114
مقدّمة:
وُجد الإنسان ليعرف، فالمعرفة غاية وجود الإنسان، هو دومًا يبحث عن المعرفة، يريد أن يعرف كل شيء، وعندما يعجز عن معرفة شيء ما يُصاب بالإحباط، ينهار، يغضب، ييأس، ويلعن وجوده، ثمّ يصرخ بأعلى صوته: أريد أن أعرف، ثمّ يُغمى عليه.
وعندما يعجز الإنسان عن المعرفة سيبحث عن مصدر هذا العجز في نفسه وفي الموضوعات التي تتّجه إليها هذه النفس، وفي أعضائه وملكات عقله، وفي إحساساته وشعوره، وفي قلبه وحدسه وأوهامه وإيمانه. سيغدو موضوع المعرفة ذاتها، وستغدو الإشكاليّة: كيف يعرف الإنسان؟ من أين يستمدّ معرفته؟ ما الأمور التي يتوصّل بها الإنسان إلى المعرفة؟ أهو العقل أم الحواس أم كلاهما معًا؟
احتلّت نظريّة المعرفة حيّزًا كبيرًا في تاريخ الفكر الفلسفي، فليس هناك فيلسوف في عصر من العصور إلّا وتناول نظرية المعرفة بالبحث. ومنذ بداية التفكير الفلسفي حتى أواخر عصر النهضة الأوروبية، ترنّح الفكر بين تفسيرين لمصدر المعرفة، بين أن تكون المعرفة مستمدّة من الحواس الظّاهرة، وبين أن تكون مستمدّة من العقل. وفي بداية عصر التنوير ضرب الفيلسوف الألماني عمّانوئيل كانط ضربةً عنيفةً للحواس والعقل على السّواء، مبيّنًا محدوديّتهما وإطارهما الذي يعجز أن يخرجا منه، مُعتبرًا المصدرين أساسيّين لكلّ معرفة. تابعه في ذلك إدموند هوسرل، وقد توصّل الفيلسوفان إلى نوع من المعارف يكون متجاوزًا للحواس والعقل، ولكنّ الفيلسوفين اختلفا في تحديد مفهوم التجاوزيّة لهذه المعرفة اللامحسوسة واللامعقولة. ومن هنا جاء عنوان البحث: "المعرفة التجاوزية بين كانط وهوسرل" (دراسة مقارنة).
إذًا، إنّ هذه الدراسة عبارة عن دراسة مقارنة بين كانط وهوسرل في نظرية المعرفة التجاوزية. فتُرى، كيف حدّد كل من كانط وهوسرل المعرفة؟ ما مصدر المعرفة الإنسانية وما حدودها؟ لماذا يعجز الإنسان عن بعض المعارف؟ هل ثمّة معارف قبليّة؟ هل معرفة الإنسان مطلقة؟ هل يستطيع الإنسان أن يعرف الأشياء على حقيقتها؟ أم أنّ معرفته تقتصر على الظاهر؟ وبمعنى آخر، هل معرفة الشيء في ذاته ممكنة؟ أم أنّ الإمكان محصور فيما يظهر لنا فحسب؟
كلّها أسئلة سأحاول جاهدًا الإجابة عليها في هذا البحث الذي اعتمدتُ فيه كلًّا من المنهج الوصفي، المنهج التحليلي والمنهج المقارن. فأمّا المنهج الوصفي، فاعتمدتُ عليه لأعرض الأفكار والآراء كما تناولتها المصادر والمراجع التي اعتمدتها، ولأستشهد ببعض نصوص لكانط وهوسرل. كما اعتمدتُ على المنهج التحليلي لأحلّل بعض الأفكار الواردة في المصادر والمراجع، وأمّا المنهج المقارن فكان اعتمادي عليه لتبيان ما اشترك فيه الفيلسوفان وما اختلفا فيه في مواضع البحث.
قسّمت البحث إلى مقدّمة وخاتمة ومبحثين. عرضتُ في المقدّمة لأهمية نظريّة المعرفة في تاريخ الفكر الفلسفيّ، ولمكانة كانط وهوسرل فيما يتعلّق بهذه النظريّة. وتناولتُ في المبحث الأوّل للمعرفة التجاوزية عند كانط، بادئًا بالحديث عن مصدريّة المعرفة الكانطيّة، منتقلًا إلى فكرة القبليّة التي قال بها كانط، منتهيًا بتبيان اقتصار المعرفة الكنطيّة على إدراك الفينومين والعجز عن إدراك النومين أو الشيء ذاته. وعالجتُ في المبحث الثاني المعرفة التجاوزيّة عند هوسرل، بادئًا بالحديث عن النزعة النقديّة التي اصطبغت بها المعرفة الهوسرليّة، منتقلًا إلى تبيان المحور الذي دارت حوله نظريّة المعرفة عند هوسرل وهو محور العلاقة بين الذّات والموضوع، وكيف أنّ المعرفة تتأتّى بتوجّه الذّات الواعية إلى الظاهر، وهنا نصل بالمعرفة الهوسرليّة إلى نهايتها باعتبارها معرفة قصديّة فينومينولوجيّة. وخلصتُ في الخاتمة إلى نتيجة مؤدّاها أنّ تجاوزيّة المعرفة الكانطيّة لا توصلنا إلى حقيقة الأشياء، أمّا تجاوزيّة المعرفة الهوسرليّة فتوصلنا إلى حقيقة الأشياء.
أولًا: المعرفة التجاوزيّة عند كانط.
