إن اللغة وعاء الفكر والوسيلة التي بواسطتها تنتقل المعرفة وتتلاقح الثقافات، ولكلّ شعب لغته وهي عنوان هويته وحضارته. واللغة القوية هي من الأمة القوية. نحن العرب ننتمي الى حضارة عريقة هي أم الحضارات ومهد الفكر والعلوم والأديان، بواسطتها نقل أجدادنا نتاجهم الثقافي الى جميع أصقاع العالم المتمدّن. وما من أحد من العرب إلا ويعترف ويعتز بهذا التاريخ المجيد، رغم أننا ومن دون وعي وكما يقول أحد الباحثين: "نردّد عبارات من مثل: "كان العرب"، "قالت العرب"، لندلَّ على من سبقنا على هذه الأرض العربية، بدلاً من أن نقول "أجدادنا العرب قالوا أو فعلوا"، وكأننا غرباء عنهم ولا نمتّ لحضارتهم بصلة"! والمسألة هنا مسألة هوية وانتماء ووعي وجود، يجب تعزيزها والعمل الدؤوب لتنشيطها باستمرار.
يسترعي انتباهنا عناوين تعطى لمؤتمرات تعقد من فترة الى أخرى حول اللغة العربية من مثل "أسباب تعثّر اللغة العربية ومحاولات النهوض بها"، ويلفتنا تحديداً تعبير "تعثّر" وكأن في الأمر تأكيداً وحكماً مبرماً وأمراً ناجزاً وتاماً من أن اللغة العربية متعثّرة حقاً. وهذا ما نتحفّظ عليه لأسباب عدة نذكر أبرزها الآتي:
أولاً: كون لبنان كان وما يزال وسوف يبقى رائداً في الحفاظ على اللغة العربية على عكس ما يُعتقد خطأً، فمن الإجحاف بمكان ترداد أن اللغة العربية هي في مأزق اليوم بعد كل الجهود التي قام بها اللبنانيون بشكل خاص، والتضحيات التي قدّموها والمصاعب التي واجهوها خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ضد محاولات طمس اللغة العربية وتهميشها، بحيث أدّت أعمالهم اللغوية الى حمايتها من الضياع التام، وقد منحوها، علاوة على ذلك، قواعد ومناهج حديثة هي المادة المتوفرة بين أيدينا اليوم. فلو سئل أحد هؤلاء الطليعيين من اليازجي والبستاني وغيرهم إذا كانوا راضين عن وضع اللغة العربية في عصرنا، لأجابوا يقيناً: بل نحن شاكرون لأجيالنا لأنها استمرت بالعناية باللغة العربية؛ وهذا إنجاز عظيم، بخاصة لو عرفوا كم تعرّضت له من أزمة وجود هو أضعاف ما تواجهه الآن من هجمات لغات أجنبية تنازعها المكان، ورغم ذلك ما زالت صامدة وعصيّة. وهل حملات الفرنسة والأنكلزة في ظل الانتداب كانت بأقل خطورة عن حملات التتريك التي سبقتها؟ ولا شك في أن هجمة العولمة التي توصف بالمتوحشة وضغط الموجات الثقافية الأميركية الحالية ليست بالشيء القليل، إلا أن اللغات العالمية كلها في موضع دفاعي إزاءها، فليس حال الفرنسية أو الألمانية وغيرها بأفضل من اللغة العربية، فكل الشعوب تواجه الاجتياح الثقافي واللغوي العالمي الحالي نفسه، وإذا استطاعت تلك الشعوب أن تحمي لغاتها، لمَ لا ينجح العرب كذلك؟
ثانياً: إن اللغة العربية التي نتكلمها اليوم هي نفسها لغة جبران خليل جبران والرابطة القلمية وأدباء المهجر الذين كتبوا بهذه اللغة الأم، وهم في خضم العالم الغربي وثقافته ولغته، ولم يمنعهم ذلك من المحافظة على لغتهم الأصلية، بل زادهم الأمر ولعاً وشغفاً واهتماماً بها كونها عنوان هوية وقومية لا يمكن التخلي عنها، فإذا كان من عاش في قلب نيويورك والبرازيل وغيرها لم يتأثر ولم يضيّع لغته، فهل يتأثر من هو في الشرق وبين ظهرانيه؟
