قامت القوات الإسرائيلية بغزو لبنان لتدمير قواعد منظمة التحرير الفلسطينية، وتقدّمت لتحاصر القطاع الإسلامي من بيروت لمدة عشرة أسابيع، قبل أن تنسحب بعد التوصل إلى اتفاق بشأن خروج "القوات الفلسطينية" من لبنان، وكان أهم نتائجها قيام إسرائيل بتوسيع "الشريط الحدودي" الذي كانت قد احتلته في جنوب لبنان عام 1978، وارتكاب القوات الإسرائيلية – مذبحة صبرا وشاتيلا، وتعرّض الجيش الإسرائيلي الذي كان أرييل شارون يقوده لهزة عنيفة.
وقد سبب الصراع العربي – الإسرائيلي للولايات المتحدة توتراً كبيراً في ما يتعلق بمصالحها الداخلية أو الخارجية، لا سيما أثناء الأزمات، حيث تنجم إشكاليات كبرى في مجال السياسة الخارجية، وفي الفترات التي خلت من أزمات، خفّت حِدّة التوتّر نظراً لصياغة السياسة الأميركية حِيال الصراع العربي – الإسرائيلي. وقد أحدثت نهاية الحرب الباردة وحرب الخليج الثانية 1990 تغيرات في السياسة الأميركية، في العديد من النواحي. فقد قامت الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب الباردة، بالشروع في مصادرة نتائجها لصالحها، عبر تنصيب نفسها كزعيمة للعالم من أقصاه إلى أدناه، تقرر قواعد السلوك وصياغة العلاقات الدولية، منفردة في التأسيس لنظام عالمي وحيد القطبية، وكانت البداية أحداث كوسوفو وما أعقب ذلك من احتلال أفغانستان والعراق، والباب مفتوح أمام حروب جديدة، وبالتالي إحداث هزّة قوية لكل القواعد القليلة للاستقرار الدولي، والشروع في انطلاق عصر جديد، يتّسم بإلغاء سيادة الدولة من أجل المصالح الكبيرة ولذلك وضعت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بعد توقيع اتفاقيتي كامب ديفيد مخططاً للشرق الأوسط تحت عنوان: "التعاون الإقليمي في الشرق الأوسط". وكانت الوكالة الأميركية قد كلّفت ثماني عشرة مؤسسة أميركية حكومية وغير حكومية لوضع هذا المخطط، وتمخض عن التقرير الذي أعلنته الوكالة الأفكار التالية:
ـ سيكون الدور الأميركي حاسماً في مجال التعاون الإقليمي، وعلى الولايات المتحدة أن تلعب دور الوسيط.
ـ تقوم فكرة التعاون الإقليمي على أساس شرق أوسطي وليس على أساس عربي.
ـ إيجاد مؤسسات جديدة تتجاوز الجامعة العربية، لكي تسمح باستيعاب "إسرائيل" وانخراطها في النظام الإقليمي الجديد.
ـ إعطاء أهمية لدور الأكاديميين ورجال الأعمال في بداية التعاون الإقليمي وتطويره.
ويعالج المخطط الأميركي آفاق التعاون بين "إسرائيل" ومصر وسورية والأردن ولبنان والسعودية والضفة الغربية وقطاع غزة، ويتطرّق إلى الموارد المشتركة مثل نهر الأردن، والبحر الميت وخليج العقبة، وإلى مشكلة الصحاري والزراعة والتعاون العلمي والتكنولوجي( ).
ويوصي التقرير الأميركي في مجال النقل بربط خطوط المواصلات بشكل يعمل على تعزيز التجارة والسياحة، والبحث عن المياه الجوفية في سيناء، وبيع مياه النيل "لإسرائيل" وتحلية مياه البحر.
ويطالب التقرير بإقامة مشروعات صناعية مشتركة بين "إسرائيل، وجيرانها، ويؤكد على الدور الذي يجب أن تلعبه الولايات المتحدة في المرحلة الأولى من البدء في تنفيذه.
تُولي الولايات المتحدة الأميركية اهتماماً كبيراً للمنطقة العربية لخدمة مصالحها الاقتصادية والهيمنة على النفط العربي والمحافظة على تفوّق "إسرائيل" على جميع البلدان العربية، لذا اقترح البروفيسور الأميركي " روبرت تاكر" أنه "لمنع أميركا من أن تنزف حتى الموت من جرّاء نفط الشرق الأوسط عليها فرض السيطرة الأميركية الفعلية على المنطقة الممتدّة من الكويت نزولاً على طول الإقليم الساحلي للمملكة العربية السعودية حتى قطر.