1-مصدر المعرفة الكانطيّة:
حين بدأ كانط بحثه عن أصل المعرفة وجد أمامه مذهبين متطرّفين، إذ إنّ الفلاسفة من قبله تاهوا في ثنائيّة النفس البشريّة بين الحسّ والعقل، بين المعرفة الحسّيّة والمعرفة العقليّة، فحاول فريق من الفلاسفة أن يردّ الفهم إلى الحواس، وهم الحسيّون، وفريق آخر حاول أن يردّ الحواس إلى الفهم، وهم العقليّون. وذهب كانط إلى أنّ كلًّا من الفلسفتين مضطرّة إلى أن تسلّم بأنّها لا تستغني عن الأخرى، وفي الوقت نفسه لا يمكن لأيّ منهما أن تتغذّى بعناصر مستعارة من منافستها دون أن تنكر نفسها(١).
وإذا أردنا أن نخرج من المأزق الذي جلست فيه الفلسفة، وجب علينا أن ننهج منهجًا آخر وأن نوجّهها توجيهًا جديدًا. وهذا ما ارتأى كانط أن يفعله، فلم يكن الفلاسفة حتى ذلك الحين ينظرون إلى الذّهن إلّا من حيث صلته بالأشياء. ألا يُمكن أن نطرح الأشياء من اعتبارنا طرحًا تامًّا، وأن ندرس المعرفة الإنسانية ذاتها، وأن نحلّلها، وأن نبحث عن قوانينها، وأن نكشف فيها عن مبدأ تنطوي عليه، ولكن ما عسانا نفعل لكي ندرس المعرفة على هذا النحو؟ الواقع أنّ هذه الدراسة قد حاولها القدماء والمحدثون، ولكنّ كانط أراد أن يفهمها على خلاف سابقيه، فحين انشغل العقليّون بتفسير المعرفة اتّجهوا إلى إدراك مبادئها الأساسيّة مباشرة بحدس عقليّ، أمّا كانط فاعتبر أنّنا حين نفتّش في أنفسنا ونبحث فيها مباشرة عن مبادئ لا نجد، فليست المبادئ معطاة لنا في ذاتها(٢).
ولكن، ما مصدر المعرفة الكانطيّة؟ لقد صرّح كانط بأنّه ينبغي أن نسلّم بأنّ معرفتنا تتولّد من مصدرين أساسيّين في الذهن: الأوّل هو استقبال التصوّرات، والثاني هو القدرة على معرفة موضوع بهذه التصوّرات. في الأوّل يُعطى لنا الموضوع، وفي الثاني يُفكّر بعلاقة مع ذلك التصوّر. إذًا، يشكّل الحدس والأفاهيم عنصري كلّ معرفة لدينا، فلا الأفاهيم من دون حدس يتناسب معها على نحو ما، يمكن أن تعطي معرفة، ولا الحدس من دون أفاهيم. ويكون إحداهما إمّا محضًا وإمّا أمبيريًّا، وهو أمبيريّ عندما يتضمّن إحساسًا، ومحض عندما لا يخالط التصوّر أي إحساس. ويمكن أن نسمّي هذا الأخير مادّة المعرفة الحسيّة، وتبعًا لذلك يتضمّن الحدس المحض فقط الصورة التي بموجبها يُحدس شيء، ويتضمّن الأفهوم المحض فقط صورة التفكير في موضوع ما بعامّة، ووحدها الحدوس أو الأفاهيم المحضة ممكنة قبليًا، والأمبيريّة منها ممكنة فقط بعديًّا. وإذا شئنا أن نسمّي قدرة تلقّي ذهننا، أي القدرة التي له على استقبال التصوّرات من حيث يتأثّر بها على نحو ما، حساسيّة، فيجب علينا بالمقابل أن نسمّي قدرة التّوليد الذّاتي للتصوّرات أو تلقائيّة المعرفة، فاهمة. وقد أتت طبيعتنا على نحو أنّ الحدس لا يمكن أن يكون إلّا حسيًّا، أي لا يتضمّن سوى نمط تأثّرنا بالموضوعات، وأنّ الفاهمة هي، على العكس، القدرة على تفكير موضوع الحدس الحسّي. ولا تفضّل واحدة من الأخرى هاتين الخاصّتين، فمن دون الحساسيّة لن يعطي لنا أي موضوع، ومن دون الفاهمة لن يفكّر بشيء. والأفكار من دون مضمون فارغة، والحدوس من دون أفكار عمياء، ولا يمكن لهاتين الملكتين أن تتبادلا الوظائف. فلا يسع الفاهمة أن تحدس شيئًا ولا الحواس أن تفكّر شيئًا، وباتّحادهما فقط يمكن أن تتولّد المعرفة(٣).
2-قبليّة المعرفة الكانطيّة:
بعد أن أقرّ كانط بأن المعرفة تتأتّى باتّحاد الحسّ مع الفاهمة، راح يبرهن على وجود معارف محض قبليّة ومنزّهة كلّ النزاهة عن أي اختلاط حسيّ أمبيريّ. فيمكن لنا –حسب كانط– أن نفرّق باطمئنان بين معرفة محضة وأخرى أمبيريّة، فإن وجدنا قضيّة تفكّر هي وضرورتها معًا فستكون حكمًا قبليًّا، فإن كانت هذه القضيّة غير مشتقّة إلّا من قضيّة ضرورية هي الأخرى فستكون قبليًا إطلاقًا. والتجربة لا تعطي قطّ لأحكامها كليّة حقيقيّة وصارمة، بل كليّة مفترضة ومقارنة بما معناه تحديدًا، في كلّ ما شاهدناه حتى الآن، بلغ ما بلغ، لم نعثر على أيّ استثناء لهذه القاعدة أو تلك. فإنّ حكمًا يفكّر بكليّة صارمة أي على نحوٍ يقبل أيّ استثناء ممكن، هو حكم لا يُشتَقّ من التجربة، بل يصدق قبليًا إطلاقًا. وإذا ما تمتّع حكم بكليّة صارمة ماهويًا، فإنّ ذلك يدلّ على أنه من مصدر معرفيّ خاصّ، هو القدرة على المعرفة القبليّة. فالضرورة والكليّة الصّارمة هنا إذًا ميّزتان موثوقتان للمعرفة القبليّة(٤).
