في كلّ الحوادث الوطنيّة مهما كانت هناك دائماً ما يليها، ليس فقط بسبب بداهة الانتقال في الزّمن من يوم إلى آخر ومن سنة إلى أخرى، وإنّما ببداهة الواجبات الّلازم أداؤها تجاه هذا الحدث أو ذاك، فعالم القرن العشرين دخل عصر المعرفة واستحقاقاتها ولن يعود القهقرى مرّة أخرى، فمهما جرى من حوادث بسيطة أو مصيريّة عليها الخضوع للتحليل المعرفيّ، ليس فقط من أجل الوصول إلى حقيقتها أو حقيقة ما جرى بدقّة معرفيّة معايرة، بل من أجل اليوم التّالي كي يُصار إلى التّعامل مع الّذي جرى بكلّ إدراك له وللعوامل الّتي أدّت إليه بغضّ النّظر إذا كان ما حدث نصراً أم هزيمة أم كارثة طبيعية، فالحوادث تحصل نتيجة لأسباب دنيويّة، ولا يمكن بعد أن تحدث تغيير حقيقتها، أو تكييفها أو تزيينها بغير ألوانها الفاقعة، فالنّصر هو النّصر لا يحتاج إلى تزويق مكاسبه ولا تمطيطها ليصبح إنجازاً عظيماً ولكن بلا يوم تالٍ، وكذلك الهزيمة لا يمكن تغيير موضوعها ولا الأعطاب البنيويّة الّتي أدّت إليها، إذ أنّ الفهلويات الإعلاميّة/السّياسويّة لا تغيّر من الأمر شيئاً، فهناك يوم تالٍ سوف تتمّ فيه تأدية مستحقّات النّصر أو الهزيمة بغضّ النّظر عن التّنظيرات الإعلامويّة، فالحقيقة والمسؤولية عنها هي مسألة تكنولوجيّة لا يمكن تجاوزها من دون إقرارها وفهمها وإعلان الالتزام المعرفيّ بها والاستعداد التامّ لدفع مستحقاتها للوصول إلى حقيقة أفضل للشّعوب المستفيدة من الانتصار، أو المتضرّرة من الهزائم.
عند ما سلف، راوحت في مكانها هزيمة 1967، إذ لا حقيقة ظهرت حول مجرياتها حتى يومنا هذا، حقيقة تقنيّة غير مسيّسة تتناول معرفياً ما جرى على مستوياته كافة، فلم تظهر أيّة سرديّة مسؤولة طوال خمسين عاماً من ابتعاد الحادثة في الزّمن، طبعاً هذا أمرٌ تمّت تجربته وممارسته بنجاح تجاه نكبة 1948، الّتي في حقيقتها الواقعيّة المعاشة نكبة مجهولة السّبب والمصير على رغم الكميّة الهائلة من الدّراسات والبحوث والتّنظيرات الّتي حوّلت العدو من كيان غاصب إلى طرف دوليّ يجلس إلى طاولة المفاوضات للمساومة على حقوق مجتمعيّة ليس لأحد الحقّ في مجرّد مناقشتها، إنه من مجريات اليوم التّالي للنكبة/الهزيمة، الّذي لم يعرف حقيقة مجرياتها أحد، ولا توجد سرديّة تقنيّة كاملة عن الموضوع بل شذرات واستنتاجات من هنا وهناك أو مذكرات شخصيّة تضيء حوادث لا يمكن جمعها في سياق معرفيّ واضح، وهو أمر مفهوم خضوعاً للقاعدة الصّحراويّة (ضياع الدّم بين القبائل) التي تميّع المسؤوليّة عن الحدث وهو أمر غير مهمّ بعد مرور نصف قرن على الهزيمة وأكثر على النّكبة، المهمّ هو أن لا تستمرّ الهزيمة بتفريخ نكبات وهزائم أخرى، وأهمّ هذه النّكبات تلك الّتي حوّلت قضية استرداد الحقّ إلى مجرّد انتقام من عدوّ موجود لا يعرف كيف وجد وكيف هزمنا.
