بالواقع لا يمكن قراءة حرب 1967 انطلاقاً من الوقائع الميدانيّة، عملانيّة كانت أو تكتيّة. واستطراداً يتعذّر وصف "إسرائيل" بالدّولة القويّة استناداً لهذه النتائج فقط من دون الإلمام بالمعطيّات الجيوسياسيّة التي كانت "إسرائيل" تدور في فلكها. وبالتالي هل حقّقت هذه المشاريع أهدافها؟
ربّما تواجهنا سلسلة من الأسئلة الوجوديّة، حول ماهية ودور "إسرائيل" بالدّرجة. فهل هي صنيعة ذاتها كدولة؟ أم أنّها قاعدة متقدّمة للقوى الاستعماريّة الّتي تستعملها؟ هل هي حقّقت أهدافها الخاصّة أم تعدّت هذه الأهداف قدراتها وإمكاناتها وتطلّعاتها؟
لقد كُتب الكثير عن التفوّق النّوعيّ للجيش "الإسرائيليّ" من حيث التجهيز والتدريب والحركة العملانيّة والاستفادة من العلوم الحديثة والقدرة على الخلق والإبداع. وطبعاً كلّ ذلك على ضوء النّتائج المباشرة التي خلقتها حرب 1967. بعض هذه الكتابات استند إلى وقائع ميدانيّة. وبعضها الآخر كان من ضمن البروباغندا الإعلامية المطلوبة لترسيخ منطق الخوف، واستكمالاً الإحباط من القدرة على مقاومة هذا التّنين الّذي حلّ في منطقتنا وبلادنا.
ربّما جاءت الذكرى الخمسون للنكسة كاشفة معها العديد من الحقائق غير المعروفة آنذاك، أو على الأقل كانت حتى أمد قريب موضعاً للشكّ والتّساؤل. خاصّة تلك المتعلّقة بالتّنسيق بين محميّات الخليج ودولة العدوان التي ظهرت بأفضح صورها الآن، بعدما بات التّعتيم عليها لا يفيد مصلحة المشغّل الأساس، بل بات مطلوباً للإجهاز على ما تبقّى من صورة وكذبة التّضامن العربيّ الّتي سوّقت لفترة طويلة في المرحلة السّابقة.
قد تعطي هذه الصّورة الآن أولى النّتائج الجيوسياسيّة والّتي كانت كامنة في التّاريخ القريب، ألا وهي: أنه لم يكن هناك في التّاريخ حرب عربيّة إسرائيليّة بالمعنى الشّامل للكلمة، إنما قتال بين بعض الدّول العربيّة والمشروع الغربيّ المتمثّل برأس حربته "إسرائيل".
فمساندة "إسرائيل" للملكة السّعوديّة عام 1964 بالطّيران والخبراء والأسلحة بوجه الثّورة اليمنيّة بقيادة عبدالله السّلال، سبقت حرب 1967. وعليه إن التّنسيق قائم بينهما، ولم تكن عمليّة الفيصل بوقف تدفّق النفط إلا دعاية جذب للقوى التي تعارض عبدالناصر آنذاك وتعادي الغرب بشكل عام.
أمّا النّتيجة الثّانية في الإطار الجيوسياسيّ، أن الوقائع الميدانية في هذه الحرب قد عطّلت (كي لا نقول ألغّت) قرار تقسيم فلسطين الصّادر عن الأمم المتّحدة عام 19471، وبالتّالي أصبح في مهبّ ريح التّفاوض غير المجدي. بل وسّعت إطارها الجغرافيّ شاملة سيناء والجولان ومزارع شبعا وصولاً إلى مضائق تيران باعتبارها ممرّاً استراتيجيّاً عسكريّاً واقتصاديّاً لـ"إسرائيل".
قد يكون من المفيد الإضاءة على هذه المسألة المتعلّقة بتيران باعتبارها تدمج بين النّتيجتين الجيوسياسيّتين. فالآن تلعب السّعوديّة دوراً مهمّاً في التّقنيّة لتحويل هذا الممرّ إلى مياه دوليّة كي يتسنّى لـ"إسرائيل" تحقيق مشروع قناة البحرين أو قناة بن غوريون بين خليج العقبة والبحر الأبيض المتوسط لتنافس قناة السويس في مصر وتحقّق حريّة الملاحة إلى موانئها.
أما الحقيقة الثّالثة أو النّتيجة التّالية، أن إسرائيل عام 1967 رسّخت دورها كقاعدة عسكريّة للإيجار متقدّمة في المنطقة العربيّة. فبعدما كانت عام 1956 قاعدة عسكريّة للاستعمار القديم (فرنسا، بريطانيا) تحوّلت بقدرة قادر إلى قاعدة أميركيّة كاستعمار جديد، عام 1967 وما بعد حتّى يومنا هذا. وبالطبع لن تتوانى في حال ضعف النّاهب الدّوليّ الأميركيّ، أو تراجع دوره في أن تنتقل وبشكل سلس إلى أيّة دولة صاعدة أو عظمى تطمح بدور ما في هذه المنطقة. فهي تحتفظ بعلاقة جيّدة مع روسيا ومثلها مع الهند ولها مع الأخيرة علاقة تعاون على المستويين العسكريّ والتّكنولوجيّ. وبالطبع لها علاقاتها مع الصّين وخاصّة ملف التّعاون المفتوح على الممكن فيما بينهما بالقارّة الأفريقيّة.
النتيجة الرابعة، أن "إسرائيل" بانتصارها الصاعق عام 1967 شكّلت نموذجاً يُحتذى على مستوى الأقليات الإتنية والطائفية في المنطقة. بل أشعلت جذوة خامدة للعديد من هذه الأقليّات فبدأت بالعمل على تحقيق مشاريع مماثلة، بدءاً من الأكراد وصولاً إلى الأقليات الطّائفيّة التي سعت في مراحل عديدة بعد هذه الحرب إلى استجماع عديدها وتغيير خطابها من الخطاب الاندماجيّ القوميّ إلى الخطاب التّعدّدي التّقسيميّ.
لا شكّ أن حرب 1967، أفرزت أيضاً جملة من الوقائع الإيجابيّة على صعيد استنهاض القوى الكامنة في العالم العربي وأكثر تحديداً في المشرق العربي لا سيّما على الصّعيد الفلسطينيّ. بحيث أدرك الفلسطينون أن من واجبهم تصدّر الواقع الميدانيّ وبالتالي تنكّب مسؤولية القتال. فظهرت مجموعة من المنظّمات التي اعتمدت الكفاح المسلّح طريقاً وحيداً لتحرير فلسطين وأذكت الشارع بمقولات ومفاهيم الثّورة، وأجبرت قمّة جامعة الدّول العربية على تبنّي اللاءات الثلاث بالخرطوم. وباتت الأنظمة الحاكمة تعمل ولو ظاهريّاً على تبنّي المسألة الفلسطينيّة.