لقد أدّت أزمة الكويت في عام 1990 باجتياحها من قِبل القوات العراقية، إلى تعزيز الوجود العسكري الأميركي الدائم، وزادت من تأثير السياسة الأميركية في دول الخليج، وشملت نتائجها السلبية الجامعة العربية، وانتعش نمو وتطور التعاون الإقليمي مع الكيان الصهيوني، وأخذت المخططات الإسرائيلية والأميركية تتحقق بعد حرب الخليج الثانية.
كما دخلت القضية الفلسطينية، مع بداية عقد التسعينيات من هذا القرن، منعطفاً جديداً، حاسماً وبالغ الخطورة، أحيطت فيه بجملة من الظروف المستجدّة والمتغيرات الطارئة التي تركت آثاراً مباشرة على مسار كفاح الشعب الفلسطيني منها: "تأثير الانتفاضة الفلسطينية ونتائجها، أزمات الاقتصاد الإسرائيلي المركّبة؛ لأسباب عديدة منها: تصاعد النفقات العسكرية، والآثار السلبية لاستمرار وارتفاع وتيرة نشاطات الانتفاضة في الأراضي المحتلة، ازدياد معدلات الهجرة اليهودية وتعاظمها إلى إسرائيل".
هذه العوامل وغيرها، مهدت الطريق أمام برنامج التسوية الأميركي (اتفاقية أوسلو) الذي تمّ تكريسه فعلياً والتوقيع على بنوده تحت رعاية الولايات المتحدة الأميركية، تحت اسم اتفاق المبادئ الفلسطيني الإسرائيلي يوم الاثنين 13/9/1993. والتي كانت من أهم نتائجه انسحاب إسرائيل من قطاع غزة ومنطقة أريحا وتولي السلطة الفلسطينية الحكم في هذه المناطق، ووقع هذا الاتفاق حكومة حزب العمل "شمعون بيريس".
بمقارنة خريطة لويس مع خطة يينون، نجد أنهما اتفقا على محو الدولة اللبنانية من الوجود وتقسيم العراق لـ3 دويلات: سنية وشيعية وكردية، وضم سيناء لإسرائيل، ولكن برنارد لويس اختلف مع يينون في الآتي:
– استبعد تقسيم مصر، (على أن تضم إسرائيل سيناء كما في خطة يينون).
– استبعد تقسيم سوريا.
– ركّز لويس أكثر على منطقة شرق الخليج العربي: إيران وأفغانستان وباكستان وكيفية تقسيمها، وقد ذكر يينون ذلك، ولكنه لم يتطرق للتفاصيل.
خطة برنارد لويس لا تكتفي بخرائط صماء تستغل الصراعات الطائفية والعرقية، ولكنها اشتملت أيضاً على إشعال 9 حروب في المنطقة، وعاشرتها حرب البلقان في أوروبا التي توقع أن تمتد لشرق البحر المتوسط، تلك الحروب ستسرّع عجلة تقسيم المنطقة، وبعد التقسيم تنشب حرب أخرى كبرى عربية – إيرانية بمجرد هيمنة إيران على الدويلة العراقية الشيعية.
أشار لويس لدولتين فقط، ينبغي الحفاظ على استقرارهما وقوتهما واستقلالهما والاعتماد عليهما:
إسرائيل وتركيا (أيام الانقلابات العسكرية على الحكومات ذات التوجه الإسلامي)، إلا أن ذلك لم يمنعه من طرح تصور الدولة الكردية التي تقتطع جزءاً من تركيا. من المثير للاهتمام أن لويس تكلم عن تنظيمات إسلامية مسلحة مصنوعة في بريطانيا، وأن استبداد الحكام في الدول الإسلامية سيغذّي تلك الميليشيات، مما يصب في مصلحة خطط التقسيم، إذ إن الانتصارات العسكرية لهؤلاء ستساهم بصورة كبيرة في إضعاف السلطة المركزية، ومن ثم تؤدي إلى سقوط الدول القائمة فقط على جبروت النظام، حيث تغيب المجتمعات المدنية الصلبة التي تحفظ نظيراتها في الغرب.
وبعد 10 سنوات من نشرها، وجدت رؤى برنارد لويس الاستعمارية النفطية ضالتها في إدارة جورج دابليو بوش التي استعانت بلويس كمستشار لها قبل غزو العراق.
