معاينة للاجتماع الحذر بين فكرة الدولة ومنطق الطّائفة في لبنان
مسعى هذا البحث، تظهير رؤية معرفية في ما يخص موقعية المواطنة في بلد متعدد الطّوائف كلبنان. وما من شك في أن مسعىً كهذا، لا يخلو من مخاطرة. فالقول فيه وحوله، أنَّى كان لون المقاربة، يستثير الإشكال واللَّبس، ويبتعث القولَ على القولِ، والحجةَ على الحجة. ثم إنّه يمضي ليفتح على أسئلة لا نهاية لها، وعلى إجابات لا تؤتي من يُلقَّاها بيقين. ولذا فالكلام على المواطنة والطّائفية، أو على المواطن والطّائفة، أو على دولة الطّوائف في سلامها الأهلي وأزماتها.. كل ذلك سيأتي على نصاب الظنّ والتقريب، أو على محمل الترجيح والاجتهاد.
المواطنة والطّائفية، مفردتان شائعتان شيوع قاموس الأزمات في الثقافة التاريخية اللبنانية. إنهما مفردتان تتعدَّيان اللفظ العارض، لتغدوَا حقيقة واحدة مركّبة، تؤرخ لما انصرم من تاريخ لبنان، مثلما تؤسس لحاضر ومستقبل وطن لا يفتأ أبناؤه يختبرون أساسات نشوئه كل آن.
لا كلامَ إذاً على المواطنة في لبنان خارج حياض الطّائفة. حتى لتكاد تبدو الصلة بينهما كصلة الاسم بالصفة، أو كعلاقة المفهوم بظهوره الفعلي ومجال استعماله. وحين وضعنا المواطنة في موازاة الطّائفية، فليس لنجعل منهما ثنائية متغايرة، وإنما لنتعامل معهما كقضية واحدة. فعندنا منذ أن تشكَّل لبنان ككيان سياسي اجتماعي عبر ولاداته المتواترة (دولة لبنان الكبير 1920 وجمهورية الاستقلال 1943 وجمهورية الطّائف 1989).. لا شيء ينمو ويتحرك خارج أسوار الطّوائف. بالطّوائف رُفِعت قواعدُ الكيان الناشئ، وعلى صورتها رُسِمَت خريطة الدولة، وتوضَّح شكل السلطة، واكتمل نظام الاجتماع السياسي. حتى لقد صارت دولة الطّوائف هي نفسها الدولة الطّائفية. ذلك أن الطّوائف لا تلد نظاماً سياسياً دستورياً إلا على شاكلتها. تماماً كالإناء الذي ينضح بما فيه. فيكون الذي ظهر من ذاك الشيء، هو جوهر الشيء نفسه. فلا ظهور لأي تشكيل سياسي أو اجتماعي يقدر على الحركة، من دون أن يتصل بهذا القدر أو ذاك، بشريعة المنظومة الطّائفية وقانونها العام.
حتى الظهورات اللاَّطائفية، من أحزاب علمانية، ونقابات جماهيرية، واتحادات، وجمعيات أهلية، وسائر ما استحق مجازاً صفة "المجتمع المدني"، لم تفلح طيلة تاريخ لبنان المعاصر في إنجاز فضيلة الاستقلال، والتحول إلى مجتمع مدني حقيقي. فعلى الرغم من فروسية أصحاب تلك الظهورات في خطابهم النقدي، وفي جرأتهم على افتضاح المفاسد الطّائفية، بقيت الكتلة المدنية اللاّطائفية تنشط تحت سقف النظام الطّائفي، ومكثت دون القدرة على الدفع باتجاه الإصلاح السياسي الفعلي.
ليست المواطنة، بوصف كونها هوية اللبنانيين كأفراد يعيشون تحت رعاية وعناية الدولة الطّائفية، سوى مادة هذه الدولة ونظامها. فالأمر هنا لا يتعلق بالإرادة والرغبة وحكم القيمة، بقدر ما يتصل بواقع التاريخ الاجتماعي، وبنمط الحياة التي افترضها روح الدستور وتشريعاته.
ثمّة مَن ذهب إلى بدعة القول بالمتعالي الطّائفي، وذلك لسبب يعود إلى مركزية الطّوائف في تشكيل الهندسة الإجمالية للروح الوطنية. غير أن هذه المركزية سيكون لها أثرٌ حاسمٌ في إثبات موقعية المواطنة في الحياة اللبنانية. ولقد رأينا كيف فعلت الطّائفية فعلتها لتحيل تلك الموقعية إلى فصل حميم من فصول حركتها. ثم ليظهر لنا كم لسلطان الطّوائف من شأنية حاسمة في تشكيل حياة مواطنيه. وإذ نرى إلى مزايا المواطنة في لبنان سنلاحظ أن اللبناني يعيش مواطنة مثلثة الأبعاد:
– فهو في سياق الانتماء الطّائفي، مواطن في طائفته، يدين بالولاء لقياداتها المدنية والدينية ولأجهزتها القضائية ولتقديماتها الخيرية والاجتماعية.
– وهو أيضاً يعيش مواطنة جغرافية مثقلة بالرموز والتاريخ البعيد والحديث.
– وهو أخيراً مواطن لبناني ينتمي قانونياً وحياتياً إلى الجمهورية اللبنانية، ومؤسساتها الدستورية والإدارية والقانونية(1).
غير أن المفارقة المذهلة في هذا المقام، هي أن الجمهورية اللبنانية في الوقت الذي تفرض قوانينها على مُواطِنِها في كل الحقول، فإنها لا تعترف به كمواطن إلا بصفة كونه منتمياً لطائفته أولاً، أو آتياً بشهادة من تلك الطّائفة تصدِّق انتماءه إليها…
ولذا فمن البيِّن أن كل كلام على المواطن لا يستقيم إلا على خط موازٍ للطائفة التي ينتسب إليها، بالولادة أو بالولاء… ثمّة صلة توليدية بين المواطن والطّائفة. وبين المواطنة والطّائفية. حتى ليَستوي القولُ على نفسٍ واحدة. بحيث يسري ذلك كقانون صارم على كل طائفة من الطّوائف الثماني عشرة في لبنان.. والتي هي كناية عن عديد أبنائها المنضوين تحت لوائها السياسي الجغرافي. في حين أن هؤلاء الأبناء ليسوا سوى مواطنين مشوا تحت رايات طوائفهم، كممرّ إجباري للعبور إلى الوطن.
تلك هي الصورة الأولية التي تنطوي عليها الرابطة المعقدة بين الدولة والمواطن والطّائفة. لكن ما يفترضه فهمُ التكوين التاريخي لهذا البلد وأحوال المواطنة فيه، هو معاينة مسارات الطّوائف، وأثر منظومتها السياسية والقانونية في ترسيخ البنيان الكلي للدولة الطّائفية والمجتمع الطّائفي في لبنان…
1
عشر أطروحات في مركزية الطّوائف
لقد وجدنا لنقترب من فهم تعقيدات "الفيزياء التاريخية" للبنان، أن نعاين تأسيساته الطّائفية. فعلى أرض هذه التأسيسات – كما نفترض- يمكن أن نتوفّر على ما يدنو من خريطة معرفية تُفيد مسعانا في هذا البحث. وللدخول في مثل هذه المعاينة، نقترح جملة من الأطروحات التأسيسية حول الدور المركزي التكويني الذي لعبته الطّوائف في نشوء لبنان:
الأطروحة الأولى: الطّائفية مقولة لبنانية بامتياز. إنها (الطّائفية) أمرٌ ذاتي وجوهري في نشوء وقيامة الكيان السياسي للبنان.. وبهذا المعنى هي ليست حالة عارضة يمكن إلغاؤها وإثبات بديلها اللاطائفي عبر اتفاق بين ممثلي الطّوائف المكونة للكيان. ولمّا كانت الطّائفية بهذه الصفة، أي أنها أمر ذاتي يقع في أصل ظهور لبنان، فإن أي مسعى لنزعها كناظم للحياة السياسية فيه، يعني منطقياً نزع أصل هذه الظهور، وهذا محال منطقياً وعملياً.
الأطروحة الثانية: الطّوائف في لبنان ليست مجرد تفريعات مذهبية لكل من الديانتين الإسلامية والمسيحية، وإنما هي وحدات سياسية واجتماعية وثقافية شكلت مجتمعة أساس ظهور الجمهورية الأولى في الربع الأول من القرن العشرين المنصرم.
الأطروحة الثالثة: إن طوائف لبنان لا دين لها، وهي تخوض غمار اللعبة السياسية. وإن الحاكم على سلوك ممثليها السياسيين في الحكم ومؤسسات الدولة، هو تقاسم السلطة، وفقاً لميزان التمثيل بين المسلمين والمسيحيين. في حين لا يتعدّى تدخّل عاملي الدين والشريعة في ممارسة السلطة حدود السماح للمؤسسة الدينية بالوعظ وممارسة الطقوس والشعائر. وبهذا المعنى لا يمكن قراءة نص الدستور اللبناني، سواء ذاك الذي ورد في اتفاق الطّائف، أو النصوص الدستورية التي سبقته، إلا بصفة كونه دستوراً هو أقرب الى الوضعية العلمانية منه إلى ذاك الذي نجده لدى الدولة الدينية.
الأطروحة الرابعة: الدولة بالنسبة إلى الطّوائف التي اجتمعت لتؤسس لبنان التاريخي، ليست سوى إطار ناظم للميثاق السياسي في ما بينها. وكلما كان يحل العنف على لبنان ويستوطن فيه، تعود الدولة بما هي وعاء للسلام السياسي إلى صمتها وانتظارها. حتى إذا تعب المتحاربون ووهُنَت أحوالهم، وأدرك نظام الصراعات الدولية والإقليمية أن لعبته في لبنان قد أُشبِعَت، كانت الدولة هي المآل والمستقر. ثم لتتحول في اللحظة التالية إلى وعاء يحوي الجميع، ولكن على قاعدة التوافق وعدم الغَلَبة.
الأطروحة الخامسة – الطّائفية بوصفها إيديولوجيا لبنانية: ليست الطّائفية عندنا في لبنان مجرد كلمة اعتدنا على التوقف أمامها كأمر مذموم. الطّائفية فكرة وسياق ونظام حياة. ولأنها كذلك، فعليها ابتنى أهل كل طائفة مصالحهم وأهدافهم وسياساتهم. فقد كان من البديهيات أن يتخذ الاجتماع السياسي اللبناني من لقاء الطّوائف خريطته الفكرية الهادية. لعل العنصر التأسيسي في تشكُّل الإيديولوجية الطّوائفية هو اليقين بأن لبنان قام ويستمرّ على أصالة طوائفه. والأصالة هنا تعني أنه باجتماع الطّوائف ووئامها فقط، ينبسطُ الحقل الذي ينتج ويعيد إنتاج الدولة، ومؤسساتها. ذلك ما يُعرب عنه سلوك الطّوائف حيال بعضها البعض يجري على أساس خريطة معرفية وضعها المؤسسون الأوائل، عُرفت بالصيغة، أو ما يُسمّى بالميثاق الوطني 1943. فلا تملك أي طائفة مغادرة تلك الخارطة، أو خوض اللعبة خارجها، وإلاّ اعتبر ذلك انقلاباً على ما يستحيل الانقلاب عليه. وهذا ما لم يحصل في تاريخ لبنان، رغم الحشد الهائل من الاضطرابات السياسية، والأزمات الاجتماعية، والحروب الأهلية. فغداة كل اضطراب أو أزمة أو حرب أهلية، تعود كل طائفة الى الاعتصام بالتقليد، أي بصيغة التسوية، ثم تروح تتعامل مع بعضها البعض بروح الوفاق والوئام. وكأن أنهر الدم التي جرت هي وجه من وجوه الممارسة السياسية. تلك الخريطة التي أشرنا اليها هي التجلِّي الثقافي لما سُمي بـ «الايديولوجيا اللبنانية».
