– ما هي وجهة نظركم عن العلمانية؟ كيف تفهمونها وتعرفونها؟
سنُقدِّم في ما يلي التعريف الذي نراه لمفهوم العلمانيّة من مُنطلق ما يُقدّمه هذا المفهوم من مبادئ تطويرية للإنسان والمجتمع، دون أن نربط الكلمة بأصلها التاريخي أو باشتقاقها، أي دون أن نُفرِّق بين لفظ الكلمة بفتح أو بِكسر العَين، إيماناً منا بوحدة الغايات التي تسعى العلمانية (بمختلف أصولها التاريخية المفترضة) إلى تحقيقها.
العـلـمـانـيّـة (سواء لُفظت بِفتح العين أو بِكسرها) هي نظام حياة ونظام دولة.
فعلى الصعيد الفردي، هي نظام حياة ومفهوم إنساني وأسلوب تعامل مع الناس، يأخذ صاحبه إلى تقبّل كل رأي واحترام حرية كل إنسان من منطلق قيمته الإنسانيّة وهويته المدنيّة، بِغضّ النظر عن انتماء هذا الإنسان الشخصي (الفكري أو الديني) وبِغضّ النظر عن موقفه السياسي أو حالته الاجتماعية.
وهي على صعيد المجتمع، نظام ومفهوم سياسي يدعوان إلى بناء هوية الأفراد المدنيّة والإنسانيّة في المجتمع بما يَضمن مُساواتهم أمام قوانين الدولة، وبالتالي فالعلمانيّة تؤكّد استقلال الدولة (بقوانينها ومُؤسساتها) في علاقتها بالمواطن عن أية علاقة أخرى تربط هذا الأخير بأيّ مذهب فكري أو ديني أو بأية مجموعة عرقيّة أو سياسيّة.
والهوية المدنيّة لا تُقصي الهوية الدينيّة بل تحميها من خلال حياد الدولة الذي يعني بشكل واضح عدم تحيُّز السلطة الحاكمة أو ارتهانها لمصلحة أو ضد مصلحة أي مُعتقد خاص تعتنقه مجموعة من الأفراد فيها، لأنّ علاقتها بالأفراد في المجتمع هي علاقة دولة بِمُواطنيها المُتساوين في نظرها وأمام قوانينها.
والحرية المقصودة في ما سبق هي الحرية التي لا تتعدّى حرية وحقوق الغير ولا تُولّد أذيةً جسديةً أو معنويةً لصاحبها أو للغير أو للمجتمع.
هذا وتُمهِّد العلمانية الطريق لحُسن تطبيق النظام الديمقراطي على أرض الواقع، من خلال ما تُؤسس له من مساواة بين الأفراد في المجتمع وما تُقدّمه وتضمنه لهؤلاء من حريات تُمكِّنُهم من مُمارسة حقوقهم في الاقتراع وانتخاب ممثليهم السياسيين.
وما هي السبل والوسائل لتطبيقها؟
إنّ العمل من أجل بناء الدولة العلمانية يتطلّب تطبيق إصلاحات أساسيّة، نستطيع بالمقارنة معها استخلاص ثغرات أنظمتنا ومدى اقترابها أو ابتعادها من النظام العلماني.
وهذه الإصلاحات هي:
أولاً: تأكيد دستور الدولة مبدأ حرية الفرد في التفكير والتعبير على الصعيد السياسي والفكري والديني، على أن لا يَتعدّى بحريته على حرية الآخرين أو يُضرّ بها أو بدولته. وهذا يعني تبنّي الدستور في بنوده المبادئ والحقوق الإنسانية التي نصّت عليها الشرعة العالمية لحقوق الإنسان.
ثانياً: اعتماد قوانين مدنيّة تعتمد المساواة بين الأفراد في المجتمع في الحقوق والواجبات ضمن إطار العلاقة مع السلطة، لا التميُّز على الأساس الديني أو الطائفي أو العرقي. وينطبق هذا التوصيف أيضاً بشكل مباشر على قوانين الانتخابات وقوانين الأحوال الشخصيّة والقوانين المدنية والجزائية والعقارية والإدارية والتربوية والإعلامية.
