1- مقدمة:
———
يتميز الإنسان عن جميع الكائنات الأخرى بعقله. وهو الوعي؛ أي إنّه قدرة الإنسان على التفكير؛ أي أن يفكر في ذاته وفي الآخر، من حيث سلوكه ومواقفه وآرائه وغير ذلك. وتفكير الإنسان في ذاته، يعني إدراكه ووعيه لذاته.
لقد أدرك الإنسان منذ القدم ذاته، وميّز نفسه عن الحيوان، الذي استخدمه في تأمين حاجاته. ولو كان ذلك الإدراك لا يرقى إلى مستوى الإدراك النظري الخالص، إنّما كان إدراكاً عملياً. فهو قد توصّل إلى ذلك، ليس بالضرورة بواسطة التفكير المنطقي المعروف لدينا حالياً، وإنّما الإنسان القديم قد ميّز نفسه عن الحيوان، وأدرك أنّه يتميّز عنه بأمور كثيرة، مثل المهارة، والقدرة على ابتكارها، وحفظها، وسرعة تعلمها… الخ.
لقد تمكن الإنسان القديم من التحرّر من حدود الطبيعة وحتميّتها، فقد اكتشف النار، وتحوّل فيما بعد، من إنسان يهتم بجمع طعامه إلى إنسان منتج للغذاء، وذلك مع تحوّله إلى تدجين الحيوان واعتماد الزراعة. وقد حقق بذلك أوّل ثورة تكنولوجية علمية اقتصادية وحضارية.
ينشأ الوعي الفردي عن الشك والاندهاش والألم. والإنسان قد يكون لاهياً عن ذاته، إلا أنّه عندما يشعر بالألم يبدأ بالتساؤل عن سببه، وتنشأ بذلك فلسفته. ويرى أحد الفلاسفة الرواقيين أنّ الفلسفة تنشأ عن شعورنا بضعفنا وعجزنا. ويرى كارل ياسبرز الوجودي المعاصر أنّ الوجود الإنساني هو دائماً وجود في موقف، أي إنّه دائماً يقف في مواجهة ما يقف في وجه حريّة الإنسان.
الوعي الفردي هو إدراك الإنسان لذاته ولقدراته ولدوره، وإدراكه للآخر، بما يتضمّن من مخلوقات وطبيعة ومجتمعات، إلى غير ذلك. وهناك تباين في مستوى الوعي، وذلك تبعاً لثقافته ولخبراته في مواجهة المشاكل وقدرته على معرفة معالجتها. وتباينت آراء الفلاسفة حول مفهوم الوعي الفردي، وذلك باختلاف مدارسهم. يرى ديكارت أن الوعي هو وعي يقيني بوجود ذاته، وغير يقيني إزاء الخارج. والحدس عنده، هو عمل عقلي يدرك به الذهن حقيقة من الحقائق يفهمها بتمامها في زمان واحد، لا على التعاقب. وهو لا يقصد بالحدس شهادة الحواس المتغيّرة، ولا الحكم الفاسد، وإنّما يقصد به "التصور الذي يقوم في ذهن خالص منتبه بدرجة من السهولة والتميّز لا يبقى معها مجال للريب"(1). واليقين الفلسفي "مصاحب للحقيقة ومنبعث عنها كما ينبعث الضوء من الشمس"(2).
يتمثل الوعي الفردي بفلسفة الفرد ومجمل آرائه عن الكون والوجود والطبيعة والمجتمع، وكذلك عن مصير الإنسان ووظيفته ودوره، إلى غير ذلك. "والفلسفة هي التحليل المنطقي لجميع أشكال الفكر البشري"(3).
ومن الفلاسفة من يرى أن الوعي ينشأ على أساس حياة المجتمع المادية، من تنوّع العلاقات وتنوّع النشاط، "إنّ الوعي هو جانب ضروري من الحياة الاجتماعية، لأن الحياة الاجتماعية في جميع ظاهراتها هي نتيجة لنشاط الناس، الكائنات الحيّة. أما طابع الوعي الاجتماعي ومستواه واتجاهات تطوره، فيحدّدها في آخر المطاف الوجود الاجتماعي"(4). ويرى كل من ماركس وأنجلز أن الأفكار ليست هي إلا نتاج الدماغ الإنساني. وأن الإنسان هو نتاج الطبيعة. وما المثالي سوى المادي منقولاً إلى الدماغ ومحوّلاً فيه. ويؤكد أنجلز على مسألة التأثير المتبادل بين البنى التحتية والبنى الفوقية، ويرى أن التطور السياسي والتشريعي والفلسفي والديني والأدبي والفنّي الخ، يقوم على أساس التطور الاقتصادي(5).
الوعي البشري هو حصيلة تراكم المعارف والمهارات البشرية خلال التاريخ. وهو يرتبط بالذكاء والعلوم والمعتقدات والعادات، كما أنّه يرتبط بالمستوى الحضاري والبيئي. وهناك طرق مختلفة للتفكير العلمي. والبشر يستخدمون طرقاً مختلفة في معالجة مشكلاتهم، وذلك بحسب خبراتهم ومستوى ذكائهم ونوعية المشكلة وطبيعتها.
لقد تطور الوعي البشري، بسبب تراكم المعارف والمهارات البشرية، وتزايد الحاجات، وتزايد الاكتشافات العلمية الحديثة. لذا يمكننا أن نصنّف تطور الوعي بثلاث مراحل: مرحلة السحر والأساطير (ماقبل الفلسفة والعلم)، مرحلة الفلسفة الكلاسيكية، ومرحلة العلوم الوضعية والفلسفة الحديثة وما بعدها.
إن ما نهتم به، في هذا البحث، هو معالجة الإشكالية القائمة عن الوعي البشري. هل الوعي البشري هو ظاهرة فطرية أم مكتسبة؟ وهل الوعي الفردي هو ظاهرة تاريخية وجدت مع وجود الإنسان في الطبيعة؟. وإذا كان هناك تداخل وترابط بين الفطري والمكتسب، فما مدى ذلك الترابط؟. وإذا كان الوعي البشري، في جانب منه فطري، فهل بالإمكان الاستغناء عن الجانب المكتسب؟. ثم هل الجانب الفطري هو الوعي أو اللاوعي؟ وهل هناك ترابط بين الاثنين؟. ثم ما مدى الترابط بين الوعي الفردي والوعي الجماعي؟.
2- الوعي البشري أثناء مرحلة السحر والأساطير
—————————
تبدأ تلك المرحلة مع وجود الإنسان في الطبيعة، إذ لا يمكن فصل ظاهرة الوعي عن وجود الإنسان، لأن العقل الإنساني وجد مع وجود الفرد، وإن كان عقلاً عملياً، أي إنه يدرك من دون أن يعرف كيف يدرك وما هو العضو الذي يدرك به أو بواسطته.
ويرى العديد من المفكرين أنّ الحضارة البشرية ليست إلا كل ما أبدعه الإنسان، منذ تعلّم إشعال النار، قبل حوالي 500000 سنة، حتى تفتيت الذرّة واكتشاف الفضاء، وإلى يومنا هذا.
يظهر الوعي الإنساني في قدرة العقل البشري على صنع الحضارة، وقدرته على جمع أفراد الجنس البشري، وتعاونهم، ومحاولاتهم المستمرّة في التغيير نحو الأفضل. وهو يظهر كذلك، في قدرة العقل البشري، وإمكانية تغلّبه على التحديات التي تفرضها الطبيعة أمامه.
الوعي هو الذي ساعد الإنسان على التنقل من مكان لآخر، وعلى اختيار المناطق المعتدلة والخصبة للسكن. وعي الإنسان هو الذي دفع به إلى التحوّل، من السكن في المغاور الطبيعية إلى بناء البيوت وإنشاء القرى.
وإذا كان للحاجات دور بارز في تفتح الوعي الإنساني وتوسيع مداركه، إذ إن هناك علاقة جدلية، بين العقل وما يحتاج إليه الإنسان في حياته العملية من حاجات مادية متعددة. وإذا كانت الطبيعة، حسب رأي توينبي، تقدم الشرط المادي لوجود الحضارة، فإن هذا الشرط يمكن أن يبقى كما هو، من دون توفر الشرط الروحي والإنساني. والدور الإنساني يبقى الأساسي دائماً.
يؤكد مؤرخو الحضارات أنّ الإنسان القديم كان دائماً يعيش ضمن جماعته، ولو كانت صغيرة في البدء. ثم استقرّ بعد ذلك في قرية، وبعدها في بلدة، ثم في مدينة. وهو قد خضع لأعراف وقواعد، وكان ذلك نتيجة وعيه لذاته ولمجتمعه. وهو قد وضع الممنوعات والمحرّمات، وسنّ القوانين وأنشأ السلطة السياسية.
ورغم أن حياة الإنسان القديم كانت بسيطة قياساً بمجتمع اليوم، إلا أن مظاهر الوعي البشري قد تمثلت بالكثير من مظاهر الغنى والتنوّع والتعقيد، وخاصة تلك الآثار القديمة من الرسوم المتحرّكة لبعض الحيوانات، التي كانت معروفة، على جدران الكهوف، وكذلك في طريقة ري الأراضي الزراعية، وتجفيف المستنقعات، وشق الترع.
