نبع من الفكر السوري، فاستطاع تشكيل الخشب والحجر ليماثلا الأسطورة ويحاكيا الميثيولوجيا السورية، ولا يزال حتى اليوم اسماً يفاخر السوريون به سفيراً لفنّ وطنه، ولد الفنّان-النحات "محمد بعجانو" في اللاذقيّة – قرى الحفّة عام 1955، خرج من رحم الريف السوري إلى المدينة حيث سكن أحد الأحياء القريبة في جوها من جو الريف مما مكنه من التعامل بعفوية مع المواد الطبيعيّة.
"تحولات" التقت النحات "محمّد بعجانو"، الّذي حدّثنا عن بداياته ومراحلها، قائلاً: "قبل معرفتي وإدراكي للأحرف حيث فوجئت أن لكلّ حرف من الحروف العربيّة اسمه وصوته الخاص فقد كنت أحفظ الكلمة ككتلة لها شكلها ولفظها فقط، ربما كان هذا دافعي منذ البداية للتعرف بعمق على أبجديّة الشكل والكتلة والفراغ بكونها جزء من أبجديات الحياة الكثيرة والمختلفة، فقد كنت أزوّد مدرستي الابتدائيّة "عبد الرّحمن الغافقي" في بداية كلّ أسبوع بعمل نحتي صغير من مادّة الصّلصال الجاف (الكدّان)، وتطورت في المرحلتين الإعداديّة والثّانويّة لمرحلة تقديم أعمال مائيّة وزيتيّة، حتّى وصلت لكليّة الفنون الجميلة بدمشق من العام 1976-1981 وأثناء دراستي فيها شاركت مع بعض زملائي في معرضنا الأوّل في جبلة، وفي سنة التخرج كان معرضنا النّوعي في المركز الألماني "غوته" بعنوان "النّحت والأسطورة" وحمل هذا الاسم شعوراً وتساؤلات لدى النّقاد وباحثي الفنّ التشكيلي مثل (هل لا زلتم حتّى الآن في حدود الأساطير؟!) حيث لم تكن تذكر في ذلك الوقت بعد".
حول رؤيته الفنية للنحت، وخطوطه التشكيلية يقول:
"بدأت استخدام الطريقة الرمزية وأسلوبي ليس واقعي وليس تجريديي بل هو قريب وعميق وقريب من كل إنسان بحيث يكون قرب من الإنسان المفكر والعادي في آن واحد".
من أين استقيت خطوطك التي نراها متجليّة في معظم أعمالك؟
"رأس الفنّان مليء بالدّراسات والأفكار الّتي يستطيع تنفيذها على أيّ كتلة، حيث تكون ملايين الأفكار متاحة أمامه ليختار فيما بينها بما يناسب هذه الكتلة ويقوم بتنفيذ الكتلة بأسلوبه وفكره الخاص.
خطوطي ليّنة أخذتها من تلال مدينتي والجوّ العام الموجود بين الجبل والبحر والهواء والماء، وبعد تخرجي قصدت التوظف في المتحف الوطني في دمشق للتعمق أكثر بالتماثيل الموجودة فيه من أجل إعادة إحياء الخطوط السورية للتأكيد على أنها لم تندثر عبر الأزمان، أعمالي ليست بجامدة بل تمنح الناظر لها إحساساً بأنّها مفعمة بالحياة والتجدد، بالنهاية لكلّ فنّان بصمته الخاصّة بالشّكل، فأنا أتميّز بالخطّ الّذي يظهر ماثلاً بأعمالي، وهو عبارة عن عدّة نقاط متّصلة بعضها ببعض، لتمنحنا الإحساس بأسلوب عمل كلّ فنّان على حداً، فبصمة كل فنان تميّزه عن بصمة الآخرين، وهنالك تناغم بين الخطوط لإنتاج العمل الفني تشبه التناغم بين الآلات الموسيقية لإنتاج معزوفة معيّنة".