ثالثاً: وجود نظام تربوي مدنيّ يُرسّخ فكر المواطنة وحرية الرأي والتعبير والاطّلاع الثقافي لجميع أبنائه دون تمييز لطالب عن آخر، يتيح في إطاره لجميع أبنائه إمكانية تلقّي العلم في مدارس مجّانية في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة.
رابعاً: وجود إعلام حر، غير عنصريّ أو مبني في خطابه وبرامجه الإعلامية أو في توظيف العاملِين لديه على التمييز بين الأفراد.
خامساً: حرية تشكيل أحزاب تعبِّر عن توجهات الشرائح المُتنوعة داخل النسيج الاجتماعي للدولة، على أن لا تتخذ هذه الشرائح توجُّهات عنصرية أو عرقية أو مذهبيّة تدعو إلى التمييز بين الأفراد في الدولة.
أمّا بالنسبة إلى الإصلاحات الأساسيّة التي يُمكن من خلالها بناء الدولة العلمانيّة في لبنان، فلا شك أنّ الدستور اللبناني يُناقض نفسه بنفسه حين يتبنى نُصوصاً طائفيّة تُعطّل طابعه المدني، وتَدعُو إلى تصنيف الأفراد في المجتمع على أساس طائفي.
فبعض المواد القليلة الواردة في الدستور تُعطل المبادئ المدنيّة فيه وتُحوِّل النظام اللبناني إلى نظام طائفي بكل ما للكلمة من معنى.
ويُمكننا أن نُحدّد في ما يلي الإصلاحات الأساسيّة التي يمكن من خلالها بناء الدولة العلمانيّة في لبنان، وهي تتوزع على خمسة مَحاور هي التالية:
1- تعديل بعض مواد الدستور وتطبيق بعض مواده الأخرى:
نصّت الفقرة (ب) من مقدمة الدستور اللبناني على أنّ لبنان هو عضو مؤسّس وعامل في منظمة الأمم المتحدة وملتزم بميثاقها. وهو عضو في حركة عدم الانحياز. وتجسّد الدولة اللبنانية هذه المبادئ في جميع الحقول والمجالات من دون استثناء.
إنّ هذه الفقرة تؤكد التزام لبنان بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، علماً أنّ لبنان ملتزم أيضاً بمجموعة من المواثيق الدولية الأخرى التي تنصّ على المساواة بين الأفراد في المجتمع.
وتطبيق معايير حقوق الإنسان الدولية مُلزِمة قانوناً على نحو مُباشر وفوريّ في النظام القانوني المحلي. فلدى تعارض مضمون ما في القانون اللبناني مع مضمونها، تُلْزَمُ الدولة بتطبيق ما ورد عالمياً ومن دون انتظار تعديل النصّ المحليّ
فللاتفاقيات العالمية أولوية على القانون المحلي لا سيما أنّ الدستور اللبناني، كما سبق وأشرنا، التزم في مقدمته بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وبالتالي فكلّ نص وارد في الإعلان له قوة النص الدستوري.
من هذا المنطلق، يلتزم لبنان بالمادة السابعة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي نصّت على أنّ كل الناس سواسية أمام القانون، وبالمادة السادسة عشرة منه والتي نصت على أنّ للرجل والمرأة، متى أدركا سن البلوغ، حق الزواج وتأسيس أسرة من دون أي قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين، وبالمادة الواحدة والعشرين منه التي نصت على أنّ لكل فرد الحق في الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين يُختارون اختياراً حراً، ولكل شخص نفس الحق الذي لغيره في تقلّد الوظائف العامة في البلاد، وعلى أنّ إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة، ويعبّر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية تجري على أساس الاقتراع السري وعلى قدم المساواة بين الجميع أو حسب أي إجراء مماثل يضمن حرية التصويت.