الأطروحة السادسة: حوَّلت الطّوائف لبنانَ، خصوصاً في أزمنة الحرب والنزاعات الأهلية، إلى مقولة أمنية. لكل طائفة، بما هي وحدة إيديولوجية وسياسية وثقافية، تجلت في استراتيجيات أمن خاصة بها. العلامة الفارقة لهذه الاستراتيجيات، أنها تحتجب في أوقات السلم السياسي، ثم لا تلبث أن تظهر إلى الملأ وتدق النفير، كلما لاحت أزمة، أو اقتربت البلاد من حرب أهلية. ولنا في هذه الأطروحة تفصيل إضافي:
ظهرت صورة لبنان بعد نهاية حربه الأهلية (1990-1989)، مركَّبة على نشأة أمنية غالبة. ذلك ما ذهبنا إليه بعد ذلك الزمن بقليل، من أن لبنان تحوّل بعد الحرب إلى مقولة أمنية(2). حيث يترجَّح الأمني فيها على السياسي، ليجعل له سقفاً سميكاً يستحيل خرقه بيسر. فلقد صار كل ما هو خارج اعتبارات الأمني ومقاييسه وشرائطه أمراً لا يعوَّل عليه. في حين أن القطيعة المفترضة بين الما قبل (زمن العنف) والما بعد (زمن السلم السياسي) لا تتراءى إلا على قشرة الخطاب السياسي المعلن. وكان على الهيئات السياسية الحاكمة يومئذٍ أن تزيِّن سلوكها السياسي بالتفاؤل. إذ بين يديها ميثاق سياسي أمني دستوري هو اتفاق الطّائف، سوف يتحوّل خلال وقت قصير إلى منظومة إيديولوجية، وكذلك إلى سلطة معنوية شديدة القسوة على كل مَن ينقدها. بل لقد غدا مضمون الاتفاق وخطابه الإيديولوجي قولاً ثقيلاً يرتقي في غالب الأحيان إلى رتبة المقدّس. في مناخ المقولة الأمنية صارت السلطة السياسية الطالعة من اتفاق الطّائف أشبه بمستوعَب شرعي لاستقبال محاربي الطّوائف. وحصل هذا من دون أن يجري بالفعل أي تطوّر من شأنه ترتيب آليات مستقرة للعمل السياسي. والنتيجة غياب الكلام على حياة سياسية هادئة وسويَّة، في ظل مقولة أمنية راحت تحايث كل صغيرة وكبيرة في إدارات الدولة، ومؤسساتها الأمنية والقضائية والسياسية والاقتصادية، ناهيك عن مؤسسات "المجتمع المدني" (أحزاب، نقابات، جمعيات أهلية إلخ)..
ولسوف تُستأنف المقولة الأمنية على امتداد السنوات العشرين التي أعقبت سلام الطّائف. حيناً على مشهد العنف السياسي المستتر، معبِّراً عن نفسه بأزمات في الحكم بين أطرافه وفي الشارع، وحيناً آخر على شكل انفجارات متعاقبة ومتفاوتة لبؤر أمنية في هذه المنطقة أو تلك. وعلى هذا النحو سيدخل اللبنانيون في وضعية اللاَّيقين والشك بسلام أهلي لم يُنجَز، ولم يجد سبيله إلى الاكتمال. ولقد أفضت تلك الوضعية إلى آثار نفسية وسياسية عوّقت التواصل المفترض بين فضاءات المواطنة. إن هذه الوضعية السلبية نفسها سوف تضاعف من استشراء المقولة الأمنية بين صفوف المواطنين لتمكث في مساكنهم كخفير يراقب، ويحجب، ويمنع كل تطور يعيد الحياة لمواطنية لبنانية جديدة.
الأطروحة السابعة – أرض لبنان بوصفها جيوبوليتيكا طائفية: بسبب المقولة الأمنية سوف تُقفل النوافذ أمام نشوء ما يُسمّى بمجتمع المواطن. المجتمع الذي يعيش ويعمل ويتحرك خارج أفق الطّائفة التي ينتسب إليها. لقد وجد هذا المجتمع أي مجتمع المواطن أنّه مُحاط بمنظومة طائفية شديدة الوطأة تحول دون دخوله منازل الوطن المرتجى. ثم سيكون عليه أن يعود القهقرى إلى كهف الماضي لكأنما يرتدُّ فردوسه المفقود… إلى كهف المجتمع السياسي التقليدي المبني على تركيبة مثلثة الأضلاع هي: الطّوائف والمناطق والعائلات. ولسوف نرى بالمعاينة كيف تحوّلت الجغرافيا السياسية – الاجتماعية للبنان، في أثناء الحرب الأهلية وبعدها وبسببها، إلى "فدراليات"، لكل منها أمنها وسياساتها ورؤاها وثقافاتها. ثم نشأت جغرافيات سياسية طائفية شديدة الخصوصية والفرادة. وأبعد من ذلك، ففي أحقاب معيّنة ظهرت صورة كل محافظة من المحافظات اللبنانية الخمس، وكأنها على شيء من الاستقلال الذاتي. حيث سترسو جغرافيات الطّوائف على قواعد شبه "سيادية" ذات أضلاع ثلاثة:
1- القوة التي تحوزها وتتمتع بها تبعاً لاستيطانها الطّائفي أو المذهبي.
2- الجاذبيات الإقليمية والدولية بما لها من تأثير، على موازين الطّوائف مجتمعة، وعلى ميزان كل طائفة بصورة مفردة.
3- الدائرة الجغرافية التي تؤلف حياضها السوسيولوجي والأمني والسياسي.
لقد أفضت هذه الثلاثية إلى نشوء ما جوّزنا وصفه ﺒ "جيوبوليتيكا الطّوائف"، حيث ستسفر الظاهرة الجيوسياسية للطوائف عن امتدادات تتخطى أمداء الجغرافيا اللبنانية التقليدية. ذلك على الرغم من عدم حيازتها الغطاء الشرعي المعلن من جانب المنظومتين الإقليمية والدولية المحيطة.
وسط مناخٍ متشظٍّ كهذا، لم يملك اللبناني أن يعثر، ولو نظرياً، على نعمة المواطنية الجامعة. ونشأ جرّاء ذلك، حالٌ هو أدنى إلى الاستيطان الإكراهي داخل مساكن سياسية وأمنية طائفية، شكلت قواعد انطلاق باتجاه دولة افتراضية، لا تجد من تنازلات زعماء الطّوائف إلاَّ ما يزيدهم قدرة الاستقواء عليها…
الأطروحة الثامنة: زواج العلماني/الطّائفي
لعل الشيء الذي يحيِّر كثرة من اللبنانيين ولا يملكون جواباً عليه، هو ذلك المركَّب العجيب من المساكنة بين العلماني والطّائفي. فلا أحد من بين تلك الكثرة يستطيع أن يعيِّن بدقة، طبيعة النظام السياسي في لبنان ولونه وماهيته. فلا هو على ما يتفق الجميع، نظام طائفي صافٍ، ولا هو كذلك نظام علماني بالمعنى الذي يُفهم منه فصل الدنيا عن الدين. ولا هو بطبيعة الحال، نظام يتركَّب على مصالحة معلنة بين دين ومجتمع ودولة يبلغ الاحتدام في ما بينهما حد الانتفاء المتبادل. الحاصل في لبنان هو ضرب من المفارقة، يظهر فيها الواقع السياسي الاجتماعي وكأنه جامع المتناقضات الثلاثة، حيث تتساكن العلمانية مع الطّائفية من دون عقد. فليس من اعتراف علني يمثل هذا التساكن. فهو بات أقرب إلى نمط الحياة اللبنانية العادية. من دون أن تكون ثمة حاجة إلى تحويل نص مكتوب بل على العكس وهنا المفارقة – فإن مجرد التفكير بنقله إلى مجال التداول يتحوّل الأمر إلى خطبٍ جلل. ولأن الطّائفية بحكم أبوَّتها المزعومة للكيان السياسي، ولما تملك من مساحات المكر والسعة، فقد استطاعت أن تؤمن للعلمانيين من أبنائها، أمكنة للإقامة في منازلها. وفي المعايشة التاريخية اللبنانية ما يشير إلى حقيقة ميدانية تبدو فيها الطّائفية أشبه بمستوعبٍ عجيب يحوي ألواناً وأفكاراً واعتقادات وأهواء لا حصر لها…
الأطروحة التاسعة – النزاع على التاريخ: عندما يصل اللبنانيون في مدارج حوارهم الوطني إلى الحديث عما يسمّونه "التسوية التاريخية" سرعان ما تنعقد حَيْرَتُهم حول سؤال هو في غاية التعقيد: من أين يبدأ تاريخ لبنان.. وكيف يُكتب هذا التاريخ على النحو الذي يكون بالنسبة إليهم معياراً لإدراك ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم؟
لا يكاد النقاش حول هذا الإشكال يبلغ مآلاته المرجوّة، حتى تعصفه ريح القطيعة، ثم ليتوقف عند حدود الجدل المستحيل. فلقد بدا تعطيل الكلام حول وجوبية الاتفاق على تاريخ موحَّد للبنانيين، أشبه بإجراء وقائي يجنِّبهم استحضار زمن مديد من المنازعات الأهلية.
هذا المحل من النقاش ليس جديداً ولا طارئاً على تقاليد الثقافة السياسية في لبنان. والكلام المستأنف بين نخب الطّوائف على إعادة هندسة الهوية الوطنية الجامعة لا ينفكّ يصطدم باستحالة الجواب على السؤال المركّب الآنف الذكر.
واقع الحال الآن، هو أشبه بدوران في الفراغ. فلا شيء أمرّ على اللبنانيين من الكلام على تاريخهم. فإنه مبعث كل خلاف حصل بينهم في الماضي وقد يحصل في المستقبل. وهو الذي يُعيدهم إلى الانحباس ضمن حلقات لا حصر لها من السجال حول الهوية والمواطنة والانتماء والولاء. فضلاً عن أنه مبعث خلاف مستعصٍ حول طبيعة الدولة وصورتها في وطن متعدّد الطّوائف والمذاهب.
وللنخب الطّوائفية اللبنانية مرافعات عزّت نظائرها لجهة ما تسبغه على تواريخها من صفات ميتافيزيقية. سواء على صعيد كل طائفة بعينها، أو على مستوى لبنان ككيان طائفي فريد.
لكن النقاش في حقيقة تاريخية لبنان مستمرّ. وهو نقاشٌ غالباً ما ينطلق من مسلَّمات عامة: فلو كان لأية مجموعة من البشر، في أي مكان، أن تخلق لنفسها شعوراً بكونها جماعةً سياسية، وأن تحافظ على مثل هذا الشعور، فلا بد من أن تكون لها رؤية موحدة لماضيها. وغالباً ما يكون التاريخ المُتصوّر كافياً لهذا الغرض في المجتمعات التي يسودها تضامن طبيعي، ومنها القبائل أو العشائر التي تزعم لنفسها تحدّراً من أجداد أسطوريين وتكرم ذكرى أبطال خياليين (…) وهو ما يعزّز التلاحم بين العناصر التي تتكوّن منها القبيلة أو العشيرة الواحدة.
يقدم لبنان اليوم مثالاً ممتازاً للمجتمع السياسي المحكوم عليه بأن يعرف ويفهم الحقائق الصحيحة لتاريخه، إن هو أراد البقاء في الوجود. وليست مسألة كيفية حل التعقيدات الشائكة للنزاع الحالي في لبنان مسألة يقررها المؤرخون. لكن المؤكد هو أن أية تسوية سياسية في هذا البلد، لا يمكن أن يُكتب لها الدوام، إن هي لم تأخذ مسائل التاريخ في اعتبارها. ومن قبل أن يأمل أهل لبنان في الوصول إلى درجة من التضامن الاجتماعي تمكنهم من الوقوف جنباً إلى جنب كجماعة سياسية منسجمة وقابلة للديمومة، عليهم أن يعرفوا بدقة لماذا هم لبنانيون، وكيف أصبحوا لبنانيين، وهم لم يكونوا في الأصل إلاَّ مجموعة من الطّوائف المتفرّقة صودف تواجدها في بقعة واحدة من الأرض. وإذا لم يفعلوا ذلك – كما يبين المؤرخ كمال الصليبي – فإنهم سيستمرّون في البقاء مجموعةً من العشائر البدائية المتنافرة أصلاً، تسمّي نفسها "عائلات روحية" من دون أن يكون لها بالضرورة أية علاقة بالروحانيات، وسيظلون جميعاً على حذر دائم، يطلقون مجسّاتهم إلى العالم الخارجي في كل الاتجاهات لسبر ما يمكن الحصول عليه هنا أو هناك من مساعدة ودعم، استعداداً لجولة أخرى من النزاع المكشوف(3).
