في واقع الحال لست بمعرض إلقاء محاضرة أكاديمية بل مجرد ومضات عن "واقع مسيحيي العراق وآفاقه".
فلا بد إذن من رسم لوحة واضحة الملامح والألوان بخطوط مستقيمة نرسم فيها صورة من تعاليم الإنجيل السماوية.
ولكني قبل هذا وذاك، لا بد من التفتيش عن إطار لهذه الصورة. لأننا لا نستطيع أن نعلق الصورة أو نقربها أو نبعدها عنا من دون وضعها بإطار خاص بأبعاده المختلفة.
من هذا المبدأ ننطلق بأقوال واضحة وبكل جرأة وصراحة..
يقول السيد المسيح في إنجيله المقدس:
"ليس أحد يضع رقعة جديدة على ثوب بال، لئلا تأخذ الرقعة من ذلك الثوب، فيصير الخرق أكبر، ولا يصبّون خمراً جديداً في زقاق بالية، لئلا تنشقّ الزقاق وتراق الخمر، وتتلف الزقاق، لكن يصبّون الخمر الجديدة في زقاق جديدة. فتسلمان كلتاهما".
وهكذا نحن بالضبط، الزقاق الجديدة لم تعد تستوعب الخمر العتيقة، ولما كان أجدادنا وآباؤنا الزقاق العتيقة كانوا يستوعبون الخمر الجديدة، يستقون منها ويوزعونها للتلاميذ والأتباع في البشرى السارة التي حملوها إلى كل الأصقاع، إلى أقاصي الأرض.
ويقول مار بولس: "اخعلوا الإنسان العتيق والبسوا الإنسان الجديد". وهذا ما ينطبق علينا اليوم أيضاً، علينا أن نخلع الإنسان العتيق، فكر العهد القديم وعاداته وتقاليده ونرتدي الإنسان الجديد، إنسان الكلمة، إنسان البشرى، إنسان المعرفة الحقيقية والتراث المشرقي بلاهوته، وناسوته، والعمل على فصل العهد العتيق الذي تمّ كما قال يسوع وهو على الصليب "ها قد تمّ" والالتصاق بالإنسان الجديد، إنسان العمل والتطبيق.
وعليه أقول:
1 ـ النصرانية والمسيحية
قبل كل شيء يجب أن نوضح للمسلمين وبقوة أننا لسنا أتباع النصرانية الذين ورد ذكرهم في القرآن، علماً أنه لم ترد في القرآن لا كلمة المسيحيين، ولا كلمة الكنيسة. فالنصرانية ليست المسيحية بل هرطقة برزت في فجر الكنيسة لا تؤمن بالثالوث الأقدس ولا ببنوة يسوع لله ولا بالصلب وتعتبر يسوع مخلوقاً وليس مولوداً من الأب وبهذا تتشابه كثيراً بالإسلام الذي اعتبر النصارى أقربهم مودة للذين آمنوا، وأصبحنا أسرى هذه الكلمة المجهولة "نصارى" المطاطة، ولهذا يجب عقد مؤتمر أو ندوات أو بحوث ودراسات للانطلاق من قبل الرؤساء الروحانيين ببيان رسمي لا قبله ولا بعده بهذا الموضوع الخطير، لأن أتباع القرآن حينما يحبّوننا ويتزلفون إلينا ويجاملوننا نكون كما تقول الآية: ﴿ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ومنهم قسيسين ورهباناً وهم لا يستكبرون﴾.
وإذا قلبوا علينا ظهر المجن صرنا كفاراً ومشركين يجب قتلهم وملاحقتهم. فيجب إذن حسم الموضوع هل نحن مسيحيون مؤمنون، أم نصارى لا هوية ثابتة لنا… فلا بد إذن من هوية يقرّها المسلمون للشراكة في الحياة الدنيا، لنيل الآخرة.