ثالثاً: وقف رواد النهضة العربية منذ مطلع القرن العشرين بوجه تيارين متضادين: التقليد والحداثة، والذي جعل المفكرين العرب ينقسمون بين متمسّكين بالتقليد، رافضين لكل دخيل، وبين داعين إلى الحداثة ومحبّذين موجة "الغربنة"، أي اعتماد ثقافة الغرب بشكل كامل، بحجّة التطور العقلي والعلمي ومواكبة العصر واللحاق بركب الدول المتطورة وسلوك مسلكها. وأكثر من تصدّى لهذا التيار الذي روّج له متزعم النهضة المصرية طه حسن، المفكرون اللبنانيون من أمثال فرح أنطون (توفى سنة 1922) الذي وقف بوجه المدّ التغريبي هذا واتخذ موقف المدافع عن اللغة العربية والقومية العربية والحضارة العربية بشدة وشراسة وكُتب له النجاح في مساعيه ونجت الثقافة واللغة العربية مرة أخرى من التهميش. ومن ينسى ما للأديرة والحوزات العلمية من دور ريادي في تحصين اللغة العربية وترويج استعمالها، وهي لغة الإنجيل المقدس والقرآن الكريم، بها يُتلى كل من القداس الإلهي والآذان يومياً وعلى مدار الساعة، فكيف لأمة "إقرأ" و"في البدء كان الكلمة" أن تتغرّب عن العربية؟ إن اللغة العربية هي لغة الصلاة وهل أكثر من العرب صلاة وابتهالات وأدعية؟
رابعاً: كيف نظن ولو للحظة أن اللغة العربية تتعثّر وهي اللغة التي تعلّمها الملايين من تلامذة المدارس وطلاب الجامعات والمعاهد العربية منذ نشأة هذه المؤسسات التعليمية وما يرتبط بها من وزارات ومراكز تربوية وثقافية؟ فلو قمنا بعملية حسابية بسيطة لوجدنا أن اللغة العربية اليوم في أوج عزها وانتشارها مقارنة بأوائل القرن العشرين ومنتصفه، حيث لم يكن التعليم إلزامياً وكان أكثر من نصف السكان العرب أميين يجهلون القراءة والكتابة وحتى التحدث وفهم اللغة العربية الفصحى، والتي لم تعد غريبة على أحد، وإن تأثيرها الآن لكبير جداً على اللهجات المحلية والمحكيات التي تطعّمت بعبارات من اللغة الفصحى تردّد بعفوية على كل لسان عربي من مثل: (من الطبيعي، تلقائياً، خاصة، بالنسبة إلى، علاوة على، بالإضافة الى، تحديداً، طبعاً، إجمالاً، بالمطلق، يقيناً، مسبقاً، من المعلوم، من المعروف، بموازاة ذلك…) وكلها عبارت لم تألفها الأجيال العربية التي لم ترتَدْ المدارس ولم تعهد القراءة والتي، حتى زمن قريب، كانت تبحث عن مَن يقرأ لها المكتوب في الضيعة! والاعتقاد المروّج له أن شبابنا الذين يتركون الوطن من أجل فرص العمل المتوفرة خارجاً يهملون اللغة العربية وينسونها، هو خاطئ، لأنهم ما أن يعودوا الى وطنهم، حتى يستعيدوا اللغة شاؤوا أم أبوا لحاجتهم لها، فكيف لعربي تدبير شؤونه الإدارية ومعاملاته الرسمية والقانونية والعقارية في وطنه، من دون استعمال اللغة العربية، لغة بلاده الرسمية؟
خامساً: إن تعليم اللغة العربية يأخذ حيّزاً كبيراً من الاهتمام في المناهج التربوية التي وضعتها وزارة التربية، كما خٌصّصت له أقلّه ساعتان يومياً في كل من المدارس الخاصة والرسمية وبعض الجامعات، على رأسها الجامعة اللبنانية. ولا تقتصر اللغة العربية على كتب القراءة والقواعد والإنشاء، بل تدخل في مادة التربية المدنية والتاريخ والجغرافيا والرياضيات والعلوم والفلسفة والتنشئة الدينية والاقتصاد وعلم النفس والاجتماع والسياسة والحقوق والسياحة والمعرفة