هناك أمثلة كثيرة تبيّن مدى تطور حضارة الإنسان القديم، وهناك تعدّد اللغات وتطور الكتابة، من مسمارية عند البابليين، إلى الهيروغليفية عند المصريين، إلى الأبجدية عند الفينيقيين. وكذلك تطور المهارات منذ القدم، من أدوات حجرية إلى أدوات حديدية. ثم تطورت علوم الهندسة والطب والفلك، وغير ذلك فيما بعد.
إنّ ما يبلور بشكل جيّد، مظاهر الوعي الإنساني، هو ما اشتملت عليه ملحمة جلجامش السومرية، إذ عثر في مكتبة آشور با¬نيبال على اثني عشر لوحاً طينياً، تحتوي على أكثر من ثلاثة آلاف بيت من الشعر.
وما يلفت الانتباه أن جلجامش ذلك الملك، كان يبحث عن الأنا، أي إنه يبحث عن تأكيد ذاته في القوّة والسلطة والشهرة. وتنتهي القصّة بحثاً عن سر الخلود. وهنالك كذلك العديد من القصص والأساطير القديمة، التي تتحدّث عن قصة الخلق والموت والحياة الأخرى. وقد اهتدى الإنسان القديم إلى دفن موتاه منذ ما يقرب من خمسين ألف سنة ق.م
أما مظاهر العبادة فقد عرفت كذلك، عند الإنسان القديم، وهي إن دلت على شيء فهي تدل على ظاهرة الوعي الإنساني وتطوره. وهي قد تحوّلت من الاعتقاد بوجود آلهة مادية متعدّدة إلى آلهة مفارقة للمادة، ومن الاعتقاد بآلهة متعددة، في عهد الفراعنة المصريين، إلى الاعتقاد بإله واحد سماوي أبدي، في عهد أخناتون. لقد قام هذا الأخير بثورة على تعدّد الآلهة.
ولعبت الاعتقادات الدينية الدور الأساسي والمركزي، في معظم الحضارات السابقة؛ فالدين هو الذي يعطي الشرعية للأنظمة السياسية والاجتماعية، والكهنة هم كهنة الآلهة، والملك هو ممثل الإله. وكان الاعتقاد السائد، عند تلك المجتمعات، أنّ الرّوح تتلبّس الجسد، عندما يكون مستعداً لاستقبالها. لذلك اهتمّ القدماء بدفن الميّت وتحنيط جثته، لكي يبقى الجسد مستعدّاً لاستقبال الروح عندما تريد العودة إليه.
أما الفرعون أخناتون فقد أنكر تلك الآلهة المتعدّدة، ويعتبر ذلك أكبر دليل على وجود الوعي الإنساني. وقد جاء ذلك نتيجة تفكير الإنسان بالوجود وبذاته، وبقدرته كذلك على التمييز بين تلك العبادات، وتفضيله لعبادة الإله الواحد السماوي الأبدي، خالق كل شيء.
لم يكن الوعي البشري سابقاً، مجرّداً من الأمور العملية، بل ارتبط بالحاجات الحياتية واليومية. وقد امتزج التفكير الديني بالسحر، فلم يكن الوعي متحرّراً من السحر والخرافات، بل كان هناك تداخل بين العلوم والمعارف الحقيقية والفلسفة والسحر وغير ذلك.
اعتبر السحر قديماً، كعلم بدائي، حيث تتوافق وظيفته مع وظيفة العلم. وهي: معرفة العالم المحيط بالإنسان وتكييفه حسب رغباته. كان السحر يقدّم نفسه كمجموعة وسائل وتقنيات مرتبطة بقوى فوق الطبيعة، بهدف التأثير الفوري في وقائع أحداث الطبيعة وتسلسلها. كان الساحر مطالباً أن يشفي المريض، ويزيد المحاصيل، ويعثر على الغائب، وبشكل فوري. وهذه الأمور لم تكن مطلوبة من الدين، كما هي مطلوبة من السحر. ومع تطور الوعي الإنساني، أخذ الإنسان يبتعد عن السحر خطوة بعد خطوة، مع صعود العلم ومناهجه ومعاييره الحديثة.
من المؤسف أن العديد من المفكرين يعتبرون أن ظاهرة الوعي القديمة لدى الإنسان، ناتجة عن الغريزة. فهم يتكلمون عن الغريزة الدينية وغريزة الاجتماع. ولو كان الاعتقاد الديني ناتجاً عن غريزة ما، لما كان هناك تباين في الأديان. إنّهم فسروا تلك المظاهر الدينية بالغريزة، نتيجة لما شاهدوه من استمرار ظاهرة العبادة، منذ فجر التاريخ، وربّما منذ أن وجد الإنسان على الأرض. ولم تخل حضارة بشرية سابقة من مظاهر العبادة الدينية. كانت تلك العبادات تسعى إلى الإجابة عن شتى أسئلة الوعي البشري، حيث لا أجوبة واضحة عنها.
3- الوعي البشري أثناء الفلسفة الكلاسيكية
—————————
تبدأ هذه المرحلة مع الحضارة اليونانية. وهي قد شهدت في المرحلة الأولى، تمازجاً بين السحر والعلوم الأخرى. وكان لتطوّر علوم الفلك عند البابليين، وتطور علوم الهندسة عند المصريين، أثر مهم في تبلور نموذجين من المعارف؛ السحر ومظاهره ومهاراته ولجوؤه إلى قوى غيبية مفارقة للمادة، والعلوم الأخرى، بما تتطلبه من خبرات عملية وواقعية ونتائج ملموسة.
وإذا كانت العلوم الواقعية قد ابتعدت عن السحر، مع البابليين والمصريين، بعض الخطوات، فقد تزايد ذلك الابتعاد، ما بين السحر وبقيّة العلوم، مع الحضارة اليونانية. لقد توسّعت مدارك الوعي الإنساني، مع اليونانيين أكثر فأكثر، وظهرت بدايات الفلسفة مع طاليس، الذي فسّر العالم بوجود الماء، كمادة أزلية سابقة للوجود. وتعدّدت الآراء بعده. وفسّر هيرقليطس وجود الكون بالصيرورة الدائمة الأزلية، واعتبر برمنيدس أن التغيّر والحركة ليسا إلا وهم. واعتبر السفسطائيون أن الذات والأشياء في تغيّر مستمر، والصيرورة شاملة، والحركة دائمة، والمعرفة نسبية. وحاول سقراط وأفلاطون تخطي الظواهر المحسوسة والمتغيّرة للوصول إلى الحقائق والماهيات الثابتة.
أيّد أفلاطون آراء سقراط، في اعتبار الفكرة كأساس، لأنها تمثل العقل. والمعرفة الحقيقية برأيه، هي معرفة الفكرة، إلا أنّه زاد على رأي سقراط، باعتباره أنّ الأشياء المادية ليست إلا ظلالاً للمثل الحقيقية. اعتبر أفلاطون أن المعرفة الحقيقية، هي عبارة عن تذكر؛ إذ كان الإنسان على علم بكل المعارف، وعند حلول الروح بالجسد، قد نسيت كل تلك المعارف السابقة. وما يحصّله الإنسان من معارف، في هذا الكون هو تذكر للمعارف السابقة.
أما أرسطو فقد اعتبر أن العقل الإنساني يختلف عن الحس الحيواني الموجود عند الحيوان والإنسان، لأنّ العقل يدرك الصور المجرّدة، ويدرك ذاته، ويدرك أنّه يدرك، بينما الحس لا يمكنه أن يدرك ذاته، ولا أن يحس آلته أو العضو الذي به يحس، ولا يحس أنّه يحس. وقد توسّع ابن سينا في هذه الآراء، ومن منظور أرسطي إجمالاً. وقد استمرّ هذا النهج حتى القرن التاسع عشر، في اعتبار أن العقل هو الموضوع الأوحد لعلم النفس، علماً أن أرسطو لم يذكر كلمة "وعي"، بل اعتبر أن العقل هو الفكر والوعي، ووصف الإنسان بأنّه حيوان عاقل.
لقد وصف القدماء "العقل" بالجوهر. واعتبر أرسطو أن الجوهر هو عبارة عن صورة ومادة. والصورة هي الوجود بالفعل، والمادة هي الوجود بالقوة. والمادة تقبل اتخاذ صور كثيرة متباينة. "وفضلاً عن ذلك فإنّه يرى أن العلاقة بين الصورة والمادة كامنة من وراء كثير من العلاقات الأخرى، فالفلك الأعلى والأدنى، والعناصر الرفيعة والدنيا، في نظام الكون، وكذلك النفس والجسم، والذكر والأنثى، يرتبطون فيما بينهم بعلاقة الصورة والمادة"(6).