كما يلتزم لبنان بالمادة الثالثة والعشرين من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الصادر عام 1966 التي نصت على أنّ للرجل والمرأة، متى بلغا سن الرشد، حق الزواج وتأسيس أسرة من دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين، ولهما حقوق متساوية عند الزواج وأثناء قيامه وعند انحلاله، وأضافَت أنّ للأسرة حقَّ التمتع بحماية المجتمع والدولة، وبالفقرتين الأولى والثانية من المادة الثامنة عشرة منه اللتين نصتا على حرية المعتقد والتعبير، وعلى عدم إخضاع أحد لإكراه من شأنه أن يُعطّل حريّته في الانتماء إلى إحدى العقائد التي يختارها.
إضافة إلى ذلك، فقد أكّد الدستور اللبناني في الفقرة (ج) من مقدّمته أنّ لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد. ونص في الفقرة (ط) من مقدمته على أنّ لا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان ولا تجزئة ولا تقسيم، وفي المادة السابعة منه على أنّ اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون على السواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دونما فرق بينهم. وأشارت المادة التاسعة منه إلى أنّ حرية الاعتقاد مُطلقة، كما أشارت المادة الثانية عشرة منه إلى أنّ لكل لبناني الحقَّ في تولي الوظائف العامة لا ميزة لأحد على الآخر إلا من حيث الاستحقاق والجدارة حسب الشروط التي ينص عليها القانون. ونصت المادة الثالثة عشرة منه على أنّ حرية إبداء الرأي قولاً وكتابة وحرية الطباع وحرية الاجتماع وحرية تأليف الجمعيات كلّها مكفولة ضمن دائرة القانون.
إنّ هذه المواد جميعها واجبة التطبيق؛ لكنَّ غير المُطلع على الدستور يتفاجأ عندما يعرف أنّ هذه المواد لا تُحتَرَم وأنّ هنالك مواد أخرى في الدستور نفسه تُناقض كلياً هذه المبادئ الآنفة الذكر، وبالتالي نجد أنّ تطبيق المواد المدنية مُعطّل بفعل مواد أخرى طائفيّة.
فعلى سبيل المثال، نصت المادة الرابعة والعشرون من الدستور على أن يتألف مجلس النواب من نواب مُنتخبين مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، ونسبياً بين طوائف كل من الفئتين. ونصت المادة الخامسة والتسعون منه على أنه وفي المرحلة الانتقالية تُمثَّل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة وفي وظائف الفئة الأولى فيها وفي ما يعادل الفئة الأولى فيها، وتكون هذه الوظائف مُناصفة بين المسيحيين والمسلمين.
إن هاتين المادتين كرّستا بشكل واضح التقسيم الطائفي في مجلس النواب وفي وظائف الفئة الأولى، وبالتالي يتوجب إلغاؤهما.
وقد حاول الدستور التخفيف من وطأة المواد الطائفيّة بأن أشار في المادة الثانية والعشرين منه على أنه مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يُستحدَث مجلس للشيوخ تتمثّل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية، كما أشار في المادة الخامسة والتسعين منه إلى أنّ على مجلس النواب المُنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحليّة وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية مهمتها دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية.
ومع أنه كان يقتضي تطبيق الفقرة التي نصت على انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، غير أنه رغم مرور أكثر من خمسة وعشرين عاماً على "اتفاقيّة الطائف" والدستور الجديد الذي أنهى الحرب الأهليّة في لبنان، فهذا البند لم يأخذ طريقه إلى التطبيق بعد، وهذه الهيئة ما زالت حبراً على ورق، ولم يجرِ العمل حتى الآن على تشكيلها.
2- الأحوال الشخصية:
يوجد في لبنان قوانين أحوال شخصيّة مُتعدّدة بتعدّد الطوائف اللبنانيّة المُعترف بها رسمياً في الدولة.
إنّ وُجود هذا العدد من قوانين الأحوال الشخصيّة يُساهم في تقسيم اللبنانيين قانونياً واجتماعياً إلى مجموعات طائفيّة، بحكم خضوع كل منهم بحسب انتمائه الطائفي في سجلات النفوس إلى قانون الأحوال الشخصية التابع لطائفته.