وغيرها، وبهذا يبقى الطالب على احتكاك بها طيلة أسبوعه الدراسي ولا تغيب عن مسمعه كما يظنّ البعض. ولكون العربية مادة أساسية تدرّس على قدم وساق مع اللغات الأجنبية، لا يمنع أن يعتني بها كل من المدرّس والطالب اعتناءه باللغات الأخرى والعمل على التفوق بها، وما مِن مناص من ذلك، بحيث عليه التقدم لامتحان البكالوريا الرسمي ولا مجال للحصول عليه من دون تحصيل اللغة العربية وهذه ضمانة كبرى لها، تجبَر جميع المدارس على إيلائها الاهتمام اللازم، رغم أنه يلاحظ تفاوت في مستوى العربية بين المدارس، فمنها جزء ذو مستوى عالٍ جداً ومنها جزء متوسط ومنها ما هو رديء؛ ولا يعود السبب الى اللغات الاجنبية، كما يتراءى للبعض، فالطالب المتمكن من لغة يتمكن من ثانية وثالثة دون مشكلة والعكس أيضاً صحيح، ودليلنا النجاح الذي حققته بعض المدارس الخاصة في تعليم اللغات الثلاث العربية والفرنسية والإنكليزية بالتوازي منذ الحضانة، وكانت محاولة ناجحة جداً ومنحت التلامذة قدرة على التمييز والمقارنة والمقاربة لم تكن سانحة لهم من قبل، فأضحت المسألة عبارة عن منهجية وليست فقط تلقيناً ببغائياً، وهذه المدارس تُحيَّى على جهودها. والأهم أن وظائف الدولة والإدارات العامة والقطاع العام تفرض امتلاك اللغة العربية أولاً الى جانب اللغات الأجنبية في مراكز محددة وأن الخدمة المدنية تلزم المرشحين امتلاك اللغة العربية قبل أي ثقافة أخرى، وهذه ضمانة للغة العربية بامتياز. والجدير ذكره أن بعض الدول الأفريقية افتتحت فيها مدارس للغة العربية سنحت للمغتربين اللبنانين العائدين للعيش في الوطن فرصة التقدم الى المباريات والحصول على وظائف إسوة بغيرهم من المواطنين.
سادساً: إن اللغة العربية هي بطبيعة الحال، وعلى عكس ما يظنه البعض، الاكثر انتشاراً في العالم العربي على مستوى الشاشات المحلية والإذاعة وفي الإعلام المقروء والمسموع والمرئي، فالصحف والجرائد والمجلات اليومية والأسبوعية والشهرية والفصلية لا عد لها ولا حصر اليوم مقارنة مع الماضي، كما أن قطاع الطباعة والنشر تقدّم بشكل غير معهود في السنوات الأخيرة وعدد الكتب التي تُطبَع سنوياً ضخم جداً. وهذا عائد لكثرة الكتّاب والشعراء، رغم قلة القراء كما نسمع وهذه المسألة عالمية وليس فقط عربية. كما أن حركة الترجمة ناشطة جداً، فما أن يخرج كتاب عالمي حتى تسارع الدور الى ترجمته الى العربية، إضافة الى المؤلفات والدراسات والأبحاث المحلية التي تصدر من مراكز الأبحاث والجامعات والأنشطة والتقارير والأحزاب والجمعيات والرعايا…، فهلا تخيّلتم الكمّ الهائل من الكتب العربية التي تضمّها معارض الكتب في الوطن العربي سنوياً؟ كما أن الفضائيات والإنترنيت أعطت اللغة العربية الفصحى فرصة فريدة للانتشار بشكل لم يسبق له مثيل، وقد تجاوزت حدود الوطن العربي الى أصقاع الأرض، حيث الجاليات العربية تميل الى سماع لغتها الأم. كما وأن المواقع الالكترونية مليئة بآلاف النصوص العربية والترجمات التي هي بمتناول أي باحث يتقن العربية بسهولة. وعندما نقرأ على موقع ما عدد المشاركين والمعلّقين الذي يصل الى مئات الآلاف احياناً، نستغرب مما يروّج له زيفاً من انعدام القراءة خاصة باللغة العربية.
