102
يتعرض الناقد الدكتور جان نعوم طنوس لديوان "المحبرة"، للشاعر جوزف حرب، والمؤلف ليس مسؤولا عن آراء الشاعر حرب، بل عمد الى غربلتها متخذاً موقفاً نقدياً، بعيداً عن المدح المقنع، والهجاء الساخر أو المستتر. ان مهمته صعبة وجليلة، ومراده ان يستخلص من تلك الذهنية المانوية التي عمت بلادنا كالوباء : تنزيه الذات وتحقير الآخر. ان مطلب الحقيقة هو الذي يحررنا من أغلال البيئة ورواسبها." ولئن صح ان المجتمع عامة، والاسرة خاصة يبنيان الفرد بشكل او بآخر فالصحيح أيضا ان التوق الى المعرفة هو من يربي الشخصية على نحو مغاير فكأنه يقوم مقام الأبويين والوسط البيئي".
المقدس والمدنس
من الواجب إعادة النظر في مسائل ثنائية كالايمان والشك، والجسد والروح، والارض والسماء، فكلها متألقات لا متناقضات. ولعل شاعرنا جوزف حرب يصدر عن هذا الاتجاه معتمداً على حدسه الاصيل، وعلى مخزونه الثقافي، وتجاربه الحياتية. فكيف نظر حرب الى قضية المقدس، وما يتفرع عنها من قضايا؟ !
يقول المؤلف : " بداية يرى حرب ان الانبياء والقديسين تعذبوا واضطهدوا في سبيل مبدأ أعلى يهب الحياة لكل شيء. غير ان الارض تكاثرت خطاياها، وكانت هذه الاخيرة أقبل قبل مجيئهم والذنب هنا لا يعود الى الشرائع بقدر ما يعود الى عوامل عديدة يصعب حصرها منها عمل الكّهان المجاني للرسالة السماوية". واللافت ان يتغنى بشرائع الانبياء الى حد مذهل وينعتها بكل صفة ايجابية كالملائكة، والخصب، والعدل، والسلام، وسرعان ما ينتفض على ذاته الى حد التشكيك بهذا التمجيد السابق.
ويشير المؤلف الى ان الحياة الخصبة لا تظهر عند حرب في كبت او قمع الميول الحيوية، بل في التعبير عنها، وهو التعبير الذي يسمى خطيئة. المقدس عنده ليس تعزيز الروح على حساب الجسد، بل انطلاقة الجسد والحب والغواية الى حد يجوز القول، عنده ان المبارك الروحي منفصلا عن الغريزي هو ملعون كما ان هذا الملعون " اذا نظر اليه على انه ممارسة الحياة، هو المبارك عينه وبكلمة، المقدس عند حرب هو الحياة نفسها، ولا سيما ما يتصل بأهوائها الطيبة وكأن الدين عنده هو دين الخطيئة وليس دين التقوى والزهد".
كما ان الشاعر جوزف حرب يرفض ديانة الخوف التي تنشىء عبيدا لا أحرارا، فكأنه يردد مع الامام علي بن أبي طالب : " ان قوماً عبدوا الله خشية، فتلك ديانة العبيد، وان قوماً عبدوه محبة وتلك ديانة الاحرار". واذا قلنا الخوف قلنا سلطة متسلطة لا تشل العقل فقط بل تشل الشعور والارادة ولكن نقيض الخوف هو الحب وقد قال هيغل في هذا السياق: " ان الله هو الحب والحب هو الله، ولا يوجد لاهوت آخر غير الحب.. فاذا حلّ الحب وحلّ الله بين البشر هكذا يمكن ان توجد آلهة". الخوف من وجهة نظر المؤلف موت النفس يستحق العقل ويميت الاشواق الخيرة وبدلاً من ان تنفتح ورود الجمال والحب، يُغل الانسان في قيود الكراهية والتبعية والتمرد السلبي.
الجنس المقدس
يرى بعض الفلاسفة والمفكرين قديماً وحديثا ان المسيحية قلبت رأسا على عقب القيم الدينية الوثنية وأفسدت العلاقة بين المقدس والمدنس . فبدلاً من تمجيد الجسد وتكريم المرأة، نادى أباء الكنيسة بالويل والثبور ، حتى انهم حقّروا الغرائز وازدروا الانوثة. وعوضا عن احترام العقل وقدرته على تصحيح اخطائه، بشروا بسلطة ايمانية تفرض على الناس قرضاً، خلقوا هّوة شاسعة بين العقل والممارسة وبين الوثنية والدين الناشىء. ويذهب هؤلاء الفلاسفة والمفكرين الى ان المقدس المسيحي هو المدنس عينه كما ان المدنس الوثني الذي طاما نظر اليه باستخفاف هو المقدس الحقيقي. ويرى البعض بوجود تيارين متناقضين : عبادة الجسد عند الوثنين ثم عبادة الروح عند المسيحيين.
وازاء هذه الاشكالية يتساءل المؤلف : " فما هي نظرة جوزف حرب للجسد والعبادات القديمة؟ وهل الغى ثنائية الروح والدين، ومن ثم الغى الصراع العقيم بين قطبي النفس البشرية؟ والى اي حد نستطيع التمييز الفاصل بين الحب الجنسي والتهتك الاباحي؟ لعل في فصل " السيدة الشجرة" وفصل " السيد الفأس " الواردين في المحبرة ما يجيب عن اسئلة مقلقة قد تهز وجدان المؤمن هزاً عميقاً".
