العالم يصطرع حول ذاته. مافيات أممية ومافيات محلية تختلق الأزمات وتراكم أسبابها. مافيات الصناعة العسكرية والمال المرتزق والسياسة الرخيصة والتديّن العنصري جميعها وغيرها يوفران المناخ المتفجر لعالم يتدحرج إلى المحرقة مجدداً، وعبثاً نسمع صوتاً عاقلاً هادياً يقول للهائمين في أوهامهم: هذا الحق وهذه الحياة.. من هنا الخلاص!
مخضرم، ككّل الكبار، يتخذ المنهج كعلم، أساساً لانطلاقته وعمله ورؤيته، أما الأشخاص مهما عظموا فيبقون أشخاصاً يصيبون ويخطئون، بلا عصمة. من الماركسية بتنوّر ينفتح على العروبة، بتجاوز التقليدي من الأفكار، ومنها يبحث في الحاضنة المشرقية الإسلامية التاريخية، متطلّعاً إلى عالم لا مفرّ له من العدل والديمقراطية والمشاركة ليتفهّم أزماته ويسبر هوّياته ويحيطها باعتراف محبّ وآمن. بجرأة عارفة يقول ليس كل ما قاله ماركس صحيحاً. ليس ما يقوله الأفراد دائماً حقيقة. المهم هو المنهج!
أين نحن الآن، في أي مستنقع نخوض بالدم والفوضى العقيمة، نتفتت. نتناحر. وتحيط بنا أطلال بداوة وحداثة في آن تتكالب علينا. تتناثر دولنا. تنتهك بلادنا وينحر إنساننا. بينما العالم يستفتي وينتخب ويسالم. إلاّ عندنا يقتل ونقتل. كفى قتلاً باسم الله وباسم الأمة وباسم المستقبل؟؟
أسئلة جوهرية مصيرية خاض فيها المفكر والأكاديمي العراقي عبدالحسين شعبان في حوار في السياسة والهوّية والأزمة المشرقية والخلاص الوطني والقومي لـ"تحولات مشرقية". هنا نصه..
برأيكم ما الهوّية؟
أحصى أحد المفكرين أكثر من 230 هوّية دينية وإثنية وسلالية، بما فيها هوّيات مصغرة جداً. وهذا التناثر كان يسهم في توليد سؤال مستمر: ما هي عناصر الهوّية الرئيسية؟ هل الهوّيات معطى سرمدياً غير قابل للإضافة والحذف أم أنها هوّية مفتوحة وليست مغلقة؟ صحيح أن هناك عناصر أساسية للهوّية المفتوحة ذات ثبات نسبي كبير، لكنها في الوقت ذاته قابلة للتطوير بتلاقحها مع الهوّيات الأخرى، وبرفد العناصر الأخرى للهوّية، مثلاً أنا اعتبر أن اللغة والدين، إلى حدود غير قليلة، من هذه العناصر الأساسية لتشكيل هوّية ما ومن مرتكزاتها الرئيسة، لكنني لا أستطيع أن أهمل العادات والتقاليد والفنون ونمط الحياة، فهذه مؤثرة إلى حدود غير قليلة في تكوين الهوّية، ففي تشكيل الهوّية تُضاف عناصر العادات والتقاليد وغيرها إلى عنصري اللغة والدين. فعادات وتقاليد الأجداد لم تكن كما هي عاداتنا وتقاليدنا وفنوننا اليوم، بل كانت مختلفة عنها، وأظنّ أن الإمام علي هو القائل "لا تعلّموا أولادك عاداتكم لأنهم خلقوا لزمان غير زمانكم".
هنا تبرز أهمية توظيف التراث في قراءة صيرورة التطور والحداثة. وهذه الأهمية عالية وملحّة. وهناك مَن يعتقد أن الهوّية استاتيكية (جامدة) ثابتة، لا يمكنها أن تتطوّر، في حين إن الهوّية هي تعبير عن تطور طبيعي لا يمكن اصطناعها بمجرد افتراضها، في الحالة الأولى ستكون منغلقة، وفي الحالة الثانية ستكون متحلّلة، في حين إن الهوّية مفتوحة وتحدث عليها تغييرات تدرّجية تؤدي بالتراكم إلى إحداث تغيير نوعي مختلف عن الاعتقادات السابقة، وذلك بحد ذاته قيمة إنسانية حقيقية، لأن الهوّية القابلة على استيعاب التطورات ومنفتحة للتغييرات ولاسيّما الإيجابية، تكون أكثر انسجاماً وتواؤماً مع سمة العصر ومع منطق الحياة والتغيير.
في مواجهة الهوّيات المفترضة والمدعاة بكثرة لأسباب فئوية أو عرقية أو طائفية… ما الصحيح برأيك؟
الصحيح هو لأن هناك تداخلاً وتراكباً بين هوّيات عدة عند كل فرد منّا، الهوّية ليست واحدة لدى كل واحد منّا. أولاً لقناعته في هوّيته من جهة، ولمدى تمثّله هذه الهوّية من جهة أخرى. تُضاف إليهما زاوية النظر إلى تلك الهوية. والمثل العملي لذلك هو ما فحصه الكاتب والروائي اللبناني أمين معلوف بخصوص مفهوم الهوّية، فوجد أن هناك هوّيات قاتلة عنوَن بها كتابه المعروف. واعتبر معلوف أن لكل فرد منّا أكثر من هوّية. فمعلوف كان عربياً، مسيحياً، فرنكوفونياً وثقافته العامة هي جزء من الثقافة العربية الإسلامية المشرقية التي لا يستطيع الخروج منها.
وهذا ما ينطبع دائماً في التكوين الأساسي للهوّيات العامة. فلديه ولدى كل فرد هوّية خصوصية، وعليه وعلى كل فرد أن يتمسّك بهوّيته الخصوصية، لكن الهوّية الخصوصية ليست هوّية انغلاقية، ولا ينبغي أن تكون في تعارض مع الهوّية العامة، كما إن على هذه الأخيرة احترام الهوّيات الفرعية والتعاطي معها من موقع المساواة والتكافؤ، مهما كان حجمها وعدد أفرادها، طالما تمثل كيانية خاصة ومستقلة، ويمكن أن تكون متفاعلة مع الهوّية العامة لشعب أو أمة أو جماعة.
