105
تعتبر الفضاءات المكانية من أهم سمات الشعر العربي الحديث، ويعتبر المكان الرحم الذي يتشكلّ فيه العمل الأدبي، وتنتج عنه علاقة بين المبدع والنّص والمتلقي، ليكوّن ثراً وجدانيّاً مترامي الأطراف.
وللمكان دلالاتٌ كثيرة، منها دلالاتٌ تاريخية ونفسية وسياسية. وقد ساهمت هذه الدلالات في التشكيل الجمالي للنّصوص الشعريّة.
والحديث عن المكان ظاهرة متميّزة في الشعر العربي الحديث والمعاصر، وله دور بارز في النصوص الأدبية.
"والشاعر العربي الحديث، بغض النظر عن توجهه وانتمائه، في الكثير من المواقف الشعريّة، لم تعد تحدّه الحدود الجغرافية الوهمية التي وضعها الاستعمار الغربي، فأضحت هموم كلّ الدول همومه(1).
ويعدّ المكان ببعديه (الجغرافي والنفسي) من أهم الخصائص البنيوية في القصيدة العربيّة الحديثة، ومكوّن من مكوناتها المهمّة فلا وجود للمكان إلاّ بالإنسان، ولا وجود للإنسان إلاّ بالمكان، لذا يعدّ المكان جسدًا وروحًا للإنسان.
لذلك نرى أن المكان قد شكلّ حيزًا مهمًا عند نزار قباني، عبر استحضاره للأمكنة ذات البعد الدلالي العاطفي، والقومي والتاريخي والحضاري.
وفي بحثنا هذا سوف نتناول دراسة المكان وخصائصه ودلالاته ودراسة المكان، واسعة ومتشعبة، ولا يزال الباب مفتوحًا في مناقشتها.
تمهيد:
تتناول دراستي البعد المكاني في قصائد نزار قباني ودلالاته النفسية والدينية والتاريخية… كما أنها تعالج مجموعة من العناوين عند نزار التي شكّلت هاجسًا لدى الشّاعر على المستويين الأيديولوجي والنفسي.
ولعلّ الإشكالية التي تدور حولها دراستي هي:
–هل اعتمد الشّاعر منظورًا أيديولوجيًا واحدًا في قصائده أم غيّر منظوره حسبما تقتضيه طبيعة القصائد.
–هل قدّم الكاتب المكان من منظوره الذاتي، أم من منظور موضوعي؟
–وهل المكان كان ذا بعدٍ جغرافي فقط أم كانت له دلالات مباشرة مع الشّاعر؟
وقد اعتمدت في دراستي هذه على المنهجين الوصفي والتحليلي عسى أن نضيف شيئًا جديدًا في العالم الشعري الواسع.
1- مدخل نظري:
أ- مفهوم المكان:
هو الموضع، ووردت هذه اللفظة في المعاجم اللغوية بمعانٍ ودلالاتٍ متقاربة، ويعني المكان الموضع والجمع وأمكنة وأماكن… وتقول العرب: "كن مكانك واقعد مقعدك، فقد دلّ هذا على أنه مصدر من كان أو موضع عنه"(2).
ووردت هذه المفردة من آيات الذكر الحكيم في سورة مريم "واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانًا شرقيا…"(3).
ويرى أفلاطون أن المكان المادي للأشياء الحاوي للأشياء(4).
أما المكان بالنسبة لعلماء الفلسفة العربيّة والإسلاميّة، فقد أشار "الكندي" للمكان وعرفه بأنه "التقاء أفقي المحيط والمحاط به"(5).
ووصفه "الحسن بن الهيثم" بأنه "هو الأبعاد"(6).
هذا مفهوم المكان من حيث اللغة.
أما المكان من حيث المفهوم الاصطلاحي، فقد عرّفه "عبد المالك مرتاض" بقول: "والخير من الألفاظ العربيّة القديمة الوارد ذكر بعضها في القرآن الكريم… وهو مصطلح لا يبرح غيرها ولا مجمع عليه"(7).