فاللذة ليست هدفا في حد ذاتها والا تحولت الى اباحية انها حسب رأي المؤلف هذه المرأة مرتبطة بطقوس دينية وثنية هي طقوس الخصب. فالكون عبارة عن تلاقح الذكورة بالانوثة، والانسان بواسطة الجسد هو الذي يعين الطبيعة على خصبها ويجددها . "ولعل الانسان المعاصر يستخف بتلك الطقوس، ولكنها قديما كانت تكتسي بطابع مقدس". وعلى هذا النحو اصبحت المرأة تتكافل مع الارض تكافلا سريا، وبدت الولادة على انها صورة من صور الخصب الارضي بالمقياس البشري، وان لجميع التجارب الدينية المتصلة بالخصب وبالمولد، بنية كونية. ان قداسة المرأة ترتبط بقداسة الارض. وللخصب النسوي ! نموذج كوني! نموذج الارض! الأم الكلية. وهكذا يقول المؤلف "تعطي امرأة شاعرنا عطاء كلياً، فليس فيها ما هو غير طبيعي، لان اللاطبيعي هو الذي يسير عكس مجرى الطبيعي. والمسألة هنا لا تتعلق بثنائية العهارة والطهارة، فربما يؤدي الكبت المتشدد الى ضربين متناقضين ومتكاملين : الطهارة التي قد تنقلب الى اباحية. وهذه الاخيرة قد تؤول الى روحانية مفصولة عن الجسد".
ان القيم المسيحية هي التي روّضت الوحش الروماني، وقلصت أظافره وزرعت في تربته القاحلة شيئاً من الروحانية، ولسنا نجد حيال مشاهد التعّهر والاغتصاب، ما نقوله غيركلمات القديس بولس :" لو كنت انطق بألسنة الناس والملائكة ولم تكن في المحبة فانما أنا نحاس يطن او صناج يرن. ولو كانت فيّ النبوة ، وكنت أعلم جميع الاسرار والعلم كله، ولم تكن فيّ المحبة، فلست بشيء. المحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد المحبة لا تتباهى. لا تأتي قباحة ولا تطلب ما لنفسها. لا تحتد ولا تظن السوء. لا تفرح بالظلم، بل تفرح بالحق". ويعظّم جوزف حرب المرأة في العصر الاموي تعظيما شبه اسطوري على عادة الشعراء الرومانطيقيين والسرياليين.
واللافت حسب اعتقاد المؤلف انه يقيم تناقضاً، ولو خفياً، بين دين اللذة ودين التقوى فالاول رمزه أدونيس وديوتيسوس، والثاني رمزه القديسون الاطهار، " الدين الاول أموي بامتياز لإتصاله بالارض والجسد والغرائز، بينما الدين الثاني ذكوري لاتصاله بالسماء والروح والتسامي. فليس غريبا ان يعبد الرجل المرأة مع انه قديما عبد آلهة ذكوراً". الشاعر جوزف حرب منحاز الى الانوثة، ويرى السعادة في الجسد لا في التسامي والكتب ، في الارض وليس في السماء.
الفناء المرعب
ان شاعرنا صادقا مع نفسه لا يكبت مشاعره فقد استطاع ان يبدع لنا نصا من نصوصه الساحرة فالخوف من الموت هو الخوف على الحياة نفسها، ومن لا يشعر بهذا الخوف من الصعب القول انه عاشر الحياة بألوانها المختلفة. ويلفت المؤلف النظر الى ان صاحب المحبرة لا يطيق الوداع والتخلي عن هذه الارض لو بعث من عالم آخر أكثر جمالا، او اكثر سوءاً من عالمنا هذا. فمن يخيّر بين ممارسة الجنس وجمع أموال الدنيا وبين حب البقاء؟ " فهذا النزوع هو الذي يجعل الشاعر متشبثا بالحياة يفضّل "الهنا" على "الهناك"، ولا عجب فإن الخوف من الموت في رأي الماديين هو موجد العوالم الماورائية وعلّة نشوء الأديان فما يتمناه حرب هو العيش على هذه الارض شريطة ان تنأى عنه عاهات الروح والجسد على ان هذا التمني نابع من جزع الرحيل وهو شعور صادق طبيعي ".
ان حرب كما نرى لا يطيق فراق هذه الارض التي يراها الحقيقة الاولى والاخيرة وكيف يفارقها وهو لا يؤمن بعوالم أخرى، ولا ثقة له بكلام قديس او كاهن؟
وباعتقاد المؤلف ان مسألة خلود الروح هي عند جوزف حرب امر مضحك ولو عبر حرب عن شكوكه لكان الامر مقبولا اما ان يعد الماورائيات شيئا سخيفا فكلام يفتقر الى الجدية والعمق خصوصا ان فلاسفة عظاماً كانت لهم آراء ذات شأن في هذه المسألة الخطيرة ولعل مرّد هذا الاستهزاء بقول المؤلف " يعود الى المادية الغليظة التي تمّسك بها حرب، وكأنها الحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الريب من أمامها ومن خلفها".