والحال، إنّه من السّهل إظهار وجود مثل هذه الأحكام الضرورية والكليّة بالمعنى الأدقّ، والقبليّة المحضة بالتالي، وجودًا متحقّقًا في المعرفة البشريّة. ولأجل التدليل على حقيقة المبادئ القبليّة المحضة في معرفتنا، يمكن أن نُظهر أنّه لا غنى عنها من أجل إمكان التجربة، وإظهار ذلك قبليًا بالتالي. وإذ من أين يمكن للتجربة عينها أن تستمدّ يقينها لو كانت جميع القواعد التي تجري دومًا بموجبها أمبيريّة، وبالتالي عرضيّة، فإنّه ليصعب عندها أن نُعدّها بمثابة مبادئ أوّليّة. وهذه المعرفة القبليّة لا تتحقّق في الأحكام فقط بل يمكن تحقّقها في الأفاهيم أيضًا. يقول كانط: "انزع تدريجيًا كل ما هو أمبيريّ من أفهومك التجريبي للجسم، اللون، الصلابة أو الرخاوة، والوزن، واللانفاذ، فسيبقى لك مع ذلك المكان الذي لا يمكنك أن تزيله، والذي كان يحتلّه الجسم. كذلك إذا أُهملت جانبًا كل الخصائص التي تُفيدك إيّاها التجربة في أفهومك الأمبيريّ عن أيّ موضوع، سواءً كان متجسّمًا أم غير متجسّم، فسيبقى لديك واحدة لا يمكنك نزعها وهي التي تجعلك تفكّره بوصفه جوهرًا أو ملازمًا لجوهر. يجب عليك إذًا أن تقرّ بأنّ مقرّه القبليّ هو في قدرتك المعرفيّة"(٥).
هنا سيحدّد كانط المعرفة الترنسندنتالية بأنّها كلّ معرفة قبليّة، مثل المعارف الرياضيّة التي يعتبرها كانط أنّها كانت دومًا معنا في حوزة اليقين. فالعقل عند كانط هو القدرة التي تمنحنا مبادئ المعرفة القبليّة، فإنّ العقل المحض هو ذاك الذي يتضمّن مبادئ معرفة شيء ما على نحو قبليّ تمامًا. ولن تكون فائدته بالنظر إلى الاعتبار سوى سلبيّة، فهي ستصبح لا لتوسيع عقلنا فقط، بل لتطهيره وصونه من الأخطاء، مما يشكّل ربحًا كبيرًا جدًا، ويسمّي كانط ترنسندنتالية كل معرفة لا تهتم عامّة بالموضوعات بقدر ما تهتمّ بطريقتنا في معرفة الموضوعات من حيث يجب أن تكون ممكنة قبليًا(٦).
3-المعرفة بين النومين والفينومين:
تقتضي المعرفة الكانطيّة الاتّحاد بين الحسّ والحدس، وأيًّا كان نمط الصّلة التي قد تكون بين المعرفة والموضوعات، وأيًّا كانت الوسيلة فإنّه ما به تقوم صلة لا متوسّطة بينهما، وما يصبو كلّ تفكير إلى توسّله هو الحدس الذي لا يوجد إلّا إذا أُعطي الموضوع لنا، وهو أمر ممتنع بدوره إلّا شرط أن يؤثّر الموضوع بطريقة معيّنة في الذهن. والقدرة على تلقّي التصوّرات بالطريقة التي بها نتأثّر بالموضوعات الوافدة، تسمّى الحساسيّة التي بواسطتها تُعطى لنا الموضوعات التي وحدها تزوّدنا بالحدوس. لكنّ الفاهمة هي التي تفكّر هذه الموضوعات ومنها تتولّد الأفاهيم. ويجب على كل فكر أن يكون على صلة في النهاية بحدوس، سواء تمّ ذلك مباشرةً أم بطرق ملتوية أخرى يمكن أن يُعطى بها أيّ موضوع وأثره على القدرة التصوّريّة من حيث تتأثّر به، هو الإحساس. والحدس الذي على صلة بالموضوع بواسطة الإحساس يُسمّى أمبيريًا. والموضوع اللامتعيّن لحدس أمبيريّ يُسمّى ظاهرة. وما يتناسب مع الإحساس في الظاهرة يسمّيها كانط مادّتها، أمّا ما يمكّن متنوّع الظاهرة من أن ينسّق بموجب علاقات معيّنة، فيسمّيها صورة الظاهرة. وحيث إنّ ما يمكّن كل الإحساسات من أن تنسّق وتتّخذ صورة معيّنة، لا يمكن أن يكون هو الآخر إحساسًا، وحيث إنه لا تُعطى لنا مادّة أي ظاهرة إلا بُعديًا، فإنّه يجب أن تكون صورتها قائمة قبليًا في الذهن ومهيّأة لها جميعًا، ويجب أن يكون من الممكن بالتالي، النظر إليها بمعزل عن كل إحساس(٧).
وعليه ستكون الصورة المحضة للحدوس الحسّية عامّة قبليًّا في الذهن الذي فيه يُحدس جميع متنوّع الظاهرات بموجب علاقات معيّنة، ويمكن أن تُدعى صورة الحساسية المحضة هذه حدسًا محضًا. فإذا ما عزلنا الحساسيّة عن كلّ ما تُفكّره الفاهمة بأفاهيمها، حتى لا يبقى فيها سوى الحدس الأمبيريّ. ونُنحّي عنه كلّ ما ينتمي إلى الإحساس حتى لا يبقى فيه سوى الحدس المحض ومجرّد صورة الظاهرات، وهي الشيء الوحيد الذي يمكن للحساسيّة أن تعطيه قبليًا. وعلى ذلك فإنّ ثمّة صورتين محضتين للحدس الحسّي، بوصفهما مبادئ للمعرفة القبليّة، وهما الزّمان والمكان(٨).