ويعرّفه "باشلار" فيقول: "إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكانًا لا مباليًا ذا أبعاد هندسية فحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط بل بكل ما في الخيال من تميز، إننا ننجذب نحوه لأنه يكثف الوجود في حدود تتسم بالحماية في كل الصور، لا تكون العلاقات متبادلة من الخارج والألفة متوازية"(8).
ولا شك أن "علاقة الإنسان بالمكان علاقة تأثير متبادل، فالإنسان يمارس فاعليته في المكان، بل ويغير في طبيعته في كثير من الأحيان، ثم يعود المكان فيمارس تأثيره على الإنسان في دورة لا تنتهي في التأثير المتبادل"(9).
وليست علاقة الإنسان بالمكان سهلة بل هي معقدة أحيانًا كثيرة، هناك بعض أمكنة يحبها الإنسان، وأمكنة أخرى يرفضها ولا يرغب فيها. "إن الإنسان طبقًا لحاجته –ينتعش في بعض الأماكن، ويذبل في بعضها، وقد تكون نفس الأماكن جاذبة أو طاردة"(10)ِ.
ويمثل المكان هوية الإنسان "والكيان الذي يحتوي خلاصة التفاعل بين الإنسان ومجتمعه"(11).
كما يمثل عند الشاعر محور العملية الإبداعية، وقد أصبح أكثر تناغمًا وفاعلية وهو "الفضاء الأمثل الذي تنهل منه عملية الإبداع لدى الشاعر تصوراتها وشعورها، وذلك عبر عملية التجادل بينه وبين الذات(12).
ولأن للمكان هذه الأهمية فقد عبّر عنه باشلار بقوله: "العمل الأدبي حين يفقد المكانية فهو يفقد خصوصيته وبالتالي أصالته(13).
إذًا، خلاصة القول، إنّ هوية الشّاعر ترتبط بالمكان، وهي بالتالي أصبحت تحدّد جزءًا من حياته، وهي النافذة التي يستطيع الشاعر والكاتب والراوي أن يتنفس منها، فعلاقة الإنسان بالمكان علاقة ذات جذور تاريخية، قديمة وجديدة ولا تتعلق بوطنٍ معين، أو مدينةٍ معينة، بل كل الأوطان أوطانه، وكل المدن مدنه، حيث يلاقي شغفه وحبّه ومعاناته.
ب- المستوى الأيديولوجي:
هو بناء القيم الأساسي الشامل الأدبي الذي يبرز من خلال مستويات القيم المختلفة التي تطرح فيه. وقد تحدّث "أوسنبسكي" عن هذه الأيديولوجية، وعرّفها بأنّها "منظومة قيم العامة لرؤية العالم ذهنيًا"(14). فكما لكل إنسان منظومة قيم في هذه الحياة، كذلك للمبدع سواء الراوي أو الكاتب أو الشاعر، فإنّه عندما يقوم بأي عمل لا بد أن يكون لديه منظومة قيم يطرحها ويدافع عنها.
وقد نرى أن أيديولوجيا الشّاعر تهيمن على نصوصه الشعرية، أو العكس فإنها تفسح مجالاً لأيديولوجيات أخرى متعدّدة ومتشعبة، متحاورة أو متنافسة كالقومية العربيّة، والماركسيّة، وغيرها.
ج- المستوى النفسي والاجتماعي:
المكان هو منطلق الشاعر، ومنتهاه، والتفاعل بين الشاعر والمكان وعلاقته به، علاقة عميقة الجذور، متشعبة الأبعاد، ومن خلال هذه العلاقة يستطيع الشاعر أن يعطي المكان طابعًا خاصًا.