ان تنطح العقل لاستجلاء أسرار الحياة والموت امر مخيف، يورث الدوار وربما الخيال. فكيف نستطيع الايمان بما هو فوق المحسوس ما دمنا اسرى هذا المحسوس؟ وكيف نتفلّت عن قيد الزمان والمكان ونحن قد كبلنا انفسنا بهما؟ لقد فقد حرب كما يراه الدكتور جان نعوم طنوس، تجربة الرجاء التي تختلف عن الامل، فهذا الاخيرمتصلب أمنيات قد تتحقق. اما الرجاء " فهو الامل بأمور غير يقينية، وقد يشتد هذا الأمل كلما إدلهمّ الظلام، وأحاطت بنا الحيرة. ولعل تاريخ الشعوب والأفراد شاهد على هذا الايمان الذي يزحزح الجبال" فحيثما طالعتنا الانقاض، رأينا الانسان وينتفض على الدمار والموت.
غموض المطلق
ما تصور البشر الله الا اسقطوا عليه تجاربهم البشرية، حتى ليصح قول أحد المتصوفين: " ما وضعناه بوصف الا كنا نحن ذلك الوصف". لكن المطلق يتعالى على القصورات البشرية، على نقيض ما ذهب اليه الفيلسوف فيورباخ القائل ان سر الله هو سر الانسان نفسه. فهذا الفيلسوف في رأيه، هو الذي أخترع الفكرة الالهية، وأفرغ فيها صفات الانسان وميوله الخاصة. ومن وجهة نظر المؤلفان هذا الرأي فيه شيء من الحقيقة، بدليل ان الله يتراءى تبعا للحالة الحضارية، رباً شبيها بالطاغية، كما يتراءى أيضا إلها حنونا يترأف بأبنائه فالثابت ان المجتعات المستبدة والمستغلة تنتج إلها على شاكلتها، في حين ان المجتمعات العادلة لا ترى فيه الا طاقة محبة ورحمة. غير ان للانسان نفسه دورا في هذا الشأن فكل معبود يشابه عابده.
ولكن جوزف حرب يخطىء إذا يدعو الله " أنا" ذلك ان كل انجاز عظيم يتجاوز "الأنا" على الرغم من جذوره الضاربة فيها "العلاقة ب "الأنت" هي سر العاطفة الدينية التي تتجلى في علاقة الانسان بأخيه الانسان، وبالطبيعة وبالله" ان الله في ذات الانسان ولكنه ليس ذات هذا الانسان تحديدا فهو ما يتجاوزها.
والمثير للدهشة ان جوزف حرب تارة ينّزه النص الديني من كل عنف وإرهاب، وتارة اخرى يتهمه بالطغيان والقسوة . هذا التناقض بين السلب والايجاب يطبقه على الله نفسه، وجودا ونفيا الله محبة والشرائع يجب ان تستلهم. ذلك الشعور السامي الذي يصيّر الانسان انسانا والله متجليا في مخلوقاته على ان شاعرنا يذكر مشكلة الالم التي لا حل لها واضحا في هذه الدنيا الفانية.
ويقول المؤلف: " لعلنا نشاطر الشاعر قلقه فلا حل جذريا، او عقليا لمشكلة الالم والشر". وثم من يقول : وان وجود الشر ليس عقبة تعترض الايمان بالله، وانما الشر برهان على وجود الله، وتحد للعودة الى من ينتصر فيه الحب على البغض والاتحاد على الانقسام والحياة الابدية على الموت".
ان جوزف حرب مؤمن على طريقته الخاصة، ولكنه مؤمن يشك بالتصورات الدينية الشائعة ان في اعماقه بذرة إلهية لا تموت. ولعلها هي التي دفعته الى كتابة " المحبرة" رغبة في اكمال عملية الخلق. وبعد، " ألا يتجلى الله في الشك والعذاب والتوق الى الاكتمال؟ أيكون الله مع الغني المطمئن الى اقواله ، ولا يكون مع الفقراء القلقين على اولادهم؟ ان المؤمن اللامبالي، المؤمن النرجسي، أبعد ما يكون عن الخير المطلق اما الشاعر الشكاك فهو الاقرب اليه لانه يفتش عن الحقيقة حتى لو لم يصل اليها".
كتاب الكون وتصحيحه
يلجأ الفكر الحديث الى عملية قلب القيم السائدة منذ نشوء الاديان التوحيدية فاذا كان الله محور الوجود قديماً فالانسان هو الذي يقوم الآن بهذا الدور واذا كانت الخطيئة شبحاً مرعباً يقضّ المضاجع، فانها تصبح في هذا العصر عودة الى البراءة وكمالا للشخص البشري اما الجسد الذي رُؤل قديما فانه يستعيد مكانته ليجوز القول ان حضارتنا هي حضارة الجسد ويقول الدكتور جان نعوم طنوس في هذا المجال :" ليس غريبا ان نجد شعراء ومفكرين يؤثرون قابين على هابيل والحياة المغوية على بلادة آدم كما يؤثرون التمرد على الطاعة السلبية والعقل على الايمان وقل الامر نفسه في الجنة والجحيم فلم يعودا مكانين في العالم الماورائي، وإنما هما حالتان نفسيتان معيشتان على هذه الارض. وها هو ابليس او الشيطان يستحيل كائنا نورانيا نبيلا عند الشعراء الرومانطيفيين. ولا سيما عند بايرونو وهوغو ودوفيني".