سابعاً: إن اللغة العربية هي لغة وكتابة، ولا يعتقدن أحد أن أسلوب الكتابة العربية الالكترونية الذي ابتدعه الشباب العصري، معتمداً الحرف اللاتيني مع بعض الحروف المستنبطة للفظ "العين والحاء والخاء"، أنه يضرّ باللغة العربية بل هو يسيء الى الكتابة العربية في حال أهملت أصولها. والكتابة غيرها اللغة كما نعلم جميعاً. وهذا النمط الخطي المستحدث لاقى رواجاً كبيراً وانتشر بعفوية في العالم العربي ما جعل اللغة العربية تتفوق على اللغات المنافسة، والجيد في الأمر أن الشبيية تستعمل اللغة العربية للتراسل والتواصل وليس الفرنسية أو الإنكليزية، ما يدعم اللغة العربية بشكل كبير ويخدم وجودها بشكل أفضل، فهي تمس الوجدان أكثر منها اللغة الأجنبية، ونحن نرى إيجابيات المسألة وليس سلبياتها.
ثامناً: إن اللغة العربية هي اللغة الأكثر استعمالاً اليوم في الفنون المسرحية والمسلسلات التلفزيونية والدبلجة والأغاني. وهي لغة الشعر والتأليف على أنواعه، وإلى من يتساءل كيف ذلك فإننا نعني اللغة العربية بكل لهجاتها ومحكياتها التي أصبحت يسيرة الفهم على كل مواطن عربي، أينما كان، فلم يعُد غريباً عليه اللسان الخليجي أو اليمني أو اللبناني أو السوري أو العراقي أو الفلسطيني أو المغربي أو البدوي، لكثرة ما يعرض على الشاشات من برامج ومسلسلات ووثاقي يهتمّ بشؤون المجتمعات العربية كافة. ولعلنا نذكر محاولة بعض الشبكات التلفزيونية تقديم نشرة الأخبار باللهجة المحلية، فكانت النتيجة ربما رائعة للمستمع المحلي، ولكن صعبة على المعدّ والمقدّم كما أنها حدّت من انتشار القناة ورواجها وانفتاحها على العرب الآخرين، لذا ما لبثت هذه التجربة أن اضمحلت وتلاشت من تلقاء نفسها. كما أن عدداً كبيراً من اللقاءات التلفزيونية يطلب من الضيوف استعمال العربية الفصحى خلال المناظرة بينهم حتى يتمكّن المشاهد العربي من فهم المحاورة بسهولة. والى مَن يخاف على اللغة العربية من الضياع، نطمئنه أن المناظرات السياسية ونشرات الأخبار المتتابعة التي لا تغيب عن الشاشات العربية وعلى كثرتها اليوم، كفيلة وحدَها أن تحافظ على هذه اللغة وإن كان أكثرها يشكّل سبيلاً للخلاف والمعارضة والجدل العقيم وبلبلة العقول من كثرة الأخذ والردّ والثرثرة، وبمجملها تنظير كلامي ليس إلا، إلا أنها تبقى باللغة العربية!
تاسعاً: تمتاز اللغة العربية الفصحى عن غيرها من اللغات أنها اللغة الجامعة للأمة العربية بواسطتها يمكن لكلِّ عربي أن يفهم الآخر بمعزل عن لهجته المحكية المحلية، وهذا ما لا يتوفّر عند الشعوب غير العربية، فمن منا يمكن أن يحدد ما هي اللغة التي تجمع الأوروبيين حالياً غير الإنكليزية بالطبع، ولكنها ليست لغة الأوروبيين كلهم، بل هم يستعيرونها من أجل التواصل فيما بينهم، ما يسمح لبريطانيا (ولأميركا معها عن بعد) أن تحتل الصدارة في المجموعة الأوروبية ويمنحها ذلك نوعاً من التفوق الذي تعتز به، في حين أن الآخرين من غير البريطانيين لا يشعرون بالاعتزاز نفسه لكونهم يتحدّثون بغير لغتهم خارج إطار بلدهم الأم. فهل أحد من العرب يحتجّ أو يشعر بالأسى، إذا ما تكلّم غيره من العرب باللغة الفصحى؟ طبعاً لا! وهذا موضع افتخار أن تكون اللغة العربية الفصحى عاملاً موحّداً وحافزاً وجدانياً وقومياً مزيلاً للحدود الوهمية التي وُضعت للعرب بين بعضهم البعض، وهنا تكمن أهميتها.