فالنّصّ الشعري يحمل خصوصية ذاتية مفردة خاصة، وخصوصية جماعية يشترك فيها مع الجميع فيتأثّر ويؤثر، فجدلية الشاعر/ والمكان جدلية تتخطى الحدود المكانية، لتقفز إلى الأبعاد النفسية والتجربة المعاشة، والصيرورة الاجتماعية. والدلالة النفسية والاجتماعية من أهم الدلالات التي يسعى إليها الباحث، لاكتشافها عبر التحليل والقراءة المتأنية، وربطها بمخزون الشاعر النفسي والاجتماعي، من خلال نصوصه الشعرية.
د- المستوى الديني والتاريخي:
يمثل البعدان الديني والتاريخي، محطة مهمة في النصوص الشعرية المرتبطة بالمكان، ولا نقصد بالبعد التاريخي، أن يعود الشاعر بإعادة كتابة التاريخ، وأحداثه ووقائعه التاريخية، فهذا ليس عمله، إنّما يعيد قراءة هذا التاريخ والواقع من خلال رؤية فنيّة، وموقف ملتزم يعبّر فيه عن آرائه وأحاسيسه تجاه القضايا الكبرى. وهذا ما يتوجب فعله عند الشاعر الملتزم، فكلما تضاعفت أزمة الهوية التاريخية، وتعمق الإحساس بضياع الوطن، كلما كان همّ الشاعر أكبر ومسؤوليته أكثر للتعبير عن مواقفه ورفضه للواقع.
من هنا نرى أن الكثير من الأمكنة الجغرافية، لم تعد أمكنة عادية لأنّها تمثل لدى الشاعر البعدين الديني والتاريخي مثل: "القدس، وبيت لحم، وكربلاء… وغيرها".
فكل مكان له رمزيته التاريخية والدينية، وذاكرته الجماعية المرتبطة بفكر وعقيدة الأمة، ومن يمثل ذلك خير تمثيل سوى الشّاعر؟!.
ج-الناحية الإجرائية:
–تجربة نزار قباني مع المكان:
لقد كثرت الأمكنة في القصائد النزارية، وتعدّدت المدن والعواصم العربية في العديد من قصائده، وقد احتل المكان علامة فارقة في شعره، ولعب دورًا مهمًّا في التشكيل الجمالي لشعره. من هنا نرى أن الشاعر المعاصر أولى المكان اهتمامًا خاصًا "وقدّم المكان على الإنسان كما قدّمه أيضًا على الزمان، فهو في سيرته الذاتية لم يُعنَ بالإنسان قدر عنايته بالمكان. فكانت سيرته هي سيرة مكان، هي سيرة دمشق المكان وسيرة البيت فقط"(15).
لقد استطاع قباني أن يخرج المكان من فضائه الجغرافي، ويعطيه أبعادًا روحية ونفسية، وربما كان يعبر عن مواقفه السياسية أيضًا، فقد كانت كل العواصم العربية وطنه وتعبّر عن همومه وشجونه، لذلك لم يكن له وطن خاص فيقول:
"كل مدينة عربية هي أمي/ دمشق، بيروت، القاهرة، بغداد، الخرطوم، الدّار البيضاء/ بنغازي، تونس، عمّان، الرّياض، الكويت، الجزائر، أبوظبي/ وأخواتها… ولذلك لا أدخل مدينة عربيّة إلاّ وتنادي: /يا ولدي/ لا أطرق مدينة عربية/ إلاّ وأجد سرير طفولتي بانتظاري"(16).
من هنا نرى أهمية المكان عند نزار قباني، إذ جعل جميع العواصم العربية وطنه، وهموم الوطن العربي همومه.
ومن المدن الّتي أتى القباني على ذكرها أكثر من مرّة في دواوينه (دمشق) مسقط رأس الشاعر، فمن الطبيعي أن تكون علاقته مع هذه المدينة علاقة مميّزة، وحميمة حيث ولد وترعرع واشتمّ رائحة ياسمينها، ومشى في شوارعها العتيقة…
أمّا المدينة الثانية الّتي كانت الأحبّ على قلبه فهي (بيروت) حيث تناولها في أكثر من قصيدة، وكيف لا يحبها وقد عاش وتعايش مع أهلها فترةً طويلةً من الزمن.