هكذا، هل تكوّن الهوّية متفاعلة؟
بالتأكيد هناك هوّية متفاعلة وهناك هوّيات ذات طابع انعزالي لا تتأثر كثيراً بما حولها، لكن هذه الأخيرة هي الأخرى تحصل عليها تغييرات وقد تكون عاصفة إذا لم تستجب لسمة التطور الحضاري والإنساني. ويقابل ذلك محاولات محو الحدود بين الهوّيات بزعم تسيّد الهوّية العامة المشتركة، حيث لا ضفاف أو حدود لها، وبالطبع سيكون ذلك على حساب الهوّيات الفرعية فتفقد هذه الأخيرة دلالتها وكينونتها وخاصيتها، وتسبّب ردود أفعال أحياناً ضدها وضد المشتركات الإنسانية، وأحياناً يبرز التناقض من خلال التمسّك والانغلاق على الذات ووضع حواجز أمام التفاعل مع الهوّيات الأخرى. وكان المفكر والباحث اللبناني وجيه كوثراني قد ألّف كتاباً مهماً بعنوان "الهوّيات الفائضة والمواطنة المنقوصة".
الهوّية يمكن أن تشكّل جوهر فكرة المواطنة إن تجلّت بعناصر أساسية أربعة هي: الحرية، فلا مواطنة من دون حرية، والحرية شرط في المواطنة ولها، وستبقى المواطنة ناقصة ومبتورة من دون حرية.
المساواة، فلا مواطنة من دون مساواة. وتنقص المواطنة إذا لم تتحقق المساواة بين أبناء الشعب الواحد، أي إنها ستكون مواطنة مبتورة أو مشوّهة. والمقصود بالمساواة ليس أمام القانون فحسب، بل في الجانب الاجتماعي والاقتصادي والوظيفي والتعليمي والديني وغير ذلك.
العدالة، فلا مواطنة من دون العدالة، وبخاصة العدالة الاجتماعية. إذ كيف يمكنك أن تدافع عن وطنك إذا لم يمنحك المساوة والعدالة، بل يمنحك على الأقل شيئاً منها في عيش كريم. فإذا لم تكن متمتعاً بالحد الأدنى من هذه الحقوق، فستتعرض مواطنتك للاهتزاز والانثلام، بل وللضياع أحياناً، ويستطيع الآخرون أحياناً العبث بها وتوظيفها باتجاه ضار وخاطئ.
أما المشاركة فهي الشرط الرابع للمواطنة، التي لا تقوم من دون وجود شعب تحققت فيه مشاركة بين أفراده في وجوه الحياة المختلفة، لاسيّما المشاركة في إدارة الشؤون العامة، وعدم التمييز في تولّي الوظائف الحكومية العليا.
ويلعب عنصر اللغة، دوراً مهماً في تشكيل الهوّية، كعنصر ثابت فيها، لكنه إلى جانب ثباته فهو في حركة داخلية وبينية مع باقي العناصر في التشكيل نفسه. باللغة تستطيع أن تعبّر عن حقائق معينة، باللغة تجسّد وتتمثّل حقائق معينة، وبإضافتنا عنصر الدين إليها نكون أمام هوّية فاعلة وديناميكية.
وبهذا المعنى كلّما انتقصت من موضوع المواطنة ستمارس ضغطاً على الحرّية، فمثلاً مصطلح "الأقليات"، هو مصطلح ينمّ عن استعلاء وتسيّد ويفترض انتقاصاً من الحقوق، لذلك أرفضه، وأفضل بدلاً عنه المجاميع التعددية التنوعية أو المجموعات الثقافية الدينية والإثنية والسلالية واللغوية وغيرها، لأن مصطلح الأقلية، ومثله الأغلبية، فيه انتقاص من وحدة الحياة الحقوقية للمجتمع ومن مبدأ المساواة وبالتالي من المواطنة المتكافئة، فلا يمكن أن تقيس الجماعات بالكمّ سواء أكانت أقلية أم أغلبية.
إن مصطلح الأقلية والأغلبية يمكن انطباقه على الجماعات السياسية ومعادلاتها وليس على الجماعات الدينية والإثنية واللغوية والثقافية، فإن مسيحياً واحداً يوازي كل المسلمين في الأرض، لأنه يعبّر عن حالة دينية، وهو المعادل النوعي لأديان الأرض كلّها، الأمر نفسه في حالة كل منتم إلى دين آخر أو من أتباع ديانة أو قومية أو لغة أو سلالة أخرى وهذه نقطة لا يجوز إهمالها قط.
في تعريفك الهوّية أخذت الجانب الثقافي منها بما يتمثل باللغة والدين، ألا ترى أن للهوّية أيضاً جسداً تنسجه الأرض والجماعة البشرية، فالأرض بيئات ومناطق متنوعة وأثبت علم الاجتماع تباين تأثير تنوّعها في المستقرّين فيها فتتنوّع هوياتهم؟
المكان يمكن أن يؤثر في الهوّية، لكنه لا يوفّر الطابع العام لهذه الهوّية. فإن عشت في بيئة جبلية كردية فأنت جبلي، وكذلك إذا عشت في بيئة جبلية عربية فأنت جبلي لبناني كذلك، فالجبلية مندغمة في هوّيتين مختلفتين. بهذا المعنى قد لا تكون الجبلية عنصراً من هوّيتك العامة. الجبلية هي خصوصية مكانية تتعلق بوجودك الأرضي.
الجانب الثقافي في الهوّية هو الأكثر رسوخاً مما نقصده من مفهومنا للهوّية. بهذا المعنى تكون الهوّية هي هذا النتاج وهذه الصيرورة المتعدّدة والمتنوّعة سواءً أكانت هوّية كبرى أو هوّية صغرى، أو هوّية عامة أو هوّية خاصة، أو هوّيات شاملة أو هوّيات أشمل، أو هوّية محلية أو هوّية وطنية، يمكن تسميتها كما تشاء، لكن في إطار هذا التفاعل والتناغم تنشأ وتتبلور المواطنة، وهي اللبّ من كل هوّية. قوميات أو أديان أو لغات أو سلالات لا يتم الاعتراف فيها ستتشكل لديها هوّية خاصة دفاعية ضد الهوّيات التي تحاول أن تتسيّد عليها.