لا أريد الإشارة هنا إلى الفواصل الزّمنيّة بين مؤتمر بال ووعد بلفور ومن ثم النّكبة فقط، بل عليّ أيضاً أن أشير إلى الخمسين سنة الّتي مرّت على هزيمة الـ 67، فعامل الزّمن هو شديد الأهميّة بالنّسبة إلى "المجتمعات" في هذا العصر، خصوصاً مع وجود "الوعي" لخطورة ما يحصل على الأرض وتأثيره في العيش الاجتماعيّ، والحاصل على الأرض ليس مجرّد جيوش قامت بمعارك عسكريّة فازت بها، وهو أمر رافق الحياة على الكرة الأرضيّة منذ نشأة الحياة الجماعيّة عليها، بل بمسألة تثمير الوعي تجاه الوجود والاستمرار المجتمعيّ الّذي يتأذّى بخطورة في حال عدم اكتمال شروطه، إن كان عبر التّأجيل (الذي يسمونه بالعربيّة استراتيجياً)، أو بالتجريب على غير ما وصلت إليه المعرفة العالميّة، أو بالأسطرة على ما درجت عليه الاستبداديات المدنيّة والدينيّة معاً، وهذه جميعها تعلن عدم اكتراثها بالالتزام بالمعرفة كما وصلت إليها البشرية، وبالتّالي عدم تأهّلها لاستخدام التّكنولوجيّات الّلازمة للانتصار، فقبول استقالة عبد الناصر (على سبيل المثال لا الحصر) بعد الهزيمة ومحاسبته، يكرّس التزاماً معرفيّاً مجتمعيّاً، ورفض الاستقالة وبهذه الطريقة يكرّس طلاقاً مع المعرفة والالتزام بها، مما يضخّ وعياً مزيّفاً في الكتلة السّكانيّة، حيث بدت تبريرات ما بعد الهزيمة، تبريرات كارثيّة أكثر من الهزيمة نفسها، تعلن بوقاحة عزّ نظيرها احتقارها للمعرفة ورفضها الالتزم بها، فمع أنّ تجربة الحرب نفسها هي تجربة معرفيّة في أقصى خطوراتها، إلّا أن الالتزام بالمعرفة المعاصرة كان مستحيلاً لدرجة تفضيل هزائم اليوم التّالي عليها.
في اليوم التالي، حظيت الهزيمة في الـ 67 بتكريم عمليّ واسع لها، على الرّغم من كلّ الأحزان الّتي أُعلنت والإحباطات التي تمّ تحويلها إلى أيقونات إبداعيّة، لقد كانت الـ 67 مفخرة الهزائم، إنّها الهزيمة الّتي أيقظت الشّعوب على وعي "جديد"، وعي لا يمّتّ إلى المجتمعيّة بصلة، وهو الأمر ذاته الّذي ابتنيت اعتماداً عليه "إسرائيل" الكيان العنوة، الّتي قامت على أرض بلا شعب بمعنى أنّها بلاد وليست وطناً لأحد، بلاد ليس فيها مواطنون بل مجرّد ناس، هذا ما أثبته اليوم التّالي بعد الخامس من حزيران 1967، واليوم خمسون عاماً على أقرب هزيمة معلنة، من دون احتساب ملحقاتها من الحروب الأهليّة من أيلول الأسود، والحرب الأهليّة اللبنانيّة الطّائفيّة على الأقلّ وحتّى الحروب الأهليّة في العراق أولاً ومن ثمّ الشّام، فهل الـ 67 هي هزيمة أم انتصار؟ وهل كنّا نستحقّ الهزيمة على الرّغم من الملكيّة التّاريخيّة للأرض؟ وهل الحقّ في البلاد، أيّة بلاد…، هو حقّ بذاته لا يحول ولا يزول؟ هذه الأسئلة البسيطة هي حدود المباح، ومع هذا لم تطرح، لأن زوال فلسطين البلد هو غير زوال فلسطين الوطن، وقد شئنا التّدبّر في البلدان من دون تحويلها إلى أوطان، فغياب فلسطين (ومعها الإسكندرون وكيليكيا وعربستان وغيرها) لا يعني شيئاً لسكانيّات من دون مجتمع عصري وناجز فيه مواطنون يملكون مصالح أعمق بكثير من حماية رؤوسهم من الاستبداد والفقر والمرض والجهالة، عمليّاً لم يؤثّر مجتمعيّاً غياب الضفة الغربية أو الجولان على سكانيات بلاد الشام، كما لم يؤثر اغتصاب فلسطين نفسهاعليهم، فهم لم يفقدوا وطناً تجتمع فيه مصالحهم بل فقدوا بلاداً تتجلى في أقصى لحظات وعيهم بأماكن مقدسة أو كرامة مفترضة مهدورة، أو عدوّ خارجيّ هم بحاجة إليه أكثر من حاجته هو إليهم، إنّها قضيّة المجتمع الحديث الّتي لمّا تزل تصفعنا ونحن ننكرها، ونعتبر فشلنا في إنجازها هو إنقاذ لشرفنا المصون.