وفي سياق تيار الحداثة كتب الشاعر جوزف حرب "المحبرة" وفيها فصل عن ابليس بعنوان "الناقد" غير انه لا يعتقد بوجوده الميتافيزيقي بقدر ما اتخذه رمزا الى الانسان المتسائل الشاك المنقّح لكتاب الكون، وما يتضمن من تصورات بشرية ودينية شائعة.
وعندما ننزع صفة المقدس حسب اعتقاد المؤلف نتيح للعقل ان يشك وينقّح باب التجارب التي لا تحصى تلك هي الخطوة الاول التي تعيد إصلاح الكون، ان صح التعبير .
ففي مقابل المطلق حيث لا نقاش ولا حوار يحل النسبي بما ينطوي عليه من وعد وامكانات خبيئة من هنا يرى ابليس الشاعر ان نص الخالق سبحانه وتعالى قليل الفعالية ولعله يشير الى التصورات الدينية السائدة.
وفي الحقيقة لا يكفي ان نفسر العالم ولكن علينا بقول المؤلف: " تغييره تلك هي صرخة ابليس في شعر جوزف حرب فلقد كان الشيطان مغيرا للعالم ولكنه لم يدع الى الشر كما يقول الشاعر فما أغرى أحدا بارتكاب الاثم ولا أقام سحرا ولم يبن معبدا ولم ينشر الخطيئة". انه اذاً العقل البشري الذي صوره الكهان بصورة ابليس.
واذا كان جوزف حرب يقرأ اعمال العقل فان الكثير من الفلاسفة واللاهوتيين لا يفصلون بين مملكة العقل ومملكة الروح شريطة ان تكون الاخيرة متفتحة ولا نهائية. وبكلمة موجزة العلماء والفلاسفة أصدقاء الحقيقة الايمانية شريطة ان تكون منفتحة فليس بعجيب ان يتسبب حرب بأثارالعقل ويجد فيها ما يخدم الانسان اكثر من الحقائق الدينية التي حنطها رجال الدين.
الارض هي المهد والقبر معا
طالما كانت الارض موضع ازدراء عند بعض الفلاسفة كأفلاطون الذي فصل فصلا تاما بين عالم المحسوسات وعالم المثل فامتهن المادة وما يتصل بها من رغبات يراها شريرة فاسدة ولم يسلم المتصوفة من هذه النظرة السلبية فأداروا ظهورهم للدنيا الفانية او لوادي الدموع كما يقولون وتاقوا الى دنيا البقاء الى دائرة النور متذرعين ان الحياة الدنيوية تخلو من السعادة الحقيقية وما من هجاء أعظم من هذا الذي وجّه الى المادة حتى ان اللاهوت المسيحي الحديث قام بنوع من الثورة الجديدة محاولا التوفيق بين ما عّد متناقضات لا سبيل الى التوفيق بينها.
ولعل كلمة الارض يقول المؤمن: قد تعني أمورا كثيرة انها تعنى الجسد والغرائز والمرأة إضاعة الى الهدف الاقصى للحياة من الطبيعي اذاً ان يتشبث الفكر المعاصر بما رذل وقمع قديما واذا بالمقاييس تنقلب راسا على عقب فتغدو الارض مطلقا جديدا وتتراجع الدوافع الروحية واذا بالانسان نفسه حفنة من التراب تأويه في قبرتنهي فيه الآمال".
تلك هي الفلسفة المادية التي يؤمن بها بعض أرباب الحداثة الفكرية والشعرية ومنهم شاعرنا جوزف حرب.
ويشير المؤلف الى ان الارض في نصوص المحبرة لحرب هي الخالقة، وباعثة الحياة في كل شيء في حين ان التصور الديني يغزو قوة الخلق الى الله سبحانه وتعالى حتى ليبدو سيد الارض والسماء وليس في شعر حرب ما يغيد وجود قدرة تعلو على المادة بل ان الارض تكتسي ابعادا ربما لا تخطر على بال فنرى الارض إمرأة بنوع من التشخيص الشعري تعاني سبق الشهوة " وتسكنها امومتها للكائنات.نهدها يدر لبنا وعيناها برئيتان سماويتان فلا إثم فيها ولا خطيئة وربما أوما الشاعر الى عملية الخصب في الطبيعة فكأن مواليدها (اأشجار والنباتات والناس) لا يخلقون الا بعد شهوة جنسية كالمرأة تماما الى ان تحين لحظة الوضع " حسب قول المؤلف".
ما ينطبق على ربات الخصب والجنس ينطبق على عشيقة شاعرنا ولا عجب فأولئك الإلالهات يرمزن الى الارض نفسها فهن عذراوات يحبلن وهن الامهاب يلدن وربما تكون هذه الفقرة راسخة عند عدد من الشعراء والادباء.
ان فكرة الارض العذراء الام. من منظور المؤلف غائرة من القدم وقد استهوت خيال الشاعر حرب خصوصا انه يصدر أحيانا عن نظرة مادية فكيف لا يمّجد الأرض وهو فيها واليها يعود بعيدا من أي عزاء ما ورائي ان امومة الارض راسخة في العقل البدائي والمخيلة الشعرية، ان جوزف حرب يرى في الارض حبيبة لانه يجب الحياة الحلوة فيها فلولاها لاستحال البقاء حتما. ويرى المؤلف ان الارض تتراءى للشاعر حرب.النبع الابدي والبيت الكوني وحارسة الحياة من الفناء اما عريسها فهو الماء المخصب وما الجبال الا بطون هذه الارض بينما يمثل الطين أداة الخلق والتوليد.