2 ـ العداء التاريخي:
لما لا نقرّ ونتصارح بأن هناك عداء تاريخياً عمره أكثر من 1400 سنة بين المسلمين والمسيحيين نتيجة الحروب والفتوحات التي شنها المسلمون على أراضي المسيحيين وشعبها، علماً أن المسيحيين هم الذين فتحوا أمام المسلمين أبواب مدنهم وأسوارها. فمثلاً المطران جبرائيل فتح أبواب البصرة أمام جيوش القائد العربي المسيحي المثنى بن حارثة الشيباني، والمفريان ماروثا التكريتي فتح أبواب قلعة تكريت أمام القائد ابن غنم ومار آمه فتح أبواب الموصل، ومار ايليا فتح أبواب دمشق وعقد الصلح مع خالد بن الوليد والمطران صفرونيوس فتح أبواب القدس أمام عمر بن الخطاب، وكذا فعل الجاثليق يشوعياب الجدالي عندما كتب رسالة إلى محمد يستدعيه إلى بلاد العراق ليخلصهم من سيطرة الفرس..
والأبعد من هذا وذاك أن القبائل المسيحية أمثال بني تغلب، وبني شيبان وبني تميم، والطائيين، وسليم وغيرها ساندوا الجيوش الإسلامية كما فعلوا في معركة القادسية عندما عاضدوا سعد بن وقاص، وأسقطوا الدولة الساسانية.
وهكذا يصحّ الكلام في فتح مصر وإنهاء النفوذ الروماني. وأيضاً في بلاد الشام، ولكن للأسف بعد فترة وجيزة من هذا التعاون والتآخي انقلب المسلمون على المسيحيين وساموهم مرّ العذاب.
3 ـ وهناك قضية مهمة جداً ألا وهي "الحروب الصليبية"
هذه التهمة الشنيعة التي ألصقت بنا ونحن مسيحيو الشرق أبرياء منها، براءة الذئب من دم ابن يعقوب، فتنسب إلينا وكأننا نحن المشرقيين قمنا بها. علماً أن المؤرخين العرب المسلمين يسمونها "حروب الإفرنجة"، أما الغربيون فقد سمّوها لأنهم قاموا بها، "الحروب الصليبية"، فلماذا نحن المسيحيين المشرقيين نتبنى مصطلح "الحروب الصليبية". وهذا خطأ فاضح وجناية على التاريخ الذي نحمّله ما لا يحتمل. علماً أن المسيحيين المشرقيين نالوا من الصليبيين الغربيين ما لم ينله العدو من عدوه، فتحملنا الكثير من النوائب والمصائب، فقتلوا أبناء الكنيسة الشرقية وأحرقوا أديرتنا وكنائسنا وسلبوا أموالنا واستولوا على أرضنا ونهبوا تراثنا. فمثلاً في الحملة الأولى عام 1097 قتلوا في كنيسة أنطاكية من السريان أكثر من 3000 إنسان، وأحرقوا دير مار بصوم الشهير الذي أشعل فيه النار جوسلين وكثير من رؤساء الكنيسة قتلوا وسجنوا وساموهم مرّ العذاب، ولا من أحد من رؤسائنا الحاليين يطل ولو بإطلالة صغيرة قصيرة ويوضح هذه القضية ويردّها على أعقابها ويبرئ ساحة الأجيال من هذا الوزر الخطير. لماذا هذا التجاهل وهذا النسيان؟
4 ـ المسألة الخطيرة الأخرى هي "المسألة الشرقية"
كلنا قرأنا في الإعدادية والجامعة في التاريخ العثماني عن "المسألة الشرقية" بعد حرب القرم التي انتهت بمعاهدة (كوجك كينارجه) بين الدولة العثمانية وروسيا وعلى أثرها ظهرت ما سُميت بقضية "المسألة الشرقية" في منطقة البلقان، حينما اعتبروا روسية محامية عن الأرثوذكس وفرنسا محامية عن الكاثوليك، وبريطانيا محامية عن البروتستانت في نطاق حدود الدولة العثمانية، واقتنع يومئذ رؤساؤنا الروحيون وراحوا يراجعون في حقوقهم هذه المرجعيات الحماة واستمرت هذه الحالة التي ترسخت على مدى أجيال، وكأنهم حماة لنا والتصقت بنا تهمة المسيحيين العرب أنهم أنساب