عاشراً: إنه غير صحيح، أن التداول باللغات الأجنبية بشكل مستمر يؤثر على اللغة العربية، ولبنان خير مثال، بحيث يُعدّ من أكثر بلدان الشرق الأوسط استعمالاً للغات الأجنبية، ولا تقل اللغة العربية فيه شأناً عن غيرها، بل يُعدّ من أكثر الدول العربية تعليماً واهتماماً باللغة العربية، وحتى مصدّراً للأساتذة الى الدول العربية الشقيقة لتنمية تدريس اللغة العربية فيها. كما وأنه ليس صحيحاً أن قلة استعمال اللغات الأجنبية والاقتصار على العربية يساعد اللغة العربية ويقوّيها، فهناك دول لا تدرّس اللغات الأجنبية بشكل مكثف ومركّز ومستوى العربية فيها عادي أو أقل من عادي. إذن لا علاقة للغات الأجنبية بتاتاً بمستوى اللغة العربية، صعودها أو هبوطها، والدليل أن أكثر المتمكّنين من اللغة العربية هم الأساتذة والمفكرون والعلماء والباحثون الذين يتقنون أكثر من لغة أجنبية، لا غنى لهم عنها في أبحاثهم ومراجعهم ومتابعة تطور العلوم فيها، ولكن لم يمنعهم ذلك من أن يكونوا أفذاذاً باللغة العربية وربما الوحيدين الذين يعملون على صونها، لكون المنهج العلمي يقتضي أسلوباً واحداً في التفكير بجميع اللغات ولا يمكن الانتقاص منه مع تبدّل اللغة المستعملة، فهل أكثر من المترجمين إتقاناً للغات على تنوّعها؟ وهل المترجم البارع أقل شأناً باللغة الفرنسية منها العربية مثلاً، وإذا كان هذا حاله فلا يكون بارعاً. وبهذا يكون الباحث العارف باللغات أكثر مَن يساهم في حماية اللغة العربية من العبث الذي يحيط بها. إذن، المسألة هي في إهمال اللغة العربية والتخلّي عنها وإقصائها نهائياً، وهذا غير ممكن في الوطن العربي، وليست المشكلة في استعمال لغة أخرى بموازاتها. أما كون اللغة العربية غير قابلة للتأقلم مع العلوم والتكنولوجيات الحديثة، فهذا ادعاء خاطئ يروّج له للتضليل، ألا توجد تقنيات وتكنولوجيا وفكر وثقافة في بلدان لا تعتمد على اللغات الأجنبية بل ترتكز على اللغة العربية بشكل أساسي؟ ألا يوجد علماء وأدباء ومفكرون لا يتقنون أي لغة أجنبية وحتى لا يعرفون فك رموزها ولا حاجة لهم بها، وهم خلاقون ومبدعون؟ وإلا لما كان من حاجة للترجمة لو كل الناس أتقنوا اللغات.
حادي عشر: لا يحتاج العربي، بفضل لغته العربية، الى لغة أخرى يستعين بها لكتابة قوانينه ودساتيره وعلومه وفكره وِشعره وكل ما يحتاج كتابته، فهي اللغة الأولى في كل الوطن العربي، أما ما تلاها من لغات أجنبية فهي وإن كانت تستعمل وبكثرة، تبقى هامشية وغير ضرورية ويمكن الاستغناء عنها، بينما عند شعوب أخرى لم يكن لديها نظام لغوي متطور في الأصل كالقارة الإفريقية السوداء، قام الاستعمار الأوروبي بفرض لغاته كوسيلة للتعامل والمعرفة، فهل يمكن للإفريقي أن يستغني عن الفرنسية أو الإنكليزية؟ وإذا ما استغنى، بماذا يستعيض عنهما وليس له لغة رسمية غير المحكية الخاصة بقبيلته والتي لا يفهمها الإفريقي من منطقة أخرى، وكيف يكتبها وهو لا يملك نظامأ قلمياً جامعاً؟ هذا ليس حال العربي!