اقترح كانط حلًّا أنتروبولوجيًا يتأسّس على إثبات تعالٍ مطلق لا تبلغه المعرفة، أي تعالٍ لا يُرَدّ إلى إدراكنا، فلأنّه إذا رُدَّ إليها يوقعها في تناقض لا مفرّ منه، فقد قدّر على معارفنا أن تُبقيه على أنّه ما لا يمكن معرفته. إنّ حساسيّتنا الترنسندنتاليّة قد تخبر عنه ولكنّها لا تحدّه. إنّها قد تمتدّ إليه امتدادًا احتماليًا ولكنّها مع ذلك لا تدركه إدراكًا حدسيًا، وقد يحدّ ذلك التعالي سلبيًا فهو ما لا يمكن حدسه، وقد يتعيّن إيجابيًا فهو ما يمكن أن يظهر ضمن حدس ذهني. ولعلّ أدقّ تحديد يقدّمه كانط لذلك التعالي هو نعته بما يبقى خارج نظام الظواهر وما يحدّها، فهو "النومينا" أي الشيء في ذاته. إنّ مهمّة الشيء في ذاته وضرورته تكمنان في حدّ المعرفة بالحدس الحسّي لرفع إمكانيّة المحتمَل والمتناقض فيها. فسنضطرّ حسب كانط أن نحدّ معرفتنا حدًّا أمبيريًا بناءً على أنّ كل استعمال لمفاهيم المعرفة ينبغي ألّا يكون استعمالًا ترنسندنتاليًا بل أمبيريًا. ولذلك فإنّ الفيلسوف المثاليّ الكانطيّ واقعيّ أمبيريّ، إنّه لا يعدّ الوجود مستنتجًا بل مدركًا، فمثاليّة كانط الترنسندنتاليّة تؤكّد مسارًا لا يُفهَم منه سوى معارضتها ردّ الوجود إلى الوعي، لأنّ واقعيّتها تقتضي إثبات تواجد الوعي والأشياء جنبًا إلى جنب، ما دامت الأشياء الخارجية كما يقول كانط توجد تمامًا مثلما أوجد أنا. لكنّ تلك المثاليّة تنقاد أيضًا إلى نزعة ظواهريّة، لأنها تؤسس المعرفة في حدود واقعيّة ظواهر حدس حسّي (فينومين)، فهي لذلك لا يمكن أن تستجيب إلى مطلب فلسفة علميّة كلّية، ثمّ إنّها لا يمكن أن تدرك المعنى الترنسندنتاليّ لما يظهر فينا لعدم ممارستها منهج الردّ الفينومينولوجيّ الذي يكون بمقتضاه ما يظهر فينا وما يوجد خارجنا وجهين لحقيقة واحدة: أي الأشياء ذاتها(٩).
إنّ فكرة الشيء في ذاته لا تضع مثاليّة كانط قبالة وهمٍ لا مشروع فحسب، بل إزاء تناقض حقيقيّ بين مقصد "ثورة كوبرنيكيّة" تثبت قدرة العقل المطلقة على التشريع وإخضاع الأشياء إلى المعرفة وادّعاء لا مشروع يحدّ العقل سلبيًا بفكرة شيء يُقال ولا يُعرَف، يكون مسلّمة لذلك العقل مع أنّه ليس قادرًا على إدراكها. ولذلك يتخلّى هوسرل نهائيًا –كما سنرى في المبحث الثاني- عن فكرة الشيء في ذاته، فهي بمثابة اللامعنى في الفينومينولوجيا، لأنّ كلّ عالم هو حسب هوسرل من تقويم ذاتيّة ترنسندنتاليّة، أو هو تكوين دلاليّ أو معنويّ لتلك الذاتيّة. وعليه فإنّ كل تعالٍ مطلق لن ينبع من محدوديّتها بل من تصوّر ساذج لطبيعتها، تصوّرًا تعدّه الفينومينولوجيا ذهولًا عن حقيقة الوعي ونمطًا من أنماط تطبيعه(١٠).
ثانيًا: المعرفة التجاوزيّة عند هوسرل.
1-نقديّة المعرفة الهوسرليّة ولاقبليّتها:
إنّ مهمّة نظريّة المعرفة الهوسرليّة مهمّة نقديّة، إذ عليها أن ترفع الشناعة التي يقع فيها لا محالة التأمّل الطبيعي في العلاقات بين المعرفة والمعنى المعرفيّ وموضوع المعرفة، ولها أن تدفع تبعًا لذلك مقالات الشكّاك بإظهار ما فيها من الخلف فيما يختصّ بماهيّة المعرفة. ويتبيّن أنّ مكوّنات المقام الفلسفي نظريّة بالمعنى العام، فهي مكوّنات مشتقّة من مسألة إمكان النظريّة، أي من استئناف نظريّة المعرفة من حيث هي نظريّة في نقد العقل النظريّ، وهي لذلك مكوّنات نقديّة بالمعنى الحديث للفظ، أي بالمعنى الباحث عن الشروط القبليّة للمعقوليّة والصدق والحقيقة في الموضوعات، لذلك فالبنية التي تنتظم المسألة المعرفيّة بنية تضايفيّة تهتمّ بالعلاقات بين أطراف ثلاثة: المعرفة، والمعنى، وموضوع المعرفة. وهي ليست ممكنة فينومينولوجيًا إلّا حسب المتانة الماهويّة لهذه البنية، فإنّ الموضوع عامّة والموضوع من حيث هو معروف مستقرّان على هيئة الماهيّة(١١).