+++++
المسألة الفلسفية في شعر جوزف حرب
دار النهضة العربية بيروت
تأليف : الدكتور جان نعوم طنوس
المقدس والمدنس
من الواجب إعادة النظر في مسائل ثنائية كالايمان والشك، والجسد والروح، والارض والسماء، فكلها متألقات لا متناقضات. ولعل شاعرنا جوزف حرب يصدر عن هذا الاتجاه معتمداً على حدسه الاصيل، وعلى مخزونه الثقافي، وتجاربه الحياتية. فكيف نظر حرب الى قضية المقدس، وما يتفرع عنها من قضايا؟ !
يقول المؤلف : " بداية يرى حرب ان الانبياء والقديسين تعذبوا واضطهدوا في سبيل مبدأ أعلى يهب الحياة لكل شيء. غير ان الارض تكاثرت خطاياها، وكانت هذه الاخيرة أقبل قبل مجيئهم والذنب هنا لا يعود الى الشرائع بقدر ما يعود الى عوامل عديدة يصعب حصرها منها عمل الكّهان المجاني للرسالة السماوية". واللافت ان يتغنى بشرائع الانبياء الى حد مذهل وينعتها بكل صفة ايجابية كالملائكة، والخصب، والعدل، والسلام، وسرعان ما ينتفض على ذاته الى حد التشكيك بهذا التمجيد السابق.
ويشير المؤلف الى ان الحياة الخصبة لا تظهر عند حرب في كبت او قمع الميول الحيوية، بل في التعبير عنها، وهو التعبير الذي يسمى خطيئة. المقدس عنده ليس تعزيز الروح على حساب الجسد، بل انطلاقة الجسد والحب والغواية الى حد يجوز القول، عنده ان المبارك الروحي منفصلا عن الغريزي هو ملعون كما ان هذا الملعون " اذا نظر اليه على انه ممارسة الحياة، هو المبارك عينه وبكلمة، المقدس عند حرب هو الحياة نفسها، ولا سيما ما يتصل بأهوائها الطيبة وكأن الدين عنده هو دين الخطيئة وليس دين التقوى والزهد".
كما ان الشاعر جوزف حرب يرفض ديانة الخوف التي تنشىء عبيدا لا أحرارا، فكأنه يردد مع الامام علي بن أبي طالب : " ان قوماً عبدوا الله خشية، فتلك ديانة العبيد، وان قوماً عبدوه محبة وتلك ديانة الاحرار". واذا قلنا الخوف قلنا سلطة متسلطة لا تشل العقل فقط بل تشل الشعور والارادة ولكن نقيض الخوف هو الحب وقد قال هيغل في هذا السياق: " ان الله هو الحب والحب هو الله، ولا يوجد لاهوت آخر غير الحب.. فاذا حلّ الحب وحلّ الله بين البشر هكذا يمكن ان توجد آلهة". الخوف من وجهة نظر المؤلف موت النفس يستحق العقل ويميت الاشواق الخيرة وبدلاً من ان تنفتح ورود الجمال والحب، يُغل الانسان في قيود الكراهية والتبعية والتمرد السلبي.
الجنس المقدس
يرى بعض الفلاسفة والمفكرين قديماً وحديثا ان المسيحية قلبت رأسا على عقب القيم الدينية الوثنية وأفسدت العلاقة بين المقدس والمدنس . فبدلاً من تمجيد الجسد وتكريم المرأة، نادى أباء الكنيسة بالويل والثبور ، حتى انهم حقّروا الغرائز وازدروا الانوثة. وعوضا عن احترام العقل وقدرته على تصحيح اخطائه، بشروا بسلطة ايمانية تفرض على الناس قرضاً، خلقوا هّوة شاسعة بين العقل والممارسة وبين الوثنية والدين الناشىء. ويذهب هؤلاء الفلاسفة والمفكرين الى ان المقدس المسيحي هو المدنس عينه كما ان المدنس الوثني الذي طاما نظر اليه باستخفاف هو المقدس الحقيقي. ويرى البعض بوجود تيارين متناقضين : عبادة الجسد عند الوثنين ثم عبادة الروح عند المسيحيين.
وازاء هذه الاشكالية يتساءل المؤلف : " فما هي نظرة جوزف حرب للجسد والعبادات القديمة؟ وهل الغى ثنائية الروح والدين، ومن ثم الغى الصراع العقيم بين قطبي النفس البشرية؟ والى اي حد نستطيع التمييز الفاصل بين الحب الجنسي والتهتك الاباحي؟ لعل في فصل " السيدة الشجرة" وفصل " السيد الفأس " الواردين في المحبرة ما يجيب عن اسئلة مقلقة قد تهز وجدان المؤمن هزاً عميقاً".