والمدينة القضية (القدس) الّتي لن ينساها، ولن ينسى أجراسها وكنائسها، فعبّر عن همومه وهواجسه والأمل بالعودة إليها…
من هنا سوف ننتقي بعض القصائد الّتي تظهر أهمّية المكان وعلاقته النفسية والقومية مع الشاعر من خلال المدن الثلاث.
1- دمشق ودلالاتها النفسية:
تعد الدلالة النفسية من أهم الدلالات الّتي ترتبط بالمكان، لأنّ "الإحساس بالمكان إحساس له أصالته فهو هوية تاريخية ووطنية ونفسية"(17). إذ تمثّل دمشق بعدًا فضائيًّا من نوعٍ آخر لدى الشاعر، فهي مسقط رأسه، ومرتع طفولته وذكرياته بحلوها ومرّها. ويعدّ نزار قبّاني من أكثر الشّعراء الّذين استدعوا عاصمتهم، إذ استدعى (دمشق) أكثر من مائتي مرّة، وكان لحضورها حضور كبير في شعره.
دمشق تمثّل لنزار العالم بأكمله، العالم الجميل والساحر، حيث لا يوجد بجمال مدينته جمالاً، وقد كانت دمشق ملهمه الأول، فكانت تمثّل له الأم، والجمال، والحنين، والعروبة، والتمرّد…
فيقول في قصيدة "من مفكّرة عاشقٍ دمشقي":
-"فرشت فوق ثراك الطاهر الهدبا/ فيا دمشق، لماذا نبدأ العتبا؟/ حبيبتي أنت فاستلقي كأغنيّةٍ/ على ذراعي، ولا تستوضحي السّببا/ أنت النّساء جميعًا.. ما من امرأةٍ/ أحببت بعدك، إلاّ خلتها كذبا"(18).
نلاحظ في هذه القصيدة أن نزار أخرج دمشق من هويتها الجغرافية وأنسنها، حتى أضحت حبيبته الأولى والأخيرة، واختصر بحبّه لها جميع النّساء.
إننا نجد علاقة روحية ونفسية بين الشاعر ومدينة دمشق، قد بلغت مبلغًا عظيمًا حيث شبهها بحبيبته.
وفي موضع آخر يروي حنينه لدمشق بعد ابتعاده عنها لسنوات فيقول في قصيدة "خمس رسائل إلى أمي":
-مضى عامان… يا أمي/ ووجه دمشق/ عصفور يخربش في جوانحنا/ يغطّ على ستائرنا/ وينقرنا برفقٍ على أصابعنا/ مضى عامان يا أمي/ وليل دمشق/ وفلّ دمشق/ دورُ دمشق/ تسكن في خواطرنا/ مآذنها.. تضيء على مراكبنا/ كأن مآذن الأموي قد زرعت بداخلنا"(19).
لقد عبّر الشاعر عن حنانه لمدينته دمشق، فذكرها بكلّ تفاصيلها، وعصفور ينقر ذكريات الشاعر، فيستذكر، ليل دمشق، وبيوت دمشق، وفلّ دمشق… يذكر المآذن والجوامع إنه يستذكر دمشق بكلّ تفاصيلها.
ومن الملاحظ أن الشاعر قد استذكر دمشق أربع مرّات في القصيدة، وهذا التكرار إن دل على شيء فهو يدل على تعلّق الشاعر بمدينته، وحبّه لها. حتى باتت جزءًا لا يتجزّأ من جسده وذاكرته.