الأطروحة العاشرة – الطّائفية بوصفها حداثة: خلافاً للشائعة التي تُحيل الطّائفية اللبنانية إلى ثقافات القرون الوسطى، ثمة من المؤرخين مَن ينسبها إلى الحداثة. القائلون بهذا "الانتساب" يؤيدون رأيهم بالقول: إن الطّائفية هي مولود تاريخي ظهر إثر الاحتدام اللدود بين "العثمنة" في طورها الأخير وامبرياليات الحداثة الأوروبية. جرى ذلك عملياً قبل اندلاع النزاع الأهلي الدموي العام 1860 بين المسيحيين والدروز. والرواية – حسب هؤلاء- تبدأ قبل ذلك بسنوات كثيرة حين انفتح المجتمع المحلي اللبناني على خطابات الإصلاح العثمانية والأوروبية. ولعل المفارقة في هذه الخطابات أنها كانت ممتلئة بنبرة الحداثة لكنها هي نفسها التي جعلت من الدين مسرح المواجهة الكولونيالية بين "غرب مسيحي" من جهة، و"إمبراطورية عثمانية مسلمة"، وجد فيها ذلك الغرب "خصمه الدائم" من جهة ثانية. فلقد بدّلت تلك المواجهة على نحو عميق ما سبق أن اتخذه الدين من معنى في مجتمع جيل لبنان ذي المِلل المتعددة. ذلك أنها أكَّدت الهوية الطّائفية معياراً حيوياً وحيداً للإصلاح السياسي، وأساساً موثقاً أوحد للمطالب السياسية. والقصة باختصار هي التالية: تعايش بين التقاليد وممارسات محلية – وقع فيها الدِّين في شراك علاقات اجتماعية وسياسية معقّدة – من جهة تحديث عثماني غدت له اليد العليا في إعادة صياغة التعريف السياسي الذي تُعرِّفُ به كل جماعة ذاتها بحسب ديانتها (…) ذلك يعني أن سرد حكاية الطّائفية لا يكون ممكناً إلا بالاعتراف المتواصل والإشارة المستمرة إلى التاريخين المحلي والامبريالي (العالمي) اللذين تفاعلا – تصادماً وتعاوناً على السواء – لإنتاج مخيلة تاريخية جديدة(4).
وفقاً لهذه الرؤية لا تعود الطّائفية مجرد فرضية. وإنما هي سيرورة واقعية لها زمنُها الذي استهلت به حكايتها. وبهذا المعنى يمكن النظر إلى الطّائفية في لبنان بما هي مولود جيوبوليتيكي حديث، ظهر إلى الوجود بفعل تضافر مؤثرات إقليمية ودولية وجدت لها قابليات محلية في القرن التاسع عشر.
فلقد بزغت الطّائفية اللبنانية كممارسة – كما يبيِّن مؤرخوها- حين نشب الصراع بين النخب المارونية والدرزية، وبين الأوروبيين والعثمانيين (وهو صراع أساسه طبقي اجتماعي وسياسي وثقافي) حول تحديد علاقة عادلة ومنصِفة ﻠ "القبيلتين" أو "الأمتين" الدرزية والمارونية بدولة عثمانية تستهدف التحديث. ثم بزغت تلك الطّائفية كثقافة حين نُزِعَت الثقة، عن النظام القديم في جبل لبنان في منتصف القرن التاسع عشر. وهو نظام كان محكوماً بتراتب نخبوي. وكانت السياسة هي التي تحدِّد المنزلة والمقام في الدنيا، لا الانتماء إلى الدين. وهكذا فتح انهيار النظام القديم فضاءً لشكل جديد من السياسة والتمثيل يقوم على لغة المساواة الدينية. ولقد أعلى هذا التحوّل من شأن الطّائفة بدلاً من المكانة النخبوية (الاجتماعية والطبقية)، وجعلها الأساس لأي مشروع من مشروعات التحديث والمواطنة والتحضُّر. وبالتلازم مع كل هذا، تطوَّرت الطّائفية أيضاً كخطاب. أي كمجموعة من الافتراضات والكتابات التي وصفت هذه الذاتية المتغيِّرة ضمن سرد التحديث العثماني والأوروبي واللبناني(5).
الطّائفية بوصفها معرفة وممارسة
سوف نقع في هذا المجال، على مُنفَسَحٍ آخر من النظر لا يرى إلى الطّائفية، على أنها مجرد موروث عثماني، أو صيغة ثقافية قانونية من صيغ المعرفة الاستعمارية الغربية، ولا هي أيضاً، واقع يمكن ردّ جذوره إلى ماضٍ معيّن سابق على الحقبة الكولونيالية… إنها – بنظر أصحاب هذه الرؤية – مزيجٌ من إدراكات واستعارات ووقائع ما قبل كولونيالية (سابقة على عصر الإصلاح العثماني) وما بعد كولونيالية (خلال عصر الإصلاح). بعبارة أخرى، فإن الطّائفية – والكلام لهؤلاء – معرفةٌ "حداثية" لأنها أُنتِجَت في سياق الهيمنة الأوروبية والإصلاحات العثمانية، ولأن المفصحين عنها –على مستوى كولونيالي (أوروبي) وإمبراطوري (عثماني) ومحلي (لبناني) – يعتبرون أنفسهم حديثين يستخدمون الماضي التاريخي لتبرير مطالب راهنة وتطور مستقبلي. وبقدر ما تمثل الطّائفية معرفة كولونيالية حقاً، فإنها تمثل أيضاً وجوهرياً معرفة عثمانية إمبراطورية، ومعرفة قومية محلية لا يتم إنتاجها بعد الكولونيالية أو رداً عليها، بل بالتزامن مع المعرفة الكولونيالية ومُثُلها(6).
لقد أراد هذا التحليل التاريخي أن يُفسح عن المنطقة الرمادية التي انغمرت بها لحظات الاستبدال الاستعماري بين الإمبراطورية العثمانية المتهالكة، والشريكَين الامبرياليين الصاعدين بريطانيا وفرنسا. فلقد جرت الأمور على نحو بدت فيه المواجهة بين السلطنة العثمانية والمستعمرين الجدد (الفرنسيون والانكليز) وكأنها مسرح تفاعل ثقافي يستغله ساكنو الجبل اللبناني بطريقة محسوبة وواعية من أجل بلورة هوية كيانية ذات مضامين وشروط جيو – سياسية.
وهكذا فقد عمدت كل من بريطانيا وفرنسا، وبتواطؤ مع العثمانيين إلى تنظيم أوجه مختلفة من المواجهة. وقد وفَّر هذا التنظيم للسكان المحليين في جبل لبنان سُبلاً لإعادة تأويل تاريخهم، وتعريفهم الخاص لأنفسهم كطوائف، ونظامهم الاجتماعي الصلب والجامد. ولا شك في أن القوة لعبت دوراً حاسماً، ذلك لأن هذه المواجهة لم تكن متكافئة بأي حال من الأحوال، وغالباً ما جرى دفعُ ذلك الدفق من الإيديولوجيات والممارسات التغييرية من الآستانة وباريس ولندن إلى جبل لبنان، حيث جاءت حصيلةُ هذا التبادل، ظهور الطّائفية بوصفها معرفة وممارسة على السواء(7).
إذا كانت الأسس والقواعد الطّائفية قد رُسِمت وأُنشِئت وأصبحت واقعاً مُبيَّناً بدولةٍ ومؤسساتٍ ودستورٍ وقوانين، وتحت رعاية وحماية الإرادتين الأوروبية والعثمانية.. فإنّ استمرارها لم يفارق الرعاية والتأثير الخارجيين. والذي جرى هو أن الطّائفية راحت تستأنف ولاداتها بتسديد وتأييد من إرادات دولية وإقليمية تعاقبت على مدى الحقبة التي تلت الاستقلال. هذا يُفضي إلى أنّ قواعد النظام السياسي الطّائفي في لبنان، لم تغادر الترتيبات التي آلت إليها خرائط المنازعات الخارجية ومؤثراتها منذ العام 1860، مروراً بالسلسلة الهائلة من المنعطفات التاريخية التي شهدها القرن العشرون المنصرم. ولسوف يظهر لنا بوضوح أن الجيوستراتيجيا المعاصرة، وخصوصاً مع نشوء دولة إسرائيل في فلسطين، تعاملت مع لبنان وأزماته على القاعدة إيّاها التي تعاملت فيها معه إمبراطوريات القرن التاسع عشر.
– 2 –
المواطنة في فلسفة الطّائفية
سوف نفترض أنّ حزمة الأطروحات التي مرّ الكلام عليها، تؤلف على الجملة، مفاتيح معرفية للاقتراب من فهم المنطق الداخلي لتشكّلات وقائع المواطنة في لبنان. فالقول السياسي الطّائفي المؤسِّس للكيان اللبناني، سيكون له فعله الحاسم، في بناء وإعادة بناء الشخصية اللبنانية أفراداً وجماعات. لقد أسَّس "قول الطّوائف المأثور" قلعة ثقافية وإيديولوجية عملت جماعة من رواد الفكر الكياني اللبناني، ولا سيما في البيئة المسيحية، على بلورتها وتقديمها كأيقونة فلسفية مقدسة. على هذا النحو، جرى الكلام على فرادة لبنان. وتحديداً على فرادة الحيِّز الجغرافي الذي يسكنه مسيحيو جبل لبنان. وما ذهب إليه المؤرخ جواد بولس كان جلَّياً من هذه الناحية، لمَّا بيَّن "أن لبنان أمة جغرافية، وأن الجغرافيا هي التي تصنع التاريخ، والتاريخ هو الذي يصنع السياسة". ولسوف نرى أيضاً كيف أن عقيدة سياسية كهذه، قد ولّدت طرازاً خاصاً من مواطنية ذات طبيعة عنصرية استعلائية. ولئن كان لنا أن نبيِّن مرجعية هذه العقيدة فسيظهر ميشال شيحا كأحد أبرز واضعي بناءها الإيديولوجي. نشير في هذا الشأن إلى أنّ محور فلسفة شيحا، هو تحويل الطّائفية إلى نظام سياسي واجتماعي واقتصادي وإسباغ الشرعية الدستورية والأخلاقية عليه. ولمَّا لم يكن إدراك وفهم أي شأن من شؤون لبنان منذ تأسيسه في العام 1920، إلا انطلاقاً من المعتقد الطّائفي الذي أقام شيحا بناءه المعرفي، فإن إدراك طبيعة واقع المواطنة لن يغادر الحياض المتين لذلك المعتقد. وعلى نصاب هذا الإدراك، سوف يتسنى لنا فهم العلة الجوهرية التي تجعل الطّائفية مرجعية متعالية لرعاية التسويات التي تعقب كل حرب أهلية، أو أية عاصفة سياسية تروح تضرب لبنان على مدى تاريخه الاستقلالي. لقد أرسى شيحا منظومة فكرية سوف تشكل مرجعاً ودليل عمل لعقود من الزمن. ولقد قدِّر له أن يضع موضع التنفيذ عدداً لا يُستهان به من أفكاره. ويمكن التأكيد فوق ذلك كله أن فكره سيمارس تأثيراً حاسماً على الأجيال التالية، إذ كانت أفكاره وطروحاته وشعاراته محركاً للفكر السياسي والاقتصادي اللاحق، ومصدر إلهام للعديد من تلامذته الذين احتلوا المناصب الأولى في الدولة والإدارة(8). والشيء اللاّفت في الأزمنة اللبنانية المتأخرة، أنه كلما حلّ على اللبنانيين سؤال التسوية الداخلية، استأنفوا جدلاً عظُمَ شأنه واتسع مداه، حول صيغة الجمع في ما بينهم.. وفي كل مرة كانوا ينعطفون فيها نحو ذلك السؤال، كان ميشال شيحا يملأ مساحة بيّنة في ثقافتنا السياسية، حتى ليكاد ذلك "الفيلسوف الكياني" أن يؤلف بين أطياف لبنانية خالف بعضها بعضاً، وكان لها أن تعود لتأتلف على «فضيلة التقليد». ولذا فإن الماضي السياسي الاجتماعي للبنان وعلى امتداد ستين عاماً، سيجري على نصاب تلك الفضيلة. أما اللحظة اللبنانية الجارية، وإن اكتست بطبقات الغموض الكثيف، فإنها لم تخلُ من النقاش على "الشيحوية" وكلماتها وتوجيهاتها. فلقد بدا واقع الحال كما لو أن "التسوية التاريخية" المأمولة، لن تحيد عن تلك الكلمات والتوجيهات.
