هذا المقال يلقي الضوء على مسائل تاريخية قيّمة، وعلاقتها بالصراعات اليوم في المشرق، وخاصة التموضع التركي فيها.
لا يتناول المقال نهائياً، الواقع التاريخي الآخر الذي ترافق مع معاهدة سايفر، والذي تمثّل في أمرين أساسيين:
1. وعد بلفور والخارطة التي أرفقت بمعاهدة سايفر عام 1920، والتي كُتب عليها "فلسطين اليهودية".
2. اقتطاع مساحات واسعة (حوالي 18,000 كلم مربع) من شمال سوريا وإلحاقها بتركيا.
الأمر الآخر المشابه في المحتوى: الكيان الصهيوني اعتمد على التوصيف العثماني للأراضي "الأميرية" – أي تمتلكها الدولة – والذي أبقى عليه الانتداب البريطاني، ووهب بموجبه أراضي للمنظمات الصهيونية لإنشاء المستوطنات والكيبوتزات، ثم استخدمته السلطات الإسرائيلية بعد إنشاء الكيان، للاستيلاء على مساحات واسعة من أراضي فلسطين.
اليوم: تركيا تريد استعادة اراضي "الطابو الأميري" العثماني في الموصل، حلب وغيرهما، كأحد المبررات لحرية نشاطها وحراكها في الشمال السوري والعراقي.
إسرائيل وتركيا "تنظمان خلافاتهما" في الإعلام … لكن في الحقيقة، من الغباء الاعتقاد أنهما على خلاف، أو أنهما مختلفتان في جوهر عنصريتهما. اختلافهما الوحيد هو في المُسمّى الديني فقط لا غير.
قبل 95 عاماً، اجتمع الديبلوماسيون الأوروبيون في مصنع للبورسلان في الضاحية الباريسية "سايفر"، ووقّعوا معاهدة ترسيم الشرق الأوسط من رماد الإمبراطورية العثمانية. هذه المعاهدة سريعاً ما انهارت، وقليلا ما يذكرها أحد.
يتم الحديث بكثرة عن اتفاق سايكس بيكو الذي حل مكانها… لكننا لا نزال نرى تبعات سقوط سايفر إلى يومنا هذا. نتناول هنا بعض هذه التبعات.
. في 1915، كانت القوات البريطانية تزحف إلى اسطنبول عبر شبه جزيرة غاليبولي. بالمناسبة، وزعت الحكومة في لندن كميات من المحارم الحريرية، إعلاناً بزوال الإمبراطورية العثمانية.
لكن تبيّن أن الحكومة البريطانية استبقت الأمور قليلاً، إذ أن معركة غاليبولي كانت من المعارك القليلة التي ربحتها القوات العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
مع حلول العام 1920، كانت القوات البريطانية تحتل العاصمة العثمانية، وممثلو القوات المنتصرة يوقّعون معاهدة مع الحكومة العثمانية المهزومة، قسّمت اراضي الإمبراطورية إلى مناطق نفوذ اوروبية.
معاهدة سايفر جعلت اسطنبول والبوسفور مناطق مدوّلة، أعطت أجزاءً من الأناضول إلى اليونان، الأكراد، الأرمن، الفرنسيين، البريطانيين، والإيطاليين. لكن المعاهدة فشلت.
معرفة سبب فشل هذه المعاهدة يلقي الضوء على حدود الدول في يومنا هذا، وأيضاً يوضح التناقضات التي يعيشها الكورد اليوم، والتحديات التي تواجه تركيا الحديثة.
خلال سنة واحدة من توقيعها، بدأ الأوروبيون يتخوّفون من أنهم لن يتمكنوا من السيطرة بسهولة على التقسيمات التي أقرّوها. في تركيا، مجموعة من الضباط الشباب مثل مصطفى كمال أتاتورك، أعادوا تجميع شراذم الجيش العثماني، وبعد سنوات من القتال المستميت، تمكنوا من طرد القوات الأجنبية التي كانت تسعى لتطبيق بنود المعاهدة.