لقد سعت الفلسفة الكلاسيكية إلى إيجاد أجوبة للعقل أو للأسئلة التي كان يطرحها الوعي البشري، بواسطة التأمّل، أي بواسطة العقل البشري، على اعتبار أنه قادر على اكتشاف الحقيقة اليقينية. لقد كانت الفلسفة بالذات ظاهرة من ظواهر الوعي البشري. وهي ستستمر إلى ما لا نهاية. وإذا كانت الفلسفة عبارة عن أسئلة وحلول مقترحة من قبل العقل، فما هي بهذا المعنى إلا تجسيد للوعي الإنساني ولتفتحه. وما قول سقراط المشهور "أيّها الإنسان اعرف نفسك بنفسك"، إلا تأكيد على وجود الوعي البشري للذات وللعقل وللآخر.
وإذا كانت الفلسفة القديمة قد أعطت حلولاً وواجهت انتقادات عديدة، ولم تتمكن من التعرّف إلى الحقائق اليقينية، فكذلك الفلسفة الحديثة، فهي ستستمر في طرح الأسئلة، ولا تلقى أجوبة مقنعة.
وإذا كانت الفلسفة القديمة لا تعتمد التجربة كمقياس للمعرفة اليقينية، فذلك لأنها لم تكن معروفة سابقاً بصدقيتها، ولأن الوعي البشري لم يكن على درجة تؤهله لذلك، كما أصبح، فيما بعد، على أثر اكتشاف العلوم الوضعية، وما استتبعها، من أثر على توسّع مدارك الوعي البشري.
واعتبر علم النفس، قبل القرن التاسع عشر، أن الوعي أو العقل هو موضوعه الأوحد. وهو يعتبر كذلك أن النفسي لا يمكن أن يكون إلا واعياً، أو هو الوعي عينه. ويعتمد علم النفس التقليدي في دراسته للوعي، طريق الاستبطان. وهو يقوم على اعتبار أن الحياة النفسية الداخلية لا يعرفها ولا يشعر بها إلا من يعيشها؛ فما من أحد يعرف ما يعانيه الشخص إلا الشخص ذاته. وأفضل طريقة لدراسة الحالة النفسية، هي الاستبطان. وهو دراسة الأنا للأنا، عن طريق التأمّل والتبصّر.
يهتم ابن سينا كذلك بالنفس الإنسانية، ويثبت وجودها بأدلة منطقية. وهو يفرد فصولاً تتحدّث عن النفس وسياستها. وهو يميّز، بين النفس الأمّارة بالسوء والعقل الذي يتدخل، "والعاقل هو من حافظ على مناقبه بالمواظبة والتنمية وحسن التدبير، وقضى على مثالبه بالقمع والقهر وقلة الاستعمال، واتخذ لنفسه ثواباً وعقاباً يسوسها بهما حسب طاعتها وانقيادها في قبول الفضائل وترك الرذائل"(7).
ويهتم الإنسان بشكل عام بتربية النفس. وتعتبر مجاهدة النفس في الإسلام أنّها الجهاد الأكبر. وكان إخوان الصفا والفارابي سابقاً، قد اهتموا بالنفس. اعتبر إخوان الصفا "أن العبرة ليست بالجسد المتحوّل والفاني، وإنّما بالنفس الخالدة: فبقدر ما يصقل الإنسان نفسه، ذكراً كان أم أنثى، بقدر ما يسمو بها إلى عالمها الروحاني الذي وردت منه"(8).
لقد لعبت تلك الآراء دوراً مهماً في تبيان دور النفس الإنسانية، كما مهدت إلى الاهتمام بعالم النفس، فيما بعد، في العصور الحديثة مع ديكارت ومن جاء بعده.
4- الوعي البشري أثناء مرحلة العلوم الوضعية والفلسفة الحديثة
—————————————-
بدأ العصر الحديث مع ديكارت، حيث الفلسفة وعلم النفس ومجمل العلوم الوضعية، إذ إنّ أول ظهور لكلمة أو لفكرة "وعي" بدأت معه في أواسط القرن السابع عشر، إذ ميّز بين النفس والجسد، واعتبر أن الوعي يعني "أنا أفكر". وهو ينطلق من أن النفس تعرف كل ما فيها من غير استثناء، وما لا تعرفه فيها، فهو لا ينتمي إلى النفس، بل ينتمي إلى الجسد.
يستبعد ديكارت كلياً فكرة وجود علم نفس حيواني، لأنّ الحيوان لا يستطيع اختبار فكرة "أنا أفكر إذاً أنا موجود". وهو يرى أن الوعي هو وعي يقيني بوجود ذاته، وغير يقيني إزاء الخارج. وأن كل ما هو نفسي هو ضمن دائرة الوعي، وأن كل ما يتعلق بالجسم أو الأشياء الأخرى هو خارج دائرة الوعي. وهو لا يقر بفكرة "اللاوعي النفسي" التي تكلم عنها فرويد.
يسعى ديكارت وراء الحق، وقد رفض في البداية جميع المذاهب التي كانت شائعة، لما فيها من تباين واختلاف، فشك في كل العلوم التي تعلمها من الماضي. وهو يقول "لاحظت.. أنني تلقيت منذ سنواتي الأولى طائفة من الآراء الباطلة على أنها صحيحة. ومن أجل ذلك حكمت بأنه يجب عليّ أن أقدم بجد مرّة واحدة في العمر على تخليص نفسي من الآراء التي تلقيتها في الماضي".(9) فهو يرى أنه من الضروري إعادة البحث من أساسه، لإقامة شيء ثابت وراسخ في العلوم.
هكذا يستيقظ الوعي الإنساني مع ديكارت، ليعي بطريقة يقينيّة المعارف الحقيقية، فشكه لم يكن لأجل الشك، إنّما كان في سبيل اليقين. وما عودته إلى الذات إلا دليل واضح على وعيه لذاته والوثوق بها. إنّ شكه يختلف عن شك الريبيّين الذين يتنازلون عن حقوق الفكر، بل إنّه "شك مؤقت، لا بل هو بداية البحث عن الحقيقة… فإن شك ديكارت إيمان بالعقل، وعزم محقق على الوصول إلى اليقين"(10).
يظهر الوعي الديكارتي في توليده اليقين من الشك. وكانت فلسفته جديدة، لا تؤمن إلا بحريّة الفكر، وبداهة العقل. وهو يعدّ بحق مؤسّس الفلسفة الحديثة. ويعترف لوك بفضل ديكارت، ويقول: "ونحن يلزمنا أن نقر بأن هذا الفيلسوف الجديد قد منحنا، للنظر في الأشياء الطبيعية، نوراً أعظم من النور الذي منحنا إيّاه الفلاسفة الآخرون عن بكرة أبيهم"(11).
وتستمر مظاهر الوعي عند الكثير من الفلاسفة الغربيّين. فيرى هيغل أنّه في "الفلسفة فقط يتحقق الروح المطلق أو الله تمام التحقق… وما المذاهب الفلسفية التي يسجلها التاريخ إلا حلقات في سلسلة التقدّم نحو هذا النصر النهائي"(12). وهو يرى كذلك، أن المطلق هو الوجود الواقعي، بما فيه من روح لا متناه أو مثال أو عقل كلي. كما أنه يرى أيضاً، أنّه لأجل فهم الوجود، يجب اتباع منهج منطقي يبيّن هذا التسلسل. الصيرورة برأيه، هي صميم الوجود، وسر التطور. كما أنّه يقر بوجود الروح المطلق والوعي الكلي، والإرادة الكلية.
ويبيّن ماركس تباين آرائه عن آراء هيغل. ويرى هذا الأخير، أنّ عملية التفكير تتحوّل إلى ذات مستقلة. يرى ماركس "أن المثالي ليس سوى المادي منقولاً إلى دماغ الإنسان ومحولاً فيه"(13). ويعتبر إنجلس أن الأفكار ما هي إلا نتاج الدماغ الإنساني، وأن الإنسان هو نتاج الطبيعة، وبذلك سيكون نتاج دماغ الإنسان هو نتاج الطبيعة.
ترى الماركسية أن الظروف المادية هي التي تحدّد مدى درجة الوعي الاجتماعي. إذ إن معيشة الإنسان الاجتماعية هي التي تعيّن وعيه. "وعندما تبلغ قوى المجتمع المنتجة المادية درجة معيّنة من تطورها، تدخل في تناقض مع علاقات الإنتاج الموجودة.. ومع تغيّر الأساس الاقتصادي يحدث انقلاب في كل البناء الفوقي الهائل.. فينبغي بالعكس تفسير هذا الوعي انطلاقاً من تناقضات الحياة المادية"(14).
واعتبرت المدرسة السلوكية، مع واطسن، في بداية القرن العشرين، أن الاعتماد على دراسة الوعي، كما كان عند علم النفس التقليدي، لا يؤدّي إلى علم نفس علمي. لقد قام واطسن بدراسته لسلوك الحيوان والإنسان، من غير الاكتراث لمقولة "الوعي". على اعتبار أن السلوك، وحده هو المعطى الوحيد في علم النفس القابل فعلاً للمراقبة العلميّة.
حاولت المدرسة السلوكية الجديدة التخفيف من استبعاد الوعي، فجعلت علم النفس نوعاً من الفيزياء الميكانيكية النفسية، فأدخلت فكرة معنى السلوك، وفكرة "موقع الجسد"، وفكرة "التصورات الذهنية" و"القيم الشخصية"، التي تختلف بين فرد وآخر.