وفي قصيدة أخرى بعنوان "موّال دمشقي" يستذكر الشام وابتعاده عنها فيقول:
-لقد كتبنا.. وأرسلنا المراسيلا/ وقد بكينا وبللّنا المناديلا/ قل للّذين بأرض الشّام قد نزلوا/ قتيلكم لم يزل بالعشق مقتولا/ يا شام يا شامة الدنيا، ووردتها/ يامن بحسنك أوجعت الأزاميلا.(20)
ها هو يصرّح بعشقه الجنوني للشام، ويتحسّر بوجع وأنين ودموع ساكبة على فراقها، ويتمنى العودة إليها، وتأكيدًا لذلك يناديها مرتين وبإلحاح شديد، إن نفسية الشاعر حزينة وبائسة لفراقه الشام.
وفي قصيدة "أنا يا صديقي متعب بعروبتي" يذكر نزار دمشق سبع مرّات فيقول:
-قمرٌ دمشقيٌّ يسافر في دمي/ وبلابل وسنابل وقباب/ الفلُّ يبدأ من دمشق بياضه/ وبعطرها تتطيّب الأطياب/ والماء يبدأ من دمشق فحيثما/ أسندت رأسك جدول ينساب/ والحبّ يبدأ من دمشق فأهلنا/ عبدوا الجمال وذوبوه وذابوا/ والخيل تبدأ من دمشق مسارها/ وتشدّ للفتح الكبير ركاب/ والدّهر يبدأ من دمشق وعندها/ تبقى اللّغات وتحفظ الأنساب/ ودمشق تعطي للعروبة شكلها/ وبأرضها تتشكّل الأحقاب(21).
لقد أكثر من الرموز المكانية ذات البعد الدّلالي في هذه القصيدة، فالقمر له هوية ميثولوجيّة لدى العرب، إذ ترتبط ولادة القمر مع أحلام الفقراء وهو رمز للولادة، والحبّ والجمال… والبلابل توحي بالفرح، والسنابل، ترمز إلى الخير والعطاء، والقباب، ترمز إلى السمو والارتفاع، والإيمان، والفلّ إن رمز إلى شيء فهو يرمز إلى الجمال والنقاء، والماء والجداول، ترمز إلى الحياة فحيث يوجد الماء، توجد الحياة، والخيل والشّجاعة والفروسيّة تبدأ من دمشق، والعروبة كلّها دمشق.
لقد اختصر مدينة دمشق، بمدينة الحب، والجمال، والخير، والشّجاعة، والعروبة، وكأنّ دمشق آلهة من آلهة الحبّ والخصب، فمن دمشق تبدأ الحياة، ودونها تنتهي.
من هنا نرى أن دمشق كانت تمثّل لنزار الحبيبة والأم، والصديقة، والجمال، والخير، والعطاء…
ب- بيروت ومكانتها عند الشّاعر:
لم تكن بيروت مجرّد مدينة عربيّة لدى الشاعر، لكنّها كانت عشيقته، ومحظيته، والأحبّ إليه، إذ احتضنته كالأمّ الحنون، ولكن هذا العشق والهيام تغيّر وضاع بعد أن توفّيت زوجته "بلقيس" إثر تفجير السفارة العراقيّة في بيروت. ولم تكن "بلقيس" زوجةً عاديّةً لنزار، بل كانت معشوقته، وحبيبته، ومنها كان يستلهم الشّعر، والجمال، والغزل، فترك بيروت وغادر إلى باريس علّه ينسى زوجته الحبيبة.
ومن قصائده لبيروت قصيدة تحمل عنوان "إلى بيروت الأنثى مع الاعتذار":
-آه يا عشّاق بيروت القدامى/ هل وجدتم بعد بيروت البديلا؟/ إنّ بيروت هي الأنثى الّتي تمنح الخصب، وتعطينا الفصولا(22).
لم تمثّل بيروت مكانًا جغرافيًّا فقط بالنّسبة للشاعر، بل كانت امرأته التي فاض بها تغزلاً، فتارةً يعتب على العرب كيف نسوها وتركوها تتألّم، وتتخبّط بجراحها بعد نكبات الحرب الّتي ألمّت بها، فيعاتبهم على هجرانهم لها، وطورًا يرى فيها الأنثى الّتي تمثّل الخصب، وتمنح الحياة، وتعطيها رونقها الجميل.
