ظاهرة بائعات الهوى أمر طبيعي في كل أنحاء العالم، وبخاصة مدنه، ولقد اعتدنا وجودها وباتت عملاً كغيرها من الأعمال في أطوار الاجتماع الإنساني، وهنا من يراها الأقدم..
لكن في أزقّة لبنان وبعد دخول الأعداد الهائلة من (السوريّين) خاصّة، والازدحام غير المعتاد في شوارعها وأزقتها وطيّاتها، صارت أعداد فتيات الليل كبيرة بحيث أنّها لم تعد تتناسب مع أعداد الزبائن أوحتّى أعداد المارّة. بائعات هوىً من إناث وذكور متأنثين وما بينهما من متحوّلين وخليط من الجنسيّات المختلفة باتوا يجوبون الشوارع والأزقة من دون استثناء وأحياناً تكاد لا تميّزهم عن المتسولين من كثرتهم، وقد كانت حال هؤلاء كحال غيرهم من باعة الهوى في كلّ مكان، إلّا أنّ وضع البلد الاقتصادي (على ما أظن) أوعلى حكم العادة أوالاستسهال، وربّما الازدحام وكثرة سكنة الشوارع والمتسولين والفقر أدّى إلى ازدياد المنافسة وظهور أوجه جديدة على الحلبة، وزاد من سوء حالهم ومردودهم، فصار يحقّ لكلّ زبون ثلاثاً وواحدة مجّاناً وما ملكت أيمانه إن شاء (تماماً كما في الشرع).. وغالباً ما يتحوّل الزقاق بازاراً حقيقياً وعروضاً كثيرة وتخفيضات على أغلب الأجساد المعروضة، ويتحوّل الشارع ساحة معركة حامية الوطيد وقواميس ومفردات جديدة من مفردات الشوارع تتطاير في الأجواء النتنة، فإذا مرّت امرأة مع ابنها استعجلته وحاولت أن تلهيه كي لا يسمع مثلاً حتى لا يسألها معنى الكلام أو ماذا يحصل.. وبالنسبة للمتفرّجين الآخرين هي مسرحية كوميديا سوداء تجري أحداثها في أزقّتهم ومداخل بيوتهم وتحت شرفاتهم..
ويخرج متفرّجٌ في آخر مشهد بعد انخفاض الأصوات تدريجيّاً ونالت كلّ منهنّ نصيبها من البيع والاتّفاقات، يخرج حاني الرأس، حاقداً على كلّ الأسباب، حاقداً على زمنِ بات فيه بيع الجسد مهنة متوارثة ومباحة تماماً كحال التسوّل وأسوأ، لكن بنظر العاملين في مجالاته أرقى، حاقداً على أهلهم متذكّراً كلّ كلام أجداده عن العرض والشرف وما إلى ذلك… وقد يخرج أحد المتفرجين أيضاً في غير السياق الذي سبقه ليطرح مخطّطاً جديداً لهذه الحالة الشغبية غير المنظّمة، وغالباً ما قد يكون هذا الشخص مسؤولاً عن التنظيم في مكان ما ومن أولئك الذين يرسمون الجداول والخطوط البيانية حتى لطعامهم، ويقترح وضع جدول أسبوعي لتقسيم ساعات العمل بالتساوي، دواماً على مدار الساعة، ليلاً نهاراً فقط.. فما باله الدوام النهاري لثلاثة أيّام في الأسبوع مثلاً، من الممكن أن يخفّ المردود في الصباح أو عدد الزبائن، لكن لهذا التقسيم فوائد عديدة منها الوجود الدائم في الساحات لاستمرارية العمل، أو لتلبية حاجات بعض الزبائن الذين يعملون ليلاً مثلاً، وقد تطرح الدولة بعدها سعراً تموينيّاً محدّداً وثابتاً حسب سعر تصريف العملات فرضاً أو انخفاض محصول القمح في المنطقة، فيُطبع القرار ويُعلّق في كل دور بيع الأجساد المرخّص لها..
ويخرج مشاهدٌ آخر شارد الذهن حزيناً على كلّ شارع من شوارع بلاده، وقد تم قتل كلّ تفاؤل عاشه وكلّ محاولاته لإبقاء تلك الشوارع مواطن حبّ وفرح وفنّ وإبداع، حائراً في لومه، أيلوم نفسه أم يلوم الفقر أم الله والجهل والكبت!… أم يلوم دولة تأكل حقّ الفقير بصمته وتزيد جهل قومٍ عاشوا زمناً غرقى في الخوف والكبت.. لا يدري هل يعود إلى الكواليس ليسألهم عن أحلامهم أو أجسادهم وتجارته!..
وتطول لحظات وقوفنا بين المتفرجين لساعات وأيّام، ويطول صمتنا أكثر ليخنقنا في ليلنا وأحلامنا وحتّى فرحنا.. لتصبح هذه الظاهرة عادة يوميّة تدنّس موسيقانا وشوارعنا من دون إحساسنا أو بالأحرى بعد قرارنا بغض النظر ولندعها تجوب أيّامنا وأنفسنا في كل وقت حتى في النهار…
بازار الأجساد.. حامياً
112
المقالة السابقة