استمرّ الاهتمام بالوعي ودوره في الحياة النفسية، في الانتباه والذاكرة والتخيّل، في كل الوظائف النفسية العليا. لقد استمرّ دور الوعي، رغم كل المحاولات والأفكار التي جاء بها ثورندايك عام 1911، وخصوصا فكرة "التعلم بالتجربة والخطأ".
أما المدرسة الفينومينولوجية، التي أسّسها هوسرل، فترى أن الوعي يقصد به شيئاً غير ذاته، معبراً عن الحياة النفسية، مدركاً الظواهر، التي هي جوهر الأشياء "كل وعي هو وعي لشيء ما".
يطلب هوسرل إلى العقل أن يضع بين قوسين "الوجود الواقعي للأشياء لكي يحصر نظره في خصائصها الجوهرية كما هي ماثلة في الشعور"(15). وجاءت مدرسة التحليل النفسي مع فرويد، إذ انتقد المدرسة السلوكية، واعتبر اللاوعي أساس الحياة النفسية. واعتبر أن للوعي دوراً أولياً في العلاج النفسي. والمريض النفساني برأيه، عندما يتمكن من وعي أسباب مرضه، فإنّه يتخلص من هذا المرض ويشفى منه.
وأشار العديد من المفكرين قبل فرويد إلى اللاوعي، وكان أشهرهم: لايبنتز، لاروشفوكو، روسو، شوبنهاور، كاروس، هارتمان، نيتشه، وماركس. يعتبر شوبنهاور أن دوافعنا الواعية ليست سوى واجهة تخبّئ دوافعنا اللاواعية، والإنسان يمكن أن يجهل دوافعه الحقيقية.
وتكلم نيتشه كذلك عن اللاوعي وأقنعته، واعتبر أن القيم الأخلاقية تصدر غالباً عن غرائز أنانية عدوانية وجنسية. ورغم ما قيل سابقاً عن اللاوعي، إلا أنّه ما من أحد حاول أن يبني نظرية متماسكة، قاعدتها اللاوعي، كما فعل فرويد. وهو قد عمل على تحويل اللاوعي إلى وعي، وذلك عن طريق التحليل النفسي أو التداعيات الكلامية الحرّة، تحت قاعدة عدم مقاطعة المريض أثناء كلامه. وهو قد اكتشف أن الطريقة التطهيرية قاسية ومخيفة للمريض، فاستبدلها بطريقة التحليل النفسي. وطوّر فرويد طريقته، فأخذ بتأويل زلات اللسان، والأفعال الناقصة، والأحلام الليلية، وذلك لاكتشاف اللاوعي.
ويتشكل الجهاز النفسي عند فرويد من ثلاثة عناصر: الغرائز الجنسية أو الهو. والرقابة الأخلاقية والاجتماعية أو الأنا الأعلى. والأنا، ذلك الجزء الواعي الذي تتصارع فيه الرغبات والممنوعات. والأنا تبدو متوازنة عندما يكون هناك توازن بين الأنا الأعلى والهو.
شدّد فرويد على أهميّة الجنس، فأثار الأوساط المحافظة ضد نظريته. إذ إن اللاوعي الفرويدي هو في الأصل، مكبوت جنسي. وهو يفهم الجنس فهماً خالصاً، يختلف فيه عن الآراء السائدة، وتبدأ الحياة الجنسية عنده منذ الولادة، وهي على مراحل، أعلاها: مرحلة البلوغ وهي المرحلة التناسلية. وقد يمر الفرد خلالها بست مراحل: المرحلة الفمية، وهي مرحلة الرضاعة. والمرحلة الشرجية، وتستمر حتى ثلاث سنوات. والتناسلية الأولى، وهي من ثلاث إلى أربع سنوات. المرحلة القضيبية، بين أربع وست سنوات. والستور، بين سنة وإحدى عشرة سنة. والتناسلية، وهي تستمر من اثنتي عشرة سنة حتى سن البلوغ.
يرى فرويد أن كل مرض نفسي يجد أسبابه في مرحلة من تلك المراحل. وهو قد أعطى أهميّة خاصة للمرحلة التناسلية الأولى أو الأوديبية. إذ إن الولد يتمنّى، في تلك الفترة، إزاحة أبيه لأنّه يبعده عن أمه. والعلاج الذي يقدّمه التحليل النفسي هو التخلص من عقدة أوديب، فتكون الطفولة هي أساس شخصية الإنسان. وهذا ما عمل عليه علم التربية الحديثة، رغم كل الانتقادات لفرويد.
اعتبر فرويد، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وجود غريزتين في الإنسان: غريزة الحياة، وغريزة الموت. أما غريزة الحياة، فهي الغريزة الجنسية التي تهدف إلى المحافظة على الذات، حسب مبدأ اللذة. أما غريزة الموت، فهي التي تسعى إلى التخلص من الضغوط، وتتمثل بالعنف والقتل والانتحار وتدمير الذات.
وتعرّضت نظرية فرويد الأولى لانتقادات، خاصة من قبل تلامذته، حيث لم يجدوا في الليبيدو الجنسي غريزة قاعدية قادرة على تفسير كل السلوك البشري، أما آدلر فيرى أن حاجة الإنسان الأساسية هي تأكيد الذات. ويرى غوستاف يونغ وجود نموذجين: المنفتح والمنطوي، وهو يقر بوجود لاوعي جماعي، إلى جانب اللاوعي الفردي. ويرى كارن هورني أن الغريزة الأصلية عند الفرد، هي الحاجة إلى الأمن والحماية. أما عند لاكان، فالعلاج يتم بتحويل صراع الهو والأنا الأعلى إلى كلام فقط
ويرى مالينوفسكي كذلك، أن عقدة أوديب ليس موضوعها الأب، بل الخال شقيق الأم. لقد تطورت النظرية الفرويدية، مع تطور علم الإنتروبولوجيا، حتى اكتشف المحللون بعد فرويد، الروائز النفسية الناجحة في اكتشاف اللاوعي. وهي تقسم إلى قسمين:
– روائز الإسقاط، وأشهرها رائز رورشاخ، ورائز مورغان.
– روائز البناء، وتشتمل على روائز الألعاب، وروائز التمثيل المسرحي، التي طورها جاكوب مورينو.
أما روائز الإسقاط، فهي ترى أن المريض يتكلم عن نفسه من غير أن يدري. فهو يسقط لاوعيه عليها، تأكيداً للقول: نحن لا نرى الأشكال كما هي، بل نراها كما نحن، أي كما نرغب أن تكون.
أما روائز مورغان ومرّي والتمثيل المسرحي، فالمريض يتكلم عن نفسه أو يمثل دوراً يرغبه، فيكون بذلك قد يصوّر حالته النفسية من دون أن يدري.
لقد أدخل فرويد اللاوعي إلى دائرة المعارف الإنسانية، فبعد أن ركزت البشرية سابقاً، على الفلسفة والعقل البشري، جاء فرويد ليؤكد أن اللاوعي هو الذي يقف وراء السلوك البشري. وما العقل إلا أداة لتنفيذ الدوافع اللاواعية وخادم لها.
ويعتبر وليم جيمس أن اللاوعي هو أهم اكتشاف علمي، في القرن التاسع عشر. وقد تنبّه فرويد لأهمية هذا الاكتشاف، فاعتبر أن البشرية عرفت ثلاثة اكتشافات مهمة في تاريخها، وهي: اكتشافات كوبرنيكوس، الذي قال إن الأرض ليست مركز العالم، اكتشاف داروين، الذي اعتبر أن الجنس البشري هو تطور وامتداد للجنس الحيواني، واكتشافه اللاوعي، الذي أزاح العقل عن عرشه الإنساني. وعلى الرغم من إعطاء فرويد أهمية للاوعي، فقد ظل يرى أن الوعي هو أداة أساسية في توازن الشخصية الإنسانية.
أما المدرسة الوجودية مع هوسرل وهيدجر وسارتر، فترى أن الوعي "هو دائماً موضوع ما، مرتبط بموضوع محدّد ليس هناك من وعي بالمطلق أو وعي في ذاته. لكن وعي الموضوع ليس بسيطاً بل هو يحمل في طياته تناقضاً"(16).
ويميّز سارتر بين إدراك الموضوع ووعي ذلك الموضوع، فهو يرى أن هناك هوّة لا يوجد فيها شيء. كما أنه يستنتج وجود اللاشيء أو العدم، بين الإدراك ووعي ذلك الإدراك.
وهو يؤكد على استمرارية الوعي، فيقول: "فأنا ملزم أن أكون دائماً قبل ماهيتي… ملزم أن أكون حراً"(17). وهو يحرّر نفسه من الماهية.
تغدو تلك الحرية مطلقة. حريته أن يختار ما يشاء، أو يصنع ماهيته. وينشأ القلق، عند الوجودي، عندما يرى الوعي مقطوعاً عن ماهيته بواسطة العدم، ومفصولاً عن المستقبل بواسطة حريته نفسها. والوجودية، بقولها بأسبقية الوجود على الماهية، تخالف كل الإرث الفلسفي السابق، الذي يرى أسبقية الماهية على الوجود. تشدّد الوجودية على الذاتية، "ذاتية الفرد- الشخص". وهي تحذف كل مطلق، وتشكك في موضوعية المعرفة. ويرى سارتر أن الإنسان ليس هو إلا مشروعاً، "وهو مشروع يعيش بذاته ولذاته. وهذا المشروع سابق، في وجوده، لكل ما عداه. ولا يوجد شيء تستطيع السماء أن تتصوره أو تتخيّله. فالإنسان هو مشروع في أن يكون، لا ما أراد أن يكون"(18).