الأجانب وهم بنو عمومتهم، وما زلنا إلى هذا اليوم يعتبروننا كذلك. وأذكر هنا أيام الحصار في العراق بين 1990 ـ 2003 سيما حينما قصفت أميركا العراق للخروج من الكويت، قلّ الخبز في الأسواق فكان أصحاب الأفران يمتنعون من بيع الخبز للمسيحيين قائلين: ليعطوكم أبناء عمكم الأميركان. وما إلى ذلك من الأقوال الباطلة والآراء الفائلة. فماذا استفدنا من حمايتهم لنا سوى التبعية المشبوهة، فروسيا بعيدة عن مصالحنا، وبريطانيا تُسير مصالحها، وفرنسا التي كانوا يسمّونها في لبنان الأم الحنون تركت أبناءها. ولست أدري أين حنانها..؟ فإلى متى هذه المغالطات؟
5 ـ الإرساليات التبشيرية:
مع احترامي الكامل للأخ السوري الذي أفاض وبإسهاب عن دور الفرير واليسوعيين وغيرهم في المدح والافتخار بالإرساليات التبشيرية الثقافية والتعليمية، ولكن لستُ أدري مَن بشّروا من المسلمين والدروز والصابئة واليهود، إلا أنهم بثوا الشقاق والانقسام بيننا نحن المسيحيين فقسمونا وكأننا لو لم نعتنق الكاثوليكية لا ندخل السماء وجعلوا بيننا الفتنة، وبعد أن كنا كنيسة واحدة، صرنا كنائس متعددة، وهذه هي الطامة الكبرى، فاسمحوا لي أن أسمّيها بالإرساليات التخريبية.
صحيح أنهم أفادونا ببعض النواحي كنشر التعليم عن طريق مدارسهم ومطابعهم، حيث نشروا فيها بعض التراث والكتب لأجل التثقيف الروحي والمدني، هذا من جهة ومن جهة أخرى فرقونا واغتنموا جهالتنا فاستعبدونا ففقدنا طقوسنا وتراثنا ولغتنا وأضحينا غرباء في أرض الوطن، لا بل تليتَنّا أكثر من اللاتين، فماذا ربحنا من الكثلكة، إنما خسرنا كل شيء بفقدان هويتنا، فتجب العودة إلى كنيستنا المشرقية إلى آبائها وتراثها ومن ثم إلى لاهوتنا وفلسفتنا وأصالتنا، ومن لا أصالة له، فلا يأتي بأمر أصيل، فالعودة إلى الجذور بحق وحقيقة وعندئذ نبني من جديد كنيستنا، ونجدد إيماننا بتراثنا، فنعيد مجدنا إلى بريقه الأول.
6 ـ الغباء الروحي:
للأسف الشديد إن أغلب رؤسائنا الروحيين مسلمين ومسيحيين يتميزون، خصوصاً من القرن السابع عشر وإلى هذا اليوم، بالغباء الروحي، حيث لا يميزون بين الصالح والطالح، بين المادة والروح، فليسوا إلا عديمي الكفاءة وعديمي المسؤولية. فعندما قال مار بولس: من اشتهى الأسقفية، فقد اشتهى عملاً صالحاً، لأن الأسقف كان أول من يُلقى القبض عليه، ويحاكم ويجلَد، أو يحرَق أو يشنَق، ولهذا كان الكثيرون يهربون أو يرفضون تسلم هذه المسؤولية، أما اليوم فيتكالبون عليها إن لم نقل يعملون لشرائها، لأنه لم يعد ذلك الراعي الصالح الذي أشار إليه ووصفه السيد المسيح في انجيله ونعته بالراعي الذي يعرف رعيته ويناديها بأسمائها، لأنه منذ أن يتسلم الأسقف مهامه حتى يعتكف في مطرانيته ويتفرغ لزياراته الرسمية ولدعوات الغداء والعشاء الدسمة، والمناسبات وحفلات الوجهاء وأصحاب الامتيازات، أما أن يسأل عن الأبناء ويتفقد العوائل فهذا بعيد بعيد، أناشدكم الله، من منكم قد زار عائلة المطران ولو مرة في السنة، أو تفقد المرضى في المستشفى، أو فتح كنيسة لمساعدة الفقراء والمساكين، ثقوا منهم لا يعرف مسؤوليته، إنما أن يجلس على الكرسي كالفريسيين الأوائل يهتمون بكل شيء إلا مسؤوليتهم الرسمية والحقيقية.