حبه للنحت منطلق من فلسفة خاصة تشبه في طرحها الأسطورة السورية كثيراً، منها يقول:
"عندما خلق الله البشرية في التكوين الأول، كوّن الحجم، ومن الحجم كان النحت فهو برأيي الخاص مركز الكون كلّه، وهو الكتلة الأولى من الشجرة، الوردة، الجبل، الشلال، النهر، الخ… فهو بالنهاية كتل تشغل فراغ، والكتلة تختلف عن الفكرة فهي البداية دوماً وطالما أنها ما زالت مجرد مخططات وبعثرة كلام وطالما لم يباشر تنفيذها لتصبح واقعية ويصبح هذا الواقع بدوره كتلة أو حجم ملموس، هنا يظهر أن النحت دوماً هو الحق فهو الظاهر دوماً، عندما يكذب أحدهم لا يمكن إثبات الكذب دون وجود الشخص الممارس لحالة الكذب أي وجود الكتلة الكاذبة، والعمل النحتي حقاني يظهر على الفور جماليّته أو بشاعته، النّحت هو الحق".
وعن علاقة المواد الخام بالنحت: "لو بدأنا بالتاريخ لوجدنا أنّ الإنسان الأول رسم على الجدران كبداية وكان الطين أول مادة مستخدمة في التشكيلات، ثم استخدم الإنسان الحجر بعد استخدم الأدوات البرونزية بعدها تطوّر للمعادن الأخرى، في حياتنا اليوم للخشب روحية معينة وللحجر روحية مختلفة تماماً، فالنحات الذّي يعمل على الحجر يختلف عن من يعمل على الخشب، ولو كان نفس النحات، أنا مثلاً أعمل على كلا المادتين الخام، أتعامل مع الخشب على أنه صديق بأليافه، طراوته وقساوته، أتعاون معه وأعامله بإنسانية لإخراج أعمال لها علاقة بالأخلاق والفن والجمال، أما الحجر أتعامل معه كصديق أيضاً لكن باختلاف، فبكونه عنيد يجب عليّ معاملته بقساوة حتى يصبح طريّاً ويمنحني عملاً فيه جمالاً وليونةً وطراوةً".
واجه "بعجانو" متاعب في فهم الناس لأعماله، فمنهم من يرى الثور ذي القرنين مهيناً له أو لعقيدته، ومنهم من لا يفهم ما طبيعة الأشكال التي يقدمها رغم بساطة دلالاتها، لذا سألناه عن دلالة الثور المتكرر فيها، فقال:
"عند بدئي بمنحوتة ما أحسّ بها في كل لحظات مراحل العمل، وعندما أنتهي منها تصبح ملكاً لنظرة المشاهد الخاصة وتفسيراته، فالثور مثلاً رمزٌ لارتباط الإنسان بأرضه، والمدن التي تتجلى واضحة بأعمالي مرتبطة به أيضاً، الثور له معانٍ ودلالات كثيرة كونه العامل بالأرض فهو يتصف بكونه وطنيّ مثلاً، وأنا أقصده في أعمالي كونه يمثل ارتباط الإنسان بأرضه".
لماذا يتم انتدابك دوما لتمثيل سورية في الملتقيات العالمية ؟
"هم يختارون من له طابع خاص لتمثيل بقعة معيّنة، فالكثير من الفنانين لا يمثلون حضارة بلدهم عبر أعمالهم، في منحوتاتي الخشبية منها والحجرية أمثّل وبفخر الحضارة السوريّة بتفاصيلها، وقد درست كثيراً للوصول إلى هذه المرحلة وكان هدفي أيام الدراسة في كليّة الفنون إنجاز أعمال تنقل إلى الناس شعور أنّ النحات من أيام الآشوريين لم يمت بعد في محاولة لاستمرارية الحضارة، عند التمعن بأي عمل من أعمالي يرى الناظر أنه قديم لكن بروح حضارية جديدة، وهذا هو الشعور الّذي قصدت إيصاله، على السوريّ الاعتزاز بحضارة بلده حتى بالمأكولات الشعبية التي تخصّه".