تركز الفلسفة الوجودية على الذاتية، كحقيقة مطلقة. وهذه الذاتية ليست هي إلا وعي الإنسان للوجود. وإذا كانت الوجودية قد وسمت بالإلحاد والقلق والخوف على المصير وعلى المستقبل، فهي بسبب ابتعادها عن تلك الخلفية الفلسفية، التي تنطلق من وجود إله ووجود حقائق مطلقة، يستطيع الإنسان بواسطتها أن يتعرّف إلى الحقيقة ويسيطر على القلق.
والوجودية، حسب رأينا، لم تصل إلى ما وصلت إليه، لولا اطلاعها على مجمل التفسيرات السابقة، والتي رأتها غير مجدية. فهي رفضت ما كان جاهزاً، ولم تتمكن من إحضار البديل. أما اعتبارها للذاتية وللوعي، فهي فكرة صحيحة، وقد درج كثير من المفكرين عبر التاريخ البشري وأكدوا على تلك الذاتية، أمثال ابن سينا وديكارت وغيرهما.
الوعي ظاهرة تاريخية مستمرّة، وهو يتجسّد في كل مرحلة بعبارات متنوّعة، إلا أنه مستمر عبر التاريخ البشري. وقد تجلت تلك الفكرة عند أفلاطون بالماهية، وعند أرسطو بالصورة. وعند ابن سينا ببراهينه على وجود النفس، وعند ديكارت باعتماده الأساسي على وعيه لذاته، وعند فرويد، عبر أفكاره عن الوعي واللاوعي، وعند هيغل، عبر المطلق، وعند الوجودية المعاصرة عبر الذاتية. وتجلت فكرة الوعي أكثر ما تجلت مع برغسون، حيث اعتبر أن الوعي مستمر ومتواصل. وهو يحدّد صفات الوعي، بما يلي:
– الصفة الأولى، وهي ألا يوجد في الوعي وحدات منفصلة، مستقلة، قائمة بذاتها.
– الصفة الثانية، أن كل حالة هي حالة متغيّرة. ولا ينفك الوعي عن التغيّر، بحيث أن الحالة الواحدة ليست هي دائماً ذاتها ولا مشابهة في الزمان.
– الصفة الثالثة، وهي أن الوعي مستمر ومتواصل: فالوعي الذي يأتي بعد شعور ما هو متصل بالوعي الذي سبق هذا الشعور… هناك استمرارية، شعور بالتتابع والاتصال… ذلك هو تيار الوعي، أو "نهر الوعي أو الفكرة أو الحياة الداخلية"(19).
– أما الصفة الرابعة، فهي أن يهتم الوعي، بمختلف العناصر التي تشكل محتواه. فالوعي يختار بصورة عفوية. وهذا ما يفسّر مدى تباين الإدراك بين شخص وآخر.
يحدّد برغسون الحدس بأنه "رؤية مباشرة للعقل بالعقل". الحدس، هو "وعي مباشر، ووعي موسّع، وهو الوعي بشكل عام، وهو التعاطف"(20).
المعرفة الحدسية، وكما أقرّ بها العديد من الفلاسفة، ليست هي بنظرنا إلا معرفة مباشرة. فهي تأتي نتيجة للوعي الفردي ومدى اطلاعه وسعة معلوماته.
لا يزال الوعي ظاهرة فكرية مستمرّة. وهو يعتبر عنصراً مهماً من عناصر الحياة النفسية. ويذهب البعض إلى حد اعتباره سلوكاً ينبغي دراسته موضوعياً، شأنه في ذلك شأن اللاوعي الذي هو سلوك أيضاً.
الوعي ملازم للحياة النفسية. وهو يتداخل مع اللاوعي بشكل مستمر. ويظهر فجأة على أثر صعوبة طارئة ناجمة عن انقطاع مفاجئ في التكيّف، أو عن مؤثر خارجي قوي، أو عن فكرة ما.
من أهم خصائص الوعي: هو أنه حدس أو معرفة مباشرة، بالعالم الخارجي والداخلي. وهو قدرة على الاختيار، وقدرة على التكيّف في الوسط الموجود، وهو وظيفة عضوية، كما يعتبره ريبو، لتأمين كل ما نحتاجه. والوعي كذلك، هو القدرة على إيجاد توليفة عقلية قائمة على انشداد عقلي وعضوي، يبلغ أوجه في حالة الانتباه، وله مستويات متدرّجة، ومتنوّعة؛ ففي حالات عديدة لا يعي الإنسان تصرفاته.
وما نودّ إضافته هنا، هو أن الوعي يشتمل على تفسيرين:
– التفسير الأول، وهو ذلك الوعي الذاتي والمستمر، ويشترك فيه كل الجنس البشري.
– التفسير الثاني أو الدرجة الثانية، وهو ذلك الوعي الذي يمثل أعلى درجة وأكثر اطلاعاً، وأوسع معرفة، وأقرب للحقيقة. وهذا ما يظهر بالسلوك والمواقف والآراء الفردية. ومثلاً على ذلك، وجود جماعة بشرية، تضم العامل والمهني والعالم والفيلسوف. وهنا تظهر الدرجة الثانية من الوعي، وهي الدرجة الأعلى، عند الفيلسوف، ثم عند العالم، ثم عند المهني، وأخيراً العامل أو الإنسان العادي. وعندما نصف الفيلسوف بأنه واع. هذا لا يعني أن المواطن العادي غير واع، بل يعني أن الفيلسوف أكثر وعياً وأكثر قدرة على التحليل والإدراك من غيره.
5- خاتمة
———-
انطلاقاً من هذه الفكرة، يمكننا أن نعتبر أن الوعي ظاهرة مستمرة لدى مختلف الجماعات البشرية؛ فهناك الوعي الفردي، وهناك الوعي الجماعي أو درجة وعي المجتمع، بالنسبة إلى مجتمع آخر. وهناك كذلك، داخل كل مجتمع بشري درجات متعدّدة من الوعي؛ فالفرد المتعلم والمستوعب هو أكثر تكيّفاً مع واقعه ومحيطه، أي إنه الأعلم والأوسع معرفة واطلاعاً، والأكثر تنبّهاً، وبالتالي فهو الأكثر وعياً من غيره. والوعي بهذا المعنى هو نسبي.
كذلك بالنسبة للمجتمع، فالمجتمع الأكثر علماً والأوسع اطلاعاً، هو الأكثر تكيّفاً مع التطورات، ومع الوسط الاجتماعي والسياسي والعالمي. وهو الأكثر وعياً. والمجتمعات الحديثة والمعاصرة مثلاً، هي أكثر وعياً من المجتمعات القديمة. أما درجة وعي المجتمع، فيمكن أن تقاس بمعدل وسطي لدرجات الوعي المتنوّعة عند الأفراد والجماعات.
إن ما نهتم به الآن هو ظاهرة الوعي البشري المستمرّة، عبر التاريخ البشري. وما قمنا به، في هذا البحث، يمكن أن يلفت الانتباه لهذه الظاهرة الإنسانية والفكرية، وما تتطلبه من تعمّق ودراسات. فالوعي يرتبط بالمعرفة والمعتقد والتربية ودرجة الذكاء، والقدرة على التحليل والنقد. إنّه ظاهرة مركبة معقدة. فهو يرتبط بالإرادة والحرية والقدرة على التخيّل والابتكار.
ترتبط درجة الوعي الفردي بمستوى الوعي الجماعي؛ فهي ترتبط بالتربية المنزلية والمدرسية والعائلية والاجتماعية، وما نعتبره عند الطفل ذكاء حاداً، قد يكون له ذلك في طفولته، لكنه يفقده من جراء التربية التي تفرض عليه. وكثيراً ما يتعرّض لمعاملة قاسية تقتل عنده شعلة الذكاء الطبيعية في نفسه. كما أن المجتمع يساهم في تبلور الوعي وتفتحه عند الفرد، من خلال التربية الإيجابية والمفيدة، وكذلك من خلال توسيع معارفه وخبراته المتنوعة. وما إن يندمج الإنسان بالمجتمع ويتقبّل أفكاره وأساليبه الاجتماعية السائدة، حتى ينسى أحلامه وتتبعثر قدراته. "إننا نحرم أولادنا من مواهبهم، ونحد من مقدرتهم، لأننا نسعى بغية جعلهم على صورتنا ومثالنا، كما فعل آباؤنا فجعلونا على صورتهم ومثالهم. والتحالف الذي يجابهه كل طفل هو تحالف العائلة والمجتمع ضده وهو يكاد أن يكون تحالفاً لا يقهر"(21).