سألت يوماً مطراناً جديداً: لماذا تلبس الأحمر، ضحك مني وقال مقتنعاً: لكي يميّزونا عن الكهنة.. مسكين، يجهل مهمته، وهو لا يدري أنه يلبس الأحمر رمزاً لدماء أبناء رعيته التي يحملها في عنقه كأمانة مثل ما يقول مار بولس: من يمرض منكم ولا أمرض أنا، ومن يجوع منكم ولا أجوع أنا.
فما العمل، وما الحل؟
ببساطة، ومن باب الصدف، إنني في هذا الفصل أدرس التصوف الإسلامي في معهد الفلسفة واللاهوت بحريصا، والذي ألخصه بثلاث كلمات: التخلّي والتحلّي والتجلّي، هكذا الأسقف عليه التخلي والتحلي والتجلي. بالضبط هذه الكلمات الثلاث فيها الحل:
حينما نتخلى عن أنانيتنا وأمراضنا النفسية والاجتماعية، مع الأحقاد والضغائن والكمائن.
ونتحلى بالفضائل الروحية والأدبية مع الأخلاق الكريمة مع القيم والمثل العليا.
وعندئذ تتجلى لنا جميعاً الحلول الإلهية والبشرية وتتكشف لنا بالقدرة القادرة كافة الأدوية الناجعة.. فتصير الكنيسة مؤسسة قوية مشيدة على الصخرة، وليس على الرمل والطين بسفينة تعبر عباب الأمواج في بحر العالم المضطرب، عندما نتوحد بالأهداف في خلاص النفوس.
7 ـ الهجرة والتهجير:
منذ بدايات القرن العشرين إن لم نقل من نهايات القرن التاسع عشر بدأت هجرة المسيحيين من الوطن العربي من أجل المعيشة، والحياة الاقتصادية ولا سيما من لبنان وسوريا، أما اليوم فللهجرة أسباب عديدة منها:
1 ـ الحروب والفتن والمجازر التي أحاطت بالمسيحيين سيما أيام الحرب العالمية الأولى وقبلها في جنوب شرق تركيا. ثم الحرب الأهلية في لبنان (1975 ـ 1990) والحرب الإيرانية ـ العراقية (1980 ـ 1988) وغيرها الكثير من الفتن خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
2 ـ الكنيسة برجالاتها المسؤولين، فمثلاً لو وزعت المساعدات التي أتت ليد الكنيسة العراقية لمستحقيها بعدالة أيام الحصار (1990 ـ 2003) لما هاجرت عائلة واحدة إنما وزعت على الأقرباء والأصدقاء كالأطباء والمحامين والمهندسين؛ علماً في أول الأمر دخلت بيوت الكهنة والراهبات وخزنت في الأديرة والكنائس.
3 ـ حث وتحريض الآباء الكهنة والمطارنة مع الراهبات والرهبان على هجرة ذويهم وأصحابهم بذريعة أن هناك الضمان الصحي والمعيشي، ولزيادة أعدادهم فيلحقون هم بهم وعلى حد المثل: "ليس البكاء من أجل الحسين، بل محبة بالهريسة…".
