تميزت الحالة الثقافية في سوريا طوال عقود أربعة باتباع المثقف السوري رغماً عنه حِميّة فكرية خالية من ألق الأفكار السياسية مع تراكمٍ للشحوم الثلاثية وكولسترول الخنوع والخوف من غياهب سجونِ يُفلت منها شعراء البلاط فحسب.
كان للقبضة الحديدية فعل لقاح النسيان الجزئي بحيث تُرِكَ للمثقف التفكير بإثارة القضايا الإنسانية في الموزمبيق بينما تسطَّحت ذاكرته تماماً عن آفات معيشة الإنسان السوري وحياته وما أكثرها، غير مستثنين من ذلك الجيل المثقف المُسيَّس الذي غُيِّب في السجون أكثر من عقدين، فمنهم من خرج متوارياً عن الأنظار أو تحزَّب سياسياً بشكل مؤدلج وصولاً إلى «إعلان دمشق»، ومنهم من حيَّد نفسه مدعياً الثقافة وبدلاً من الانكفاء على النخبة انكفأ على ذاته، أمَّا من تبعه من جيلٍ شابٍ فقد ورث الإيديولوجيا ذاتها من سابقه، لكنه استطاع بشكل أو بآخر أن يروق للنظام فاعتلى منابره المرعيَّة.
كان اتحاد الكتاب العرب السوريين مجموعة من الأخصائيين النفسيين الذين امتهنوا طوال العقود الأربعة الماضية دراسة تشوهات الأجنة الفكرية ـ بمعيارهم ـ التي يحبَل بها المثقف السوري. فقاموا بعمليات إجهاضٍ لكل جنين فكريّ لا تحمل "كروموزوماته" فكر البعث ومشتقاته من أحزاب ما سُمّيَ بالجبهة الوطنية، قاتلين بذلك روح الإبداع الذي كان من شأنه نقل البلد بسلاسةٍ من نظام لآخر بكل هدوء، فعاش المثقف السوري ازدواجيةً بالشخصية نتيجة الأدلجة الممنهجة لأفكاره من المؤسسات الراعية للفكر آنذاك، يعيش الحالة ونقيضها من دون أن يرفَّ له جفنٌّ ثقافي موردين مثالاً واقعيّاً بسيطاً. فأثناء سريان موضة مقاطعة البضائع الأميركية، منع طلاب جامعة بيروت كل زملائهم الطلبة من تناول الوجبات التي تقدمها مطاعم "ماك دونالدز" الأميركية كخطوة في المقاطعة، ما اضطر رجال الأمن اللبناني التناوب على حراسة أبوابها، بينما أصرَّ المثقف السوري على مغادرة دمشق إلى بيروت لتناول "الهمبرغر"، عائداً إلى دمشق مرة أخرى داعياً لمقاطعة البضائع الأميركية بفيهٍ لمَّا يمضغ "الهمبرغر" بعد.
وكذا قبوله في اتحاد الكتاب العرب كان المثقف السوري مُدَجَّنَ الأفكار نحو نتيجة لا تحتمل التفكير سوى بسلوكٍ أو حلٍّ واحدٍ بديهي هو الموالاة الضمنية المطلقة لسلوك المؤسسة الحاكمة.
عاش المثقف السوري بهذا السقف معتمداً على ثقافة الإسقاط مرتكزاً بأسِّ مرجعيته على كتاب كليلة ودمنة الشهير للفيلسوف "بيدبا"، ساعده بترجمة ما يريد قوله للمتلقي نُقَّادٌ تخرجوا من مؤسسة القمع الفكري ذاتها، ليسقطوا جام غضبهم على مدير المؤسسة بالطرح الروائي والمسرحي والشعري، والذي كان الذقن القريبة السهلةُ النتف بالنسبة لمثقفنا، مُراداً بها السلطة الحاكمة التي كانت تقهقه عالياً بسقف الحرية هذا، وبأولِّ نافذة بوح قفزوا من المدير العام لرأس هرم السلطة، فقالوا ما يريدونه صراحةً لتتسع المفارقة بذهن المتلقي الذي وجد شطحاً بالطرح تركه في متاهةٍ ذهنيةٍ بهذا الانقلاب مما ترك مساحة واسعة لعدم مصداقية معظم ما تم طرحه بأقلام هؤلاء المثقفين وعدم الإيمان بجدواه على أرض الواقع، واستند المتلقي بهذه المحاكاة العقلية على وجود مثقفين من الطراز الرفيع فشلوا بتوحيد الرؤية على الأرض حول آلية خروج المواطن السوري من هذا المأزق الذي وضعتهم به «الثورة»، مثقفون يرى بعضهم بعد أكثر من مئة ألف قتيل وملايين النازحين بأن الشعب السوري يجب أن يتغير، وأنَّ على الأم تحت ظل القصف تعليم أولادها الفصل بين الدين والدولة متناسياً هو وغيره من مثقفينا بأن "للشعوب كلمة أخيرة، فهكذا تقول المقابر الجماعية"، كما يرى عبد الله ثابت. ولأنَّ الشعوب هي من تغير المعادلات فقد وجه الشعب السوري لمثقفيه صفعةً عندما استطاع ومن دون مساندتهم أن يكسر قاعدة الخوف والصمت اللذين لازما سلوك المثقف السوري، وكان للشارع السوري الفضل الكبير بعجن بعض المثقفين في الشارع ليصبحوا فيما بعد بعض نخبه السياسية.
لم يكن يحلم المواطن السوري من جوقة مثقفيه سوى أن يكونوا كمجلس شيوخ روما الذين كانوا ينصّبُونَ على مدخل المدينة منادياً معه بوق ينادي لدى عودة أيِّ قائدٍ منتصر قائلاً:
تذكَّر أنكَ بشر… تذكَّر أنكَ بشر.
فهل فعلها مثقفونا؟ سؤال برسمهم جميعاً!
ما نتمناه من المثقفين نحن من نكبوا بهم رسلاً لنا. تَمَثُّل قول نزيه أبو عفش:
اسمعوا:
الأموات على الشاشة أمواتٌ حقيقيون…
أمواتٌ من لحمٍ وعظامٍ وخوف موت
أمواتٌ ماتوا
أمواتٌ تعذّبوا
أمواتٌ صرخوا قبل أن تجيء الكاميرات:
"أيها العالم الكلب
نبصق على شرفك".
فهل يستطيعون؟
المثقف السوري رسولاً..
92