بالعودة إلى الماركسية، يقول ماركس: لا يمكن لشعب يضطهد شعباً آخر أن يكون حراً. لم يقل فئة أو مجموعة بل قال شعباً، ويعني أن هناك شعوراً قومياً ما لدى شعب ما بالتسيّد على مجموعة بشرية سكانية لها خصوصيتها، أي أنها ذات هوّية خاصة، وهو الأمر الذي لا بدّ أن يؤخذ بنظر الاعتبار في الصراع العربي- الإسرائيلي، ومحاولة "إسرائيل" هدر حقوق الشعب العربي الفلسطيني ليس من خلال عدم الاعتراف بحقوقه فحسب، بل تدمير كامل منظومة حقوق الإنسان التي تخصّه، إضافة إلى السعي لمحو تراثه وثقافته وحضارته، سواء بتزوير التاريخ أو محاولة تزييف أحداثه، ناهيكم عن رفض وجوده واستمراره حتى داخل دولة إسرائيل العنصرية، التي يُراد لها أن تكون نقية، أي يهودية، وإلاّ لا مكان لوجود شعب آخر، حتى وإن كان من سكان البلاد الأصليين، وهو ما روّجت لها الصهيونية منذ مؤتمر بال في سويسرا العام 1897 حين دعت لقيام دولة لليهود.
جدل الاضطهاد والعبودية والسيادة
المضطهَد والمضطهِد يفتقدان الحرية والتمرّس بها، معادلة تذكّرنا بعلاقة العبودية المتبادلة بين السيّد والعبد؟
سؤالك جميل. المضطهَد يعاني من الاستلاب وتُهضَم حقوقه كالذي يمارس العنف تماماً، فيعاني من عملية استلاب من نوع آخر. كعلاقة السيّد بالعبد، وعلاقة الضحيّة بالجلاد، كلاهما ضحية عنف. المعنِّف يفقد إنسانيته وحريته وصيرورته الطبيعية عندما يضطهد الآخر وعندما يقمعه. والمعنَّف بدوره أي متلقي العنف يشعر بالاستلاب بتلقيّه العنف من الآخر فيهدّد حقوقه وهوّيته وخصائصه وبكل ما يشعره أنه كائن بشري متميّز عن غيره بالدين وباللغة أو بالكثير من جوانب حياته وطريقة عيشه التي ليست جوهرية بحد ذاتها، لكنها في حالة ما قد تشكّل خاصية ما لهوّية متميّزة.
هكذا فإن الاحتكاكات والنزاعات القومية والدينية كانت نتيجة للهوّية والتمسك بها أو رغبة في الهيمنة والتسيّد على الهوّيات الأخرى. مثلاً أوروبا هناك حوالى عشرين بلداً فيها تعاني من مشكلة هوّية قومية.
وبالعودة إلى سؤال آخر متداخل مع سؤالك هذا، أقول ليس تأمين المواطنة وحده يشكّل سبباً لتشكيل هوّية أو تعايش بين الهوّيات. فهناك الخصائص الذاتية لأي جماعة، أكانت شعباً أم أمة أم ديناً أم فئة أم طائفة أم مذهباً أم لغة، فتشكّل خصيصة مميزة لها تشمل كلّ أفرادها، وتشكل هوّيتهم الغالبة المميزة لهم.
وهنا تحضرنا أمثلة عدة منها: الاتحاد السوفياتي السابق انقسم 15 دولة لكل منها كيانها (الدولة – الأمة). ويوغوسلافيا انقسمت إلى ستة كيانات آخرها كوسوفو. وتشيكوسلوفاكيا انقسمت إلى كيانين (جمهورية التشيك وجمهورية سلوفاكيا) وإن كان انقسامها مخملياً بعد سنوات ضمن فدرالية ما متفق عليها، بينما الانقسامات الأخرى كانت أكثر حدّة ودموية.
وبلجيكا تشهد صراعاً بين الوالانيين (الفرانكفونيين الذين يشكّلون 4 مليون نسمة) وبين الفلامانيين (الذين يؤلفون 6 مليون) على الثروة والخصائص والقرار أي إن الهوّية هي السبب الأهم والأكبر في الرغبة الانفصالية، علماً بأن بلد فيدرالي وحقوق المواطنة والمساواة مكفولة. وإذا كانت بلجيكا تعتبر من الأنظمة الديمقراطية والفيدرالية وتشهد توزيعاً للسلطات ورقابة ومشاركة، ولكن الشعور بالخصوصية والهوّية المتميّزة يضغط على الطرفين الافتراق.
الفارق بين افتراقهم وافتراقنا أن افتراقهم سلميّ عادة، ولا يخلو من نماذج عنفية كالتي ذكرناها، بينما افتراقنا عنفيّ عادة بعدما نستنفد آخر إطلاقة على بعضنا لنتأكد بعد حين أن علينا إبرام الطلاق. والطلاق أبغض الحلال عند الله..
قومية استعلائية شوفينية مقابل انعزالية وضيق أفق وانكفاء
هكذا واقع الطلاق فردياً… وهل كذكلك واقعه بين الجماعات؟
الطلاق يبقى أبغض الحلال عند الله كما يُقال وهو كذلك بين الأمم والشعوب والجماعات ، فعندما يصبح التعايش مستحيلاً لا بدّ من الطلاق وإلاّ سيعني استمرار الحرب والدمار والقتل. خذ مثلاً نموذج السودان من العام 1956 استقلّت البلاد وظلّت منشغلة بحرب داخلية حتى العام 2010 بحرب أهلية أكلت الأخضر واليابس، وفي هذا العام حصل الانفصال بين الشمال والجنوب بعد استنزاف موارد البلد وإمكانياته وتنميته وطاقاته وشبابه وتعطيل إمكانية الديموقراطية والإصلاحات وقيام دولة يمكنها التقدّم لو اختارت طريقاً آخر غير طريق الاحتراب. وكان الانقسام عبر استفتاء شعبي حصل بموجبه الجنوبيون على تاييد أكثر من 98%.