4 ـ ظهور الإرهاب الوحشي في العراق، وما يسمونه حسب المصطلحات الأميركية المعاصرة: الإسلاميون والأصوليون والفوضى الخلاقة، والشرق الأوسط الجديد، والربيع العربي، ثم في بلادي العراق (الأراضي المتنازَع عليها) هذه المصطلحات المشبوهة والتي لا تعني معناها وهي بعيدة عن الواقع أدّت إلى تعجيل الهجرة والتهجير والهروب من دون وعي والآتي أعظم…
5 ـ فتح الأبواب مشرعة أمام المهاجرين بالإغراءات وإهمال الدولة بعدم وضع حد للهجرة خارج البلاد، علماً أنها عملت على تهجيرهم داخل البلاد.
8 ـ مؤامرة إجلاء المسيحيين من الشرق الأدنى:
فمنذ السبعينيات كنت أتجاذب أطراف الحديث مع المرحوم الأب يوسف حبي الذي خاض غمار هذه التجربة، إن هناك مؤامرة يهودية ـ صهيونية غربية في تفريغ الشرق الأدنى (لأنني أرفض مصطلح الشرق الأوسط الذي وضع لخدمة إسرائيل) لهذا أرفضه رفضاً تاماً، وأحبذ استعمال الشرق الأدنى أو المشرق العربي. وكثيراً ما عقدنا حول الموضوع محاضرات وندوات دون فائدة، وجرت المياه تحت التبن بحسب المثل الشعبي، فجرفته، وما تركت له تالي. وما زالت المؤامرة تحبك وتسبك أقوى وأشد وقد لا تنتهي وإن انتهت فإنها لا تبقي ولا تذر، سيما نسّاجوها القوى الكبرى دينياً ومدنياً.
9 ـ عقدة الكنيسة المشرقية ووحدة الكنيسة الجامعة:
فمنذ فجر الكنيسة الأولى جرى نزاع وخصام وانفصال بين كنيسة المشرق والكنيسة الغربية، بسبب بعض العقائد الرئيسية حول لاهوت المسيح وناسوته. حتى وصل الأمر إلى التناقض والتنازع بين القطبين واحتدم حتى وصل إلى المحاربات والاتهامات، فتكون من جراء ذلك عقدة المشرق إزاء الغرب سيما في القرن السادس عشر وعلى اثر سقوط القسطنطينية، وشرعت الكنيسة الغربية تبشر الكنيسة المشرقية بنشر الكثلكة بين أبنائها غاية منها في القضاء أو صهر الكنيسة الشرقية بالغربية والقضاء على تراثها وتقاليدها، ثم انقسمت على ذاتها وما زالت، فخلاص المسيحية المشرقية بوحدتها مع الغربية لدرء خطر الويلات والهجرات سيما بظهور الكنائس الصغيرة والمتهصينة كشهود يهوه والإنجليين والمشيخيين والسبتيين والمورمون واللوثريين وكنيسة الله وغيرها. بحيث وصل عددها ما يقارب الخمسمئة سيما في مشرقنا الذي لم يكن فيه من هذه البدع إلا للكنيسة المشرقية فدخل مع القوات الأميركية عشرات الكنائس في المذاهب المختلفة للتأثير فيها ثم القضاء عليها. فحرام على الكنيسة المشرقية أن تندثر وهذا ما تعمل عليه إسرائيل الصهيونية، لأنه لم يعد يؤمن بأن يسوع صلبه اليهود إلا المشرقيون، فالغربيون راحوا يؤكدون أن يسوع صلبته الحكومة الرومانية، فلا بد من القضاء على أبناء هذا الإيمان، وما قرار تبرئة اليهود من دم المسيح ببعيد منا، هذا أولاً.
وثانياً الوحدة المسيحية للكنيسة الرسولية الجامعة فالانقسام قتل المسيحيين وأضعف كيانهم، فالجنود الرومان لم يشاؤوا أن يمزقوا قميص المسيح ونحن المسيحيون ما زلنا نمزقه، ولا نرغب برأيه.. وهكذا ضعف جسم الكنيسة، وهزل فلا بد من الوحدة الحقيقية بوحدة الكلمة والجسم كيما تلعب دورها الرئيسي كما لعبته يوم انبثاقها. فما دمنا ممزقين لا قيامة لنا والقيامة لا تجري إلا بعودة الروح وعندئذ تطمئن القلوب وتعتمد على ذاتها.