وفي قصيدة أخرى عنوانها "بيروت محظيتكم.. بيروت حبيبتي" يعتذر من بيروت ويطلب السّماح:
-سامحينا.. إن تركناك تموتين وحيدة/ وتسلّلنا إلى خارج الغرفة نبكي كجنودٍ هاربين/ سامحينا../ آه كم كنّا قبيحين، وكنّا جبناء/ عندما بعناك، يا بيروت، في سوق الإماء/ آه.. يا بيروت/ يا صاحبة القلب الذّهب…(23)
هذه السّطور واضحة، للتّعبير عن مدى حبّ الشاعر لبيروت وتعلّقه بها، هي الواحة ودونها المدن صحراء، يعاتب العرب لتركهم بيروت، لتركهم تلك الجوهرة، صاحبة القلب الذّهبي، الّذي لا يتغيّر ولا يتبدّل مهما خانته الفصول.
وفي قصيدة "سبع رسائل ضائعة في بريد بيروت" يقول:
-آه يا بيروت.. يا أنثاي من بين ملايين النّساء/ يا رحيلاً برتقاليًّا على وردٍ.. وبرقوقٍ.. وماء../ يا طموحي –عندما أكتب أشعاري- لتقريب السّماء/ أيُّ أخبارٍ تريدين عن الحبّ.. وعنّي../ ومكاتيبي رمادٌ../ وأحاسيسي رماد..(24)
.
.
تعود بيروت لتظهر بمظهر الأنثى، الّتي اختارها من ملايين النّساء، فبيروت بالنّسبة لنزار هي ملهمته الشعرية، هي الورد والبرتقال، هي الماء، الّذي يمثّل الحياة، هي طموحه وآماله وأشعاره، هي المدينة الّتي تقرّب البعيد والمستحيل، هي حبّه ومن حناياها يغرف الحبّ، ولكن كيف له أن يكتب ويعشق، والحرب المدمّرة، قضت على أحاسيسه وأشعاره وأحلامه.
من هنا نرى أن بيروت أخرجت من هويتها الجغرافيّة وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من كيان الشاعر، يتقاسم وبيروت همومها وأحزانها وجراحاتها.
ج- فلسطين وبعداها التاريخي والديني:
لم تكن فلسطين ومدينتها القدس مكانًا جغرافيًّا عاديًّا عند الشاعر، بل كانت بالنسبة له من القضايا الرئيسية، لما تمثّله القدس من قداسة لدى الأديان السّماوية الثّلاثة، ولمكانتها الدينية والتاريخية في وجدان كل عربي شريف، فنظم فيها أجمل الأشعار، فالقدس جزء لا يتجزأ من الهوية والانتماء للأرض والعرب والعروبة.
ففي قصيدة "القدس" ينادي القباني القدس ست مرّات، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على ارتباط الشاعر النفسي والتاريخي والديني بالمدينة، فيقول:
-يا قدس. يا مدينة تفوح أنبياء/ يا أقصر الدّروب بين الأرض والسّماء/ يا قدس.. يا مدينةً تلتفّ بالسواد/ من يقرع الأجراس في كنيسة القيامة؟ يا قدس.. يا مدينة الأحزان/ يا قدس.. يا مدينتي/ يا قدس.. يا حبيبتي/ يا بلدي.. يا بلد السّلام والزّيتون.(25)
نلاحظ أن الشاعر ينادي القدس ويأنسنها، ويناديها بكثيرٍ من الحزن والألم، ترافقها المشاعر الجيّاشة. فالقدس لم ولن تكون يومًا مكانًا جغرافيًّا عاديًا بالنسبة للشاعر، بل هي أرض الطّهر والقداسة، أرض القيامة، أرض الأحزان، حتى إننا نلاحظ أن القدس جزء لا يتجزأ من كيان الشاعر، بعد مناداتها بـ(مدينتي/ حبيبتي) فياء الملكيّة أعطت بعدًا وجدانيًّا، يتمثّل بأن هذه المدينة المقدّسة هي مدينته ووجعها وجعه وحزنها حزنه، من هنا أخذت القدس بعدًا أيديولوجيًّا ودينيًّا وتاريخيًّا مع الشاعر.