يرى هشام شرابي أن النظام الاجتماعي والاقتصادي يفرض وضعاً نفسياً وذهنياً معيّناً في الأفراد، كشرط أساسي لاستمراره. كما أنه يرى أن المعرفة الذاتية هي الشرط الأساسي للتغيير الذاتي، في الفرد كما في المجتمع. "والوعي الصحيح هو الوعي النقدي القادر على كشف الوقائع وتعريته وإظهار قاعدته الحضارية. ولا يمكن تغيير الواقع إلا بكشف النقاب عن حقيقته"(22).
الوعي الاجتماعي يتطلب كشف أساليب التمويه السائدة في المجتمع البشري. وهي مستمدة من علم النفس، وتعني "حجب حقيقة شيء ما، أو واقع ما، بمختلف الطرق والوسائل"(23). تبدأ تلك العملية في البيت وتستمر في المدرسة والمجتمع. وبواسطتها تتمكن الثقافة الاجتماعية أن تفرض هيمنتها وقيمها وأهدافها. بواسطة تلك التربية التقليدية، يصبح الفرد مكبّلاً بالقيود والمفاهيم الماضية، ويصبح سجين الآراء التي تأتيه من الخارج، فيبتعد عن حقيقته ويصبح مسيّراً من قبل القوى المهيمنة في المجتمع.
يتفتح الوعي الفردي أكثر فأكثر، مع تزايد المعرفة بالظاهرة الاجتماعية، والقدرة على الإحاطة بواقع المجتمع وقضاياه، وذلك بفضل التقدم التقني الذي تحقق إبّان الثورة الصناعية، وبفضل تطور العلوم وتراكم المعارف وتزايد الأبحاث السوسيولوجية والإنتروبولوجية، وبفضل تطور وسائل النقل والاتصالات، "لقد أدّت العوامل تلك إلى قيام مجتمع أكثر وعياً بذاته، وأكثر وعياً بغايات الجماعة ووسائله"(24). ويرى شرابي أن "ما يقود العلم ويسيّره في المجتمع هو دافع ينبثق من ذلك المجتمع، فيعطيه منطقه الخاص، وطبيعته الخاصة"(25). وهناك كثير من القيم والأهداف المجرّدة التي تبدو منطقية، قد تكون غير مفيدة للمجتمع.
الوعي الاجتماعي ينشأ على أساس حياة المجتمع المادية والمعنوية، من تنوّع العلاقات وتنوّع النشاط وتنوّع المفاهيم والعادات والأساليب. الوعي هو جانب ضروري من الحياة الاجتماعية. ولكي يكون وعياً إيجابياً ومفيداً يجب اعتماد الأساليب العلمية والمنطقية في التعلم، بالإضافة إلى دراسة المجتمع على ضوء النظريات الحديثة والمتطورة، التي تدرس المجتمع خلال مراحل تطوره وتغيّره، حيث يمكن معرفة أسباب ذلك التغير والتطور. وهذه الحياة في جميع ظواهرها، هي نتيجة لنشاط الناس. "أما طابع الوعي الاجتماعي ومستواه واتجاهات تطوره، فيحدّدها في آخر المطاف الوجود الاجتماعي"(26).
تتعدّد مظاهر الوعي الاجتماعي، فهناك الوعي السياسي والوعي الثقافي، والوعي الجمالي، والوعي القانوني، والوعي الاقتصادي، إلى غير ذلك. ويرى محمود عبد الفضيل أن الوعي في المجال الاقتصادي شرط ضروري لتطور الإنتاج "إن الوعي الانتقادي- التحليلي هو شرط ضروري ولكنه شرط غير كاف للخلق والإبداع الذاتي. فالفكر الاقتصادي العربي، من خلال محاولاته للخلق والإبداع الذاتي في مجالات تهم العديد من بلدان العالم الثالث، يمكن له أن يكون رافداً من الروافد التي تغني الفكر العالمي حول قضايا التحرر والتنمية والتوحيد الاقتصادي"(27).
الوعي الإنساني، بشكليه الفردي والجماعي، يحتاج إليه الإنسان في حياته العملية. وهو لا يمكن الاستغناء عنه، إذ إن الإنسان يتميّز عن باقي الكائنات بعقله ووعيه. وهو السلاح الوحيد الذي يملكه الإنسان ليتمكن به من التغلب والسيطرة على باقي المخلوقات الأخرى. كما أن المجتمعات البشرية مدعوّة لأن تكون أكثر وعياً وإدراكاً، حتى تتمكن من السيطرة على الصعوبات التي تواجهها في مسيرتها. أما عن الوعي السياسي مثلاً، فهناك حاجة ماسّة لتحليل ما يجري في العالم من مخططات مشبوهة ومن ثقافات، هدفها تزوير الواقع العالمي، بهدف تضليل الغالبية العظمى من مجتمعات العالم الثالث، لتمرير المشاريع الغربية التي تدعو للتفرقة على أساس المعتقدات الدينية، حيث التكلم عن التطرف الديني وصراع الثقافات. تلك الفكرة التي روّج لها المفكر والسياسي الأميركي "صامويل هانتنغتون" في مقال بعنوان: صدام الحضارات. وهو يستخدم معنى واحداً للثقافة والحضارة. كما أنه يعتبر أن الدين هو المحور الأساسي في الثقافة. يعتبر هانتنغتون أن سبب النزاعات العالمية لم يعد سبباً اقتصادياً أو إيديولوجياً، وإنّما "سيكون مصدراً ثقافياً، وستظل الدول والأمم هي أقوى اللاعبين في الشؤون الدولية، لكن النزاعات الأساسية في السياسات العالمية، ستحدث بين أمم ومجموعات لها حضارات مختلفة"(28). وهو يعتبر أن الحضارة هي أعلى تجمّع ثقافي للناس وأوسع مستوى للهوية الثقافية للشعب. كما أنه رغم إقراره بتداخل الحضارات وتمازجها، إلا أنه يعتبرها خطوط فصل جذرية بين الهويات المتمايزة.
يؤكد هانتنغتون على استحالة القضاء على الفوارق الثقافية، كما أنه يشدّد على تزايد النزعة الإقليمية وتحولها إلى نمط ثقافي. وهو يركز على احتمالات الصدام بين الإسلام والغرب. كما أن المستشرق الأميركي برنارد لويس يتنبّأ بحتمية الصراع بين الإسلام والغرب، معتبراً أنهما نقيضان لا مجال للحوار بينهما. وكذلك الأميركي المشهور بول كندي يرى أن العالم الإسلامي عاجز عن الاستعداد للقرن الحادي والعشرين لأسباب عقدية ومجتمعية حسب رأيه، "وإذا احتاج المرء إلى مثال على أهمية المواقف الثقافية لشرح استجابة مجتمع ما للتغيير، فعليه بالإسلام المعاصر"(29).
إن ما يمكن أن نقوله في هذا الصدد هو أن هؤلاء المفكرين يروّجون للإسلام السياسي، وقد وضعوا له أسسه وبرامج عمله، فهم يستفيدون من وجوده في مجالات عديدة. هذا الإسلام يشعل ثورة في مجمل الأرجاء من العالم الإسلامي، وقد تستخدمها الدول الكبرى لمصالحها. كما أن ذلك لم يعد يسمح بجمع العرب واليهود في دولة فلسطينية واحدة. هذا من جهة، أما من جهة أخرى فيرتبط العالم الإسلامي بالماضي، حيث يعود إلى نقطة الصفر، إن كان من ناحية التشريع أو من أي ناحية أخرى. إن الترويج لهذه الأفكار من شأنه أن يصوّر المسلمين كإرهابيين، يقتضي محاربتهم من مختلف الشعوب الأخرى. ويرى محمد عابد الجابري أن العقل الأوروبي لا يعرف الإثبات إلا من خلال النفي، والغرب بعد انهيار خصمه الشيوعي "يحتاج للإسلام في تحديد هويته ذاتها. ويتعلق الأمر بإسلام يصنعه وفق حاجياته وهواجسه.
إن العقل الأوروبي لم يعد يرى المستقبل من وجهة مستقبلية، بل من خلال آلية صنع السيناريوهات واستعراض الإمكانات المحتملة، ومن ثم فإن الحاجة العميقة إلى العدو استدعت المراهنة على الخيار الأقرب، الصراع مع الإسلام"(30).
إن الملفت للانتباه هو أن هانتنغتون المنظّر الأساسي لصدام الحضارات، هو سياسي أميركي وقد كان مقرباً من مركز القرار الأميركي، حيث عمل سابقاً في إدارة الرئيس السابق جيمي كارتر، كما أنه شغل رئاسة الجمعية الأميركية للعلوم السياسية، ويشترك في تحرير مجلة السياسة الخارجية.
يرى وجيه كوثراني في تعليقه على أطروحة هانتنغتون من صدام الحضارات، أنه "لا يخرج عن نطاق السعي لإدارة الأزمات في كوكب الفقراء الذي تنفجر فيه الديموغرافيا والثقافات التي يمتزج فيها الديني والسياسي"(31).