بالنتيجة، وُلدت تركيا كما نعرفها اليوم وفق الحدود التي نصت عليها معاهدة لوزان في العام 1923.
معاهدة سايفر باتت منسية في الغرب، لكن إرثها ينبض بقوة في تركيا، حيث نفخت الروح في نوع من الهستيريا القومية، أسماها بعض الباحثين "متلازمة سايفر".
تلك المعاهدة تُذكّي الحساسية التركية المفرطة تجاه الحركة الإنفصالية الكردية، وتُعطى كتفسيرٍ للمذابح الأرمنية، في الوقت الذي يعطي الأوروبيون تلك المذابح كسبب أساسي في معاهدة سايفر، وذلك تغطيةً للسبب الحقيقي: تفتيت تركيا.
ترك الصراع التأسيسي لتركيا ضد الاحتلال الغربي أثره في نزعة قومية مترسخة معادية للإمبريالية، متمثلة ابتداءً ببريطانيا في الدرجة الأولى، ثم في روسيا أثناء الحرب الباردة، واليوم، تُذكر الولايات المتحدة في هذا الإطار.
لكن إرث سايفر يمتد أبعد من مجرد تركيا، ولهذا السبب ينبغي الحديث عن تلك المعاهدة بالتلازم مع سايكس بيكو عند الحديث عن تاريخ الشرق الأوسط.
إلحاحنا على هذا التلازم، يجنّبنا خطأ الاعتقاد بأن الغرب رسم حدود دول المنطقة فوق مساحة بيضاء، بينما في الواقع، رسمها فوق حدود مسبقة كان قد رسمها في معاهدة سايفر.
معاهدة سايفر شاهدٌ على أن الغرب لا يتمكن دائماً من تسيير الأمور، كما يحلو له ويناسب مصالحه. خططهم لإعادة تفصيل الأناضول، تمت هزيمتها بالقوة.
أما في الشرق الأوسط، فقد نجح الأوروبيون في فرض ترسيمهم للحدود، لأنه توفرت لديهم القوة العسكرية لقمع القوى الوطنية التي قاومتهم.
يوسف العظمة، الذ ي كان ضابطاً في الجيش العثماني من قبل، استنسخ تجربة أتاتورك العسكرية، ولو أنه تمكّن من هزيمة الفرنسيين في معركة ميسلون، لكانت خطط الغرب في الشرق الأوسط تساقطت مثلما حصل مع سايفر في تركيا.
لو كانت الحدود مختلفة، هل كان الشرق الأوسط أكثر استقراراً، وربما أقل تعرّضاً للعنف الانفصالي؟ ليس بالضرورة.
لكن نظرة إلى تقسيمات معاهدة سايفر، تعطي فكرة عن النمط الفكري للأوروبيين عند إقرارهم لها، وعلاقة ذلك بانعدام الاستقرار في الشرق الأوسط: الحدود التي فرضوها، هي التي كانت في الأساس ضعيفة ومشتتة، مما يقلل من إمكان مقاومة احتلالها الاستعماري.
تركيا لم تصبح أغنى وأكثر ديمقراطية من العراق وسوريا، لأنها كانت محظوظة في الحصول على الحدود المناسبة. العوامل التي مكّنت تركيا من رفض المخطط الأوروبي ورسم حدودها بنفسها، هي نفس العوامل التي سمحت لها ببناء دولة قومية مركزية قوية بالنمط الأوروبي، ومن تلك العوامل كان الجيش والبنية التحتية الاقتصادية التي ورثتها عن الإمبراطورية العثمانية.
بالطبع، سنرى الكثير من القوميين الأكراد يعترضون على خط الحدود التركية. البعض يقول بأن عدم اعطاء الكورد دولتهم الخاصة، كان خطأً مميتاً في ترسيم حدود ما بعد العثمانيين. لكن عندما أراد الأوروبيون خلق دولة كردية وفق معاهدة سايفر، الكثير من الكورد حارب مع أتاتورك لإفشال المعاهدة.