في غياب السّرديّة التّحقيقيّة لمجريات تلك "الحرب"، من ذا الّذي يستطيع أن يقول فيها شيئاً؟ فكلّ ما لديه من معلومات هو وقائع اليوم التّالي وما تلاه، وأعلى سقوفه المعرفيّة أن يلامس خدّه التّراب، إقليم مفتّت يدافع عن تبعثره بالدّماء، أفق ثقافيّ مريض لا يستجيب لمعرفة سياسيّة أو اقتصاديّة أو تربويّة، مفكرون ومنظّرون ومحلّلون يتذرّعون بالمعلومات الشّحيحة ليسوّقوا الخرافة، خمسون عاماً ولم تنتج البلاد كياناّ متيناً واحداً عصيّاً بالوعي على الانهيار، لا أحد يعلم بالّذي حصل، ولا أحد يستطيع الإقرار فيما إذا كنّا نستحقّ الهزيمة أم لا، واليوم لا يحتاج أيّ عدوّ على أيّ مستوى إلى أكثر من جهلنا وفسادنا واستبدادنا كي يهزمنا للمرّة الألف (على حين غرّة)، لا هزيمة بلا حقيقة (تماماً كما القانون لا جريمة بلا جثّة) والحقيقة غائبة تماماً حتى بعد خمسين عاماً، لذلك هي هزيمة قيد التأكّد من كونها هزيمة على الصّعيد السّياسيّ العموميّ، وبالتّالي هناك هزيمة وليس هناك مهزوم، بمعنى أن هناك فناء ولكن ليس من فانين، ألا يعيدنا هذا إلى الجريمة الكبرى "أرض بلا شعب"!؟.
في خضمّ الهزيمة الّتي لا مهزوم لها، لاح المخلّص الأكبر، "البترول ودولاراته" وما رافقه من ثقافة الصّحراء الرّمليّة، مفتتحاً عصر الصّحوة (التّسمية المحليّة للوعي) المعرفيّة الكبرى، مخترعاً معركة دينيّة كبرى لا حدود لأوارها، ومؤسّساً لمفهوم همجيّ (على الأقل) للاجتماع البشريّ في ظلّ معميّات تفكيرية تؤسّس لخراب الحياة البشريّة، خالطة بين التحرّير والانتقام والاستعداء والاستعلاء والخلاص الفرديّ في الآخرة، ولم تترك باباً تدميريّاً للعيش "المجتمعيّ" إلّا وطرقته وفتحته بعظمة البترودولار المبارك، وتتلخّص هذه الصّحوة الكبرى في الاجتياح الثقافيّ لسكانيّات الإقليم الّذي بدا على علم مبدئيّ بتطوّرات الاجتماع البشريّ المعاصرة، وإنجازات المعرفة المجتمعيّة في أكثر من بلد انتقل من طور الهوان إلى دور الإنتاج، اجتياح لا يتلخّص في السّيطرة المديدة على وسائل إنتاج وتوصيل الثّقافة فقط، بل دخل في التّفاصيل المعيشيّة لهذه السّكانيات من اقتصاديّة وتقاليديّة، وحتّى المأكل والمشرب والملبس، ماحية في دربها آلاف السّنين من الخصوصيّة المحليّة أو ما تمّ تسميته "هويّة"، لصالح "هويّة" دينيّة انقسمت على ذاتها سرطانيّاً وذاتيّاً فيما بعد، محوّلةً الغاية المجتمعيّة إلى غايات أنانيّة خلاصيّة، تبدأ من صلاة شكر الشّيخ الشّعراوي لله على هزيمة "عبد النّاصر" ولا تنتهي بحروب أفغانستان والشيشان والبوسنة والفيليبين والصّين والهند وغزوات العبوات المتفجّرة والقتل العشوائيّ في أصقاع الأرض، وما بينها من حروب طائفيّة في قلب الإقليم المعنيّ بتحرير بلاده من أجل اكتماله المجتمعيّ، لتتحوّل هذه القوّة الصّحوويّة إلى تيار جارف تحاشته وتجاذبت معه الأنظمة "اللامهزومة" بل وجاملته بالتّنازل عن حقوق توصيل الثّقافة الاجتماعيّة المدنيّة، جاعلة منه ذريعة لبطء مسيرة التحوّل المجتمعيّ إلى المعاصرة المعرفيّة. ولمّا تزل دول الإقليم تتخبّط في خياراتها وحروبها العبثيّة، استكمالاً لـ"لاهزيمة" حزيران 1967.