المدينة "الطّائفية" الفاضلة
لقد نظّر شيحا للوطن اللبناني المتصوَّر، فَرَفَعَهُ إلى مقامين يبدوان متفارقين بشدة:
أولهما مقام الأسطورة، حتى ليظنّ القارئ أنه بإزاء بيت مشيّد بالشعر، أو حيال مكان جيو – ميتافيزيقي، لا يشبه أمكنة الدنيا، ولا تشبهه هي في شيء.
وثانيهما مقام الواقع، حتى يكاد المرء أن يحسب الرجل سياسياً من طراز ماكيافيلي أو هوبز، أو ابن المقفّع، لكن على الطريقة اللبنانية التي عوَّدنا عليها سياسيو الطّوائف. منذ الاستقلال إلى ما بعد الطّائف. إن هذا المفكر المسيحي الكلداني الذي جاءت عائلته من العراق، سيكون سكرتير اللجنة التي وضعت مسوَّدة الدستور اللبناني العام 1969 ليكون من أبرز المخطِّطين الرئيسيين للبنية السياسية، والاقتصادية اللبنانية بعد الاستقلال. فلبنان بالنسبة اليه "بلد الحلم والواقع معاً". كأنما تريد فلسفته أن تقيم لمدينته الفاضلة سياجاً من عقل صارم يحميها من مواتٍ أكيد. ولهذا راح يبيّن منذ العام 1942 أن الديمقراطية هي الصيغة الوحيدة التي تلائم لبنان، ويقول: "لا بد من مجلس يكون مركز التقاء وتوحيد للطوائف في سبيل تحقيق إشراف مشترك على الحياة السياسية في الأمة. فحين يُلغى المجلس، يُنقل الجدل حتماً إلى المحراب (من حرب) أو إلى ظلّه، فتتأخر بالتالي مسيرة التنشئة المدنيّة.. فـ "لا يناسب لبنان ركوب الرأس ولا مركب الانقلابات.. سيكون عليه أن يتجنب الطغيان، وسيطرة البعض على البعض الآخر، ليتفادى بالتالي كل أنواع الاضطرابات". وما لا ريب فيه أن «العقل التسووي» الذي دعا شيحا اللبنانيين إليه، ليعصمهم من كواره الزمن، هو المنجز الفلسفي – السياسي الذي سيؤلف بينهم، ويدبّر لهم اجتماعهم وتوحّدهم. وبعد هذا فهو (المنجز) الذي يصون الإلفة من الفِرْقة، والتوحُّد من الانشطار والتشظِّي. والأهم من ذلك كله أن هذا المنجز الفلسفي – السياسي نفسه، هو الذي آل إلى أن يكون دستوراً في العام 1926، وميثاقاً وطنياً حُمِلَ عليه الاستقلال العام 1943. بل ثمّة من يمضي ليصل إلى اتفاق الطّائف ليقول إن هذا الاتفاق انتزع من «الشيحوية» عصارة الفؤاد.
بهذه المواصفات رسمت «الشيحوية» ماهية بلد عجيب تركَّب على الكثرة والتعدّد، بعدما صارت هذه الثنائية السياسية تقليداً، وصار التقليد سلطة معزّزة بالقانون. إنها سلطة «الكَثرة المركّبة» نفسها التي افترض شيحا أنها تستطيع أن تؤمِّن للبلد أمنه وثباته، فتعصمه من التذرر والانفراط. كان ميشال شيحا مؤمناً بأن لبنان «بلد يجب أن يدفع التقليد عنه شرَّ العنف». كما أنه وعى مبكراً فرضية التناقض بين الطّوائف، فأراد أن يؤسس لمنطق ينزع من الاجتماع السياسي العتيد عوامل انفجاره. غير أن الاختبارات الاولى للفلسفة الشيحوية، سرعان ما وقعت في شرك منطقها المتناقض. إذ سيتبيّن بعد سنوات قليلة من التجربة بهتان منطق يصرُّ على أن يستولد من قضية مهزوزة، نتيجة مستقرة.
اجتهادان متعاكسان
الأكيد أن "الشيحوية" لم تمضِ إلى القبر مع صاحبها. وسيكون لها مع كل "نائبة" تحلّ على لبنان نصيبٌ من الحضور. وعلى الرغم من تشكيك الكثيرين بجدواها كمرجعية فكرية لتسوية الأزمات الكبرى، فلم يفلح المشككون بعزلها عن ميادين الثقافة السياسية. فلا يزال إلى يومنا يوجد ما يشبه حرباً فكرية باردة بين اجتهادين متفارقين، سوى أنهما ينتميان بهذا القدر أو ذاك إلى الأسئلة نفسها التي قدمها ميشال شيحا:
الاجتهاد الأول: إن لبنان بلد استثنائي كرّمته السماء، فعرضت عليه طوائفه، فكان بها وجوداً أصيلاً. ولبنان هذا، صارت الطّوائف والمذاهب بالنسبة إليه علّتهُ الفضلى. بها يقوم ويترقى ويدوم، وطناً لأهله المختلفين المتَّحدِيِن على عشق لا يزول.
والاجتهاد الثاني: إن لبنان قد لَعَنَتْهُ الحتميات التاريخية والجغرافية على السواء، وكانت النتيجة أن خلعت طوائفُهُ عليه لونها المخصوص، وراحت تنزع منه، منذ أول التقاء بينها على أرض السياسة، إلى قطع صلات الوصل التي تجعله وطناً جامعاً لمواطنيه. إن لبنان على رأي أهل هذا الاجتهاد، ليس غير ماهية مخصوصة بالفقر، أي أنه بلد لا مِنْعة له بإزاء الاضطراب، فهو مقيم على قلق طوائفه، إما لعلة في ذات كل واحدة منها، كما لو أن شعوراً يسكنها بأنها مغدورة من أخواتها اللاّتي يشاركنها باب الدولة العالي.. وإما بسبب من لعبة انتهاب متبادل في ما بين الأخوات المتشاركات كلهن، أفضت إلى ثنائية الخوف والغبن.. حيث ترتَّب على هذه الثنائية من الآثار ما انتصبت بسببها جُدُرٌ حالت دون استنبات مواطنية حقيقية. وكان الحاصل جراء هذين (العلة والسبب) أن تعرّض البلدُ لانفجارات دورية مدوّية. ومع أن كلا الاجتهادين المنقضيَيْن قد هبطا الآن إلى ما دون الحد السياسي الذي وضعه يسمّى اتفاق الطّائف، فهما لا يزالان على النشأة نفسها، أي بوصفهما مصدرين يغذيان سجالاً لا ينتهي حول مستقبل النظام والمجتمع والطّوائف في لبنان.
استئناف الوطن الطّائفي
يظهر المشهدُ اللبناني المعاصر، وكأنه استئناف صريح لحكاية الوطن الطّائفي. وسيكون للبنانيين من أمرهم هذا حكمة: فالدولة في زمن ما بعد الحروب الأهلية، والأزمات السياسية الحادة ذات دور ينبغي ألا تكون سواه: محطة لاستقبال محاربي الطّوائف. لقد كان من مآثر "الدولة الجديدة" التي تولى أمرُها المحاربون أن فتحت أذرعها لحداثويي "الطّوائف". في الاقتصاد، والمال، والسياسة، والثقافة، لتكون منزلهم الآمن بعد قليل، ولتصير القميص الذي يلبسونه بشغف ومسرّة.. ثم لتمضي الأفكار والأحلام والآمال لتصاغ من جانب هؤلاء على نحو ما نشأ عليه البلد أول مرة. مع أن لا شيء تبدّل في ماهيّة السلطة الطّوائفية التي حفظت الكيان، ثم كانت سبباً في تقويضه غير مرة(9). ومع ذلك ففي الأسئلة المحتجبة اليوم، أو في تلك التي تتهيأ للظهور، كان ثمة عودة إلى الكلام على «الشيحوية» من دون استئذان. كما لو أن المنطق اللبناني الشائع يفترض المماهاة مجدداً بين القيامة اللبنانية المفترضة، ورؤى ميشال شيحا. بعد الحرب بانَ لنا المشهد على أتمّه، حيث ذهبت النخب إلى استعادة هذه الرؤى قصد تعيين دور ووظيفة جديدين للبنان. وكل هذا ضمن توليف مزعوم من العقلانية الصارمة بين الأيديولوجيا الطّوائفية والمال. لقد ابتعثت أزمنة الحرب وما بعدها حنيناً للتقليد، ثم لم يلبث هذا الحنين ليتحوّل شيئاً فشيئاً إلى قوة تدفع ببلد مثقل بالأتعاب إلى فضاء "النيوليبرالية" اللاّمتناهي. مثلما راحت هذه النيوليبرالية تنشئ الدولة وأحكامها على السيرة الأولى التي نهض الوطن الطّائفي. كان ميشال شيحا يعتز ويطمئن إلى كونه أبدع للبنان نظرية لاستقراره وازدهاره، هي نظرية الاعتصام بالتقليد اجتناباً للعنف والحروب الأهلية. وساد ما يشبه الاعتقاد بأن طوائفية هذا البلد هي علّة وجوده، ولا صلاح إلا بها وعليها ومن خلالها. كأن ثمة من ينبِّهُنا على الدوام، أن كونوا على حذر من عنف واحتراب ولو بعد حين، إن أنتم مَسَسْتُم التقليد أو ألحَقْتُم بقواعده وثوابته الأذى. يتساءل كمال الصليبي في ختام الفصل التاسع من كتابه "بيت بمنازل كثيرة"(10)، وهو على شيء من عدم اليقين، عن فرص النجاح التي كانت متوافرة أمام رعاية عقلانية للتقليد في مجتمع لا يلتزم فيه الجميع في الدرجة نفسها بالعقلانية، وفي وقت أعطيت فيه حتى للعقلانية تفسيرات سياسية مختلفة. لعل شيحا كان مهموماً بالفعل بمثل هذا التساؤل، إلا أن قدرَهُ لم يسعفه ليظهر له الحصاد المرير، فها هو العنف ينفجر آخر الأمر ويطيح بالتقاليد التي كان لها وحدها في رأيه، أن تحافظ على المثالية الفينيقية المتصوَّرة. لكن الصليبي يعود ليمنح شيحا حقه في "أنه كان على حق" – ولو لوقت معلوم – حين رأى أن العنف الكامن في لبنان، لا يمكن احتواؤه إلا بالرأي السياسي الصائب. ولسنا ندري إن كان الفرقاء الإقليميون والدوليون الذين وضعوا أو باركوا سلام الطّائف قد استمسكوا يومئذٍ بالرأي الصائب. غير أن السؤال الذي يبقى على أحواله الماضية مع جرعة زائدة من التعقيد، هو حول ما إذا كانت الشيحوية وفلسفتها ودعواها إلى التقليد، لا تنفك تنعقد على فضيلة التسوية التاريخية.
الطّوائفي يشجب الطّائفي
رغم أن ميشال شيحا فَلْسَفَ الصيغة الطّائفية بوصفها الطريق الذي ينبغي الالتزام به لحماية الكيان من الانفجار والتشظي، فإنه بعد فترة قصيرة من المعاينة لم يوفر تلك الصيغة من النقد. فبعد ثلاث سنوات على إعلان الاستقلال أي في العام 1945، حيث بدأت ممارسة الميثاق الوطني عملياً من خلال رئاسة بشارة الخوري وحكومة رياض الصلح، طرح ميشال شيحا في إحدى مقالاته سؤالاً بعد أن لاحظ التسابق بين ممثلي الطّوائف على الوزارات "متى تصبح هذي البلاد غير طائفية؟". ثم أجاب بصيغة التمني والحلم على الشكل التالي: "يوم تنعقِدُ النية بجدٍّ على ألاَّ يبقى لبنان بلاداً طائفية، سيكون لزاماً على كل طائفة القبول دون كثير من الصياح، أن يكون تمثيلها في بعض الأحيان أدنى من حجمها في أحيان أخرى… ويضيف متسائلاً، وأي ضير في أن تغيب عن الحكومة طائفتان أو ثلاث في وقت من الأوقات؟"(11).