النموذج الكردي كذلك هو نموذج خطير ومهمّ ولا يمكننا إغفاله في فحص مفهوم الهوّية. بدأ هذا النموذج يتفاعل مع الدولة العراقية منذ تأسيسها في العام 1921. وكانت معاهدة سيفر المعقودة في العام 1920 قد اعترفت بموجبها تركيا والحلفاء بجزء من حقوق الأكراد، ولاحقاً جرت مساومة بين الحلفاء وتركيا في إطار معاهدة لوزان العام 1923، أدّت إلى التنكّر لحقوق الأكراد فيها. فبقيت المشكلة متفاعلة داخل دول المنطقة وتدفع أثمانها. وهكذا توجد مشاكل كردية في كل من تركيا وإيران والعراق وسوريا.
في العراق اقترب الحل للمشكلة بأسباب نضج حركة اليسار والتمسّك بالشعارات العقلانية وحسن التفاعل بين القوى اليسارية العراقية والقوى القومية الكردية، وهذه الأوضاع ساعدت على تطوّر وضع الحركة الكردية فتم تبنّي شعارات ذات شكل ديمقراطي بخصوص المسألة القومية، وحلّ القضية الكردية كجزء من حلّ مشكلة الديمقراطية، إضافة إلى الجانب القومي الكردي وإن كانت هناك افتراقات ومفارقات وتداخلات بعضها لا يخلو من اختراقات خارجية.
لقد مارس الجانب العربي في العراق سياسة شوفينية واستعلائية وتعصبية تجاه المسألة الكردية حتى وإن كان ذلك من حكام معزولين واستبداديين، لكن الأمر انعكس على طابع الدولة وكان هناك بعض دعاة القومية من قال إن هؤلاء "الأكراد هم عرب سكنوا الجبال فتغيّرت لغتهم". المقولة نفسها أطلقها قوميون ترك بأن "الأكراد تركٌ سكنوا الجنوب فتغيّرت لغتهم". هذه نماذج من العقلية الاستعلائية القومية التي في مقابلها نشأ وتولّد ضيق أفق قومي كردي لدى بعض الأوساط والجهات، حيث تمادّى في انعزالية قومية كردية تمّت ترجمتها بالدعوة إلى الكراهية والانفصال في العلاقة بين كل من الكرد من جهة ومن العرب والترك والفرس من جهة أخرى، وفي إيران فإن المسألة الكردية ظلّت في الأدراج بعد قيام جمهورية ماهاباد العام 1946 ومن ثم القضاء عليها، وبعد الثورة الإيرانية العام 1979 أخذ الحديث عن حل المسألة الكردية يتناول موضوع المساواة في المواطنة على أساس الدين الواحد، إضافة إلى بعض الجوانب الثقافية التي بدأت صفحات جديدة لكرد إيران، لكن المسألة الكردية لم تحسم في كل بلدان المنطقة حتى الآن، ولا أظن أن حسماً سريعاً سيكون لها دون الإقرار بمبادئ حق تقرير المصير وإعادة رسم العلاقة الأخوية على نحو جديد ومتكافئ.
في العراق بعد جهد جهيد وحروب متواصلة، تمّ اعتبار الأكراد شركاء في الوطن العراقي وأقرّت لهم حقوق في الدستور العراقي العام 1958، ولكن الحرب عادت واندلعت العام 1961 واستمرّت ردحاً طويلاً. ومع إطلاق بيان 11 آذار 1970 تم الاتفاق على دستور جديد أكثر تقدماً في الحقوق القومية والاجتماعية، فنصّ على أن العراق يتألف من قوميتين هما القومية العربية والقومية الكردية، وأن لكل منهما حقوقاً وواجبات متساوية.
لكن العبرة ليست في النصوص الدستورية بل في تطبيقها العملي. وعلى أساس الدستور الجديد 1970 تمّ تشريع الحكم الذاتي وباشرت هيئاته العام 1974، ولكن بعد حين اندلع القتال مجدداً وتنكّرت الحكومة العراقية لوعودها فانساقت بعض القوى الكردية وراء دعوات مصدرها الخارج بزعم دعم الأكراد، خصوصاً من جانب شاه إيران وبعض القوى الدولية، وهو عبّر عنه بمرارة الزعيم الكردي الكبير الملاّ مصطفى البارزاني بعد انهيار الحركة القومية الكردية بعد اتفاقية الجزائر العام 1975، وكانت الحقيقة المرّة هي إضعاف العراق كلّه وتفتيته والإضرار بدوره في مواجهة العدو الإسرائيلي. واستمرّ الوضع على ما هو عليه خلال الحرب العراقية – الإيرانية غير المبررة على الإطلاق.
في هذه الحرب 1980-1988 جرى الحديث عن هوّيات ملفقة، كقول غربيين إن الحرب هي بين عرب وفرس ، أو بين سنة وشيعة بسبب المذهب الذي تنتمي إليه كل من القيادتين. وقيل أيضاً إنه صراع بين دولتين نفطيتين. وذلك بهدف طمس الصراع الحقيقي ضد الوجود الإسرائيلي. وهو صراع تناحري لا يمكن حلّه إلا بإنصاف الشعب الفلسطيني بحقوقه الكاملة وحقه في تقرير مصيره وإقامة دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس، والتصدي للصهيونية العقيدة السياسية لدولة إسرائيل باعتبارها خطراً على الإنسانية، لأن إسرائيل بطبيعتها عنصرية إحلالية إلغائية تمييزية استعلائية. هذا الصراع هو صراع من نوع آخر بين هوّيات قومية.
في النموذج السوداني نلاحظ تصاعدت مطالبة الانفصال الجنوبي تزامناً مع وصول التيار الإسلامي إلى الحكم الداعي لتطبيق الشريعة الإسلامية، هل الانفصال قدر السودان لو حكمه تيار مدني؟
مع انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي بدأ شكل جديد من الصراع الفكري والايديولوجي يأخذ مداه. كان هذا الصراع كامناً وموجوداً لكنه انفجر بعد سقوط الكتلة الاشتراكية بسبب تغيير وصف الصراع والعدو، باستبدال الشيوعية بالإسلام. فاعتبر فرنسيس فوكوياما وبعده صموئيل هنتنغتون وبخاصة في مرحلة ما بعد الهجوم على مركز التجارة الدولية في 11 أيلول/ سبتمبر العام 2001، وهو ما عبّر عنه بيان المثقفين الأميركيين الستين الشبيه ببلاغ حربي. إن الصراع حسب نظرية هنتنغتون وفوكوياما هو صراع حضارات وأنه نهاية التاريخ. على الجميع الذين يريدون الدخول في مسار التاريخ أن يتخلّوا عن أديانهم ومعتقداتهم وهوّياتهم وينخرطوا في الليبرالية الظافرة، أي الليبرالية الجديدة والقبول بالاستتباع والخضوع لهيمنتها كاملة أي إلغاء الخصوصيات والهوّيات. هذا أمر مهم التوقف عنده.