كان ذلك تذكيراً بأن الولاءات السياسية يمكن، وكثيرا ما تتجاوز الهويات القومية بأشكال لا نتفهم جذورها إلا لاحقاً.
الدولة الكردية التي لحظتها سايفر، كانت ستصبح محمية بريطانية. مع أن هذا الوضع كان مقبولاً لدى بعض القوميين الأكراد، لكن البعض الآخر لم يرق له هذا "الاستقلال" المحكوم من بريطانيا … وهؤلاء انضموا إلى الحركة القومية التركية.
في الأوساط الكردية، خاصة المتدينة منها، استمرار الحكم التركي أو العثماني كان مُفضّلاً على استعمارٍ مسيحي. كما أن مجموعات كردية أخرى، ولأسباب عملية أكثر منها دينية، تخوّفت من أن الحكم البريطاني سينتهي به الأمر إلى إعادة الأرمن الذين سُلِبت أملاكهم وأرزاقهم إلى المنطقة.
الكثير من الكورد ندم على موقفه لاحقاً، بعدما تبين لهم أن الدولة التي حاربوا لإقامتها، ستكون تركيّة – وليس دينية – أكثر مما يستسيغون. والباقون اختاروا، وبدرجات مختلفة من الضغوط، أن يتقبلوا الدولة الجديدة التي انتسبوا لها.
والكثير من القوميين الأتراك لا يزالون ناقمين على الطريقة التي دمّرت فيها معاهدة سايفر بلادهم. كما هناك الكثير من القوميين الكورد لا يزالون يتخيلون الدولة التي كانوا حصلوا عليها لو طُبّقت المعاهدة.
اليوم، تمتدح الحكومة التركية محاسن التعايش العثماني والتعددية الثقافية والتراثية، في حين يبدو أن الزعيم الكردي الإنفصالي عبد الله أوجلان، ربما بعد أن قرأ في سجنه كتابات عالم الاجتماع "بينيدكت أندرسون"، يقول إنه اكتشف أن كل الدول ليست سوى تشكيلات مجتمعية وليس قومية.
حزب العدالة والتنمية الحاكم، وحزب الشعوب الديمقراطي (الكوردي)، أمضيا معظم العقد الماضي يتنافسان على إقناع الناخبين الكورد، بأن التصويت لهم هو التصويت لخيار السلام. هما يتنافسان على أي منهما اقدر على حلحلة جذور الصراع المستحكم منذ زمن طويل عبر تكوين دولة تركية أكثر استقراراً وشمولاً.
باختصار، في الوقت الذي يتندّر فيه الأميركيون بالحدود المصطنعة التي وضعها الأوروبيون لدول الشرق الأوسط، تقفز تركيا فوق قرن كامل من التاريخ لتتصرف وكأن هواجسها القومية، هي حقيقة دامغة.
العنف المتجدد في تركيا في الأسابيع القليلة الماضية، يهدد هذه العوامل الهشة التي بُني عليها التوافق الذي يتخطى القوميات.
حزب العدالة والتنمية يدعو إلى اعتقال القادة السياسيين الكورد، في حين أن المحاربين الكورد يردّون بقتل رجال الشرطة. وهكذا، يرتد أصحاب الفكر القومي على الجانبين إلى مواقع مألوفة لا مكان للصلح فيها.
لـ95 سنة، تنعّمت تركيا بالفوائد السياسية والاقتصادية لانتصارها على معاهدة سايفر. لكن استمرارية هذا النجاح الآن، يتطلب تبنّي نظام سياسي أكثر مرونة. نظامٌ يعتبر أن الاحتراب لأجل الحدود او الهوية القومية، غالباً ما يكون غير ذي جدوى.