غالب الظن أن فيلسوف الصيغة الطّائفية كان محمولاً على الانفعال، جراء ما كان يراه من مشاجرات حول قسمة المغانم بين زعماء الطّوائف في ذلك الوقت. ومع أن تعليقه المحموم جاء في لحظة ساخطة على مشهدية التنازع على السلطة، فإن كثيرين ذهبوا إلى أن كلاماً من ذاك النوع كان ينبئ بفداحة ما تنطوي عليه الطّائفية من شرور على مستقبل الكيان. ومع ذلك بقيت الطّائفية في نظر أتباع المذهب الشيحوي مقوّماً وجودياً للبنان. وسنقرأ ما لا حصر من التنظيرات السابقة على الحرب الأهلية واللاَّحقة عليها مؤداها، أن الطّوائف المسيحية والإسلامية تشكل متحدات اجتماعية ثقافية كلية، لكل منها هوية خاصة تشكل إطاراً لانتماء، هو الأقوى والأثبت من بين جميع الانتماءات الاجتماعية والسياسية بالنسبة إلى الأفراد والمجموعات في لبنان.
الوطن الطّائفي بما هو شرٌ لا مناص منه
لقد رسّخت التحولات المتعاقبة في تاريخ ما بعد الاستقلال قناعات مؤداها أن الطّائفية ليست مجرد حالة عارضة على بنية الوطن والدولة. وإنما هي ركن جوهري في قيامة لبنان الحديثة والمعاصرة. واللاّفت أن هذه القناعات لم تتزعزع على الرغم مما تنطوي عليه النصوص الدستورية من بنود تغاير ذلك. فلقد أشار كل من الدستور اللبناني الصادر العام 1926 و«صيغة» الحكم التي اتفق عليها العام 1943 استكمالاً لـ«الميثاق الوطني» إلى أن اعتماد النظام الطّائفي إنما هو تدبير انتقالي ومحدود وإن كان ضرورياً من الناحية السياسية. ومعلوم أن مهندسي هذه «الصيغة» طالما حذروا من المخاطر الملازمة لاعتماد النظام الطّائفي وشدّدوا على كونه تدبيراً موقتاً. إلا أن الطّائفية، خلافاً لحكمة هؤلاء، انتشرت ونجحت في التحكم بعمل أجهزة الدولة ومؤسساتها كافة في الفترة الممتدة بين الاستقلال وانفجار النزاع الأهلي العام 1975، حيث جرى خلالها إدخال القاعدة الطّائفية في نص قانون الموظفين الصادر العام 1959. ومن ذلك الحين سهر مجلس شورى الدولة على تطبيقها بدقة وتفانٍ لا تشوبهما شائبة. إضافة إلى ذلك، صدرت تشريعات جديدة منحت الطّوائف اللبنانية صلاحيات واسعة لإدارة شؤونها الداخلية ومؤسساتها ولتنظيم أهم الأوجه المتعلقة بقضايا العائلة. والأحوال الشخصية لأعضائها. وحقيقة الأمر أن ما حدث خلال هذه الفترة هو تعزيز للطائفية، بينما كان التصور الأصلي أن الزمن هو الكفيل بزوالها. ثم أتت سنوات الحرب الأهلية، التي عصفت بلبنان في العام 1975، لترفع من حدة الشعور والانتماء الطّائفيين وتزيد من الأحكام المسبقة، حيث تضاعفت هذه الممارسات الطّائفية. وبنتيجة ما ارتسمت به هذه الحقبة من شدة الاستقطاب الطّائفي، ومن غلبة المطالب الطّائفية والمطالب الطّائفية المضادة على الحياة السياسية، ومن تعاظم لدور الجماعة الطّائفية المسلحة المعروفة بالميليشيات، لم يعُد ثمة من خيار واقعي لوقف دورة العنف المتصاعدة التي غرقت البلاد فيها إلا بالوصول إلى صيغة جديدة لتوزيع السلطة السياسية بين الطّوائف اللبنانية الرئيسية، وبتأمين موافقة زعماء هذه الجماعات عليها، ولا سيما قادة الميليشيات المسلحة. هنا تكمن ميزة اتفاق الطّائف وأهميته. من حيث هو تعبير عن صفقة طائفية «جديدة» جعلت إسكات البنادق ممكناً، كما سمح بالعودة التدريجية إلى الأساليب والوسائل السلمية للعمل السياسي. لكن «ميثاق الطّائف» سوف يشكِّل، باستثناء إنجاز التغطية الدستورية والسياسية لإنهاء الحرب الأهلية والدخول في إعادة بناء الحياة المدنية السلمية – محطة مستأنفة لإنتاج النظام الطّائفي في لبنان. وبمعنى أكثر تحديداً وعمقاً فإن الاتفاق والمرتكزات الدستورية التي قام عليها كان أدنى إلى ميثاق لإدارة الحرب الباردة بين الطّوائف، منه إلى تسوية تاريخية راسخة بينها.
ثقافة المواطنة في كهف الطّائفة
حالت الحرب، وكذلك سوء إدارة الوضع السياسي بعد الطّائف.. دون تموضع النخب اللاطائفية في أوعية المواطنية المتصلة. ثم اضطـُرَّت هذه النخب إلى إرجاء رغباتها، لتنضوي "طوعاً" أو بالإكراه تحت ظلال السلطة الأهلية، إلاَّ أنها كانت تنتظر وتتأمل أن تنفلت ذات يوم من قبضة تلك السلطة. بينما كانت في الآن عينه ممسكة بأحلامها: وتستهدف وطناً صافياً من العنف، وحياة أهلية باردة، وسياقاً ينظم حَيَوات مواطنيها على كل صعيد… غير أن الخواء السياسي امتدَّ في الأرجاء اللبنانية ليُمسي أشد كثافة وانضغاطاً. فإذا الانتظار والأمل يستحيلان ضرباً من سلوك استسلامي حيال الإرادة الطّائفية. لقد بدا الاستغراق في الرهان على سلطة الطّائفة أشبه بأيقونة مقدسة تحجب عصب الممانعة ورغبة الاحتجاج. وفي الصورة ما يؤمئ إلى أنَّ كثرة من البيئات ذات التفكير العلماني أو المدني لاذت بالصمت حيال السائد السياسي الذي تعيش تحت ظله «الجيو-طائفي». حصل هذا بالفعل منذ اللحظة التي أسقطت فيها هذه البيئات من حسابها خط الاعتراض. ثم مضت في رحلة العزوف والكسل، حتى أن مساحات في زمن العنف حلَّ فيها مثقفون راحوا يرفعون رايات طوائفهم، ويحاربون بسلاحها، بعدما سقطوا في إغواءات شعائرها وأحكامها. لم يستطع المثقَّف اللاَّطائفي أن يبتني له منزلاً يتوازن فيه مع من يسكن قلاع الطّائفية الصمّاء، كأن ينضمَّ إلى مواطنية جماعية مستقلة فيقيم لنفسه فيها حصناً يأوي إليه، أو أن ينشئ له حيزاً يشعر فيه بنعمة العيش كمواطن سويّ. وفي الحالات القصوى كان عليه إجراء موازنة دقيقة، حذرة، بين رغبته في المخالفة والممانعة والنقد، وبين ضغط الطّائفة التي لا تفتأ تحشره في سعير شعائرها المحمومة. فلقد ظلَّ المثقّف اللاطائفي أسير شبكة استقطابات فرضها منطق اللعبة الطّوائفية. مثلما افترضها عليه سلوك كل طائفة تجاه رعاياها، في إطار سيادتها المناطقية والحزبية والاجتماعية.
لقد ظهر بوضوح مع اختبارات الأعوام المنصرمة، أن حركة الاستقطاب اللبناني الداخلي ظلّت على حالها؛ في الحرب كما هي في زمن ما بعد الحرب. الـ"ما قبل" يتصل ويتواصل بالـ"ما بعد". لم يحصل الانقطاع بين العنف والسلام الأهلي كزمنين اجتماعيين تاريخيين متغايرين، حيث يفترض أن يؤلف الزمن التالي نفياً ونقيضاً للزمن الذي فات. وحدها قشرة السياسة والثقافة والاجتماع هي التي عَرَض عليها التبدّل، بينما بقيت في جوهرها تغتذي من نشأتها الاولى. لقد خُيِّل للبنانيين أنهم بعد الطّائف بلغوا حقول أحلامهم بدولة مواطنين. سوى أن ما بدا لهم بوصفه أحلاماً واقعية تأخذ سبيلها إلى التحقق، لم ينصرم وقت حتى ذوى كسراب صحراوي. لقد بقي الحبل السري موصولاً بشدة بين السلطة الأهلية الطّائفية والدولة المتصوَّرة. ثم مشت «الطّوائف السياسية» على طريق الدولة مزهوّة بما جمعته خلال الحروب الموقوفة والمستأنفة من حصاد القوة، حتى إذا حطـَّت على أرض الشرعية الدستورية المعدّة إعداداً متقناً، والمحميّة من ظلال المحيطين الإقليمي والدولي، فَتَحَت هذه الطّوائف على احتراب بارد لاقتسام الحصص والمغانم. هكذا قُيِّضَ لمفهوم الدولة ضمن أزمنة السلام السياسي دور ينبغي ألا يكون سواه: محطة لاستقبال محاربي الطّوائف. ومستوعباً شرعياً يجمعهم إثر شتات مديد.
لقد بدت الرحلة منذ اتفاق الطّائف 1989 وصولاً إلى اتفاق الدوحة 2008 على صورة تاريخ راقص يكرر ذاته بلا انقطاع. فإن هذه الرحلة لم تملك أن تتجاوز لعبة خَبـِرَها اللبنانيون على امتداد سنين طويلة. إذ في غضون فترة قصيرة أخذت تتوضح معالم حياة، لا جديد فيها سوى أشخاص، وأحداث، وشعارات، ومظاهر، لثقافة سياسية باهتة. حتى السلطة التي تآلفت عناصرها تحت عناوين المؤسسات الدستورية خرجت كمولود من الماضي. وشعر اللبنانيون، ومثقفوهم اللاّطائفيون على الخصوص، أن في الأفق المقبل ما يشي بخيبة. إنهم يعرفون بالفطرة والمعاينة أن السلطة، أي سلطة، إنما هي على الدوام إغواء بالسوء، إذ سرعان ما تتحوَّل إلى جهاز يمنع ويقمع. فمن البداهة، أن تتحوّل النخبة المتطلـَّعة بشغف إلى مواقع النفوذ، إلى جهاز منع وقمع إضافي لمن يخالفها الرأي. ولسوف نتعرَّف من خلال ما حملته إلينا سنوات ما بعد الحرب، على حقيقة أنّ نظام الطّائفة حين يصبح هو نفسه النظام الطّائفي تصبح السلطة التنفيذية المعبِّرة عنه بمثابة هيئة إقصائية لكل ما هو «غير». ونافية بالتالي لكل ما هو خارج قيمها، ومصالحها، وثقافتها، وكلماتها اليومية.
تطبيق الديمقراطية
سوف يولد أسلوب عيش في الثقافة والسياسة، غايته القصوى ضبط كل محاولة تسأل أو تشكك في المنظومة السائدة. ولقد ظهرت صورة الديمقراطية الطّوائفية هذه المرة باهتة ومنقبضة ومسيطراً عليها أكثر من أي يوم مضى. ولعل السمة المميزة لتلك الصورة أن الديمقراطية دخلت في عالم الطّوائف لتتحول معها إلى رافعة أيديولوجية توظفها كل طائفة لتعزيز حضورها بين أبنائها وداخل الدولة. ولنا في ما حصل من ربط للمجتمع الثقافي بأغلال الطّائفيات السياسية المتنوعة عن طريق احتواء الصحافة ووسائل الإعلام، والسيطرة على مؤسسات المجتمع المدني وتحويلها إلى مرسِّخات إضافية للمجتمع الأهلي الطّوائفي إشارات بيانية لا لَبْسَ فيها. هكذا سينشأ ما يمكن تسميتُهُ ﺒ"سلطة أيديولوجية" لحماية السلم الأهلي، ما لبثت أن نمت واستشرت في الحقول اللبنانية المتعبة. مهمة هذه الأيديولوجية أن تأتي للناس على الدوام بيقين، حيث راحت تنزع إلى تحريم الشك. وتشكك في أي بادرة نقد، وترى إلى أي اختلاف فكري أو ثقافي مثابة مسعى للفوضى والحرب الأهلية. ولقد جعلت هذه الأيديولوجية من «السياسي المحدث» أميراً ثقافياً بينما هو في واقع الحال أمير حرب في السلوك، وفي المصادر الثقافية والأيديولوجية التي يغتذي منها، وكذلك في طريقة إدارته لمواقع النفوذ في السلطات التنفيذية التي استحوذ عليها.. ويمكن أن نقع على شواهد من ذلك لا حصر لها، منذ ما بعد إبرام اتفاق الطّائف في التسعينيات حتى بدايات العام 2000، حيث انخرطت الطّوائف السياسية على الجملة في ما يشبه العزف الجماعي على إيقاع توازن المصالح… ولقد تبين أن قرار السلطة السياسية لم يكن سوى ترجمة مطابقة لرؤية المؤسسة الثقافية الأيديولوجية، التي تجري بواسطتها إعادة إنتاج ثقافة المجتمع كله. وبهذا، استحالت هذه الثقافة أشبه بأوعيه متصلة من الخطب الثقيلة تؤسس للسياسة وتعيد إنتاجها. فيما انبرى العاملون في حياضها يشتغلون كدعاة يمنحون الزعيم الوجيه الطّائفي شرعيته ومجده المترامي الأطراف. هكذا ستمضي الهيئة السياسية في زمن الحروب والأزمات المتناوبة إلى السيطرة على مكوّنات المجتمع المدني (جمعيات أهلية – اتحادات ومنظمات نقابية – منابر ومؤسسات ثقافية وإعلامية – فرق كشفية ورياضية إلخ). وقد جرى هذا كله مدفوعاً، برغبة الاستيلاء على مؤسسات الاجتماع الثقاقي، والقبض على حركتها ومفاعلها.