فاللذة ليست هدفا في حد ذاتها والا تحولت الى اباحية انها حسب رأي المؤلف هذه المرأة مرتبطة بطقوس دينية وثنية هي طقوس الخصب. فالكون عبارة عن تلاقح الذكورة بالانوثة، والانسان بواسطة الجسد هو الذي يعين الطبيعة على خصبها ويجددها . "ولعل الانسان المعاصر يستخف بتلك الطقوس، ولكنها قديما كانت تكتسي بطابع مقدس". وعلى هذا النحو اصبحت المرأة تتكافل مع الارض تكافلا سريا، وبدت الولادة على انها صورة من صور الخصب الارضي بالمقياس البشري، وان لجميع التجارب الدينية المتصلة بالخصب وبالمولد، بنية كونية. ان قداسة المرأة ترتبط بقداسة الارض. وللخصب النسوي ! نموذج كوني! نموذج الارض! الأم الكلية. وهكذا يقول المؤلف "تعطي امرأة شاعرنا عطاء كلياً، فليس فيها ما هو غير طبيعي، لان اللاطبيعي هو الذي يسير عكس مجرى الطبيعي. والمسألة هنا لا تتعلق بثنائية العهارة والطهارة، فربما يؤدي الكبت المتشدد الى ضربين متناقضين ومتكاملين : الطهارة التي قد تنقلب الى اباحية. وهذه الاخيرة قد تؤول الى روحانية مفصولة عن الجسد".
ان القيم المسيحية هي التي روّضت الوحش الروماني، وقلصت أظافره وزرعت في تربته القاحلة شيئاً من الروحانية، ولسنا نجد حيال مشاهد التعّهر والاغتصاب، ما نقوله غيركلمات القديس بولس :" لو كنت انطق بألسنة الناس والملائكة ولم تكن في المحبة فانما أنا نحاس يطن او صناج يرن. ولو كانت فيّ النبوة ، وكنت أعلم جميع الاسرار والعلم كله، ولم تكن فيّ المحبة، فلست بشيء. المحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد المحبة لا تتباهى. لا تأتي قباحة ولا تطلب ما لنفسها. لا تحتد ولا تظن السوء. لا تفرح بالظلم، بل تفرح بالحق". ويعظّم جوزف حرب المرأة في العصر الاموي تعظيما شبه اسطوري على عادة الشعراء الرومانطيقيين والسرياليين.
واللافت حسب اعتقاد المؤلف انه يقيم تناقضاً، ولو خفياً، بين دين اللذة ودين التقوى فالاول رمزه أدونيس وديوتيسوس، والثاني رمزه القديسون الاطهار، " الدين الاول أموي بامتياز لإتصاله بالارض والجسد والغرائز، بينما الدين الثاني ذكوري لاتصاله بالسماء والروح والتسامي. فليس غريبا ان يعبد الرجل المرأة مع انه قديما عبد آلهة ذكوراً". الشاعر جوزف حرب منحاز الى الانوثة، ويرى السعادة في الجسد لا في التسامي والكتب ، في الارض وليس في السماء.
الفناء المرعب
ان شاعرنا صادقا مع نفسه لا يكبت مشاعره فقد استطاع ان يبدع لنا نصا من نصوصه الساحرة فالخوف من الموت هو الخوف على الحياة نفسها، ومن لا يشعر بهذا الخوف من الصعب القول انه عاشر الحياة بألوانها المختلفة. ويلفت المؤلف النظر الى ان صاحب المحبرة لا يطيق الوداع والتخلي عن هذه الارض لو بعث من عالم آخر أكثر جمالا، او اكثر سوءاً من عالمنا هذا. فمن يخيّر بين ممارسة الجنس وجمع أموال الدنيا وبين حب البقاء؟ " فهذا النزوع هو الذي يجعل الشاعر متشبثا بالحياة يفضّل "الهنا" على "الهناك"، ولا عجب فإن الخوف من الموت في رأي الماديين هو موجد العوالم الماورائية وعلّة نشوء الأديان فما يتمناه حرب هو العيش على هذه الارض شريطة ان تنأى عنه عاهات الروح والجسد على ان هذا التمني نابع من جزع الرحيل وهو شعور صادق طبيعي ".
ان حرب كما نرى لا يطيق فراق هذه الارض التي يراها الحقيقة الاولى والاخيرة وكيف يفارقها وهو لا يؤمن بعوالم أخرى، ولا ثقة له بكلام قديس او كاهن؟
وباعتقاد المؤلف ان مسألة خلود الروح هي عند جوزف حرب امر مضحك ولو عبر حرب عن شكوكه لكان الامر مقبولا اما ان يعد الماورائيات شيئا سخيفا فكلام يفتقر الى الجدية والعمق خصوصا ان فلاسفة عظاماً كانت لهم آراء ذات شأن في هذه المسألة الخطيرة ولعل مرّد هذا الاستهزاء بقول المؤلف " يعود الى المادية الغليظة التي تمّسك بها حرب، وكأنها الحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الريب من أمامها ومن خلفها".
ان تنطح العقل لاستجلاء أسرار الحياة والموت امر مخيف، يورث الدوار وربما الخيال. فكيف نستطيع الايمان بما هو فوق المحسوس ما دمنا اسرى هذا المحسوس؟ وكيف نتفلّت عن قيد الزمان والمكان ونحن قد كبلنا انفسنا بهما؟ لقد فقد حرب كما يراه الدكتور جان نعوم طنوس، تجربة الرجاء التي تختلف عن الامل، فهذا الاخيرمتصلب أمنيات قد تتحقق. اما الرجاء " فهو الامل بأمور غير يقينية، وقد يشتد هذا الأمل كلما إدلهمّ الظلام، وأحاطت بنا الحيرة. ولعل تاريخ الشعوب والأفراد شاهد على هذا الايمان الذي يزحزح الجبال" فحيثما طالعتنا الانقاض، رأينا الانسان وينتفض على الدمار والموت.