كيف يرتبط عندك مفهومي الحرية والإبداع ؟
"ما من فنان في العالم موسيقيّاً كان أم شاعراً أم رساماً إلاّ وعنده الحرية في التعبير عن دواخله بإبداعاته الخاصة، وإذا شعر أنّه بحاجة للحرية هذا يعني أنه ليس بفنان حقيقي، الحرية بنظري فقرة من فقرات النحت، والإبداع يميز بين الفنان والناقد فالأول نظرته جمالية والثاني نظرته أدبية".
ما رأيك بالحالة النقديّة في سورية ؟
" النقد هو تقريب الفكرة التشكيلية للمواطن العام، شرح أسلوبه والتمكن من تمييزه عن باقي التشكيليين، برأيي لا يجب حدوث عملية النقد إلا بحضور الفنان مع مجموعة من الفنانين الآخرين إن كان عبر ندوة بالمراكز الثقافية أو غيرها، في سورية هو مقتصر على أشخاص معينين رغماً أنّ النقد فنّ بحد ذاته، والناقد التشكيلي كان من المفترض أن يكون فنّاناً تشكيليّاً لكن هنالك ظروف منعته، ومن الممكن أن يكون من تكلّمت عنه سابقاً عندما قلت أنّ نظرته أدبية للفنّ، يجب أن يكون النّاقد حياديّاً ويحكم بضمير ويتمتّع بأخلاقيات المهنة فهنالك أمانة في نقل مفاهيم العمل للمشاهد الذي لم يدركها، فمن الممكن أن يكتب شيئاً ينسف به فكرة ومقصد الفنّان بفكرته".
تتميز بكونك النّحات السوري الّذي يعمل على الحجر الرملي الخام، ما سرّ تميّزك ؟
"الحجر الرّملي سهل التعامل معه بواسطة الأدوات اليدوية وهو مطواع لها، وبدايةً لم أكن أمتلك سواها، في المتحف الوطني في دمشق عدّة أعمال منفّذة على هذا الحجر من عصور مختلفة منها: (الفينيقي، الهينليستي، الروماني) لذا فالحجر الرملي لا يفنى إلا بالضرب لكسره وليس كباقي الأنواع الأخرى، كما يختلف بكونه يمتلك إحساساً جميلاً وتقنيّة خاصّة، ممّا شجعني على تصميم بعض المنحوتات، كما أنّ نحاتي اللاذقية تركوها وسافروا إلى غير محافظات ودول وهم لا يعملون عليه لتوافره في منطقة الساحل فقط، لذا نلت ميّزة تخصصي بالعمل عليه".
كيف ترى واقع الفنانين التشكيلين في المحافظة من حيث اتجاهاتهم الفنية وتأثرهم وتأثيرهم ببيئة المدينة الجمالية ؟
الكتلة التّشكيلية تعبّر عن نفسها بنفسها، وللفنّ التّشكيلي أبجديّته ومفرداته التي لا تقرأ إلا بواسطة العين، هنا يأتي الدور التثقيفي لعين المشاهد كتعاون الفنان التشكيلي مع المؤسسات الثقافيّة، إضافة لواجب الفنّان التشكيلي في تجميل المدينة لتنمية النظرة الجماليّة لسكانها، اللاذقيّة مدينة صغيرة بالنّسبة لحجم فنّانيها فطموحهم أكبر من المحافظة ومسؤوليها، وحسب تجربتي الخاصّة لم ألتقي بمسؤول له قدرة تنفيذيّة على طرح الجماليّات في اللاذقيّة أو حتّى له علاقة بالفنّ التّشكيلي أو النّحت، أو تبادرت إلى ذهنه مثل هذه الأفكار مثلاً، بالرّغم من ضرورة تواجد فنّان تشكيلي خريج كليّاتنا ككلية الفنون الجميلة في مؤسسات الدّولة".