المواطن اللاَّطائفي مغلولاً
لا تظهر صورة المواطن اللاطائفي في لبنان خارج سيرة الطّائفية. فإنه وإن شاء أن يغادر أسوارها المغلقة، فلا يلبث أن يعود إلى مستهلّ المسعى ليبدو كمن يمضى في المستحيل. أما المثقف اللاطائفي فهو مطوّق بجدران لا حصر لها. بعضها مرئي، وينتصب أمامه في كل شأن يتعلق بحياته اليومية تعلّقاً مباشراً، وبعضها مستتر وخفيّ، أو يجري إخفاؤه بحساب معدّ بإتقان من جانب من يصنعون للطائفية سيرتها ومجدها وعمرها المديد. وهو إذا حاول الخروج على طائفته لا يجد من ينظر إليه إلا كغريب. ولئن َملَكَ الجرأة، وخرج على طائفته فلن يجد من يقبله في مسارح الطّوائف المتآخية، إلا بوصفه منتبذاً. ولسوف يسكنه شعور ثقيل بأن لا مناص له من الرجوع إلى مسكنه الأصلي. وأنه لن يتسنى له العيش كمواطن في وطن سويٍّ، لأن الطّوائف السياسية التي استوطنت جغرافيات البلاد منذ زمن بعيد تجدد نفسها، بعقود مقدّسة، إثر كل حرب ضروس، أو فتنة عابرة.
ومن سوء حظ المثقف اللاطائفي، أن المساحات التي كان يفترض أن تُخلى له كمكان حرّ للكلام والتفكّر باستراتيجية خلاص، قد غُلِّقت بإحكام منذ تسوية "الطّائف" العام 1989.
بعد هذا التاريخ بدا كما لو أن دولة الطّوائف أكملت نفسها واستراحت مما حملته صيغة "الجمهورية الأولى" من معايب ثم كانت سبباً في نشوء بيئات سياسية وثقافية ذات استقلال نسبي عنها…
حين اكتملت دولة الطّوائف على نصاب ميثاق الطّائف وعلى النحو الذي نرى مشاهده التراجيدية منذ نحو عشرين عاماً، وجد مثقفو لبنان اللاطائفيون، على العموم، أنهم باتوا أسرى علاقات قوة من طراز جديد. باتوا معلّقين بدوائر مغلقة، ومتّصلة في ما بينها بعقود فادحة من الرياء السياسي. وخاضعة بالتالي لكيمياء عجيبة لم يشأ كثيرون منهم أن يكونوا مادة لاختباراتها المروّعة، إلا أنهم حَبِطوا في اجتياز أسوارها. ولم يقدروا على الصمود في وجهها. فوراء كل جدار جرى نصبه بعد الحرب الأهلية نشأت سلطة ماكرة وخادعة ومتحللة من أي وازع قانوني أو أخلاقي. سلطة ازدادت حنكة بما ورثته عمّن سبقها من بيوتات القوة والعنف خلال الحرب، وكذلك من ميراث "الجمهورية الأولى" التي لم يتحصّل للبنانيين من "عبقريتها" سوى لعبة المقاسمة والمحاصصة والانتهاب.
لم تقم سلطة الطّوائف بوجهيها العنيف والبارد، إلا على المطلق السياسي. وتالياً على المطلق الاجتماعي والاقتصادي. وثالثاً – وهو الأخطر والأدهى – على المطلق الثقافي. ثم على ما يجعل هذا الثقافي إما تابعاً مستتبعاً أو عدَماً مقصيَّاً.
ولأن "سلطة الطّوائف" مطلقة إلى هذا الحدّ، فلم يكن لها لكي توطد مصالحها إلا أن تستقرّ على مثلث توازنات يتجدد على الدوام، بين رئاسات الجمهورية والنواب والحكومة. وهو ما سُميَ في حينه ﺑ"الترويكا" أو السلطة المثلثة الأقطاب. فكان للّبنانيين الكثير من مطالع السوء بسبب من "اللقاء الحميم" بين مثلث مال الحرب ومال السياسة النيوليبرالية، ونظام الطّائفية السياسية. وهو لقاء من شأنه أن يفكك بقوة ما تبقى من أواصر المجتمعين السياسي والثقافي.
المواطن العلماني حائراً
هذا المواطن هو نفسه المواطن اللاّطائفي ولكن مع جريمة زائدة من الإفصاح عن خصومته للطائفية ونظامها. وفي حالات توتره ليذهب العلماني إلى الدرجة التي لا يعوزه فيها شيء للجهر بتشاؤمه من إمكان بلوغ مجتمع المواطنة.
كيف لي أن أكون مواطناً بالفعل؟
على هذا النحو يسائل العلماني اللبناني نفسه اليوم، حتى ليبدو في غالب الأحوال كغريب لا ميراث له في منازل الأهل. يتطلع حواليه ليجد كيف أحاطت به طائفياتٌ من كل جانب. اكتظَّت به واكتظَّ بها، فلا يكاد يرى لنفسه مخرجاً من أسوارها المغلقة. لكنه، وهو على هذه الحال، يظل على يقين مقيم بأن الحصار المضروب من حوله لا يتأتى من خصوم مرئيين لكي تظهر أمامه الحدود والتخوم والخيارات، بل إنه يشعر وكأنه محاصرٌ من بيت أبيه. فلا يغادر هذا البيت إلا ليعود إليه. لكأن منازل الطّوائف في لبنان أمكنة مبنيةٌ على حكم القضاء والقدر.
الحاصل على وجه العموم هو انتهاء سؤال المواطنية إلى ما لا يخالف قَدَرَ الطّائفية وقضاءَها. فالصورة التي يجد العلماني اللبناني نفسه في داخلها، هي أشبه بـ "قلعة صمّاء" يستحيل عليه مغادرتها؛ أو كمن لا مناص له إلاّ التكيُّف مع أنظمتها الصارمة: عليه أن يكتفي بأن يعيش علمانيته في ذهنه، بينما عليه في الآن عينه أن يعيش طائفيته بشغف نادر في الحياة العامة. أما حين يأخذه الظن أنه بالِغٌ "لبنانية نقية من أي شائبة"، فلا يلبث حتى يغشاه الوهم وتصدمه الخيبة. فإذا به يعود إلى عالم الحيرة، ثم ينبري إلى ما يشبه التوقيع القهري على هوية ناقصة. رؤية اللاّطائفيين إلى حال لبنان اليوم، هي نفسها التي يعيدونها كلما رفعوا الشكوى على ما هم عليه من أحوال. وها هم يكرّرون ما سبق وقيل على امتداد تاريخ لبنان السياسي والاجتماعي: "لقد انتصرت الطّائفية، وتفوقت المذهبية، وتراجعت المواطنية، وفشلت العلمانية، ونأت الديموقراطية، ودخل لبنان في القرون الوسطى، وأقام في ماضيه"(12). من طرفنا نضيف الى ما قيل..: ما كانت الطّائفية اللبنانية إلا منتصرة طبقاً لمعاييرها وأحكامها واستراتيجيتها، وحين حلَّتْ على أرض انتصارها، أسست للماضي فيما هي تؤسس للحاضر والمستقبل. معها بات لبنان أدنى إلى مستوطنات متشظِّية منه إلى وطن متوحّد. أما داخل قلاع الطّائفية الصمَّاء فلا عقلانية بخارجةٍ عن عقلانيتها. ولا مواطنية تنأى من خرائطها المرسومة بإحكام. حتى لقد صارت العقلانية الطّائفية طبعاً حميماً لطبائع اللبنانيين على الجملة.
– 3 –
بين عقلية الطّوائف وعقلانية المواطنة
أي سبيل يُفترض أن يُشَق لكي يحرز اللبنانيون مواطنيتهم؟
لا مناص من البدء برسم معالم أولية لعقلانية مواطنة، في مقابل عقلانية الطّوائف. لكن من أين الطريق إليها؟ إن كان لا مهرب من ذلك، فلنا أن نقترح على اللاّطائفي اللبناني أن يتخذ سبيلاً يفضي به إلى "منطقة معرفية وسطى" من سماتها: القدرة على إدارة التعقيد التاريخي من خلال ما نسميه ﺒ "عقلانية" التقريب بين المسلَّمات المتباينة، والوقائع المتناقضة. نقول هذا، ولو لم يوافقنا "مناطقة" الطّوائف وفلاسفتهم على مثل هذه الدعوى. أما تعريفنا الإجمالي لشرائط تحصيل مثل هذه العقلانية، فإنّا نقترحه على الشكل التالي:
أولُها: يكون في الصبر على ما نمقتُه من عقلانية الطّوائف، كما نجده في الصبر على ما نحبّ مما نأتنس إليه من أفكار عن مواطني المدن الفاضلة. وثانيها: يكون في التبصُّر بالنشأة الأولى للبنان. أي بالظروف والأوضاع والأحوال التي حكمت هذا البلد منذ تأسيسه ككيان سياسي ودولة في الربع الأول من القرن العشرين. فلو عرفنا النشأة الأولى كيف جرت، لهانت علينا معرفة كيف تجري النشآت التالية الأخرى.
وثالثها: يكون في إدراك المسافات الطفيفة بين حقائق التاريخ التي جعلت من الطّائفية علة وجود لبنان، وبين الأمل المتسامي بوطن يبسط للناس أماكنهم الآمنة والسعيدة. وأما رابعة تلك الشرائط، وليس آخرها، فيكون في تدبُّر المفاهيم الوافدة إلينا من عصور الحداثة القريبة والبعيدة. تلك التي لا ينبغي أن نؤخذ فيها على نصاب الدهشة والتطيُّر .إنها المفاهيم نفسها التي أخذناها عن ظهر قلب. وهي على الجملة: مفهوم الدولة- والعلمنة- والمجتمع المدني- والمواطنية- إلى آخر السلسلة مما شقَّ علينا أن نجد سبيلاً له إلى مهاد مستوطناتنا المترامية الأطراف.
سؤال آخر من زاوية أخرى: هل تكون النافذة إلى لبنانيتنا الصافية عبر تلك المواطنية المستعادة على وئام الأمداء الإقليمية والدولية اللامتناهية؟ مثل هذا السؤال نتريَّب في هذا المقام، تقديم الإجابة عليه. فلذلك مقام آخر من الكلام الطويل..، لكن الشيء الذي يمكن أن يُقال في هذا الصدد، هو أن يجدد اللبنانيون على الدوام عهود التكيّف مع تبدّلات أحوالهم… فإنهم لو فعلوا ذلك بإتقان لاستجاب لهم القدر بأن يُحرزوا الأمان الأهلي الذي ينشدونه.
إمكان المواطنية الخلاّقة
ليس من أمر الضرورة أن يبلغ التشاؤم بإمكان المواطنة مقام الاستحالة. فلا مناص للبنان من أن يدخل سيرورة السلام الدائم لكي تتحقق معه المواطنية الإيجابية الخلاَّقة. ونعني بسيرورة السلام الدائم أن يغادر الاجتماع اللبناني حروبه الأهلية الدورية، كأن تفلح نخبه التاريخية بالإمساك بناصية الأزمات السياسية بما يحول دون تحولها إلى عنف مسلح. وذلك يقتضي أن يتوفر اللبنانيون بطوائفهم ومذاهبهم ونُخَبِهم وهيئاتهم السياسية على قاعدة معيارية تلزمهم الأخذ بها في سرَّاء السياسة وضرَّائها. عنيت بها العقلانية والأخلاقية.