غموض المطلق
ما تصور البشر الله الا اسقطوا عليه تجاربهم البشرية، حتى ليصح قول أحد المتصوفين: " ما وضعناه بوصف الا كنا نحن ذلك الوصف". لكن المطلق يتعالى على القصورات البشرية، على نقيض ما ذهب اليه الفيلسوف فيورباخ القائل ان سر الله هو سر الانسان نفسه. فهذا الفيلسوف في رأيه، هو الذي أخترع الفكرة الالهية، وأفرغ فيها صفات الانسان وميوله الخاصة. ومن وجهة نظر المؤلفان هذا الرأي فيه شيء من الحقيقة، بدليل ان الله يتراءى تبعا للحالة الحضارية، رباً شبيها بالطاغية، كما يتراءى أيضا إلها حنونا يترأف بأبنائه فالثابت ان المجتعات المستبدة والمستغلة تنتج إلها على شاكلتها، في حين ان المجتمعات العادلة لا ترى فيه الا طاقة محبة ورحمة. غير ان للانسان نفسه دورا في هذا الشأن فكل معبود يشابه عابده.
ولكن جوزف حرب يخطىء إذا يدعو الله " أنا" ذلك ان كل انجاز عظيم يتجاوز "الأنا" على الرغم من جذوره الضاربة فيها "العلاقة ب "الأنت" هي سر العاطفة الدينية التي تتجلى في علاقة الانسان بأخيه الانسان، وبالطبيعة وبالله" ان الله في ذات الانسان ولكنه ليس ذات هذا الانسان تحديدا فهو ما يتجاوزها.
والمثير للدهشة ان جوزف حرب تارة ينّزه النص الديني من كل عنف وإرهاب، وتارة اخرى يتهمه بالطغيان والقسوة . هذا التناقض بين السلب والايجاب يطبقه على الله نفسه، وجودا ونفيا الله محبة والشرائع يجب ان تستلهم. ذلك الشعور السامي الذي يصيّر الانسان انسانا والله متجليا في مخلوقاته على ان شاعرنا يذكر مشكلة الالم التي لا حل لها واضحا في هذه الدنيا الفانية.
ويقول المؤلف: " لعلنا نشاطر الشاعر قلقه فلا حل جذريا، او عقليا لمشكلة الالم والشر". وثم من يقول : وان وجود الشر ليس عقبة تعترض الايمان بالله، وانما الشر برهان على وجود الله، وتحد للعودة الى من ينتصر فيه الحب على البغض والاتحاد على الانقسام والحياة الابدية على الموت".
ان جوزف حرب مؤمن على طريقته الخاصة، ولكنه مؤمن يشك بالتصورات الدينية الشائعة ان في اعماقه بذرة إلهية لا تموت. ولعلها هي التي دفعته الى كتابة " المحبرة" رغبة في اكمال عملية الخلق. وبعد، " ألا يتجلى الله في الشك والعذاب والتوق الى الاكتمال؟ أيكون الله مع الغني المطمئن الى اقواله ، ولا يكون مع الفقراء القلقين على اولادهم؟ ان المؤمن اللامبالي، المؤمن النرجسي، أبعد ما يكون عن الخير المطلق اما الشاعر الشكاك فهو الاقرب اليه لانه يفتش عن الحقيقة حتى لو لم يصل اليها".
كتاب الكون وتصحيحه
يلجأ الفكر الحديث الى عملية قلب القيم السائدة منذ نشوء الاديان التوحيدية فاذا كان الله محور الوجود قديماً فالانسان هو الذي يقوم الآن بهذا الدور واذا كانت الخطيئة شبحاً مرعباً يقضّ المضاجع، فانها تصبح في هذا العصر عودة الى البراءة وكمالا للشخص البشري اما الجسد الذي رُؤل قديما فانه يستعيد مكانته ليجوز القول ان حضارتنا هي حضارة الجسد ويقول الدكتور جان نعوم طنوس في هذا المجال :" ليس غريبا ان نجد شعراء ومفكرين يؤثرون قابين على هابيل والحياة المغوية على بلادة آدم كما يؤثرون التمرد على الطاعة السلبية والعقل على الايمان وقل الامر نفسه في الجنة والجحيم فلم يعودا مكانين في العالم الماورائي، وإنما هما حالتان نفسيتان معيشتان على هذه الارض. وها هو ابليس او الشيطان يستحيل كائنا نورانيا نبيلا عند الشعراء الرومانطيفيين. ولا سيما عند بايرونو وهوغو ودوفيني".
وفي سياق تيار الحداثة كتب الشاعر جوزف حرب "المحبرة" وفيها فصل عن ابليس بعنوان "الناقد" غير انه لا يعتقد بوجوده الميتافيزيقي بقدر ما اتخذه رمزا الى الانسان المتسائل الشاك المنقّح لكتاب الكون، وما يتضمن من تصورات بشرية ودينية شائعة.