وهنا ينتقل بنا الحديث من اللغة كوسيلة محادثة الى اللغة المكتوبة كنظام كتابي وأداة تدوين، لنتحول من الإيجابيات التي بدأنا بها طرحنا الى بعض المعضلات التي تحيط بهذه اللغة العربية المكتوبة حتى لا نقول مشكلات. ونحن وإن كنا قد تحفظنا على عبارة "تعثر" في ما يتعلق باللغة كوسيلة محادثة ومخاطبة، وبيّنا مواضع قوى اللغة العربية كأدة للكلام، فلا يجدر بنا إلا الموافقة على عبارة "تعثّر" في ما يتعلق باللغة العربية المكتوبة والأمران مرتبطان، فهل يمكن التحدث بلغة سليمة، إذا ما كتبت بشكل مغلوط أو ركيك أو مشوّه، أو غير مراعٍ لأصول اللغة وقواعدها ومميزاتها؟ والجواب بالطبع لا! من هنا وجوب الإضاءة على بعض ما تتعرّض له هذه اللغة العربية المكتوبة وما آل إليه أمرها.
أولاً: ثمة من يدّعي أن اللغة العربية أصعب من غيرها من اللغات الأخرى، فهل هذا صحيح؟ وما سبب هذا الادعاء؟ والجواب هو ليست صعبة المراس ولكن عدم وجود قواعد موحّدة متفق عليها بين العرب يجعلها عرضة للمجادلة وحتى الصراع. لنأخذ كمثل كتابة الهمزة في كلمة "مسؤول"، فهل تكتب بواو مهموزة وأخرى مضمومة أم بواو واحدة؟ ومثلها كلمة "تجزئة" فهل تكتب الهمزة على كرسي الياء أـم على الالف؟ ومثلها الأفعال بدأ/ قرأ / ملأ، فهل نكتب يقرأون / يبدأون / يملأون بإضافة (ون) في حالة الجمع لأن أصل الفعل "قرأ"، أم يقرؤون/ يبدؤون/ يملؤون بقلب همزة الألف واواً مراعاة للحركة الأقوى؟ إن المسألة تجعلكم تحتارون والأفضل سؤال مختصي اللغة العربية وقواعدها، ولكن هل هم متفقون على قاعدة واحدة للهمزة؟ وما الهمزة إلا مثل بسيط عن قواعد كثيرة أكثر تعقيداً. وهذا يتطلّب جهوداً من المجامع اللغوية العربية أن توحّد هذه القواعد حتى تصل الى لغة عربية أصولها ثابتة ولا تتحرك بحسب ما نسمّيه "شاذ عن القاعدة"، فلكثرة الشواذات أصبحت القواعد العربية من دون قاعدة! إن تحديد هذه القواعد هو عملية تحديث اللغة وهو أمر محمود وكفيل بأن يذلل الكثير من المعضلات ويبسّط الأمر على متلقّي اللغة كما وعلى مدرّسيها. ونحن على يقين أنه بزوال الخلاف حول اللغة، تزول خلافات كثيرة أخرى بين العرب!