من وجهة جيوبوليتيكية، تطوّر الصراع في السودان كتطور الصراع في المسألة الكردية كما ذكرنا، وفي سؤال لي مع الرئيس عمر البشير في العام 2000 في حوار تلفزيوني مباشر، قلت له: لقد فشلت الحكومات العسكرية جميعها في القضاء على الحركة الجنوبية في السودان، – بينما تسميتها في السودان هي الحركة الانفصالية وتسمية الحركة الكردية في العراق هي الجيب العميل، أو العصاة أو الانفصاليون، كما أن الحركة الجنوبية فشلت في تحقيق أهدافها بالوسائل الحربية والعسكرية، هل تفكّرون في مبادرة جديدة فيدرالية، على سبيل المثال ؟ قال لي: نحن مع هذه الفيدرالية حتى لو أدت إلى الانفصال. وكان الانفصال لم يحدث بعد، كما هو معلوم. لكن الأوان كان قد فات. حصلت اتفاقية نيباشا، وقبلها وبعدها تحققت اتفاقيات عدة، ولكن انعدام الثقة والفقر والتهميش مما تعرّض له الجنوبيون جعل العيش المشترك مستحيلاً.
في المحصّلة تدمير متبادل، وبالأخص للحركة الجنوبية السودانية، فهناك أكثر من ربع مليون إنسان دون خط الفقر، و 750 الف نازح، 320 الف لاجئ، نصف الجنوبيين السودانيين هم خارج أدنى مستويات العيش، أي خارج الحياة.
خشيتي أن نصل إلى هذا الوضع في العراق وفي سوريا وقد نصل إليه أيضاً في تركيا وإيران في المستقبل. هكذا مع استحالة العيش المشترك تصعد الهوّية الخصوصية إلى أعلى مستوى حتى لو أدت إلى التدمير، فلا يمكنك أن تقول لمن هو ضحية التهميش والإقصاء ويعاني السحق: توقّف لأن هناك طريقاً آخر أقل كلفة وأجدى.
هذه المآسي لا يمكننا أن نغفلها ولا بدّ أن نحسب لها حساباً، فلو أمّنت الحكومات حقوق الجماعات في وقت مبكر وعدلت في تطبيقها لكانت اختصرت الطريق إلى سلامها الوطني والذاتي. وكانت وفّرت على نفسها وعلى المتمرّدين أو أصحاب الحقوق الخسائر التي لا تحصى أكانت منظورة أو غير منظورة، فهكذا عُطِّلت التنمية والديمقراطية.
كانت التنمية والديمقراطية مؤجلتان باستمرار بدعوى العدو على الأبواب، فلا ردّ العدو ولا تحقق الإصلاح..
حكوماتنا العربية قايضتنا طيلة 67 عاماً على التنمية والديمقراطية بحجة أن العدو يدقّ على الأبواب، وأن التحرير قاب قوسين أو أدنى، ولا شيء يتقدّم على هذا الاستحقاق، كما لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وبعد نحو 7 عقود من الزمان استبيحت الأرض خلالها ولا تزال في حوزة المحتلّ وما بقي تمت قصقصته بمقص الخياط وفق خرائط وضعت بين حي وحي وبين بيت وبيت وبين شارع وشارع، والأدهى أن بلداننا يتم تقسيمها مجدداً، لدرجة إننا أخذنا نعتبر سايكس بيكو الأولى وحدودها بمنزلة التقديس، لخشيتنا على الدولة الوطنية، على الرغم من ملاحظاتنا الكثيرة عليها، ناهيكم عن خوفنا من التشظي والتفتيت.
كيف يتم حل مسألة الهوّية دولياً؟
نلاحظ تطور مسألة الهوّية دولياً أن تيمور الشرقية انبعثت فيها الهوّية بعد الانسحاب البرتغالي، فوضعت إندونيسيا يدها عليها، فاحتجّ الشعب، إلى أن قرّر مجلس الأمن الدولي، وهذه لأول مرة، أن حكماً انتقالياً لا بدّ أن يحصل في تيمور الشرقية. واضطرت إندونيسيا أن توافق. كذلك نموذج كوسوفو التي أصبحت جزءاً من صربيا، فجرى ابتلاع الهوّية بخاصة في المناطق ذات الامتدادات الدينية والألبانية. فأعلنت كوسوفو الانفصال من طرف واحد وذهبت لمحكمة العدل الدولية فأعطتها رأياً استشارياً بالموافقة على الانفصال لحفظ هوّيتها التي لا تتعارض مع القانون الدولي، وهذا القانون بدوره ليس عقبة أمامها.
بينما في بريطانيا فقد جرى منذ أشهر استفتاء الشعب الاسكوتلندي بالانفصال أم بعدمه، فقرّر البقاء موحداً ضمن اتحاد بريطاني. ورغب الكاتالونيون في إقليم كاتالونيا الأسباني أن يجرى استفتاء حول انفصالهم، فقالت المحكمة الدستورية العليا في أسبانيا إن هذا يتعارض مع الدستور، فرغم تمسّكهم بحقوقهم ومعرفتهم بامتياز وأهمية إقليمهم الذي تشكّل برشلونة عاصمته، قبلوا بالقرار ولم يقدموا على ما يعارضه واحترامهم للدستور، مع استمرارهم بالمطالبة بالاستقلال.
كذلك الحالة في إقليم كيبك في كندا وفي جنوب فرنسا وفي جنوب إيطاليا. هناك عشرون قضية تتعلق بالأقلّيات في أوروبا هي في حراك وتفاعل ومطروحة للنقاش والبحث لكنها لم تبلغ حالة عنفية كما تبلغ عندنا مسألة الهوّية بسبب الاستلاب الطويل الأمد والمعتق.