هكذا فالوعي أو التفكير الصحيح القائم على التحليل والنقد لا يمكن الاستغناء عنه في أيّة مرحلة. والمجتمع البشري بحاجة لهذا الوعي، في كل مجال من مجالات الحياة. والإنسان يحتاج لهذا الوعي، في كل خطوة يقدم عليها. كما أن هذا الوعي هو العامل الأساسي، الذي ينقذ الإنسان والمجتمع من ثغراته، ويمكنه من مواجهة التحديات المصيرية، كتحدي العولمة الأحادية الجانب، التي تفرض فرضاً على الشعوب النامية.
أما اعتبار البعض بأن الوعي هو غريزة، فهو ما لا يمكن الإقرار به لأن الغريزة تبقى كما هي، بينما الوعي يختلف من فرد لآخر ومن مجتمع لآخر. وهو يأتي نتيجة للتفكير، عكس الغريزة المتناقضة مع الفكر.
يرتبط الوعي بنوعية الدوافع وطبيعتها، وبالحاجات الفردية والاجتماعية وبالتجارب الماضية، والقيم العليا، والتمثلات الاجتماعية، والأنا العليا، والقيم الثقافية والاجتماعية. الوعي الذاتي في جانب منه فطري، فالإنسان يملك استعدادات فطرية تمكنه من القدرة على التفكير. هذه القدرة على التفكير والتحليل يتميّز بها الإنسان عن باقي الكائنات الأخرى. وهي تلعب دوراً مهماً على صعيد القدرة على الاكتساب والتعلم من التجارب ومن الأخذ عن الآخرين. يتفوّق الإنسان إذاً، عن باقي المخلوقات الأخرى بهذين العاملين.
أما عن درجة تلك الاستعدادات الفطرية، فهي تتباين عند الأفراد، وغالباً ما نعني بها نسبة الذكاء، وقد ابتكر العالم الحديث روائز متعددة لقياس نسبة الذكاء. وتباينت آراء المفكرين في ذلك، فمنهم من يغلب نسبة الذكاء على ما عداها من معارف مكتسبة، ومنهم من يغلب نسبة الاكتساب على ما عداها. أما ما يمكن قوله في هذا المجال، هو أن العقل البشري أو القدرة على التفكير ترتبط بالجانبين الفطري والمكتسب. وبقدر ما يكتسب الفرد، وحسب نوعية الاكتساب، تتغيّر القدرة على التفكير الصحيح، من فرد لآخر، ومن مجتمع لآخر.
لا يمكن الاستغناء عن الجانب المكتسب، فمهما كانت قوة الإدراكات الفطرية قوية، إلا أن الجانب المكتسب هو الذي يخرج المعلومات إلى النور. الاستعدادات هي فقط ضمن منظور القدرة دون أن تظهر إلى الفعل. والطفل عندما يتعلم التكلم يبدأ بهضم تلك المعلومات التي يكتسبها من الخارج. والإنسان يولد، وحسب رأي أرسطو، وعقله صفحة بيضاء، لا يتملك المعلومات إلا من التجربة والاكتساب. ولو وضعنا طفلاً منذ ولادته في غابة، لكان يتعلم لغة الحيوانات فقط، ولما كان يكتسب معارف بشرية.
أما عن التمييز بين الوعي واللاوعي، فالمقصود فيه، وجود درجة من المعرفة أدنى من الوعي. إذ إن ظاهرة اللاوعي تحتوي على وعي مكبوت. والذكريات "تشكل قسماً من منطقة اللاوعي: ففي التنويم، في الأحلام الليلية، في الصدمة الانفعالية… تبرز ذكريات منسيّة إلى الوعي"(32).
هناك كذلك ظاهرة "القبوعي" أو قبل الوعي، وهي تشمل الذكريات الإرادية، التي تعتبر في عالم الوعي. وإذا اعتبرنا ظاهرة الوعي مستمرّة منذ الولادة، ترافق الفرد، بشكل مستمر، في مختلف مراحل حياته، أمكننا التمييز بين الوعي الطفولي والوعي لدى الإنسان البالغ.
واللاوعي من هذه الزاوية، الذي يعتبر عند الشخص البالغ، ليس إلا وعياً طفولياً مكبوتاً. والصدمة، التي يتعرّض لها الطفل، تسبّب له عقدة نفسية، فيما بعد، أي إنها تصدم الفكر فقط. والغريزة، من حيث هي غريزة، تقبل القمع، ولا تتأثر به. أما الوعي فهو الذي يتأثر بالصدمة. وما نراه من تركيز التربية الحديثة على الميول النفسية، ليس بهدف إطلاق حرية الغريزة والشهوات، بل بهدف عدم قمع حرّية الطفل، عدم قمع إرادته وفكره ووعيه، عدم قمع ذلك المركب الداخلي عنده. لكن ما يتأثر بالصدمة والقمع، هو ذلك الجزء الواعي من الفرد.
إن ما يمكن أن نلفت الانتباه له هو تلك الظاهرة المعقدة والمهمة عند الإنسان، إذ إنّه وحده يتميّز بها عن سائر الكائنات. ولا يمكن لبحث واحد أن يفي بإعطائها ما تستحقه من دراسة وتعمّق. إن ما تحتاجه ظاهرة الوعي، هو تبيان مدى ترابطها بالخيال والأحلام والإرادة والذكاء والتكيّف والعادة والتربية والدوافع والغرائز، والشك والنقد والتحليل.
وما نودّ لفت الانتباه إليه هنا، هو ذلك الخلط بين الوعي واللاوعي، وعدم تعيين حد فاصل بينهما. إنّنا نرى أنه من الأفضل، اعتبار اللاوعي، هو في حالة الأحلام والنوم وعدم القدرة على التفكير. أما حالة الوعي، فهي تشمل كل حالات اليقظة.
إن زلة اللسان والأفعال الناقصة، والكلمات التائهة، يمكن أن نستدل بها على وجود لاوعي وراء الوعي، إنّما لمن الخطأ اعتبار الإنسان الذي زلّ لسانه أنّه في حالة لاوعي. كما أن الطفل الذي لا يعرف أسلوب التفكير الصحيح لا يجب اعتباره في حالة لاوعي، بل إنه في حالة وعي، إنّما وعيه بقدر معرفته وبقدر اتساع فكره. إذاً الوعي نسبي، وهو يخضع لعوامل عديدة، منها التيقظ التام، وعدم التيقظ، ودرجة وعيه ومعرفته وقدرته على التحليل. والإنسان الأكثر وعياً هو الأكثر تنبهاً وتيقظاً.
ولو افترضنا مجموعة أطفال يلعبون، يمكننا أن نميّز البعض منهم بأنّهم على درجة من الوعي، لكن عن أي وعي نتكلم، إننا نعني وعي الأطفال، إذ إن أعلى درجة في وعي الطفل تختلف عن أدنى درجة في وعي الراشد. وكذلك وعي الراشد يختلف حسب درجة علمه وثقافته وذكائه وبيئته. فالوعي، بهذا المعنى، يشمل كل الحالات التي يكون الإنسان فيها يقظاً.
هكذا تلعب إشكالية الوعي واللاوعي دوراً مهماً في حياة الإنسان، وهي تبقى قائمة. أوليس هناك صراع مستمر بين الوعي واللاوعي؟. ثم أليس فصل الوعي كلياً عن الأمور الفطرية، كما يعتبر معظم الفلاسفة، يبقى إشكالية مستمرّة في تاريخ الفلسفة؟. وهل الوعي هو مجرّد المعرفة التي يكتسبها الفرد؟. وإذا كان بالإمكان فصل الوعي عن المعرفة، على أساس أنهما جوهران متفاعلان وإنّما مستقلان، فما هو جوهر الوعي إذاً؟. ألم نلاحظ خلال تجاربنا أن هناك بعض الأفراد، مهما تعلموا وترقوا في درجات العلم، يبقون أقل وعياً من غيرهم، ممّن هم أدنى رتبة منهم في العلم والمعرفة؟. وهل يعود ذلك السبب فقط لعامل الذكاء الفطري؟.
أوليس أن الوعي هو مجرّد المنتوج الذكائي للفرد؟. إذاً الوعي هو مفهوم أو قيمة نطلقها على ما يصدر عن الفرد من آراء ومعارف وسلوك. وهذه القيمة أو هذا الحكم يشترك في تحديده، وفي تعيين درجته، كل من أطلقه ومن اتّصف به.
إذاً من الضروري إعادة النظر بكل هذه المفاهيم، لأنها ليست إلا مجرّد أحكام، تطلق على ما يظهر من نتائج الأمور، والإنسان ما هو إلا أكثر ابتعاداً عن لباب الأمور.
أليست العودة إلى فلسفة أرسطو، وقوله بالاستعدادات الفطرية، تدلنا على الطريق الأصوب؟. وإذا كان الوعي هو نتاج الذكاء والثقافة، فلمن تبقى الأولوية؟.
إن الإشكالية الأهم اليوم، هي تلك القائمة ما بين العلم والفلسفة. ولا نودّ هنا أن نستعرض تطور الفلسفة عبر العصور التاريخية، بل نريد أن نسلط الضوء فقط على الإشكالية بين الاثنين. هل أصبح بمقدور العلم أن يستغني عن الفلسفة؟. هل هناك نقاط مشتركة بين الفلسفة العلمية والمعرفة العلمية؟.