وهنا يمكن التكلّم عن ثلاثة مستويات وصولاً إلى مقاربة هذه القاعدة:
– المستوى الأول، وهو ما يذهب إليه كل الذين آذتهم الطّائفية واكتووا بنارها سحابة أجيال مديدة. وقوام قول هؤلاء يبدأ من شعار إلغاء الطّائفية السياسية عبر فصلها عن الدولة ومؤسساتها، لينتهي بهم القول إلى رفع شعار العلمانية الكاملة.
– المستوى الثاني، ومؤداه على خلاف ما يمضي إليه دعاة الشعارين المتغايرين السابقين. أصحاب هذا المستوى يقولون باستحالة العلمانية الكاملة، وبصعوبة إلغاء الطّائفية السياسية. ويستدلون على ذلك بشواهد التاريخ اللبناني التي تكتظ بالاحترابات الأهلية الباردة والعنيفة. وهؤلاء على التعيُّن هم أهل التقليد الذين أخذوا بسجايا اللعبة الطّائفية فارتضوها مذهباً لهم، وخلعوا عليها صفات التقديس، وتعاملوا معها كقضاء وقدر لا رادَّ له. وخلاصة ما هو عليه هؤلاء التسليم بالأطروحة الطّائفية.
– المستوى الثالث، وهو ما نقترحه كسبيل مدّعى إلى مواطنة سويَّة في وطن سويّ. ذلك ما نجده في ما سمّيّناه "المنطقة الوسطى" وهي المنطقة المعرفية التي سنحاول عن طريقها رسم رؤية جديدة لمستقبل لبنان على قاعدة "الممكن بين مستحيلين":
– نعني بالمستحيل الأول، استحالة التوحُّد على القواعد الكلاسيكية للهوية الوطنية ولا سيما تلك التي ألفتها المجتمعات الحديثة من خلال ما عرف بظاهرة الدولة/ الأمة ذات السيادة على الأرض والشعب.
– ونعني بالمستحيل بالثاني، استحالة الانفراط الكامل للعقد الاجتماعي السياسي القائم على الصيغة الطّائفية. ولقد بيَّنت لنا اختبارات الاحتدام على مدى عمر الاستقلال كيف آلت التسويات التاريخية بعد كل حرب أهلية إلى مستقر الطّوائف ووئامها.
– أما الممكن بين المستحيلين، فهو ما يمكن انتزاعه من ضفتي الاستحالة معاً. وهو ما أشرنا إليه في ما سبق باعتباره عقلانية التقريب بين المستحيلين. هذا يستظهره اللبنانيون من منجزات التجربة التاريخية لتسوياتهم وعيشهم المشترك. وهي المنجزات الكامنة في منطقة وسطى، من مزاياها التعقل والتخلُّق وواقعية المواطنة. ومن غاياتها السعي الصادق لاستيلاد إمكان تاريخي لوطن تتصالح فيه رزمة من الثنائيات المتضادة: الطّائفي مع الوطني، الديني مع العلماني، والأهلي مع المدني، والمحلي مع الإقليمي. وثمّة في الشخصية اللبنانية من المزايا ما يؤهلها إلى التكيُّف مع تعقيدات عيشها السياسي. وبوسع اللبنانيين حين يتسنى لهم مفارقة جحيم الأزمات أن يجدوا لمواطنيتهم المتأمَّلة محلاً تسكن فيه بأمان، ضمن فسحة من سلام أهلي طويل الأمد.
نزع العنف كسبيل إلى المواطنة العقلانية
عندما كتب الفيلسوف إيمانويل كانط مشروعه للسلام الدائم في العالم، كان مدفوعاً بشغفٍ مرير من أجل أن لا تتحوّل المدن – كما كان يقول – إلى مقاهٍ مؤقتة تقابلها مقابر أبدية. لم يكن يهم كانط، يومئذٍ أن يسقط فعل الكتابة لديه ليصبح مجرد أحلام كاذبة. وكان يقول: "لا ينبغي أن يكون هناك حرب أصلاً… ولقد أراد أن يتحول بالسلم العالمي من موضوعة رجاء دينية، إلى مشروع فلسفي غايته تهذيب الإنسان الحديث، والارتقاء به من بربرية المتوحشين القائمة على العنف والحرب، إلى ما يسميه "الضيافة الكونية". كان يريد مشروع سلام دائم يحلق في أفق المواطنة الكونية.
أما عن السبيل نحو الارتقاء إلى مكارم الأخلاق، وإمكان تحقُّقه لخلق المواطنية الكونية، فلم يشأ كانط أن يكون في ذلك متسرّعاً في إظهار التفاؤل. لقد رأى أن الدول ما دامت تركّز كل قواها على أهدافها التوسّعية العنيفة التي لا جدوى من ورائها، ومادامت تعوّل باستمرار على الجهد البطيء للتهذيب الباطني لنمط تفكير مواطنيها، فلا يمكن أن ننتظر أية نتيجة من هذا النوع. ذلك أنه ينبغي من أجل ذلك عملاً داخلياً طويل الأمد لكل أمة بغاية تهذيب مواطنيها(13). لقد كان كانط يحرص دوماً على أن يكون الفيلسوف، وبالتالي النخب العقلانية المسددة بأخلاقية المواطنة، هي التي تتولى مهمة التهذيب والترشيد للمواطن. في حين أن مشروعه في السلام الدائم يدخل ضمن هذا التهذيب للمواطن من أجل ضرب مخصوص من المواطنة قائم على ما يطلق عليه ﺒ "الحق الكسموسياسي". إن هذا المشروع الذي ينقل السلم من المقبرة إلى المدينة، ومن القديس إلى الفيلسوف، ومن سخرية المقهى إلى جدية العقل، هو عند كانط، ضربٌ من التدبير المتسامي والواقعي والعقلاني لفضاء المواطنة الحديث.
ماذا لو اقتربنا لبنانياً من مثل هذا السبيل من المواطنية؟
في مستهلّ مقالته "اليوتوبيا والعنف (Violence and Litopia)" يكتب الفيلسوف السياسي الألماني كارل پوپر ما يلي: «إن القول إن من الممكن تخفيف العنف وإخضاعه لسلطان العقل، قول لا ينطوي بالضرورة على أملٍ كاذب. ولربما كان هذا هو السبب الذي يجعلني – كالعديد من الآخرين – أؤمن بالعقل، كما أنه السبب الذي يجعلني أنعت نفسي إنساناً عقلانياً… ثم يختم: إنني إنسان عقلاني لأنني أرى في موقف التعقُّل البديل الوحيد للعنف»… لا يحتاج الأمر في لبنان الى عارفين بالفلسفة السياسية، لكي يتدبَّروا مثل هذا الكلام. فالسؤال عن العقل واستعادته ليكون حامياً للبنان من العنف هو سؤال جائز. وجوازه يكمن في إمكانه، فضلاً عن إمكان وقوع الجواب عليه.
صحيح أن لبنان الآن هو في قلب النار. وأنه كان سحابة الأعوام التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شتاء 2005، على قاب قوسين أو أدنى من جحيم أهلي أعِدَّ له بإتقان، لكن الصحيح ايضاً، أنه كان بالإمكان اجتناب النار، والنأي بالبلاد من الكوارث الأهلية المحدقة. يومها بدت هذه المعادلة مستحيلة بالنسبة لكثيرين خَبـِروا الأزمنة المتعاقبة التي عاشها لبنان على مدى تشكُّله ككيان سياسي مستقلّ. فهولاء باتوا ينطلقون من تصورات ثابتة مؤدَّاها، أن دورات العنف تدخل في أصل النشأة اللبنانية، وأنها من طبائع هذه النشأة، وأن العنف، والعنف المسلح بخاصة، هو عَرَضٌ من أعراض اللعبة السياسية، وأنه قبل كل ذلك، سمة من السمات المؤسِّسة لتلك اللعبة.
عندما يكون فهم العنف الذي يجتاح لبنان اليوم قائماً على هذه الاعتبارات، فإن مساحة الكلام على عقلانية تحمي البلاد من التنازع، تتقلَّص الى حدها الأدنى. بل أكثر من ذلك، فلقد ظهر عنف الطّوائف اللبنانية في أحيان شتى، وكأنه أمرٌ محمول على حكم القضاء والقدر. وثمة من يستدل على هذا، بالإشارة الى الصَدَعِ الذي يعصف بصيغة الكيان اللبناني كلما مرَّ عقد او يزيد بقليل، على إبرام أي تسوية بين طوائفه السياسة. فالانفجار الأهلي الدوري بات أقرب الى قانون مثير للهلع. وهو قانونٌ يصعب تفادي أحكامه ومؤثراته كلما عصفت بلبنان رياح التحولات الإقليمية والدولية. مع ذلك، فللمعادلة اللبنانية التاريخية وجه آخر. إذ يجوز لنا القول، إن في المعادلة إياها، إمكانات لإنتاج سياقات حقيقية من أجل منع العنف. وقد يكون في المشهد اللبناني الجارية وقائعه هذه الأيام، ما يمنح تلك السياقات قوامها ومشروعيتها. فما لا يشكُّ فيه، أن كل ما يُراد للبنان الآن هو أن يهوي وشعبه وقواه السياسية والمدنية الى مستنفع الفتنة بعدما هوت طبقته السياسية الى مستنقعات ما دون السياسة…
نزعم، أن ثمة إرادة لبنانية لدى أبناء الطّوائف والمذاهب جميعها في الإعراض عن العنف، وعدم الدخول في جحيمه المدمِّر. وهذا مردُّه الى حدسٍ شعبي لبناني، يستشعر هول الكارثة قبل وقوعها. حتى إذا وقعت لم يستجب لها إلاّ من وجد في العنف سبيلاً الى قلب المعادلات، وإعادة تشكيل الأوضاع وفقاً لرغبات ومصالح لا تمتّ الى مصلحة لبنان والعرب والمسلمين بأية صلة. صحيح أن مبدأ العنف يقع في أساس نشوء لبنان منذ العام 1920. لكن من ضرورات اللحظة الراهنة القول إن تقديم العقل على العنف سيمكِّن اللبنانيين من اجتناب اختبارات الموت المفتوح.
هل من سبيل إلى ذلك؟ بلىَ… ذلك على الرغم من كل هذا التحشيد الهائل لعناصر الفتنة. وفي التجربة التاريخية اللبنانية الكثير من النوافذ المشرعة على درء العنف، أو إيقافه عند جولته الأولى. فسنرى ممن سمّوا بـ «حكماء الكيان»، كيف كانوا يحذرون على الدوام من التسليم بمبدأ العنف الذي يحكم شروط اللعبة السياسية في لبنان. على اعتبار أن التسليم به، يسوَّغ موضوعياً للحروب الأهلية ويؤسس لها ثقافياً بوصفها قدراً لا رادَّ له. من هؤلاء من ذهب إلى وجوب المحافظة على الميثاق التوافقي الذي أبرمته الطّوائف عند تأسيس لبنان في العام 1920 ثم كرسته في العام 1943، ثم أعادت إنتاجه في اتفاق الطّائف العام 1989. لقد آمن هؤلاء بضرورة المحافظة على هذا الميثاق، والنظر إليه كتقليد يضمن بقاء الكيان ويحميه من العنف.
إمكان الاتفاق على الهوية التاريخية
يرى المورّخ كمال الصليبي، «أن في لبنان عنفاً كامناً لا يمكن احتواؤه الا بالرأي السياسي الصائب». ونضيف: بالتزام التعقُّل في لحظة احتدام الغرائز، حيث تشعر كل طائفة حينها بخطر الموت والاندثار. هنالك إذاً، مساحة بيِّنة بين طور وطور من أزمنة العنف اللبناني هي مساحة تهادن بامتياز. إنها تلك المساحة التي يكون فيها للعقل المسدَّد بالأخلاق حضورٌ في السياسة. فلقد بدأ على نحو لا ريب فيه، كم لتغييب العقل من أثر في ارتفاع منسوب العنف في لبنان. وتفصح الدراما اللبنانية عن حقيقة أن الحرب الأهلية ما كانت لتستغرق كل هذا الزمن، وأن تفضي الى ما افضت اليه، لو كان ثمة عقلٌ جامع ينتج رأياً عاماً يصونه ويحميه.