ونقد المعرفة يبتدئ بمسألة المعرفة، أي كل معرفة ممكنة بما في ذلك المعرفة التي لها عن ذاتها، ولذلك كان الإيبوخيه غير معني بأيّ مُعطى بما في ذلك ما تضعه المعرفة نفسها. إنّ المعنى الموافق لهذا الضرب من التمرين الفينومينولوجيّ على عموميّته يمكن أن يتراءى لنا سلبًا باعتباره وقفًا لمسايرة المعنى في الموضوعات وتعليقًا للصدق الموضوعيّ المزعوم في معطيات المعرفة، أيّ بالجملة عدم افتراض أيّ شيء على أنّه معطى سابق متقدّم في نظام الإدراك يسلّم به العقل ولا ينظر في سابقيّته بأيّ وجه من الوجوه. فيجب على المعرفة ألّا تبتدئ بمعرفة تستلفها بغير فحص من غيرها، وإنّما تعطي نفسها لنفسها وأن تضع نفسها بوصفها معرفة أولى(١٢).
وعلى ذلك، فإذا أرادت نظريّة المعرفة أن تعتني بإمكان المعرفة، فإنّه يجب عليها أن تمتلك -حول ممكنات المعرفة وحول إمكان المعرفة الخاص بها- معارف لا يبلغها الشكّ من حيث هي كذلك، ومعارف بالمعنى الأتمّ ذات صدق، ولا يكون في صدقها مدخل للشكّ بإطلاق.
إن وقعنا في الغموض والرّيبة فيما يتعلّق بإمكان تعلّق المعرفة بموضوعها، وانسقنا إلى الشكّ في إمكان ذلك، فحينها يلزمنا أن نضع قبالة ناظرنا حالات لمعارف لا يطولها الشكّ، أو لمعارف ممكنة تبلغ بالفعل موضوعاتها، أو هي بالغة إيّاها(١٣).
وقد رفض هوسرل الانحياز إلى المثاليّين أو الواقعيين، ودعا للعودة إلى الأشياء نفسها، بمعنى أن يكون الوصف الفلسفيّ لمعطيات الشعور بداية لكلّ تفلسف. ولذلك تبنّى هوسرل المنهج النقديّ وحاول تطبيقه على البنيات الماهويّة للخبرات وموضوعاتها. كما شرح في إيضاح كلّ المبادئ وبناء كل الأشياء مستندًا إلى الوعي الخالص، ذلك المجال الذي ينبغي أن يكون مبرّأ من كل المعتقدات والافتراضات المسبقة قبل الشروع في البحث. من المفروض والحال كذلك أن يكون مذهب هوسرل خاليًا من الافتراضات المسبقة بالمعنى الدقيق للكلمة. والواقع أنّ دراسة هوسرل الأصليّة لنظريّة المعرفة، قد صُمّمَت لتطابق هذا الهدف في الأصل، هدف التحرير من الافتراضات المسبقة(١٤).
2-المعرفة وثنائية الذّات والموضوع:
إنّ المعرفة واقعة طبيعيّة، وهي معيش لكائنات عضويّة عارفة، وإنّها حدث نفسي. وككلّ حدث نفسي يمكن وصفها حسب ضروبها وهيئات التئامها، وكذا يمكن فحصها حسب علاقاتها التكوينيّة. ومن جهة أخرى، فالمعرفة من حيث ماهيّتها هي معرفة متّصلة بالموضوع، وهي كذلك على جهة المعنى المحايث لها والذي يجعلها ترتبط به. بهذه العلاقات ينشغل الفكر الطبيعيّ أيضًا، فيكون موضوع بحثه التساوقات القبليّة التي بين الدلالات وبين صدقها والقوانين القبليّة التي تنتمي إلى الموضوع من حيث هي كذلك، كلّ ذلك ضمن عموميّة صوريّة. فإنّ المعرفة فيما هي عليه من الهيئات معيش نفسي، إنّها معرفة لذاتٍ عارفة تقوم قبالتها موضوعات معروفة. فكيف للمعرفة أن تتيقّن من مطابقتها الموضوعات المعروفة؟ وكيف لها أن تتجاوز نفسها، وأن تتعلّق بموضوعاتها على وجه اليقين؟ إنّ مثول موضوعات المعرفة في المعرفة، والذي هو بالنسبة إلى الفكر الطبيعيّ أمر بيّن بنفسه قد أصبح لغزًا. وفي الإدراك يتعيّن على الشيء المُدرَك أن يُعطى مباشرةً. يقول هوسرل: "هو ذا الشيء ها هنا أمام ناظري أدركه، أراه وأعقله، غير أنّ الإدراك إنّما هو مجرّد إدراك الذّات التي تدرك ذاتي أنا. وكذلك الذكر والانتظار وسائر أفعال الفكر التي تنبني عليهما، والتي تقضي أن يوضَع وجود واقعيّ وضعًا غير مباشر، وكذا فيما يخصّ إثبات كلّ حقيقة حول الوجود، وكلّ ذلك معيشات ذاتيّة."(١٥).
يميّز هوسرل بين المضامين المكوّنة للوعي والخبرات القصديّة من جهة، وبين الموضوع المُدرَك من جهة أخرى، فلا يمكن اعتبار الموضوع مضمونًا أو جزءًا مكّونًا من وعي أو من خبراتي المعاشة. فعندما ندرك موضوعًا، وليكن صندوقًا يدور ويتحرّك في كلّ الاتّجاهات، فإنّ الصندوق هو ما ندرك وليس إحساساتنا أو خبراتنا عنه. فإذا ما أدركناه في أوقات مختلفة، فإنّ إحساساتنا ستتغيّر، ولكننا مع ذلك نظلّ ندركه هو نفسه. وهكذا فإنّ الصندوق من حيث هو موضوع للفعل القصديّ أو الوعي ليس هو نفسه من حيث إنّه من الممكن ردّه إلى خبراتنا عنه، لأنّ الإحساسات والخبرات عبارة عن مضامين باطنة في الوعي، في حين أنّ الموضوع شيء مفارق له(١٦).