ثانياً: إن اللغة العربية الحالية هي سليلة تراث حضاري موغل في التاريخ. وهي نتاج مسيرة طويلة من تطور الأنظمة الكتابية، وقلمها الحالي يتحدّر من أقلام عدة سبقتها، فهي وكما يعلم الجميع تتحدّر من القلم السرياني والآرامي وهما قلمان متطوران عن الكتابة الفينيقية الأبجدية التي رأت النور في صيغتها المبسطة والأسهل على أرض جبيل – بيبلوس (حوالي 1100 ق.م.)، وانتشرت في العالم الذي اعتمدها بشكلها اللاتيني وما زال الغرب يستعمله كما ورثه الى الآن، في حين تطوّر، في الشرق، الحرف الفينيقي الى الآرامي المربع، ثم السرياني الذي ربط الحروف ببعضها ونقّطها وحرّكها؛ وعنه انبثق الخط العربي على أنواعه والذي نكتبه اليوم. والسؤال: كم هو عدد الذين يعرفون تاريخ الكتابة العربية، ليس فقط من المثقفين بشكل عام، بل من المهتمين باللغة العربية بشكل خاص؟ قليل عددهم بالطبع وعلينا الاستعانة دائماً بدارسي اللغات القديمة من أجل التوضيح والشرح والإقناع، وهم قلة. والسؤال: لو طرحنا السؤال على أحد الأوروبيين الغربيين عن تاريخ لغته، لأجاب بتلقائية وعفوية مطلقتين أن أصولها هي اللاتينية وأنها عدّلت وتطورت حتى وصلت إليه بصيغتها الحاليّة، فكم عدد العرب الذين يعرفون الأصول التي تتحدّر منها الكتابة العربية؟ والمهم من هذا الطرح هو أنه لو عمدنا الى تدريس الأصول الآرامية والسريانية للغة العربية منذ المراحل الدراسية الأولى كما هو حال تعليم اللغة اللاتينية كقاعدة للغة الأم في أوروبا، لكسبنا أموراً عدة، منها تعرّف الأجيال الطالعة على لغاتها وتالياً على حضارتها، إذ إن ارتباط اللغة بالحضارة وثيق ومتلازم. وهذا يكفل تعلّق المرء بلغته تعلّقه بتراثه وتقاليده وعاداته وطقوسه، فكيف يحب العرب اللغة العربية من دون معرفة تاريخها وهو تاريخهم؟ ولماذا تدرّس اللغات الأجنبية مرتبطة بإرثها الثقافي وحضارتها ولا يكون الأمر كذلك بالنسبة للغة العربية؟ في الأمر فعلاً لغز محيّر! فكيف يتباهى العربي بامتلاكه لغة أجنبية وهي عنوان حضارة وتاريخ لأصحابها ولا يتباهى بالعربية؟ فإذا كانت اللغة الأجنبية سليلة ثقافة وحضارة، فهذا حال كل لغة أخرى إذ ما من شيء أتى من عدم، ولما لا تكون اللغة العربية وهي أم اللغات بصيغها القديمة موضع عز وافتخار نتعلق به تعلقنا بمقدساتنا؟ والجواب لأن الحضارة مهملة في مناهجنا المدرسية ولا يوجد كتاب عن حضارتنا بين الكتب التي لا عدّ لها، والتي ترزح تحت وزنها ظهور تلامذتنا النحيلة: شُنط ٌتقصف الظهور اليانعة فيُلعن كتاب القواعد العربية المسكين على فعلته، علماً أنه الأقل وزناً بينها! وعلماً أنه لا يوجد حتى كتاب تاريخ بينها! فماذا يوجد إذن داخل هذه الأحجام الضخمة من الشنط التي يستعصي حملها على والد الطفل نفسه؟! كتب اللغات الأجنبية بالطبع!
ثالثاً: وتلعن الأسماء والرموز والمحطات اللامعة في التاريخ العربي بحجّة أنها بالية ولا حاجة لنا بها في العلوم الحديثة! فإذا كان الجاحظ والمتنبي والطبري وابن سينا والمعري وابن المقفع وهنيبعل وصلاح الدين باليين، فلما لا يكون موليير وفولتير وشكسبير وبايرون ونيوتن وكانط وفرويد ونابليون وقسطنطين والاسكندر الكبير ونيرون وفليمينغ وباستور كذلك؟ أليسوا كلهم أسماء من الماضي لم يعد لهم متسع في العالم المعاصر العلمي والتكنولوجي؟ والجواب: نعم في المبدأ المنطقي كلهم قدماء، ولكن ليسوا كلهم باليين، أقلّه عند الغرب الذي رفع لأعلامه وشعرائه وعلمائه هؤلاء التماثيلَ في الساحات العامة والحدائق والمتاحف، ليس لتزيينها كما يعتقد من لا يعير اهتماماً لمآثر الأقدمين، بل لقيمتهم العلمية وإنجازاتهم الوطنية والقومية وعطاءاتهم التي قدّموها لشعوبهم وأوطانهم، فهل يستغني الغرب عن رجاله العظماء باسم العصرنة والتكنولوجيا؟ هل هدّمت فرنسا "البانثيون" (pantheon) حيث دُفن رجالها ومفكروها ومخترعوها وأعلام عصر الأنوار ورجالات ثورتها الكبرى وصحافيوها وشعراؤها وكتّابها، ولم تعد تضع حراساً على مدخله، حتى نقتفي نحن العرب أثرها ونرضى بقطع رأس المعري، وتهديم مساجد وكنائس الشرق ونسف متاحف العراق وسوريا ومتحف الفنون الإسلامية والعربية الأكبر في العالم في وسط القاهرة، من دون أن يرفّ لأحد جبين، ومنا مَن لا علم له حتى بهذه الكوارث والجرائم بحق التراث الحضاري العالمي؟ فكلّ اختراع هو ملك للإنسانية جمعاء وهذا بند من بنود الأونيسكو لحماية الإرث العالمي؟ لا! لا فرنسا ولا غيرها، أهملت عظماءها، ولن تفعل، رغم أن أعلامها أخذوا عن رجالاتنا ومفكرينا هؤلاء، ولكن نحن فعلنا! ولماذا؟ لأننا نظن، وإن بعض الظن إثم، أنهم أصبحوا من الماضي ولم يعد يحتاجهم عصرنا، بل أصبحوا عبئاً ثقيلاً كالشنط المدرسية.