الوجه الآخر للصراع في الشرق الأوسط
صراع أنابيب الغاز
كان ظهور النفط في الجزيرة العربية ومنطقة الخليج قد طرح معادلة جديدة زادت من الأطماع الأجنبية في تلك المنطقة ومحاولة احتوائها سياسيّاً واقتصاديّاً؛ فالولايات المتحدة الأميركية يسيطر عليها هدفان رئيسيان في الشرق الأوسط، هما: ضمان أمن إسرائيل، وحماية منابع النفط؛ لذا تركَّز الصراع الدولي والإقليمي بالمنطقة دائماً على مسألتي الثروة العربية وقضية الصراع العربي-الإسرائيلي.
بعد إقرار اتفاق "كيوتو" سنة 1992، وتطبيق الدول الأوروبية إجراءات حازمة للحدّ من تلوّث الجوّ، تضاعف استهلاك أوروبا للغاز. ومن المتوقّع أن يزداد هذا الاستهلاك بأكثر من خمس مرّات في السنوات القليلة المقبلة، في ظل قرارات بإغلاق العديد من المفاعلات النووية المولّدة للطاقة. وهذا ما فتح شهيّة الكثير من الدول المصدرة للغاز نحو أوروبا بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك لمصالح اقتصادية ولأهداف مرتبطة بالنفوذ السياسي الدولي. وفي هذا السياق، توزّع روسيا الاتحادية (التي هي المصدّر الأوّل للغاز في العالم)، كمّيات ضخمة من الغاز السائل تبلغ 420 مليار طن سنوياً، عبر شبكة ضخمة ومعقدة من خطوط الأنابيب تمتد من روسيا مروراً بأوكرانيا وبيلاروسيا إلى مجمل أوروبا الشرقية سابقاً، وصولاً إلى ألمانيا وبلجيكا بواسطة شركة "غاز بروم" الروسية التي تأسّست في العام 1996
ومن الواضح أن روسيا قد قرأت الخارطة وتعلّمت الدرس جيداً.. فسقوط الاتحاد السوفياتي كان بسبب غياب موارد الطاقة العالمية عن سيطرته.. لتضخ إلى البنى الصناعية المال والطاقة.. وبالتالي البقاء. ولذلك تعلمت أن لغة الطاقة الآتية إلى القرن الحادي والعشرين على الأقل هي لغة الغاز.
خطوات تنفيذ سيناريو الشرق الأوسط الجديد مشروع نابوكو
بدأت فكرة المشروع مع بداية هذا القرن، واتخذت أول خطوة عملية فيه في بداية عام 2002 حينما وقع بروتوكول للاشتراك في المشروع بين كونسورتيوم من شركة (أو إم في جاز) النمساوية و(بوتاش) التركية و(إم أو إل) المجرية و(ترانس جاز) الرومانية و(بلغار جاز) البلغارية. والهدف الرئيسي من هذا المشروع هو ربط احتياطيات الغاز في آسيا الوسطى عبر بحر قزوين بأوروبا من خلال خط أنابيب يعبر بحر قزوين إلى أذربيجان ثم إلى النمسا، دون المرور بأراضي دولة روسيا، وبحسب دراسات المشروع في بداياته فهو يعتمد أساساً على تصدير الغاز الطبيعي من المزود تركمانستان، التي تملك رابع أكبر احتياطي غاز في العالم من خلال تمرير خط أنابيب عبر بحر قزوين يحمل غاز تركمانستان إلى أذربيجان دون المرور على الأراضي الروسية، ومنها إلى تركيا حيث سيمر ثلثا خط الأنابيب عبر الأراضي التركية ومن ثم يعبر بلغاريا ورومانيا ثم المجر إلى منتهاه في محطة تجميع ضخمة في مدينة «بوجمارتن اندرمارش»، في النمسا، بطول 2050 ميلاً أو 3300 كيلو متر.
إذن فمشروع «نابوكو» هو مشروع لتحويل تجارة الغاز الطبيعي من آسيا الوسطى إلى أوروبا دون المرور بروسيا وبتأييد من المفوضية الأوروبية ودعمها المادي، وذلك بمنحة مالية لتغطية نحو 50 في المئة من تكلفة المشروع، غير أن مشروع نابوكو الذي تم التفكير فيه عام 2002 لم ير النور وتمّ تعطيله وإرجاؤه فترة امتدت إلى تاريخ توقيعه في عام 2009م وذلك لأسباب عديدة، تأتي في مقدمتها لعبة المصالح الكبيرة بين الجغرافية والسياسة والطاقة.