إنّ المعرفة هي جزء من دائرة الأفكار، ولذا علينا أن نرفع الموضوعات العامّة رفعًا حضوريًا من هذه الدائرة إلى وعي العموميّة، حتّى تصبح نظريّة ماهيّة المعرفة ممكنة. فالمعرفة إنّما هي فقط معرفة إنسانية مقيّدة بالصور العقليّة الإنسانية، وقاصرة عن طبيعة الأشياء نفسها وعن الأشياء في ذاتها. يقول هوسرل: "فلا أستطيع أن أرفع ماهيّة المعرفة إلى رتبة الوضوح إلّا إذا نظرت إليها بنفسي وكانت في هذا النظر معطاة بنفسها كما هي، فيجب عليّ أن أدرسها على نحوٍ محايث وحدسيّ صرف كما هي في الظاهرة المحضة، في الوعي المحض"(١٧).
فعندما نفكّر في شيء، وعندما نعتقد فإنّ ثمّة شيئًا ما يكون موضوعًا لاعتقادنا. أمّا موضوعات هذه الفاعليّات القصديّة، فليست بحاجة إلى أن توجَد لتتّجه هذه الفاعليّات نحوها، بل إنّ هذا الأمر نفسه هو الدليل على أنها ليست فاعليّات طبيعيّة أو فيزيقيّة. أمّا الفاعليّات الجسميّة فإنّها لا تتمتّع بمثل هذه الصفة أبدًا، إذ لا بدّ لموضوعاتها من أن تكون موجودة فعلًا. فبوسعنا أن نتصوّر حصانًا دون أن يكون موجودًا، ولكن ليس بوسعنا أن نجرّه إلى الماء إلّا إذا كان موجودًا أمامنا بالفعل(١٨).
وعلى ذلك، فإنّ المعايشات المعرفيّة تنطوي، حسب طبيعتها، على قصد، أيّ إنّها تقصد شيئًا ما وتتعلّق بهذا النحو أو ذاك بموضوع. إنّ فعل التعلّق بموضوع هو شيء منها، في حين أنّ الموضوع ليس كذلك، بل الموضوع بإمكانه أن يظهر، وأن يكون له في ظهوره نحو من العطاء، في حين أنّه غير حالّ مع ذلك في الظاهرة المعرفيّة فعلًا، ولا هو موجود بأيّ نحوٍ بوصفه فكرًا(١٩).
3-فينومينولوجيا المعرفة وقصديّتها:
في مرحلة الفينومينولوجيا الترنسندنتاليّة يصبح شرط إمكان المعرفة توجّه الوعي إلى موضوعه، بل إنّ القصديّة أو هذه العلاقة الديالكتيكيّة بين الذّات والموضوع أو التضايف بينهما -التي تحدّثنا عنها في النقطة السابقة- تمثّل دائرة الوجود الحقيقي عند هوسرل. فالغرض الأساسي في فينومينولوجيا هوسرل الترنسندنتاليّة هو أن الطريق إلى الوجود لا بدّ أن يبتدئ من الوعي، أو من الصور المختلفة للقصد. ولذا ترتدّ مشكلة الوجود إلى تحليل القصد وتصبح الفينومينولوجيا علمًا للوعي. وأوّل خطوة في الترنسندنتاليّة هي عملية الردّ الفينومينولوجيّ الذي يمكّننا –على ما يرى هوسرل– من بلوغ الأنا الترنسندنتاليّة أو الوعي الخالص الذي يعتبر الموضوعات أشياء بالنسبة له. وهكذا تكون مهمّة الفينومينولوجيا كشف ووصف منطقة وجوديّة هي بمثابة الأساس المطلق لعالم الخبرة، وهو أساس يُستعصَى بلوغه على الملاحظة التجريبيّة، بل لا بدّ من وصفه فينومينولوجيا أو بما أسماه هوسرل بالحدس الماهويّ أو حدس الماهيّات. يقول هوسرل: "كلّ وعي هو وعي لشيء ما، وكل ما يظهر يظهر في خبرة عينيّة، وكل ما لا يظهر في خبرة أو في تجربة، من غير الممكن التصديق بوجوده. ولذا فإنّ هدف الفينومينولوجيا هو دراسة الخبرات بقصد بلوغ ماهيّتها أو عللها الجوهريّة"(٢٠).
وما دامت كلّ الحقائق الجائزة ذات بنيات ماهويّة وضروريّة، كانت مهمّة الفينومينولوجيا دراستها في صورها النقيّة والخالصة. وبهذا المعنى تكون الماهيّة هي الموضوع الأساسيّ الذي نذرت الفينومينولوجيا نفسها لدراسته وتحليله. أمّا تكشّف هذه الماهيّة فمرهون بممارسة ضرب من التوقّف عن الحكم أو بما يُسمّيه هوسرل بالإبوخيّة الفينومينولوجيّة أو تعليق الحكم ووضع الأشياء بين قوسين. وبمقتضى ذلك يعلّق الباحث كل الأحكام الزمانيّة والمكانيّة على الموضوعات التي يدرسها مكتفيًا بالتوجّه إليها نفسها. وإذا ما أنجز الباحث عمليّة تعليق الحكم، فإنّه يكون بذلك قد حذف مؤقّتًا الوجود الخارجي للموضوع، وأحاله إلى موضوع قصديّ متّجه إليه الوعي(٢١).