يجب إعادة قراءة تراثنا اللاّعنفي
لماذا العنف في سلوكنا وهل يمكن ترشيده؟
أولاً يجب إعادة قراءة تراثنا اللاّعنفي لاكتشاف الجوانب اللاّعنفية فيه. القرآن مثلاً فإن الكثير من المتشردين والمتعصبين تراهم يتشبثون بآيات السيف والعقاب التي تتقدم لديهم على ما سواها، ويهملون أو لا يكترثون بآيات السلام والإخاء. هذه قراءة مبتسرة للقرآن. فداعش مثلاً تقدّم قراءة جديد للقرآن، مثلاً يقول إن النساء والأطفال الذين بلغوا 9 سنوات وما فوق، هم مكلفون شرعياً ويتحقق استحقاقهم الشرعي. من كلفات هذا الاستحقاق هو الانخراط في القتال للدفاع عن الخلافة. جهاد النكاح ليس هزلاً وليس نكتة، بل هو نظام ما مستند إلى قراءة جديدة أو قديمة "مجددة" توظف فيها أحاديث وفتاوى كثيرة جداً من شيوخ هم الأقل معرفة والأكثر غلوّاً وتطرّفاً. ولكنهم موجودون وربما كثرة.
ثانياً بناء أنظمة تتوجّه نحو الديمقراطية وتعتمد على المواطنة ويمكنها حلّ خلافاتها سلمياً مستقبلاً، وذلك ضمن قواعد عقد اجتماعي وسياسي جديد يتم الاتفاق عليه باعتباره ناظماً للعلاقة بين الفرد والدولة وبين المجتمع والدولة.
ثالثاً رفع مستوى الحياة المعيشية وتأمين مستلزمات حياة لائقة، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى تجفيف البيئة التي تشجع على العنف كالتخلف والفقر والبطالة والجهل. بالإضافة إلى التعصّب في قراءة النص الديني والتطرّف في تطبيقه خارج نطاق الدولة وقوانينها، والأمر يقتضي إعادة النظر في التربية السائدة في المجتمع والتربية المدرسية التقليدية التي تستند في غالبيتها على تقليد العنف، بخاصة في النظر إلى ما يقوله الفقيه وقيمته التطبيقية الاجتماعية. فالبعض يعتقد إن الفقيه يتحدّث باسم الله، في حين أن الفقيه إنسان يجتهد قد يخطئ وقد يصيب، وفي الكثير من الأحيان تكون ثقافته شحيحة ومحدودة وماضوية، ولا يفقه الكثير من علوم العصر وتقنياته.
وفي مقاومة العنف كان المبدأ الغاندي يقوم على اللاّعنف. بل أكثر من ذلك في موضوع الحقوق المدنية عند مارتن لوثر كينغ استند إلى اللاعنف. كذلك عملية التغيّر التي حصلت في جنوب أفريقيا بقيادة الزعيم نيلسون مانديلا كرّست مبدأ اللاعنف بعد أن استنفدت أغراض العنف، بإشاعة أجواء التسامح وهنا حصل تغيّر كبير جداً في النظرة إلى العنف وقيمته.
لم يعد العنف كما نظرت إليه الماركسية أنه قاطرة التاريخ والدعوة إلى الكفاح المسلح والعنف الثوري للتغيير، بل الشيء الثابت والباقي هو العدالة وليس العنف. أما كيف يمكن تحقيقها بوسائل أقلّ عنفاً وأقل كلفة وأكثر معرفة بطبيعة الإنسان وخصائصه يكون هذا التحقيق ممتازاً لأن فيه اتّحدت الوسيلة بالغاية. يقول غاندي إن الوسيلة تمثل البذرة من الشجرة بالنسبة لها كغاية، فهناك ترابط عضوي بين الوسيلة والغاية، فلا غاية شريفة من دون وسائل شريفة تؤدي لها. والوسيلة الشريفة هي جزء من الغاية الشريفة، بل إن الوسيلة الشريفة هي أساس للغاية الشريفة وهي توصل إلى غايات عدة أكثر اتساعاً وشمولاً مما كان المرء يظن. وعنفان لا ينتجان سلاماً مثلما رذيلتان لا تنجبان فضيلة.
شتان بين الدين والتديّن
الدين ظاهرة وتراث وقوة في الآن نفسه، لكن في حالة تعدّده عبء وخطر. ما ترون لتلافي فتنته؟
الدين ظاهرة وحقيقة ولا يمكن لثوري حقيقي أن يكون ضد الدين، كما جرت محاولات في إطار الطفولية اليسارية لبعض الشيوعيين، الذين أرادوا أن يشذّوا عن مجتمعاتهم فتصرّفوا بما يعادي الدين وبما يعادي الإسلام، ولبعض أعدائهم في الآن ذاته الذين استندوا إلى عبارة عارضة مترجمة بصيغة "الدين أفيون الشعوب" فدمغوا الشيوعيين بالإلحاد، وكلاهما غير صحيح. في حين أن ماركس قصد شيئاً آخر تماماً في قوله وهو شيء ملموس يخص بروسيا حينذاك. وقال الدين زفرة الشعوب بمعنى مخدر للألم الذي تعاني منه هذه الشعوب بسبب الاضطهاد. أي المشكلة ليست في الإيمان أو في الدين نفسه، بل في توظيف الدين.
قلت الدين ظاهرة. والماركسية تدرس الظواهر وهي لا تعارضها. ودعني أقل حتى لو قال ماركس ذلك فليس كل ما قاله ماركس كان صحيحاً، مثلا ما قاله ماركس كان يصلح لعصره وليس لعصرنا. نحن نستلهم المنهج ونأخذ به ونوظفه في دراسة الظواهر الاجتماعية ومنها الدين، وليس الدين فحسب بل كذلك ظاهرة التديّن. وهناك فارق بين الدين والتديّن. بين النص الديني وفاعلية هذا النص، بين النص الديني والاجتهاد الذي يمكن أن يتساوق مع التطوّر الحضاري العصري حالياً، هذه مسألة في غاية الأهمية.
ماركس تنبأ أن الثورة ستحدث في بلدان صناعية متقدّمة بينما الثورة حصلت في بلد متأخر. ماركس تحدّث عن شعوب رجعية عندما تحدّث عن الشعب التشيكي. وهذا خطأ كبير وفادح. كيف يتحدّث عن شعوب رجعية؟ ماركس تأثر في المركزية الأوروبية ولم يكن بعيداً عنها في حديثه عن الشرق وعن منطقتنا، لكنه عاد وتنبّه لذلك عند زيارته للجزائر، وللأسف لم يستكمل مشروعه.