وفي قصيدة "طريقٌ واحد" يستحضر الشاعر الكثير من الأمكنة الفلسطينية فيقول:
-يا أيّها الثّوار/ في القدس والخليل/ في بيسان والأغوار/ في بيت لحم حيث كنتم أيّها الأحرار/ تقدّموا/ تقدّموا/ فقصّة السّلام مسرحيّة/ والعدل مسرحيّة/ إلى فلسطين طريقٌ واحدٌ/ يمرّ من فوهة بندقيّة(26)
لقد استحضر الشاعر أمكنة مقدّسة ولها من الدّلالات التاريخية والدينية الأهمية الكبرى (فالقدس) هي أولى القبلتين و(بيت لحم) حيث ولد السيد المسيح، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على ارتباط الشاعر بهذين المكانين المقدّسين الّلذين يمثّلان له بعدًا دينيًّا وتاريخيًّا، يتعلّق بماضيه وحاضره ومستقبله.
وفي القصيدة عينها تحضر فلسطين مرّةً أخرى فيقول:
-إلى فلسطين خذوني معكم/ إلى ربىً حزينةٍ كوجه مجدليّه/ إلى القباب الخضر/ والحجارة النبيّه(27).
لم تعد فلسطين تمثّل للشاعر مكانًا جغرافيًّا، بل أصبحت تمثّل له بعدًا دينيًّا وروحيًّا، فلم تعد الرّبى مجرّد تلالٍ صغيرةٍ خضراء، بل أصبحت تمثّل وجهًا حزينًا هو وجه (مجدلية) بقداستها، والحجارة لم تعد حجارةً، بل أخذت بعدًا قدسيًّا، لأنّها تمثّل الثّورة والانتفاضة، والكرامة، فالحجارة أصبحت (نبيّة) مقدّسة.
ويستكمل في القصيدة عينها ويطلب هذه المرّة بإلحاح أن يعود إلى فلسطين فيقول:
-إلى فلسطين خذوني معكم، يا أيّها الرّجال/ أريد أن أعيش أو أموت كالرّجال/ أريد أن أنبت في ترابها.. زيتونةً أو حقل برتقال/ أو زهرةً شذيّه(28).
نلاحظ هنا كيف اتخذت فلسطين بعدًا حيويًّا في النّص، أو لنقل بعدًا حياتيًّا ومصيريًّا، يتمثّل (بالموت والحياة)، إنّه يريد أن يعيش بكرامة في فلسطين، أو يموت بشرف كموت الرّجال الأبطال، حيث لم تعد فلسطين دولة عاديّة، لها مكانتها الجغرافية على الخريطة، بل أصبحت تمثّل للشاعر بعدًا بطوليًّا يتمثّل بالرّجولة، والكرامة، والشّرف، والبطولة… وهذه الصّفات، صفات الرّجال الرّجال، خصوصًا (الرّجل الشّرقي). وبعد أن أخذت فلسطين هذا البعد البطولي، أضاف لها الشّاعر أبعادًا أخرى تتمثّل بالحياة، والبسمة والتفاؤل، إنه يريد العودة إلى فلسطين ليكون فيها راية سلامٍ خالدة وهو ما تمثّل (بالزّيتونة) وحقل البرتقال، ويريد أن يكون مصدرَ أملٍ من خلال (الزهرة الشذيّة) الّتي يفوح عطرها دومًا.
وهكذا نرى أن فلسطين، كانت تمثّل للشاعر أبعادًا تاريخيّة ودينيّة، ونفسيّة، فلم يعد المكان مكانًا جغرافيًّا بحتًا، بل أصبحت له دلالاتٌ أخرى تمثّلت وارتبطت بنفسيّة الشاعر وحبّه وارتباطه التاريخي والعقائدي للأمكنة.
