مرّت على الهلال الخصيب المعروف بخصبه تطورات هامة جداً، من النواحي الزراعية والسكنية كبناء القرى والنواحي والمدن، حيث كانت دمشق أقدم مدينة مأهولة في العالم، بفعل أهليتها وقدرة إنسانها على التفاعل مع الأرض والمناخ، ما أوجد حالة زراعية وصناعية وحرفية، منها صناعة السفن، حيث شكّل البحر تحدياً أكبر لقدرة الإنسان حفزها على الاختراع لتلبية الحاجات الضرورية لاكتشاف العالم وتحسينه.
ومع تحول البحر المتوسط إلى بيئة آرامية تحفز العقل المشرقي ليتوّج البشرية بأفضل إبداعاته الجليلة التي تفتحت مع توسّع التواصل بين الشعوب بالإشارات أولاً ومن ثم اختراع الأبجدية والأرقام لتسهيل التبادل التجاري والصناعي والزراعي، والإبرة والخيط لبدء صناعة الأناقة المظهرية، والدولاب لافتتاح عصور السرعة ونهب المسافات، والقوانين لضبط التعاملات في قسطاس مستقيم، والهندسة لإعادة تحديد المساحات النهرية بعد كل طمي.
بعد تحقيق التطور الاقتصادي والعمراني والاجتماعي وفي مناخ متطور من أجل الحصول على المعرفة ووسائل تسخيرها لخدمة الإنسان تقدّمَ العقل الآرامي في كشوفه العلمية حتى قارب الذرة على يد ماكوس الصيداوي، ومن جانب الفلسفة بدأت تساؤلاته عن الخلق والوجود والمصير تتصاعد حتى أنتج ادباً خالداً وفلسفة حكيمة، وكان الموت هو الهاجس الأكبر للإنسان والخلود الفردي استغرق جهوداً كبيرة حتى تحقق استحالته، وتركزت حكمة ان الخلود هو للعمل البناء الذي يحسن الحياة ويرقى بها. بدأ فلاسفتنا يفكرون في حجب الوجود وألغاز ماهيته في أسئلة خطيرة أسست التفكير الفلسفي كله في العالم وما زالت: من انا؟ من نحن؟ من أين اتيت؟ ما مصيري؟ ما الحياة؟ ما الموت؟ ما العمل؟…
تقدم وسائل التواصل بين الشعوب أسهم ليس فقط في التواصل السلعي بل في لقاح معرفي فكري، غدت السفن المحملة بالمنتجات الفينيقية والرافدية محملة بمنتجات عقول وأفكار وأدب وفلسفات ونظرة جديدة إلى الكون والحياة والإنسان والفن انبثت في أنساق ملحمية وأسطورية وقوانين وقيم وأنظمة. وبخاصة في اسطورة "عندما في الأعالي" التي أسست لكل الفكر الديني في العالم. وأكدت أنها تجربة إبداعية من طراز رفيع بها بدء كل شيء، كما قال صموئيل كريمر.
استطعنا ان نكرس اننا الأمة الوحيدة التي تعلم غزاتها جميعاً، ولو ائتلفوا عليها، وتلاقت مصالحهم مع فئات متحجرة أساءت تلقف الفضائل السورية الكنعانية فعقتها، فتلاقت مصالح الرومان المحتلين كنظام طبقي مطلق بين مواطنية رومانية ضيقة وبربرية الغير، مع أيديلوجية توراتية تلمودية تعتمد التصنيف المطلق ذاته تقديس الذات وشيطنة الآخر، واعتبار الآخر هوام حشرية، خطران بذلا الكثير لطمس ذاتنا الأصيلة وروحنا النبيلة، فضيلة أخلاقية وعمراناً وتمديناً، ما نقل عما قاله الإله السوري القديم: "دع سيفك وامتشق معولك واتبعني".
الصراع بين الصنمية السياسية الرومانية والصمنية اليهودية من جهة والروح السورية الكنعانية المتفاعلة على كل بيئتها الرافدية الآرامية تصاعد بين عبادات أصنام وبين التوحيد في عبادة إله واحد مسيح متجسد إنساناً متحدياً كونه معلناً ذاته ابن الله المرسل لخلاص البشرية جمعاء بالحب والاهتداء بالنور، وفق تعاليم المسيحية المشرقية، كتعبير عن فعالية القوى الكامنة في شعبنا وكرد فلسفي استراتيجي على التساؤلات الماورائية والتحديات الوجودية الكبرى.
بدأ الإيمان الجديد المتسق مع تاريخنا الفلسفي والديني ينشط وينتشر ويلاقي استجابة لافتة وسريعة في النفوس فترى فيه تعبيراً عن توقها النفسي، وأخذ يوجد له بيئة حاضنة فتنير أفكاره قلوب أهلها وتنقذهم من تشوّش مستحكم بفعل الاختلاط والتشوش.
تنبه الرومان المحتلون لخطورة انتشار التعاليم المسيحية الجديدة واعتبروا ظهور المسيح الأعزل من أسلحتهم ومن مظاهر القوة المدمرة هو التحدي الأكبر لسلطتهم في المنطقة، وهم من بلغ حينها شأواً متقدماً في صناعة القوة لأجل القوة والسيطرة، تلاقى هذا التنبه مع مصلحة اليهود الوافدين من مكان ما، ما زال ملتبساً حتى اللحظة، واستوطنوا بعض مناطق في فلسطين حاملين اعتقادات طوطمية بائدة غير قابلة للتطور، واتفقا على التخلص من المسيح المرسل من لدن الله لخلاص البشرية.