عجباً! صاحب الفكر الأصيل جعلناه بالياً: ذلك الذي قال بالعلمانية والمدنية وتفعيل المنطق، ذلك المعرّي الذي عنه أخذ دانتي وكانط وهيغل! وابن المقفع أضحى بالياً، وقد نسخه حرفياً لا فونتين La Fontaine، وعمر بن الخطاب يدمَّر ذكره وهو القائل: "كيف تستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!، وهي العبارة التي اتخذتها الثورة الفرنسية الكبرى شعاراً لها ونُسبت الى مفكري عصر الأنوار! فكيف يُحافظ على إرث روسوRousseau مستعير هذا القول ويهمّش صاحبه الأصلي؟ وكيف ما زال الطبري وابن سينا وغيرهم يدرّسون في الفصول الأولى من مناهج الطب لدى الغرب ويُعدّهم طلابنا العرب باليين؟ هل لديكم جواب؟ لدينا جواب في هذا السؤال: لماذا أٌلغيت مادة الفلسفة العربية وتاريخ العلوم عند العرب من المناهج التعليمية ولم تلغَ مادة الفلسفة والآداب الأجنبية؟ لماذا أُلغي كتاب التاريخ العربي ولم تلغ كتب التاريخ الأجنبية؟ هنا الطامة الكبرى والتي لها علاقة أساسية باللغة العربية. إن أعلام حضارتنا هؤلاء الذين علّموا شعوب العالم بأسره، قد كتبوا بالعربية، وإذا همّشنا تدريسهم نكون قد ساهمنا في تدمير لغتنا العربية ومحو ثقافتنا وعلومنا، وهو كذلك، للأسف! فقد أضحوا فلكلوراً ليس إلا! إن الحفاظ على علوم مفكرينا لا يحمي فقط اللغة العربية، بل ويضيء على محطّات فخر واعتزاز وقوة عرفتها أمتنا؛ محطات مجيدة من تاريخنا لا قيمة للشعوب من دونها؛ محطات كفيلة، إذا ما تمسّكنا بها وحفظناها، أن تدعمنا وتمدّنا بالدفع اللازم من أجل المبادرة والإقدام على الابتكار والتجدّد والمثابرة على الخلق من خلال تكملة مسيرة أسلافنا، وبهذا يكمن التطور والتقدم، فيقوى بذلك الشعور القومي والتعلق باللغة كعنوان وجود وهوية وأصالة تميّزنا عن الآخرين، وتبرز هويتنا الخاصة، وتجعلنا مبتكرين وليس مجرّد مقلّدين ومستهلكين وأداة يحرّكها من نستعير منه اللغة والعلوم والتقنيات، كما يحلو له وساعة يشاء. فهل ركزت شاشاتنا وإعلامنا ولو نسبياً على إحياء ذكراهم؟ إن للإعلام الدور الأبرز في دعم اللغة العربية مادة ومضموناً، فلنعد لبرامجنا شيئاً من القيم الثقافية بدل الابتذال الحاصل. هذا جوابنا على مَن يدّعي تعثّر اللغة العربية. وهذا ما نقترحه للنهوض بها ولم يبق إلا أن نبدأ بالعمل، والعبرة في التنفيذ.