المطلوب في لبنان على صعيد موضوع الأحوال الشخصية، تحويل نظرة الدولة إلى مواطنيها من التصنيف الطائفي إلى التصنيف المُواطني، والخطوة الأولى في هذا الاتجاه تتمثّل بإزالة الإشارة إلى القيد الطائفي من سجلات نفوس عامّة اللبنانيين، وتطبيق عقود الزواج المدني في لبنان على جميع اللبنانيين وفقاً لنص المادة السابعة عشرة من القرار 60 ل.ر. الساري المفعول في لبنان، وتحديث قانون الإرث الوحيد المدني في لبنان والمُسمى حالياً بقانون الإرث لغير المحمديين، ليُطبَّق كنظام أحوال شخصيّة على الأفراد المُتزوجين مدنياً في لبنان، أو استحداث قانون مدني جديد وعصري للأحوال الشخصية يشمل إجراءات وشروط الزواج ويطال جميع المواطنين.
إنّ تطبيق قانون مدني للأحوال الشخصيّة على عامة اللبنانيين اختيارياً – في المرحلة الأولى، يَسمح لأي لبناني مهما كانت الطّائفة التي ينتمي إليها، بأن يتزوج مدنياً برعاية الدّولة والمحاكم المدنيّة، وتبقى له حرية عقد الزواج الديني اختيارياً في حال رغب بذلك.
3- قانون الانتخابات:
إنّ تقليص الطائفيّة في لبنان يتطلب إقرار قانون انتخابات خارج القيد الطائفي يعتمد النسبية على أساس الدائرة الواحدة، ويعتمد نظام اللوائح المقفلة التي تُمكّن الناخبين من انتخاب اللائحة بأسماء مرشّحيهم أي برنامجهم، بدلاً من انتخاب النائب الفرد.
ولا شك أنّ الخطوة الأولى مرحلياً في هذا الاتجاه قد تكون في ما نصت عليه وثيقة الوفاق الوطني من اعتماد قانون انتخابات على صعيد المحافظة (أي على صعيد الدائرة الكبيرة)، لكنّ ذلك يجب أن يترافق مع اعتماد نظام الانتخابات النسبي الذي يضمن التمثيل الأكثر عدالة لأصوات الناخبين ويُحوّل الناخب من مُؤيّد للمرشح كفرد تربطه به مصالح خاصة، إلى مُؤيّد للقضايا التي يحملها المُرشحون في برنامجهم الانتخابي.
4- التربية:
كثيرٌ من المؤسسات التربويّة في لبنان لها طابع المدارس الدينيّة أو الطائفيّة، حتى أنّ المدارس الرسميّة تَصبُّ في دائرة هذا التقسيم من خلال نوع مادة التعليم الديني التي تُدرَّس في صفوفها ومن خلال يوم التعطيل الأسبوعي الذي يُعتمد فيها.
إنّ أية سياسة تربويّة وطنيّة غير طائفيّة في لبنان تهدف إلى تدعيم فكر المواطنة في نفوس التلامذة والطلاب لا يمكن أن تنفّذ إلا من خلال تطبيق سلسلة من الإصلاحات التربوية الأساسيّة ومنها:
– دمج مواد التعليم الديني الخاصة بكل طائفة والمُطبّقة في كثير من المدارس في لبنان في مادة واحدة تتضمن المبادئ الأساسيّة للدّينين المسيحي والإسلامي، بالإضافة إلى عرض موجز لمختلف ديانات العالم وثقافاتها وحضاراتها.
– تفعيل تطبيق مادة التربية الوطنية والتنشئة المدنيّة في المدارس من خلال برامج تعتمد البحث والعمل الميداني بين الناس، تُمكّن الطالب من التَعَرُّف بشكل عملي مباشر على دوره كمواطن داخل الدولة ولعب هذا الدور.
– اعتمادُ كتابٍ مُوحّد يعرض تاريخ لبنان القديم والجديد ويشمل تاريخ الحرب الأهليّة اللبنانيّة.