ماركس تحدّث عن ذبول الدولة في المجتمعات الشيوعية، ولكن الدولة تقوت في المجتمعات الاشتراكية التي قال عنها خروتشوف العام 1960 "نحن في العام 1980 سندخل مرحلة الشيوعية". لكن في العام 1980 كنا قد بدأنا نشهد تقهقر الدول الاشتراكية بسبب الاشتراكية المطبّقة. ماركس لم يدرس الميثولوجيا والأساطير ولم يُعرهما اهتماماً علمياً فدور الميثولوجيا هام في المجتمعات. وماركس لم يتنبه لعلم النفس وقيمته الاجتماعية بخاصة بعض المدارس، مثلاً مدرستا فرانكفورت وأريك فروم الذي درس قضية الاغتراب في ضوء منهجين جمعهما بطريقة علمية حيوية هو المنهج الماركسي المادي الديالكتيكي المعتمد على الواقع وأن الإنسان انعكاس له والمنهج النفسي الفردي الجنسي ودورها في عملية الاغتراب. ماركس تحدث عن اغتراب الإنسان، واغتراب العامل عن الآلة واغتراب العامل عن السلعة واغتراب العامل عن مجتمعه وعن محيطه واغتراب الإنسان عن الإنسان. بينما فرويد تحدث عن جوانب أخرى كالاغتراب النفسي واغتراب الإنسان عن الإنسان في ظل عوامل أخرى كوّنته وأنجبته.
هوّية سوراقية مشرقية
بلاد الرافدين وبلاد الشام هل تجمعهما هوّية حضارية؟ إذا كانت تجمعهما هوّية حضارية واحدة كيف يمكن حمايتها؟
ربما… لكنني أنا سوراقي، لا أستطيع وأنا العراقي إلاّ أن أفكر بطريقة أقرب إلى سوريا أو إلى الشام. ولا أستطيع كلّما اقتربت من سوريا إلاّ ان أفكّر عراقياً. الواقع أن هناك انهماماً واندغاماً سورياً عراقياً إلى حدود كبيرة جداً. كأنهما جناحان لجسد طير واحد ولا يمكنه الطيران إلاّ بهما وإذا طار بجناح واحد فسيقع لا محالة.
هذه القناعة تولّدت لديّ منذ عقود من الزمان وأخذت تترسخ يوماً بعد يوم. ربما مزاجي العروبي يلعب دوراً في ذلك، لكني لا أكتفي بهذا المزاج ودوره العاطفي. فلكل إنسان عاطفة وينبغي أن يوليها اهتماماً ولا يستخفّ بها. العاطفة مهمة لدى الإنسان مثل الإحساس والشعور.
وأنا أصف نفسي أني حسيّ، بمعنى أني فيورباخي. يقول فيورباخ إن الأذن هي التي توصل إليك الشيء ومنها إلى الدماغ ومنه تتحول فعلاً إرادياً بمرورها في القلب أيضاً. هكذا أنا حسي. أشعر ان إحساسي مجزأ بين العراق وسوريا ولم يكن هذا اعتباطاً، إنما لشعوري إن هناك الكثير من المشتركات والامتزاجات ما بين سوريا والعراق، أكانا في جانبيهما العربي أم في جانبيهما الكردي.
فلو جئت إلى سوريا والعراق من الشمال لناحية مدينة ديار بكر التركية فستجد أنها أرض موحدة إلى يسارك المنطقة العراقية الكردية وإلى يمينك المنطقة الكردية السورية، وشمال المنطقة الكردية العراقية توجد المنطقة الكردية التركية وتتصل بالمنطقة الكردية الإيرانية، وسترى ما بعد ذلك امتداداً عربياً خالصاً أي سوريا الحقيقية العربية والعراق الحقيقي العربي، أي هو هذا الهلال الخصيب، بلاد الرافدين وسوريا التاريخية التي نعرفها، ولا تستطيع التحدّث عن سوريا من دون التحدث عن لبنان وعن فلسطين التي هي في قلب سوريا. هذا الذي يشكل هوّية مانعة جامعة للمنطقة كافة وليس لدولها. لأن هذه الدول تأسست وفقاً لاتفاقية سايكس بيكو غير المشروعة، كما أشرنا سابقا وكما هو معروف للكافة.
المطلوب: إرادة سياسية للوحدة رغم فشل النخب كافة
هذه الهوّية الحضارية المتكاملة المتنامية عبر التاريخ حالياً تتعرّض لتهديدات استراتيجية خطيرة جداً، ربما بدأت هذه التهديدات مما سُمّي بالحروب الصليبية، غزوة نابوليون لمصر وفلسطين، القائمقاميتين في جبل لبنان ومن ثم المتصرفية، سايكس بيكو التي وسعت القائمقاميتين، وعد بلفور، سيفر ولوزان، كيف نحمي هذه الهوّية؟ كيف نؤمن لها الحق بالتطور الذاتي؟
التحدّي الخارجي كبير جداً. نحن أمام مرحلة من تحضيرات سايكس بيكو 2، بتمزيق الهوّيات العامة، وتفتيت الهوّيات الوطنية، وثلم وتقسيم الكيانية الوطنية، والدولة الوطنية. كل دولة وطنية يُراد تفتيتها الآن. وحسب مخطط برنارد لويس فالمنطقة سيكون فيها 41 كيانية.
يقول كيسنجر إن علينا ان نبني حول كل بئر نفط دويلة. فسورية حسب مخطط التقسيم المتداول دولتان سنيتان في دمشق وحلب، ودولة علوية في الساحل وفي الجبل المحاذي له. ودويلة كردية ودويلة درزية، ولبنان يُراد له أن يُقسم وفقاً للطوائف والمذاهب والهوّيات والمناطقيات أيضاً لقربها من سوريا، ورغم اتصاله بها لبعدها عنها أيضاً. والعراق مطروح أن يقسم أيضاً إلى ثلاث مناطق شيعية في الجنوب، سنية في الوسط وكردية في الشمال، علماً أن قسماً من دير الزور يُفترض أن يُضم إلى دولة الأنبار وصلاح الدين، ويمكن ضمّ الموصل إليهما أو تنشأ كيانية جديدة وخاصة. هذا المخطط ليس محلاً للتطبيق الآن.. لكن قد يُطبق. هذا مرهون بعوامل كثيرة وشروط كثيرة متعددة.