ولكن هيمنة روسيا السياسية والعسكرية والتجارية ووقوفها عائقاً لتلك الاتجاهات الأوروبية – الأميركية من أجل تنفيذ فكرة هذا المشروع الذي كان معتمداً في بدايته على المزوّدين الأساسيين بضخ الغاز في خط الأنابيب من حقول الغاز في الدول من القوقاز ووسط آسيا، والالتفات حول روسيا و"تحريرهم" من مخالب الدب الروسي، وكذلك إلى الحدّ من اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، أو سيطرتها عليه، وهو بالطبع مما أثار حفيظة الدب الروسي، الذي يتربع على أكبر احتياطي للغاز في العالم ويسيطر على جميع خطوط الأنابيب العاملة التي تنقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا.
ولأن موسكو ليست بالفريسة السهلة، ومن الصعب عزلها وتحييدها بناء على الرغبات الأميركية الجامحة، فقد أظهرت روسيا ممانعتها قولاً وفعلاً لذلك المشروع الذي اعتبرته يستهدف كيانها الإقليمي ومعادياً لها، وتبنت خطة استراتيجية دفاعية بثلاثة محاور وذات أبعاد ودوائر حلزونية تتقارب في المركز وتتباعد في زمنها التنفيذي، وذلك لمجابهة مشروع نابوكو وتفريغه من جدواه من النواحي القانونية والاقتصادية والسياسية. وقد جاء المحور الأول منها عبر إثارة نزاع الملكية القانونية حول بحر قزوين، فقد لجأت روسيا في تنفيذ استراتيجيتها إلى إثارة جدل قانوني حول مسار الأنبوب، وإمداداته وذلك من أجل الإيقاف الفوري أو على الأقل تعطيل مشروع خط نابوكو.
هذا الخلاف الذي أثارته روسيا هو ماهية الصفة القانونية للمسطح المائي لبحر قزوين في ظل القانون الدولي، وهل هو بحر أم بحيرة؟!!
ولإيضاح ذلك المبدأ، فإن القانون الدولي بشكل عام يفرق بين الصفة القانونية للمسطح المائي في ما لو كان بحراً فإن القانون الدولي يحدد حقوق معيته للدول المطلّة عليه، وتختلف هذه الحقوق إذا كانت صفة المسطح المائي حوضاً أي «بحيرة»، فإنه يترتب عليه حقوق تختلف للدول المطلة عليه: فالبحر تحت القانون الدولي يتمّ تقاسم مياهه وثرواته حسب طول شواطئ الدول المحيطة به، وجرفها القاري… إلخ، فيما إذا كان المسطح المائي حوضاً أو بحيرة فإن الوضع القانوني للملكية يختلف حيث يتم تقاسم مياهه وثرواته بالتساوي بين الدول المحيطة به.
وتأسيساً على ذلك المبدأ، أثارت روسيا موضوع الصفة القانونية لبحر قزوين وتبنّت تعريف حوض قزوين على أنه بحيرة متجدّدة بمياه أنهار الفولجا وبناء على ذلك، فالقانون الدولي يعطيها الحق بتقاسم مياهه وثرواته بالتساوي بين الدول المحيطة به، كما ينص القانون الدولي على ذلك. هذا المحور من الاستراتيجية الروسية جعل من المستحيل، ليس فقط إنشاء خط أنابيب الغاز عبر حوض قزوين، بل حتى تطوير تركمانستان أو أذربيجان لأية حقول غاز على سواحل حوض قزوين في ظل هذا التعريف، إلى أن يتم الاعتراف به كبحر، وبالتالي فلا حق لأي دولة أخرى مطلة على البحر في حقول النفط والغاز على شواطئ الدول الأخرى المطلة على المسطح المائي.
الاستعمار من بُعد
مخططات إسرائيلية وأميركية لخلق شرق أوسط جديد
هل بالفعل نجح العالم العربي في إنهاء الاستعمار؟ هل بالفعل تحرر من الاحتلال؟ أم أن الاحتلال الأوروبي.. الأميركي.. الإسرائيلي أوجد نفسه في أشكال أخرى تمكّنه من السيطرة ليس فقط على عالمنا العربي فحسب، بل على الشرق الأوسط كله وبتخطيط توارثته الولايات المتحدة الأميركية من المستعمر الأوروبي لتكمل مسيرة الاحتلال، ويتحول الاحتلال من الانجلو أميركي ليصبح الصهيو أميركي الذي أوجد سبلاً أخرى؟!