5- الإعلام:
إذا كانت عمليّة إنتاج البرامج الإعلامية التربويّة الهادفة إلى بث مفهوم المواطنيّة بين الناس ونبذ الطائفية هو واجبٌ على وسائل الإعلام في أي دولة في العالم، غير أنّ كثيراً من وسائل الإعلام اللبنانيّة (من صحف وإذاعات وتلفزة) تغرق في دوامة السياسة الطائفيّة اللبنانيّة، وتلعب دوراً أساسياً في الحملات الإعلاميّة التي يقودها السياسيون في إطار الاصطفاف الطائفي السياسي، وذلك بحكم تبعيتها لمجموعات طائفيّة أو تحمُّسها لها.
حتى أنّ كلَّ مُتابعٍ للحالة السياسيّة اللبنانيّة يعلم تمام المعرفة أنّ بعض وسائل الإعلام يُجاهر علناً بانتمائه السياسي الطائفي، رغم أنّ هذا الأمر مرفوضٌ من الناحية القانونية والأخلاقية.
من هذا المُنطلق، لا يمكن تقليص الطائفية في لبنان إلا من خلال إعادة وسائل الإعلام إلى دورها التربوي المدني البعيد من التحريض الطائفي. وهذا الأمر يتطلب كفالة حرية المؤسسات الإعلاميّة وعدم تبعيّتها للمجموعات السياسيّة الطائفيّة وعدم استعمالها في المعارك السياسيّة الطائفيّة التي تخوضها زعامات هذه الطوائف، إضافة إلى إمكانية تطبيق مبدأ الشفافية المالية عليها.
ووصولاً إلى هذا الهدف، ينبغي على الناشطين في العمل المدني في لبنان أن يُبادروا إلى رصد الإعلام الطائفي والردّ عليه، والاستعانة بوسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة إعلاميّة بديلة يمكن استعمالها لعرض سيئات الطائفيّة وخطرها على المجتمع.
– هل العلمانية كافية لتغيير النظام الطائفي؟
طبعاً، لكن العمل لبناء الدولة التي نطمح إليها وهي الدولة الحاضنة والحامية لجميع أبنائها يتطلب العمل على صعيدين، أوّلٌ هو الذي أشرنا إليه أعلاه والذي يتمثل بسلة الإصلاحات المطلوبة لعلمنة النظام، وثانٍ يتمثل بسلة مَطالب اجتماعيّة، منها المطالبة باعتماد نظام ضمان صحي شامل يطال جميع اللبنانيين، والمطالبة بتحسين المرافق الحيويّة العامة كقطاعي الكهرباء والماء وخفض أسعار المحروقات، وبالتالي فإن النضال يجب أن يتوزّع بشكل متوازٍ على هاتين السلتين.
– ما سبب عدم توحّد العلمانيين في لبنان؟
لا شك أنّ أسباباً عديدة قد تحول دون توحد العلمانيين في لبنان، في ظلّ جميع التقاطعات الإقليمية والدولية التي يعيشها هذا البلد الصغير. وإن أردنا اختصارها نقول إنّ بعض القوى العلمانية تعتبر أن أولوية عملها من منظارها هي لحسابات سياسية وإقليمية تسبق أولوية تضافر جهود القوى العلمانية المتنوعة لتقديم جهد مشترك في بناء الدولة العلمانية. وغالباً ما يختلف هذا البعض مع باقي القوى العلمانية في القضية التي أعطاها الأولوية، فيصبح في حالة مواجهة مع قوى علمانية أخرى لا تتفق معه على أولويته التي اختارها.
أما المحاولات التي جرت للمِّ وتوحيد صفوف القوى الشبابية العلمانية التي واجهت الاصطفاف السياسي الطائفي مؤخراً في لبنان، على مبادئ ونضالات وتحركات مشتركة، فقد اصطدمت بواقع تدنّي مستوى الوعي لدى هذه المجموعات على أهمية وضع مبادئ وخطة طريق مشتركة تجمع هذه القوى، وانحصرت لقاءاتها على مبادرات وتحركات ضاغطة مشتركة عديدة شهدها لبنان، لم ترتقِ إلى مستوى التحالفات.