ولكي تكون الفينومينولوجيا فلسفة ترنسندنتاليّة يجب أن يكون الإيبوخي شموليًا، أي يجب ألّا يُستثنى أي موقف إزاء وجود الموضوعات. لهذا يجد هوسرل ذاته أمام الصعوبة الآتية: إنّ القضايا التي يصدرها الفينومينولوجي حول كيفيّات عطاء الموضوعات تتضمّن هي أيضًا موقفًا من وجود هذه الكيفيّات، ومن دون ذلك ستنتهي الفينومينولوجيا إلى موقف شبيه بالموقف الشكّي. إذًا، تحتاج الفينومينولوجيا إلى مجال يُستثنى منه الإيبوخي ويمكن أن نُصدر فيه أحكامًا وادّعاءات، وحيث إنّ أحكام الفينومينولوجيا تتعلّق بالأفعال القصديّة للوعي، فلن يكون هذا المجال الذي نبحث عنه إلّا الوعي. ولكن كيف يمكن الجمع بين هذا الاستثناء وبين شموليّة الإيبوخي؟ نعتقد في الموقف الطبيعيّ أن الوعي خاصيّة الإنسان الذي هو جزء من العالم. الإيبوخي الشمولي هو التوقّف عن إنجاز الاعتقاد الطبيعي بوجود العالم، لو كان الوعي ينتمي للعالم، ولو كان وجود الوعي مثل وجود موضوعات العالم، لكان من غير الممكن بعد إنجاز الإيبوخي أن ننسب الوجود للوعي وأفعاله. هكذا، يؤكّد هوسرل أنّ إنجاز الإيبوخي الشمولي لا يتعارض مع إصدار أحكام أو ادّعاءات تتعلّق بمجال الوعي، كان عليه أن يبيّن بأن الوعي الخالص لا ينتمي إلى العالم، وأنّ نمط وجوده يختلف عن نمط وجود الموضوعات في العالم، بحيث إنّه رغم إنجاز الإيبوخي الشمولي بصدد العالم، يبقى هناك مجال خاص يمكن أن نُصدر فيه أحكامًا بالوجود، هو مجال الوعي الخالص الذي يشكّل ميدان بحث الفينومينولوجيا(٢٢).
بناءً على مبدأ التعالق يبيّن هوسرل الاختلاف الجذري بين نمط وجود الموضوعات في العالم ونمط وجود الوعي من خلال التمييز بين كيفيّة عطاء كل منهما. يتميّز الوعي بخاصّية أساسية هي إمكانيّة الارتباط الداخليّ بذاته. عندما يُدرك الوعي فعلًا من أفعاله القصديّة، فإنّ هذا الفعل يكون محايثًا له، إنّه لا يُعطى للوعي بكيفيّة نسبيّة في مظاهر أو مقاطع متنوّعة، بل إنّه يُعطى بكيفيّة مطلقة. على خلاف ذلك تتميّز الموضوعات الخارجيّة بأنّها متعالية على الوعي، أي تتخطى دائرته الداخليّة، إنّها لا تُعطى إلّا بكيفيّة نسبيّة في مقاطع أو مظاهر. نظرًا لأنّ هذه الموضوعات الخارجيّة تُعطى بكيفيّة نسبيّة، فإنّه يمكن في أي وقت تشطيب ادّعاء وجودها، فنسبيّة العطاء تعني إمكانيّة الخداع. لهذا يمكن مبدئيًا التفكير في انهيار الاعتقاد في وجود العالم بأكمله؛ أمّا ادّعاء وجود الوعي، فهو بسبب عطائه المطلق لا يمكن تشطيبه. إنّ ظواهر الوعي عناصر محايثة للوعي، إنّ وجودها فوق كلّ شكّ، لأنها متضمّنة كإجراء في تيّار الوعي، أمّا موضوعات العالم الواقعيّة التي تتوفّر على وجود متعال خارج تيّار الأفعال المحايثة للوعي، فهي غير أكيدة(٢٣).
بعد إنجاز الإيبوخي والإرجاع الفينومينولوجي تبقى المهمّة المطروحة على الفلسفة الفينومينولوجيّة هي تفسير كيف يتوصّل الوعي إلى الاعتقاد بوجود موضوعات متعالية عليه، أيّ كيف يتخطّى دائرته الداخليّة وينسب للموضوعات في العالم وجودًا قائمًا بذاته. إنّ كون الوعي يعتبر أنواعًا من الموضوعات موجودة في ذاتها يجب أن يفسّر انطلاقًا من ظهورها في كيفيّات مناسبة للعطاء. عندما يتخطّى الوعي بناءً على حوافز معيّنة للعطاء الأصلي الذاتي النسبي، يتأسّس كيان العالم مع مجالات موضوعاته المتمايزة حسب ماهيّاتها. هذا التأسيس للعالم انطلاقًا من إنجازات التعالي التي يقوم بها الوعي حسب حوافز معيّنة يسمّيها هوسرل البناء. هكذا تتحوّل المهمّة الأساسية لبحث التعالقات في الفينومينولوجيا الترنسندنتاليّة إلى تحليل بناء مختلف مجالات الموضوعات. كيف يتمّ تحليل البناء؟ نوضّح ذلك من خلال المثال الآتي: إنّ ظهور الموضوعات يتمّ عند الملاحظة الدقيقة كما يلي: كلّ موضوع يمثّل لي في الموقف الطبيعي كشيء مطابق لذاته، كموضوع واحد، إلّا أنه يقدّم لي ذاته في كيفيّات متعدّدة للعطاء تختلف حسب وضعيّات ذاتيّة. إنّ كون العالم يظهر لنا في الموقف الطبيعي بموضوعات ثابتة، مطابقة لذاتها، وقائمة بذاتها، يعني أنّ هذه الموضوعات هي أكثر ممّا يُعطى في كلّ وضعيّة ذاتيّة نسبيّة. إنّ الموضوعات لا تنحلّ إلى ما يُعطى في كلّ مرّة. كل موضوع يقابلني كشيء له وجود يتخطّى تعدّديّة كيفيّات العطاء ويتعاطى عليها. على أنّ تأويل الموضوعات بصفتها متعالية ينبغي أن يكون له حافز، ولا يمكن أن يكمن هذا الحافز إلّا في الظهور الذاتي النسبي. تتحدّد المهمّة الأساسية لتحليلات البناء في توضيح هذه الحوافز بالنسبة لأنواع مختلفة من الموضوعات. إنّ تحليلات البناء تكشف عن الكيفيّة التي يحفّز بها إنجاز كيفيّات أصليّة للعطاء الواعي إلى تخطّي هذه الكيفيّات نحو أنواع معيّنة من الموضوعات وبالتالي إلى الاعتقاد في وجود الموضوعات والعالم. هوسرل ينعت كذلك الفينومينولوجيا ترنسندنتاليّة لأنها كتحليل للبناء تفسّر هذا التعالي بأنّها فلسفة ترنسندنتاليّة(٢٤).