وعندما ننزع صفة المقدس حسب اعتقاد المؤلف نتيح للعقل ان يشك وينقّح باب التجارب التي لا تحصى تلك هي الخطوة الاول التي تعيد إصلاح الكون، ان صح التعبير .
ففي مقابل المطلق حيث لا نقاش ولا حوار يحل النسبي بما ينطوي عليه من وعد وامكانات خبيئة من هنا يرى ابليس الشاعر ان نص الخالق سبحانه وتعالى قليل الفعالية ولعله يشير الى التصورات الدينية السائدة.
وفي الحقيقة لا يكفي ان نفسر العالم ولكن علينا بقول المؤلف: " تغييره تلك هي صرخة ابليس في شعر جوزف حرب فلقد كان الشيطان مغيرا للعالم ولكنه لم يدع الى الشر كما يقول الشاعر فما أغرى أحدا بارتكاب الاثم ولا أقام سحرا ولم يبن معبدا ولم ينشر الخطيئة". انه اذاً العقل البشري الذي صوره الكهان بصورة ابليس.
واذا كان جوزف حرب يقرأ اعمال العقل فان الكثير من الفلاسفة واللاهوتيين لا يفصلون بين مملكة العقل ومملكة الروح شريطة ان تكون الاخيرة متفتحة ولا نهائية. وبكلمة موجزة العلماء والفلاسفة أصدقاء الحقيقة الايمانية شريطة ان تكون منفتحة فليس بعجيب ان يتسبب حرب بأثارالعقل ويجد فيها ما يخدم الانسان اكثر من الحقائق الدينية التي حنطها رجال الدين.
الارض هي المهد والقبر معا
طالما كانت الارض موضع ازدراء عند بعض الفلاسفة كأفلاطون الذي فصل فصلا تاما بين عالم المحسوسات وعالم المثل فامتهن المادة وما يتصل بها من رغبات يراها شريرة فاسدة ولم يسلم المتصوفة من هذه النظرة السلبية فأداروا ظهورهم للدنيا الفانية او لوادي الدموع كما يقولون وتاقوا الى دنيا البقاء الى دائرة النور متذرعين ان الحياة الدنيوية تخلو من السعادة الحقيقية وما من هجاء أعظم من هذا الذي وجّه الى المادة حتى ان اللاهوت المسيحي الحديث قام بنوع من الثورة الجديدة محاولا التوفيق بين ما عّد متناقضات لا سبيل الى التوفيق بينها.
ولعل كلمة الارض يقول المؤمن: قد تعني أمورا كثيرة انها تعنى الجسد والغرائز والمرأة إضاعة الى الهدف الاقصى للحياة من الطبيعي اذاً ان يتشبث الفكر المعاصر بما رذل وقمع قديما واذا بالمقاييس تنقلب راسا على عقب فتغدو الارض مطلقا جديدا وتتراجع الدوافع الروحية واذا بالانسان نفسه حفنة من التراب تأويه في قبرتنهي فيه الآمال".
تلك هي الفلسفة المادية التي يؤمن بها بعض أرباب الحداثة الفكرية والشعرية ومنهم شاعرنا جوزف حرب.
ويشير المؤلف الى ان الارض في نصوص المحبرة لحرب هي الخالقة، وباعثة الحياة في كل شيء في حين ان التصور الديني يغزو قوة الخلق الى الله سبحانه وتعالى حتى ليبدو سيد الارض والسماء وليس في شعر حرب ما يغيد وجود قدرة تعلو على المادة بل ان الارض تكتسي ابعادا ربما لا تخطر على بال فنرى الارض إمرأة بنوع من التشخيص الشعري تعاني سبق الشهوة " وتسكنها امومتها للكائنات.نهدها يدر لبنا وعيناها برئيتان سماويتان فلا إثم فيها ولا خطيئة وربما أوما الشاعر الى عملية الخصب في الطبيعة فكأن مواليدها (اأشجار والنباتات والناس) لا يخلقون الا بعد شهوة جنسية كالمرأة تماما الى ان تحين لحظة الوضع " حسب قول المؤلف".
ما ينطبق على ربات الخصب والجنس ينطبق على عشيقة شاعرنا ولا عجب فأولئك الإلالهات يرمزن الى الارض نفسها فهن عذراوات يحبلن وهن الامهاب يلدن وربما تكون هذه الفقرة راسخة عند عدد من الشعراء والادباء.
ان فكرة الارض العذراء الام. من منظور المؤلف غائرة من القدم وقد استهوت خيال الشاعر حرب خصوصا انه يصدر أحيانا عن نظرة مادية فكيف لا يمّجد الأرض وهو فيها واليها يعود بعيدا من أي عزاء ما ورائي ان امومة الارض راسخة في العقل البدائي والمخيلة الشعرية، ان جوزف حرب يرى في الارض حبيبة لانه يجب الحياة الحلوة فيها فلولاها لاستحال البقاء حتما. ويرى المؤلف ان الارض تتراءى للشاعر حرب.النبع الابدي والبيت الكوني وحارسة الحياة من الفناء اما عريسها فهو الماء المخصب وما الجبال الا بطون هذه الارض بينما يمثل الطين أداة الخلق والتوليد.
+++++
المسألة الفلسفية في شعر جوزف حرب
دار النهضة العربية بيروت
تأليف : الدكتور جان نعوم طنوس