غير أن محاولات جمع القوى العلمانية الخارجة عن الاصطفاف الطائفي في لبنان، تبقى مستمرة، ولا بد أن تثمر نتائج عملية في السنوات المقبلة نتيجة المجهود الذي أصبح يُعطَى لها، ونتيجة الخبرة وازدياد الوعي الذي اكتسبته وتكتسبه القوى المدنية والعلمانية الناشطة على أهمية تعاضدها وتكتّلها في مواجهة الواقع السياسي الطائفي المفروض على البلاد.
– ما العوائق والصعوبات التي يُعاني منها العلمانيون في لبنان؟
من أهم العوائق التي تواجه القوى العلمانية في لبنان:
– عـدم ـنـجـاح هذه القوى العلمانية في تحقيق انتصارات كبيرة في مواجهة السلطة السياسية الطائفية في لبنان.
– نجاح السلطة في رمي الكُرة في ملعب القوى العلمانية والضغط عليها أمام الرأي العام في أثناء التحركات الكبيرة التي نظمتها هذه القوى.
– دور بعض وسائل الإعلام السلبي، كلٌ من منطلق الفريق السياسي الذي يُمثّله في تصوير تحركات القوى العلمانية والمدنية بصورة سلبية، منها الزعم أن بعضها مموّل من دول عربية أو أجنبية، أو أنها صنيعة بعض القوى السياسية اللبنانية المتواجهة، ما ساهم في تشويه صورة بعضها لدى عامة الناس.
– ظهور مُنافسة بين القوى العلمانية، وتَسابُق على الظهور الإعلامي في عدة مناسبات وتحركات.
– التجاذب في وجهات النظر لدى منظمي التحركات في وسائل المواجهة في تحركات كبيرة شهدها لبنان في الفترة الأخيرة.
– فشل المجموعات المُتنوِّعة المُشاركة في الحراكات الكبيرة في التوافق على مبادئ مشتركة تجمعها في إطار ائتلاف عام وفي تشكيل عمل مشترك مُنظّم ومستمر.
– اختلاف بعض القوى السياسية في وجهات النظر حول كيفية التعاطي أو التواصل مع السلطة السياسية الحاكمة وحول مدى استعمال الوسائل اللاعنفية في مواجهة السلطة.
– وجود بعض المواقف المتناقضة بين القوى العلمانية الناشطة في لبنان من بعض القضايا السياسية المحلية والإقليمية والدولية.
– برأيكم كيف يجب أن تعمل الحركات والجمعيات العلمانية لتحقيق أهدافها؟ وما السبيل لتحقيق دولة علمانية في لبنان؟
رغم أنّ المجموعات الشبابية الناشطة تباينت في ما بينها لجهة وسائل تعبيرها (العنفية أو اللاعنفية)، والموقف والعلاقة التي تربطها بمؤسسات الدولة السياسية (كمجلس النواب المُمدِّد لنفسه ومجلس الوزراء) ومدى التواصل مع هذه المؤسسات (وجود تواصل أو عدمه)، وكيفية ترتيب أولويات برنامجها وكيفية طرحه، إلا أنها ما زالت تُشكل الأرضية الوحيدة غير المُرتهنة لسياسة المصالح الفئويّة اللبنانيّة وغير المُطيفة أو المُوجهة إقليمياً، التي يمكن الاعتماد عليها لصنع التغيير في لبنان.
إنّ تطور عمل هذه المجموعات المشترك يبقى مَرهوناً بمدى قدرتها على التنسيق والتوحُّد حول خطة عمل تحمل برنامجاً واضحاً يمكن أن يُؤسّس مع الوقت لبناء حالة سياسيّة لاطائفيّة علمانيّة، يطمح العلمانيون في لبنان إلى تشكيلها، بشرط أن ينشأ هذا التنسيق بعمل تدعو إليه قوى من خارج الاصطفاف السياسي الطائفي في لبنان.
ولا شك أنّ عاملَي تطوُّر الوعي وتراكم الخبرات سيلعب دوره الإيجابي في تمكين الناشطين في هذه المجموعات من تشكيل هذا العمل التنسيقيّ في المستقبل.