خاتمة:
في ختام هذا البحث، لا بدّ من القول بأنّ كانط حاول أن يبرهن على وجود معارف تتجاوز التجربة والعقل، معارف تتحرّك خارج الذّات المدركة، ولكن تحرّكها هذا يكون بما أملته الذّات عليها من تصوّرات، معارف لا تتخطّى إطارَيّ الزمان والمكان باعتبارهما قبليّين، ولكن هذه المعارف لا تمنحنا حقيقة الأشياء في ذاتها بل ظواهرها، ولأجل ذلك فلا مجال للتجربة أو العقل أن يتخطّى حدود هذه الظواهر إلى ما ورائها. ولذا تغدو تجاوزيّة كانط لاتجاوزيّة، إذ إنّها لا تعني سوى تحرير الزمان والمكان من كل تعلّقاته المحسوسة والمعقولة، دون أو يوصلنا هذا التجاوز إلى معرفة ماهيّة الأشياء وحقيقتها.
أمّا هوسرل فقد تأثّر بفكرة التجاوزيّة الكانطيّة في المعرفة، لكن كان هدف فلسفته الوصول إلى ماهيّة الأشياء وحقيقتها. لم يدّع هوسرل أنّ الحواس أو العقل يستطيعان إيصالنا إلى معرفة الشيء في ذاته، ولكنّه أقرّ بأنّ المعرفة تكون للظاهرة فقط، غير أنّ الظاهرة الهوسرليّة ليست تلك المقابلة للشيء في ذاته –كما عند كانط– بل هذه الظاهرة هي التي تكشف لنا ماهيّة الأشياء وحقيقتها، وذلك عندما تتوجّه الذّات أو الوعي الإنساني الممتلئ بالخبرات السابقة نحو الموضوعات المُدركة والظاهرة، فتمارس فعل القصد عليها واضعةً إيّاها بين قوسين، فتعزل الذّات موضوعها عن سائر الموضوعات، وفي هذه العزلة تتكشّف ماهيّة الشيء وحقيقته.
إذًا، إنّ الفرق بين المعرفة التجاوزيّة الكانطيّة والمعرفة التجاوزيّة الهوسرليّة، هو أنّ الأولى لا تكشف لنا ماهيّة الشيء المُدرَك وحقيقته في ذاته، وكأنها ترنسندنتاليّة عاجزة أو مقيّدة بسلاسل الزمان والمكان، أمّا الثانية فهي معرفة قادرة، بل هدفها أن تكشف عن ماهيّة الموضوعات المُدركة وحقيقتها في ذاتها، شرط أن يتمّ قصد الموضوع لها وتجريدها عن غيرها من الموضوعات.
وبعد، لا بدّ من طرح بعض التساؤلات:
هل في مقدرة الإنسان أن يُدرك الأشياء على حقيقتها؟ إن كان الأمر كذلك، فكيف نفسّر نسبيّة إدراكات الشيء الواحد؟ أهو عجز حسّي أم عجز عقلي أم عجز في الموضوعات المُدركة ذاتها؟ هل نعود بذلك إلى طرح كانط وننفي صدقيّة أطروحة هوسرل؟ أم نسلّم بصحّة الترنسندنتاليّة الهوسرليّة دون الرجوع والتحقّق من صدقيّة حقائقيّة المدركات؟
الهوامش:
(١) بوترو، إميل، فلسفة كانط، ترجمة عثمان أمين، القاهرة، الهيئة المصريّة العامّة للتأليف والنشر، د. ت.، ص ٤٨.
(٢) المرجع نفسه، ص ٥٠.
(٣) كانط، عمّانوئيل، (١٨٠٤م)، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، بيروت، مركز الإنماء القومي، ١٩٨٨م، ص ٧٥.
(٤) المصدر نفسه، ص ٤٦.
(٥) المصدر نفسه، ص ٤٧.
(٦) المصدر نفسه، ص ٥٤.
(٧) المصدر نفسه، ص ٥٩.
(٨) المصدر نفسه، ص ٦٠.
(٩) الزّارعي، محسن، كانط والمسألة الترنسندنتاليّة، بحث إلكتروني.
(١٠) المرجع نفسه.
(١١) هوسرل، إدموند، (١٩٣٨م)، فكرة الفينومينولوجيا، ترجمة فتحي إنقزو، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيّة، ط١، ٢٠٠٧م، ص ١٣.
(١٢) المصدر نفسه، ص ١٨.
(١٣) المصدر نفسه، ص ٣٢.
(١٤) سلامة، يوسف سليم، الفينومينولوجيا المنطق عند إدمون هُوسرل، بيروت، دار التنوير، ٢٠٠٧م، ص ١٢.
(١٥) هوسرل، إدموند، فكرة الفينومينولوجيا، ص ٥٢.
(١٦) سلامة، يوسف سليم، الفينومينولوجيا المنطق عند إدمون هُوسرل، ص ١١٤.
(١٧) هوسرل، إدموند، فكرة الفينومينولوجيا، ص ٨٣.
(١٨) سلامة، يوسف سليم، الفينومينولوجيا المنطق عند إدمون هُوسرل، ص ١٠٩.
(١٩) هوسرل، إدموند، فكرة الفينومينولوجيا، ص ٩٤.
(٢٠) سلامة، يوسف سليم، الفينومينولوجيا المنطق عند إدمون هُوسرل، ص ١٠.
(٢١) المرجع نفسه، ص ١٦.
(٢٢) المصدّق، إسماعيل، المحطّات الأساسيّة لفينومينولوجيا هوسرل، بحث إلكتروني.
(٢٣) المرجع نفسه.
(٢٤) المرجع نفسه.