لعل مسألة الخلاف على تاريخ لبنان ولا سيما لجهة ماهيّة هذا التاريخ وهويته ومن أين يبدأ وما الصيغة التي يوضع فيها للبنان تاريخه ويحظى برضى جميع طوائفه ونخبه وقواه السياسية؟…
ثمّة تصور يضعه الصليبي في سياق بلورة مقترح نظري يحتمل أن تغادر النخب اللبنانية بواسطته مأزق العثور على تصور واحد لتاريخ بلدها.
ينطلق الصليبي من حقائق التجربة التاريخية اللبنانية المعاصرة لينتهي إلى ثلاثة استنتاجات:
– الاستنتاج الأول، هو أن تجربة الحرب الأهلية في لبنان أثبتت، بما لا يقبل الشكّ، أن أي طرف من اللبنانيين، لا يمكنه أن يفرض رأيه بسهولة على الطرف الآخر. وهذا يعني أنه لا يمكن حلّ مشاكل لبنان – بما فيها تلك المتعلقة بالتاريخ اللبناني – إلا من خلال تنازعات عقلانية متبادلة تتم بين اللبنانيين على ضوء حقائق معينة.
– الاستنتاج الثاني، هو وجود مؤشرات واضحة على أن البلد قد بلغ الإجماع السياسي الأساسي لدى الأكثرية المواطنية غير المتقاتلة من مختلف الطّوائف اللبنانية، وربما أيضاً عن عناصر كثيرة من الفئات المتقاتلة. مما يجعل استمرار وجود لبنان كدولة مستقلة ذات سيادة داخل حدوده الراهنة أمراً ممكناً.
– الاستنتاج الثالث، هو أن العالم العربي، ومهما يكن موقفه الأولي من لبنان، أصبح يقبل بالجمهورية اللبنانية كما هي موجودة فعلاً؛ ويفهم البنية الحساسة للمجتمع اللبناني ويقدرها كما لم يقدرْها في السابق. وهذا يعني أن التسليم بعروبة لبنان – إلى الحدّ الذي قد يكون فيه هذا المفهوم صحيحاً – لم يعد يشكّل خطراً على استمرار سيادة البلد ووحدته، ولا على منزلة أية مجموعة معينة من اللبنانيين، هذا إن كان قد شكّل مثل هذا الخطر في الماضي. بل قد يُقال اليوم إن للعرب رغبة خاصّة في المحافظة على استمرار سيادة لبنان ووحدة أراضيه، لأنهم فهموا أخيراً أن عملية تفكيك لبنان قد تتسرّب بسهولة إلى بقية أنحاء العالم العربي، وتؤدي إلى تفكيك بلدان وأنظمة عربية أخرى. وإذا كان هذا هو الوضع بالفعل، فإن ما يعبر عنه العرب من اهتمام راهن بإعادة لبنان إلى ما كان عليه من استقرار قبل اندلاع الحرب الأهلية فيه، هو اهتمام حقيقي، له دوافع معقدة بالمصالح العربية عموماً(14).
لعل استنتاجات كهذه، لو صحت في اختبارات الحوار الذي يرنو إليه، على الدوام، ممثلو الطّوائف اللبنانية، يمكن أن تشق سبيلاً إلى التفاؤل. غير أن مثل هذا التفاؤل الذي نريد له أن يُنقل من المجاز إلى الحقيقة، يبقى رهناً بتبدلات جذرية في أفهام اللبنانيين ومعارفهم حيال تاريخهم وهويتهم. وهي الأفهام والمعارف التقليدية التي لم تبرح تلقي بثقلها على البنية الصمّاء للثقافة السياسية اللبنانية.
المواطنة كعقيدة ولاء
يندرج الكلام على المواطنة ضمن حلقات متصلة، لا تنتهي في الثقافة السياسية اللبنانية. ذلك يعني أن واجبية تحقق المواطنة تنطلق من الحاجة إلى ترميم الصدع الذي رسخته الأفعال المذمومة لما نسمّيه ﺑ "المواطنة المركبة" على امتداد تاريخ لبنان الحديث.
والمواطنة المركّبة، التي تبيّنت لنا في اختباراتها، هي ما تترجمه شخصية الفرد اللبناني من حيث كونها شخصية متشكِّلة من ازدواجية الولاء للطائفة والوطن في الآن عينه.
هذان الولاءان هما، بالفعل، "الزوج التركيبي" الذي يكوِّن الشخصية اللبنانية، وينتظم كل شأن من شؤونها العامة والخاصة. ولعل السمة المميزة في تلك الازدواجية، أن الولاءين يقيمان ويتساكنان معاً على قلق مقيم. تارةً على صورة استتارٍ وكمون أيّام السلام السياسي، وطوراً على صورة ظهور عنيف حين يهتز التساكن بفعل الاحتدام الدوري لطوائف البلاد ومذاهبها. ففي وطن مركّب على قلق طوائفه لا تكون مواطنة أبنائه إلاّ على نشأة الحذر إياه.
حتى ليبدو السؤال عن مواطنية بسيطة (بالمعنى المنطقي للكلمة) هو سليل السؤال الأصلي عن المواطنة اللبنانية المركبة..
لكن كيف لنا أن نستولد من هذه المعادلة الشاقة سياقاً لاجتياز المعضلة؟
مرة أخرى نعود لاشتغال "المنطقة الوسطى" بغية استيلاد مواطنية تنأى عن التركيب والجمع بين ولاءين متناقضين… مثلما تنأى من مواطنة تمضي إلى الذوبان الكامل في بحور طوائفها. من صفات "مواطنية المنطقة الوسطى" أنها تأخذ بسبيل الوصول إلى المواطنية الفاعلة. أي هي التي تحيل المواطنة إلى واقع ممكن التحقيق. فهي بينما تعترف بالمواطنة المركبة كحالة موضوعية ترسّخت على امتداد زمن طويل من الحروب والتسويات والعقود السياسية، تحفر مجراها المغاير للمألوف الطّائفي. وإذا كانت القوانين والأعراف هي الباب الذي جاءت منه مواريث النظام الطّائفي، فإن تبديلها بقوانين وأعراف مدنية سيولِّد سيرورة جديدة من الآمال بوطن موحّد ومواطنية جامعة.
مستهل الطريق إلى مواطنية بهذا التوصيف، تستلزم تثمير التسويات التي عادة ما تعقب النزاعات والحروب الأهلية. كأن يتفق اللبنانيون على رزمة من القوانين المستمدّة من الدستور الأساسي تطلق سيرورة من الخطوط والعمليات السلميّة على قاعدة فك الاشتباك المزمن بين الطّائفي والوطني. وهما العاملان المنتجان لازدواجية الانتماء والولاء في البيئة التاريخية اللبنانية.
وإذا كانت المطالبة بإجراءات إصلاحية في قانون الانتخاب وإعادة تشكيل مؤسسات الدولة على أساس وطني لاطائفي تدخل في هذا السياق، فإن تربية المواطن على حضوره كفاعل في فضاء الوطن هي أساس العملية التغييرية على الجملة.
ذلك أنّ المواطنية الفاعلة، هي التي تنتج المواطن الذي يتواصل مع نظيره في الوطن على أساس الولاء لعقيدة أساسها مصالح الوطن العليا.
ولذا تقوم المواطنية الخلاّقة على صراط فعل خلاّق تسدده جامعية الهوية الوطنية، حيث يشعر المواطن الفرد أنّه متّصل بجماعة تؤلف بالنسبة إليه ذاته العليا التي يهبها ولاءه وتفانيه.
والولاء على ما تقرّر فلسفة الأخلاق هو التفاني الإرادي والمستمر من فرد ما تجاه قضية معينة. وإذا كنا هنا بصدد قضية الوطن والمواطن في لبنان، فإنّ رؤيتنا إلى الولاء هي من أجل مساعدتنا على كشف غاية الحياة بوصفها الخير الأعلى الذي يستطيع اللبنانيون تحقيقه وصولاً إلى الوئام والوجود ومجتمع المواطنة.
وبناءً على هذا السير باتجاه تظهير ولائية لبنانية جامعة، يمكن الكلام أيضاً على إعادة تأصيل نظرية الضمير بوصفها سلطة عقلية وأخلاقية وعامة وكليّة. لكنّ مفعول هذا التأصيل في ميادين التربية الوطنية اللبنانية، سيكون له أثرٌ بيِّنٌ إذا ما شُقّ السبيلُ إليه ضمن الحدود المعقولة من روح المسؤولية.
بهذا يمكن المواطن الذي ينخرط في مناخ ولائي جامع، أن يكتشف بعد برهة، وفي حدود نشاطه الاجتماعي الفردي، أنّ الولاء بالنسبة إليه، يشكل قدره الأخلاقي، حتى ليشعر أنّه من دون ولاء كهذا لن ينعم بالسلام الأهلي العام.
ذلك ما أضاء عليه كثيرون من المفكرين وعلماء الاجتماع والمؤرخين اللبنانيين حين وجدوا أن العنف الأهلي مصدره الاستبداد بالرأي، ومَنْ استبدّ برأيه كان مآله الهلاك، وأن الطغيان يبتدئ – حسب الفيلسوف جون لوك – حيث تنتهي سلطة القانون، وكلما هُتكت حرمة القانون وأنزل الضرر بالآخرين.
مستهلّ الرحلة باتجاه مواطنية الولاء هو تظهير مكامن الفطرة الخيّرة في النفس اللبنانية، وترجيح العام الوطني على الخاص الطّائفي. وكل ذلك بعقلانية مسدّدة بالأخلاق. حتى يرجع اللبنانيون إلى بيت الحكمة. ولبيت الحكمة منازل كثيرة كما ينقل كمال الصليبي عند القديس يوحنا في إنجيله. فإذا ما تم تنظيف السقائف اللبنانية بالمعاسف. إذ يجب أن يتم ذات يوم تنظيفها مما عُلّق فيها على مرّ الزمان من نسيج العنكبوت… فستكون هنالك طرق لا متناهية يمكن من خلالها إعادة النظر في تاريخ لبنان(15)، وصياغته على نشأة الإدراك لحقيقة الوطن الحق والمواطنة الحق…
الهوامش
1- ملحم شاوول، مفهوم المواطنة في التجربة الغربية والتجربة اللبنانية – مقالة مشاركة ضمن كتاب بعنوان: "إشكالية الدولة والمواطنة والتنمية في لبنان – تحرير جاك قبانجي – دار الفارابي – بيروت 2009 ص. 85.
2- محمود حيدر، "اللاَّيقين السلمي – أحوال لبنان بعد الحرب"، دار الفارابي – بيروت – 1997.
3- كمال الصليبي، "بيت بمنازل كثيرة – الكيان اللبناني بين التصور والواقع" – ترجمة عفيف الرزّاز – مؤسسة نوفل – بيروت – الطبعة الرابعة 2007، ص. 268.
4- أسامة المقدسي، "ثقافة الطّائفية، الطّائفة والتاريخ والعنف في لبنان القرن التاسع عشر تحت الحكم العثماني"، ترجمة: ثائر ديب – دار الآداب – بيروت 2009 – ص. 21.
5- راجع المصدر نفسه، ص. 25 – مقتبساً من كتاب: Saree Makdisi, Romantic Imperialism: Universal Empire and the culture of Modernity (Cambrige University press 1998, pp. 176 – 182
6- المقدسي، المصدر نفسه، ص. 26.
7- المصدر نفسه، ص. 27.
8- فواز طرابلسي، "صلات بلا وصل، ميشال شيحا والأيديولوجيا اللبنانية"، شركة رياض الريس للكتب والنشر – 1999 – ص. 12.
9- محمود حيدر، "اللاَّيقين السلمي، أحوال لبنان بعد الحرب"، مصدر سبق ذكره، انظر المقدمة.
10- كمال الصليبي، مصدر سبق ذكره، ص. 226.
11- ميشال شيحا، "السياسة الداخلية"، ص. 187.
12- نصري الصايغ، "لست لبنانياً بعد"، شركة رياض الريس للكتب والنشر – بيروت 2003 – ص. 16.
13- راجع إيمانويل كانط، "مشروع السلام الدائم".
14- كمال الصليبي، مصدر سابق، ص. 272.
15- كمال الصليبي، "بيت بمنازل كثيرة"، مصدر سبق ذكره، ص. 287.