مقترحات وعلاجات
لا بد من وضع الحلول والمعالجات بشأن الكنيسة المشرقية وشعبها كيما يستطيعوا سلامة الوجود بعيش واحد في الوطن الواحد ومنها:
1 ـ أقترح عدم تدريس مادة التاريخ على الأقل لجيل واحد، لنسيان الماضي بمآسيه ومساوئه وخلق مادة جديدة تؤصل المجتمع وتوحده بعيش واحد في المواطنة الصالحة.
2 ـ قبول الآخر كما هو بمعتقداته وخصوصياته أي قبول المسلم للمسيحي وبالعكس قبولاً إنسانياً علمانياً عقلانياً، والعمل المشترك في تطوير المجتمع ورقيه.
3 ـ التعاون القوي والعميق لإنقاذ الآخر والعمل في سبيل الذوبان الذاتي الواحد في بوتقة الوطن وخدمة الله، أي بالنهج على الوطن للجميع والدين لله.
4 ـ الحوار الإسلامي المسيحي الجاد والصريح وليس كما هو معمول به اليوم، المجاملات والمهاترات، لأن حواراً كهذا ولد ويولد ميتاً، فماذا جنينا من مسيرة أربعين سنة من الحوار المنافق، إضافة إلى تنازلات المسيحي أمام المسلم بكثير من القضايا الاجتماعية وحتى العقائدية فمثلاً القول "تجسّد الكلمة في العذراء يساوي تجسد الكلمة في القرآن"، فهل أقبح من هذا النفاق؟
5 ـ المشاركة القوية في الممارسات الاجتماعية لبناء المجتمع والدولة والسعي في تعميمها على صعيد الكنيسة والأمة فتسمو القيم والمثل العليا…
6 ـ سيادة الديمقراطية في مناحي الدولة، على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والديني بتكوين دولة حديثة تؤمن بروح المساواة والإخاء والحرية، وبإصدار دستور عملي لا ثغرات فيه ولا تساؤلات، بل مفهوم واحد على الصعيد السياسي والاجتماعي المثالي الرصين.
7 ـ إلغاء القوانين والنظم الموروثة من أيام الدولة العثمانية، أي تحديث الدولة على مختلف الأصعدة يسودها القانون الإنساني الذي يعطي قيمة الإنسان والحرص على سلامته وليس الاستهتار بها، أي تحديث الدولة وفتح المجال أمام أصحاب الكفاءات الذين هم يبنون الأمة بالإخلاص والأمانة والوفاء..
هذه المقترحات وغيرها من العلاجات ممكن الحد من هجرة المسيحيين وعنفوان المسلمين بإعلان عدم السير على العنف الهدام والتمسك باللاعنف البناء. ومن خلال ذلك يمكن النظر على واقع المسيحية في العراق بالعصر الحاضر، والرجوع إلى ما كانت فيه المسيحية والمسيحيون من مكانة الكنيسة وأبنائها أيام الدولة العباسية حيث كان المسيحيون أعمدة الحضارة الإسلامية، حيث قدموا خلاصات تفكيرهم لبناء أمة تشهد لها الأمم، بما صنفوه، وألّفوه، وابتكروه وترجموه من اللغات الأخرى في سبيل بسطه أمام أبناء جلدتهم من المسلمين لقمة سائغة تحت عنوان "أهل الكتاب" فهم نور العالم وملحه، بحسب ما نعتهم به معلمهم الإلهي يسوع المسيحي "أنتم نور العالم، وأنتم ملح الأرض" و"حبة الحنطة إن لم تقع في الأرض وتمت فلا تأتي بثمر كثير" ثم أنتم خميرة الأرض وخمره تهبون ما لكم للنفس والجسد للمادة والروح…
* محاضرة الأب سهيل قاشا في مؤتمر مركزية مسيحيي المشرق
المنعقد في شهر تشرين الثاني 2011.