سألتني ما المطلوب؟ هذا يحتاج إلى إرادة سياسية بخاصة لدى النخب. للأسف النخب فشلت فشلاً ذريعاً، أكانت النخب القومية أو النخب الماركسية أو النخب الإسلامية.
ما نحتاجه الآن هو إجراء مراجعة توفّر شيئاً من الإرادة السياسية. هذه الإرادة تستطيع حماية ما هو ممكن ومقاومة تفتيت الهوّية والحفاظ على الدولة الوطنية واعتماد مبادئ مواطنة سليمة بالحريات والمشاركة والمساواة والعدالة. والمطلوب كذلك التعاون بين القوى كافة على تحقيق برنامج وطني هادف.
لا بدّ من مشروع مقاوم يطلق الحوار
هل هناك مبادرات في هذا السياق؟
كان يمكن لـ"الربيع العربي" أن يطرح مبادرات كبيرة على هذا الصعيد وهو أطلق آمالاً عريضة بهذا الخصوص، لكن ما تعرّض له من خيبات أسقطت ما كان منشوداً منه. فالقوى الامبريالية الكبرى شعرت بخذلانها لأن الربيع العربي فاجأها بخاصة في تونس وفي مصر فتحرّكت سريعاً لاحتواء المشهد السياسي العربي ككل. وبدأت الثورة السلمية في سوريا فتم العمل على دفعها دفعاً باتجاه العسكرة، وعندما بدأت الثورة بخطواتها نحو السلاح حتى لو كانت اضطراراً، فإنها عملت على أن تحفر مصير التطور السلمي الديمقراطي وتخط نهايته، إلى آخر النفق المظلم.
في ليبيا بدأ الحراك ضد النظام والقذافي ومن ثم تحوّل إلى تناحر قبائلي ما زال ناشباً لاسيّما بعد قصم ظهر الدولة وتشظيها وغياب وحدتها وفي مصر تم إسقاط الرئيس مبارك ولم يكن ممكناً إبعاد الاخوان عن السلطة كقوة كبيرة حينذاك، كما لم يكن مطلوباً منعهم فذلك حقهم، لكن ما هو متوقع كان الفشل وارداً، خصوصاً وقد بدأوا يرتكبون الأخطاء والانتهاكات منذ اليوم الأول لسلطتهم، وهكذا لم تدم مدّة حكمهم حتى يتم إخراجهم من المشهد كما حصل بعد سنة من تسلمهم الحكم في مصر، لكن تدخل الجيش سبّب متاعب آنية ومستقبلية لقضية التطور الديمقراطي في مصر.
في اليمن الجرح ما زال مفتوحاً ومقبلاً على احتمالات شتى أقلّها الحرب الأهلية، الانفصال سيتحقق للجنوب وربما سيتفتت الشمال أيضاً بخاصة مع وجود قوى مثل أنصار الله والحوثيين التي أصبحت قوى مؤثرة في الجيش والمؤسسات والدولة، وزاد الأمر تعقيداً التدخل الخارجي، حيث لا أحد يستطيع أن يقدّر نتائج "عاصفة الحزم"، فاليمن بئر عميقة وموحشة.
كيف السبيل للخروج من هذا؟ لا أحد يعلم. فداعش ما زال يفعل فعله في العراق والبلد مقسّم، فلا وجود حالياً لجيش موحد ولا لبلد موحد ولا لمجتمع موحد ولا لنخب جديرة بالعمل للنهوض بمعايير الحد الأدنى، والفساد ينخر في عروقه والعنف يستشري، والطائفية تنهكه، بل وتخرجه عن طوره وعن وقوفه في خط التاريخ.
.. وفرادة بيروت
في لقائنا في المركز الثقافي العراقي تحدّثت عن امتياز الانطلاق الثقافي من بيروت مشرقياً وعربياً، ماذا تضيف؟
ثلاث خصائص في بيروت فهي بيروت الثقافة وبيروت الجمال وبيروت المقاومة، هذه الثلاثية الأثيرة مقصورة على بيروت وحدها. فبيروت على صغرها كبيرة ولبنان على حجمه المتواضع هو كبير جداً. ويمكن لنخب ثقافية لبنانية أن تأخذ مبادرة وتستعيد الحركة الثقافية العربية من خمولها الراهن بأركانها الأربعة: القومية العربية، الماركسية، الإسلامية والليبرالية التقدمية أي التي تؤمن بالحرية وبالسوق وتؤمن بإعلاء فردانية الفرد.
وهذه ليبرالية مختلفة عن النيوليبرالية، فهي اجتهاد فقهي واجتماعي كمدرسة من مدارس الليبرالية. فيمكن لهذه الكيانية الفكرية والثقافية في بيروت أن تتبلور في إطار حوارات فكرية جادة ومستمرة عسى أن نخرج بمشروع سيعزّز من قوى المقاومة ومن قوى الممانعة ومن القوى التي ترفض الاستسلام. ولا أقول الآن. إنما سيحقق المستحيل.
هل هناك مشروع كما أشرت؟
أنا أدعو لمشروع كهذا، وهناك قوى وازنة يمكنها أن تلعب دوراً من موقعها الفكري والإسلامي والمدني والسياسي والماركسي والقومي العربي، وبعض هذه القوى بدأت تؤمن بقضايا المجتمع المدني، وحقوق الإنسان وبالمنافسة الانتخابية وقواعد اللعبة الديمقراطية، وذلك بانتشار ثقافة حقوق الإنسان واللاّعنف والتسامح.
هكذا يمكن بناء مشروع ولا أقول جبهة وطنية كما في السابق، بل يمكن بناء حالة تواصل ناشط وفاعل لكل الاتجاهات المشاركة، برغم جميع العيوب والثغرات والمثالب لكل هذه القوى، بما فيها للمجتمع المدني ذاته وضعف قياداته وعدم أهلية بعضها.
لكن لا بدّ من حوار ومن مشروع. وحريّ بنا جميعاً أن نأخذ العبرة من الذي حصل.