خلاصة البحث:
لم يكن المكان حدثًا طارئًا أو عاديًّا بالنّسبة للشاعر نزار قبّاني، لكنّه كان يمثّل بعدًا عاطفيًّا وجدانيًّا، وتاريخيًّا، ودينيًّا، ونتيجة هذه الأبعاد، اكتسب المكان دلالة رمزية، بعدما شحنه الشاعر بمعانٍ ذاتيّة تعبّر عن أحاسيس الحبّ والوفاء والولاء للأمكنة المتمثّلة بحبّه لدمشق وعشقها له، وإخلاصه لبيروت ومكانتها عنده، وقدسيّته لفلسطين كلّ فلسطين مرورًا بالقدس، وبيت لحم، والخليل.. وغيرها، لذلك نرى أن القبّاني شخّص المكان والموجودات، وضخّ دماء الحياة فيه ليعبّر عن مدى حبّه لكلّ الدّول العربيّة، وليعلن عن رفضه لكل ما يحدث من انتهاكات بحق الأرض المسلوبة، والمغتصبة، كلّ ذلك عبّر عنه بلوحاتٍ حملت أبعادًا وأوجاعًا وهمومًا إنسانيّة راقية.
الهوامش:
1-خرفي محمد الصالح، جماليات المكان في الشعر الجزائري المعاصر، الجزائر، جامعة منتوري، 2006م.
2-ابن منظور، لسان العرب، م/113.
3-سورة مريم، الآية، 16.
4-عبد الرحمن البدوي، مدخل جديد إلى الفلسفة، ص312.
5-رسائل الكندي الفلسفيّة، تحقيق وإخراج د.محمد هادي أبو ريدة، ط الثانية، دار الفكر العربي1/167.
6-نعمة محمد ابراهيم، نظرية المكان في فلسفة الحسن بن الهيثم الطبيعية، مجلة الآداب المستنصرية، ص45/ ع12، 1985م.
7-عبد المالك مرتاض، نظرية النص الأدبي، دار هومة الجزائر، 2002م، ص296.
8-غاستون باشلار، تر. غالب هلسا، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط3، لبنان,1987م، ص31.
9-محمد السيد إسماعيل، بناء فضاء المكان في القصة العربية القصيرة، دولة الإمارات العربية المتحدة، دائرة الثقافة والإعلام، 2002م، ص87.
10-يوري لوثمان، مشكلة المكان الفني، تر.سيزا قاسم درزا، مجلة البلاغة المقارنة، القاهرة: الجامعة الأمريكية,1986م.
11-ياسين النصير، الرواية والمكان، دراسة في فن الرواية العراقية، بغداد، دار الحرية للطباعة، 1980م,ص16.
12-قادة عقاق، دلالة المدينة في الخطاب الشعري المعاصر، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 2001م، ص279.
13-غاستون باشلار، ص65.
14-ترجمة Uspenski، Apoetics of composition، v. zavarin and s. witig، Berkley، University of California، press,1973، p10.
15-شاكر النابلسي، الضوء واللعبة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1986م، ص97.
16-نزار قباني، الأعمال الشعرية الكاملة، ج2، منشورات نزار قباني، بيروت، ط4، نيسان (أبريل) 1986م، ص161-162.
17-أبو بشير بسام علي، جماليات المكان في رواية باب الساحة، مجلة الجامعة الإسلامية، جامعة الأقصى، غزة، المجلد15، العدد الثاني، ص267.
18-نزار قباني، ص417.
19-م. ن، ص129-130.
20-م. ن، 215.
21-م.ن، ص 216.
22-م. ن، ص627.
23-م. ن، ص 609.
24-م. ن، ص 607.
25-م. ن، ص 330.
26-م. ن، ص 328.
27-م. ن، ص329.
28-م.ن، ص 329.