كانت هذه المعركة التي خاضتها المسيحية ذات وجهين: أحدهما بوجه الرومان والثاني بوجه اليهود، لم يتحمل التحالف اليهودي الروماني، ظاهرة المسيح الإله فعمل بقوة للقضاء عليها، إلا أن المسيح مع رسله تمكنوا من المواجهة، فكانت محاكمة المسيح عند بيلاطس البنطي من أشد وأقوى محاكمات التاريخ، وما يمكن ان يواجهه ابن الله المرسل، فعندما سأله الحاكم الروماني: هل انت ابن الله؟ كان جوابه: أنت قلتَ. ولما عجز عن إيقاعه في شرك أسئلته أسلمه للجماهير اليهودية وخيّرها بين إعدام مجرم او صلب المسيح، فاقترعت أن تطلق سراح المجرم وأن تطالب بصلب المسيح، ولما أسقط في يد بيلاطس عندها قال قولته الشهيرة: أنا بريء من دم هذا الصديق. وكان عذابه على الصليب قاسياً جداً، إذ قال: يا إلهي أبعد عني هذه الكأس. هكذا أسست دماء المسيح وآلامه المسيحية وتعاليمها.
أسست المسيحية بانتشارها الأولي في الهلال الخصيب مراكز التعبد والرهبنة والصلاة والفكر والزهد والتنسك، انطاكيا، الرها، نصيبين، قنسرين، معلولا، وقدّمت رجالاً ونساء كباراً في عالم الروح والسمو النفسي، منهم الراهب بحيرة الذي التقاه النبي محمد بن عبدالمطلب خلال رحلاته الى دمشق وتلقى على يديه تعاليم المسيحية وانفتحت أمام روحه نبوة جديدة مكملة، حيث لم تجد المسيحية استجابة كافية، كانت المحمدية تمتد وتخاطب حاجات تلك الشعوب لتنقذها من صنميتها.
المسيحية التي افتتحت العالم ونقلته إلى مجد روحي عظيم تعاني اليوم خطرين محيقين بها، يهددان مستقبلها: اكتفاء أتباعها بطقوس شكلية واستسهالهم قشورها بعدم الغوص في مداها الروحي والقيمي الرحب، وخطر الاقتلاع والإبادة الذي تواجهه في العالم الإسلامي فضلاً عن خطر اقتتال هذا العالم الاسلامي بين مذاهبه ما يشكل تهديداً مباشراً لبيئة السلام الضروري للتفاعل البناء الذي تحتاجه المسيحية لتزدهر ويريده المسيحيون ليكونوا دعاة حب وسلام. بخاصة ان اكثرية غربية أوروبية واميركية لم تفهم المسيحية كما هي، بروحها المشرقية بل فهمتها من منطقها العرقي العنصري وأسقطت عليها مقولاتها، فظهرت نزعات مارتن لوثر وجون كلفان التي فهمت المسيحية كتتمة لنبوءات لعهد القديم.
المسيحية تعبير فلسفي وإيماني مشرقي لتصويب التراث الديني من صنمية ضيقة غلى قيم حب شاملة وعطاء وفداء بلا حدود، ومن حمل رايتها من رجالنا ونسائنا وكانوا شهداءها من بولس وبطرس وتقلا وبربارة وغيرهم أوصلوا رسالتها إلى وجدان البشرية فانتصرت لأنها حق أكدته قوة الروح المؤمنة بالعقيدة وانقرض أعداؤها لأنهم باطل تستدرجه المصالح الطارئة إلى نهاية محتومة. وها هو الإيمان المنتصر عاد واستجمع العالم حول حقيقته وانتصر في قلب روما نفسها، وأي روما اخرى بعدها، مؤسساً حاضرة الفاتيكان الرسالية على صخرة بطرس العتيدة، ابن بلادنا، التي بنهجها يركع ويصلي أكثر من مليار مؤمن.
وما يواجهه المسيحيون اليوم في العالم العربي خاصة، من سعي ملح لتهجيرهم وإبادتهم، على يد جماعات متطرفة وتكفيرية باسم الإسلام من ضمن خطة دولية لإعادة فرز سكاني جريمة كبرى بحق الإنسانية وبحق التاريخ، إذ يقتلع المسيحيون من بيئاتهم التاريخية وانتمائهم إلى بيئات غريبة عليهم لإعادة أوطانهم الأصلية إلى تخلف عرقي وظلام ديني دموي والسيطرة على مواردها المكتشفة حديثاً.
هل يعي المسيحيون ضرورة التوحد مع الاتجاهات العلمانية والأفكار المنفتحة التي أسسها كبار منهم، لتفويت الفرصة على أعداء الإنسانية والوطن، فما تعرضت لها راهبات دير مار تقلا قي معلولا من خطف وإهانة هو نموذج عن التغريبة المسيحية المقبلة إذا لم نكن بمستوى التحدي التاريخي الذي يضعنا الإرهاب التكفيري وداعموه العرب وغير العرب امامه وجهاً لوجه؟
هل يعي الموارنة، الذين حرصوا على مسيحية نقية وأصيلة، أقرب ما تكون إلى منبعها الآرامي لغة ونهجاً واتخذوا من أنطاكيا مرجعاً مسكونياً دورهم اليوم ووظيفتهم والشهادة التي تجب عليهم وتلزمهم لاستجماع القلوب والقوى للسلام والوطن، بدلاً من عبث التعصب والارتجال والتغريب والخفة الذي ينم عنه قول احدهم: فليحكم الاخوان!
المسيحية مشرقية نشأة ورسالة
90
المقالة السابقة