عملت الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي والكيان الصهيوني على تسخير مؤتمر مدريد الذي عُقد في 30 تشرين الأول 1991 لصياغة وبلورة النظام الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط، وحاولت إضعاف الموقف التفاوضي لسورية ولبنان بالبدء في المفاوضات المتعدّدة الأطراف التي عُقدت في موسكو في 28 كانون الثاني 1992 للتوصل إلى تطبيع العلاقات قبل التوصل إلى السلام الشامل على جميع المسارات.
واستجاب الطرف الفلسطيني وانفرد بتوقيع اتفاق أوسلو، اتفاق غزة ـ أريحا في 13 أيلول 1993، وانفرد الأردن أيضاً بتوقيع إعلان المبادئ في 25 تموز 1994 ومعاهدة وادي عربة في 26 تشرين الأول 1994.
واتفق المغرب وتونس على إقامة علاقات رسمية مع الكيان الصهيوني وفتح مكاتب الاتصال في شهري: أيلول وتشرين الأول 1994.
وألغى مجلس التعاون الخليجي في 30 أيلول 1994 المقاطعة من الدرجتين الثانية والثالثة مع العدو الصهيوني، وساعدت هذه الخطوات التي اتخذتها الأطراف العربية على فتح الآفاق لإقامة النظام الإقليمي الجديد. وصاحب هذه الخطوات الرسمية بروزُ تيار سياسي يعمل على تسويق فكرة الشرق أوسطية، لإيجاد المناخ الملائم كي تتقبّله الأوساط الشعبية العربية ومن أبرز أقطابه المفكر اليساري لطفي الخولي.
وتهدف جميع المخططات إلى تأمين هيمنة الولايات المتحدة الأميركية على النفط العربي وفرص الهيمنة الصهيونية على البلدان العربية.
حدّد الرئيس الأميركي جورج بوش في كلمته الافتتاحية في مؤتمر مدريد أن جوهر السياسة الأميركية لا يقتصر على حل النزاع العربي ـ الإسرائيلي بل تهيئة الأجواء أيضاً لإقامة النظام الإقليمي الشرق أوسطي.
إن نظام الشرق الأوسط الكبير تجسيد للمخططات الصهيونية لمستقبل المنطقة العربية في مرحلة السلم الإسرائيلي، وهي مشروع صهيوني ساهمت في التخطيط له وإرساء دعائمه جميع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، العمالية منها والليكودية، ويحوّل "إسرائيل" دولة عظمى.
وترمي "إسرائيل" من خلاله إلى النجاح في تسويق النفط والغاز العربيين ونقل النفط من الخليج والعراق إلى أوروبا، فالشرق أوسطية تهدف إلى سلب الخيرات العربية، والتحكّم في تطوّر الأقطار العربية، والحيلولة دون إقامة صناعات وطنية متطورة.
"خرائط برنارد لويس – 1992"
ومرت 10 سنوات على خطة يينون، وضع البروفيسور الأميركي "برنارد لويس" مخططاً للشرق الأوسط نشرته مجلة "فورين أفيرز" الأميركية “Foreign Affairs” في خريف 1992 تحت عنوان:
"إعادة النظر في الشرق الأوسط"، انطلق فيه من التخلي الرسمي عن حلم القومية العربية، ورسم شرق أوسط جديد تصل حدوده الجغرافية إلى الجمهوريات الإسلامية المستقلة حديثاً.
عن طريق رسم خرائط جديدة، اختصت بالشرق الأوسط، وبدت وكأنها نموذج معدل لخطة يينون، في ضوء المتغيرات الإقليمية والدولية.
يقوم مشروع برنارد لويس أيضاً على تقسيم المنطقة طبقاً لخطوط عرقية طائفية لغوية، ويتطرق للبننة (نسبةً للبنان) وكذلك الحرب العراقية الإيرانية، عندما زوّد الغرب كل الأطراف بالأسلحة الفتاكة لكي يظل القتال مستمراً لأطول فترة ممكنة قبل أن يدرك المتصارعون كم كانوا أغبياء. ويعتبر برنارد لويس غزو العراق للكويت النهاية الفعلية لسيطرة العرب على سلاح البترول، فلن تتمتع بعده أية دولة نفطية بالاستقلال أو القوة، وكلمة السر هي (التحكم من الخارج) دون الحاجة لاحتلال عسكري على الأرض إلا بالقدر الذي يحمي موارد البترول إذا تعرّضت لخطر مسلح.