لم يكن اليوم التّالي لأيّ حدث من أحداث "الدّول" لغزاً محيّراً، ولا هو أحجية، ولا يشكّل إحباطاً نفسيّاً إلا بقدر ممارسة الجهالة، والجهالة مطلب أساسيّ للعدوّ، الذي يروم هزم خصمه من دون قتال أو خسائر من طرفه، لم يكن اليوم التالي مكبّلاً للألمان على الرّغم من الحرب النفسية/الإعلامية القائمة عليهم إلى يومنا هذا، وفي يومنا هذا تبدو ألمانيا أقوى مما كانت عليه قبيل الحرب العالميّة الثانيّة، المسألة تكمن في المعرفة الحداثيّة وممارستها، هذا بالضبط ما فات وسوف يظلّ يفوت ثقافة الصّحراء الرّمليّة، الّتي تتمثّل الغزو في مناشطها "المعرفيّة" كافّة من سياسة واجتماع واقتصاد وتربية، لن تمثّل الـ 67 لهذه الثّقافة إلا غزوة عابرة سوف يتمّ الردّ عليها انتقاماً حين ميسرة، حيث يؤجّل اليوم التّالي إلى إشعار آخر ريثما يستتبّ الوعي بالجهالة وثقافتها.
اليوم وبعد خمسين عاماً من الزّمن المعاصر، هذا الزّمن الإنجازيّ السّريع الّذي لا يمكن قياسه بالسّنوات التّأريخيّة، نعود إلى النّظر في هزيمة نكراء بكلّ المعاني، ولم يسأل عنها أحد، ولم تدوّن في سرديّة تحقيقيّة تصلح حتّى لهدنة. اليوم بعد خمسين عاماً مارسنا خلالها كلّ موبقات السّياسة وتحطيم جلّ مقوّمات الاجتماع البشريّ زارعين أحقاداً فيما بيننا سوف تزهر على مدى الدهر حروباً أهليّة وطائفيّة مستدامة، لن نتجاوز نزار قباني في هوامشه على دفتر النكسة (وهي سطحيّة على أيّة حال) في قراءتنا النصف قرنيّة لهذا الحدث الفاجع، فما قدّمناه من تضحيات ودماء في حروبنا البينيّة يحرّر مئة فلسطين وجولان وضفة غربيّة، وربما علينا الاعتقاد أنّه من العار بعد كلّ هذه السّنوات العجاف أن نعود إلى النّظر في أمر لم نكتشف حيثيّاته طوال هذه المدّة، بل خضعنا بكلّ فخر لارتداداته الاستكمالية القاتلة.
ما نراه اليوم هو هزيمة 67 وأمهاتها، بلاد مشرذمة تأكلها الدّماء والبترودولار الصّحراويّ، بلاد لا تقوى على التحوّل إلى أوطان بشر يجوبون فلاتها القاحلة بحثاً عن جواب رفضوه دائماً بسبب اكتمالهم المعرفيّ، فهم على الرّغم من كلّ هذا الخراب أعقل الشّعوب وأرفعها، مصرّون على ما هم عليه قاعدون.