نختصر الإجابة على هذه الإشكالية بما ورد عن كانط، إذ يرى أنه ليس هناك فلسفة لنتعلمها، إنما نستطيع أن نتعلم كيف نتفلسف. الفلسفة ليست مادة معرفة كسائر العلوم. إنها ضرب من النظر العقلي، يهدف إلى معرفة حقيقة الأشياء. ويرى الفيلسوف الأميركي المعاصر رويس، أن المرء يتفلسف حينما يفكر تفكيراً نقدياً، في كل ما هو بصدد عمله في هذا العالم. الفلسفة إذاً ليست رياضة ذهنية فقط، بل هي بحث دائم عن الحقيقة. ويرى الفيلسوف الإنكليزي هربرت سبنسر أن العلم إذا كان معرفة موحدة جزئياً، فإن الفلسفة هي المعرفة الموحّدة كلياً.
الفلسفة بمعناها العام هي حياة ونقد وتحليل وتعلم وبحث عن الحقيقة ومعرفة صحيحة. ورغم تباين آراء الفلاسفة حول طبيعة الفلسفة، إلا أنها تعرف اليوم بمعناها الديناميكي المعاصر. هي الفكر والوعي بذاته. يرى رسل أن العلم هو ما نعلم، أما الفلسفة فهي ما لا نعلم. ويرى وايتهد أن العلم والفلسفة، من ناحية معينة، مظهران مختلفان لهدف واحد يضعه العقل البشري نصب عينيه، من أجل رفع مستوى البشرية فوق المستوى العام للحياة الحيوانية.
العلم والفلسفة يساعد أحدهما الآخر. الفلسفة توفق بين الأفكار المدركة، وتبحث في التعميمات، وقد تستند على الحدوس، وقد تتجاوز العلوم، كما أنها كلية، ومنهجها عقلي. فهي تتجاوز الكيفيات لتتحرى عن الأسباب والنتائج، كما أنها تحدثنا عن علل العالم ومعناه وقيمته، ولا تهدف إلى إقامة قوانين عامة ثابتة، كما هي عليه العلوم. العلوم تقتصر على دراسة الجزئيات وتقوم على دراسة الواقع الملموس. وهي موضوعية وعامة ومجردة.
ومهما تعددت وتنوعت الأبحاث المتعلقة بالمعرفة العلمية والفلسفة، فليس ثمة حدود نهائية بين الاثنتين. وكان العصر الذهبي للعلم والفلسفة هو عصر الفلاسفة العلماء، أمثال: غاليليه، ديكارت، بسكال، ولايبنتز، وغيرهم. وقد وجد لدى الفلاسفة رغبة في أن تغدو الفلسفة معرفة للمعرفة العلمية، ووعياً لذاتها.
تكمن إشكالية العلم اليوم، بأنه لا يستوعب الذات المفكرة، بل يجهلها. يرى هوسرل أن أزمة العلوم الحديثة تعبّر بعمق عن أزمة إخفاء الذات، أو لا مبالاة العلميين بذاتيتهم الخاصة.
لا يمكن أن يستغني اليوم طرف عن الآخر. "فإذا كانت الفعالية الفلسفية تولد الحالة الفكرية المساعدة على تقدير العلم، فإن الفعالية العلمية تسمح بتغذية الفلسفة بالمعرفة. إذاً، يمكن للعلم والفلسفة أن يظهرا عبر الحوار كوجهين مختلفين ومتكاملين كذلك: إنه الفكر"(33).
الهوامش
———-
1- ديكارت، ريني، مقالة الطريقة، ترجمة وتقديم جميل صليبا، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، ط2، بيروت 1970، ص 24.
2- الفندي، محمد ثابت، مع الفيلسوف، دار النهضة العربية، ط1،بيروت 1974، ص 74.
3- ريشنباخ، هانز، نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة فؤاد زكريا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1979، ص268.
4- كوفالسون، المادية التاريخية، ترجمة الياس شاهين، دار التقدم، موسكو، ص 36.
5- ماركس وأنجلز، الأعمال المختارة، دار التقدم، موسكو، المجلد 2، ص 504.
6- ريشنباخ، هانز، نشأة الفلسفة العلمية، مرجع مذكور سابقاً، ص24.
7- زيعور، علي، الحكمة العملية أو الأخلاق والسياسة التعاملية، دار الطليعة، ط1، بيروت 1988، ص 331.
8- المصدر نفسه، ص 257.
9- ديكارت، رينه، مقالة الطريقة، مرجع مذكور سابقاً، ص 36.
10- المصدر نفسه، ص 37.
11- المصدر نفسه، ص 63.
12- كرم، يوسف، تاريخ الفلسفة الحديثة، دار المعارف، ط 6، 1979، ص 286.
13- لينين، المختارات، المجلد 5، ترجمة الياس شاهين، دار التقدم، موسكو 1976، ص 233.
14- المصدر نفسه، ص 239.
15- كرم، يوسف، تاريخ الفلسفة الحديثة، مرجع مذكور سابقاً، ص 460.
16- جود، س.ي. مدخل إلى الفلسفة المعاصرة، عرّبه د.محمد شيّا، مؤسسة نوفل، ط1، بيروت، 1981، ص 144.
17- المصدر نفسه، ص 145.
18- المصدر نفسه، ص 154.
19- زيعور، علي، مذاهب علم النفس المعاصر، دار الأندلس للطباعة والنشر، ط1، بيروت، 1971، ص 121.
20- المصدر نفسه، ص 129.
21- رايت، ف. ج.، مبادئ علم الاجتماع، ترجمة محمد شيا، دار الحداثة، ط1، بيروت 1996، ص 28.
22- شرابي، هشام، مقدمات لدراسة المجتمع العربي، دار الطليعة، ط 4، بيروت 1991، ص63.
23- نفس المصدر، ص 66.
24- نفس المصدر، ص 67.
25- نفس المصدر، ص 70.
26- كوفالسون، المادية التاريخية، مرجع مذكور سابقاً، ص 36.
27- عبد الفضيل، محمود، الفكر الاقتصادي العربي وقضايا التحرر والتنمية والوحدة، مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، بيروت 1985، ص183.
28- هانتنغتون، صدام الحضارات، مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، بيروت 1995، ص 14.
29- كندي، بول، الاستعداد للقرن الواحد والعشرين، ترجمة محمد عبد القادر وغازي مسعود، دار الشروق، عمان 1993، ص 266.
30- عابد الجابري، محمد، مسألة الهوية: العروبة والإسلام والغرب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1995، ص 182.
31- ولد أباه، السيد، اتجاهات العولمة، المركز الثقافي العربي، ط1، الدار البيضاء 2001، ص95.
32- زيعور، علي، مذاهب علم النفس المعاصر، مرجع مزكور سابقاً، ص 227.
33- موران، إدغار، الفكر العربي المعاصر، عدد 105- 104، مقال: هل العلم بدون وعي مدان؟ مجلة فكرية تصدر عن معهد الإنماء القومي، بيروت 1998.
المراجع
———-
1- جود، س. ي. مدخل إلى الفلسفة المعاصرة، تعريب د. محمد شيا، مؤسسة نوفل، ط1، بيروت 1981.
2- ديكارت، رينه، مقالة الطريقة، ترجمة وتقديم جميل صليبا، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، ط2، بيروت 1970.
3- رايت، ف. ج.، مبادئ علم الاجتماع، ترجمة محمد شيا، دار الحداثة، ط1، بيروت 1996.
4- ريشنباخ، هانز، نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة فؤاد زكريا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1979.
5- زيعور، علي، الحكمة العملية أو الأخلاق والسياسة التعاملية، دار الطليعة، ط1، بيروت 1988.
– مذاهب علم النفس المعاصر، دار الأندلس للطباعة والنشر، ط1، بيروت 1971.
6- شرابي، هشام، مقدمات لدراسة المجتمع العربي، دار الطليعة، ط4، بيروت 1991.
7- عابد الجابري، محمد، مسألة الهوية: العروبة والإسلام والغرب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1995.
8- عبد الفضيل، محمود، الفكر الاقتصادي العربي وقضايا التحرر والتنمية والوحدة، مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، بيروت 1985.
9- الفندي، محمد ثابت، مع الفيلسوف، دار النهضة العربية، ط1، بيروت 1974.
10- كرم، يوسف، تاريخ الفلسفة الحديثة، دار المعارف، ط6، 1979.
11- كندي، بول، الاستعداد للقرن الواحد والعشرين، ترجمة محمد عبد القادر وغازي مسعود، دار الشروق، عمان 1993.
12- كوفالسون، المادية التاريخية، ترجمة الياس شاهين، دار التقدم، موسكو.
13- لينين، المختارات، المجلد 5، ترجمة الياس شاهين، دار التقدم، موسكو 1976.
14- ماركس وأنجلز، الأعمال المختارة، دار التقدم، موسكو، المجلد 2.
15- هانتنغتون، صدام الحضارات، مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، بيروت 1995.
16- ولد أباه، السيد، اتجاهات العولمة، المركز الثقافي العربي، ط1، الدار البيضاء 2001.
17- مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 104-105، معهد الإنماء القومي، بيروت 1998.