111
في جزء ثانٍ يتابع الأب سهيل قاشا مسار "الفكر السرياني وأثره في الفكر العربي الإسلامي"، مستعرضاً مدارس العهدين الأموي والعباسي في الترجمة وتكاثر المترجمين بالعشرات، وتقدم العلوم اللاهوتيّة بالعربيّة، وتنظيم الطب وتقدم أبحاثه، وتأسيس علم الفلك وأزياجه ومراصده، وازدهار الموسيقا بحثاً وعزفاً، ليخلص إلى مسؤولية استمرار الكشف عن كنوز الحضارة السريانية ولقاحها الإبداعي في الفكر العربي الإسلامي.
تحولات
مدارس في العهدين الأموي والعباسي
كما اشتهرت بغداد بمدارسها، اشتهرت الموصل هي الأخرى بهذا المضمار، منها مدرسة دير مار جبرائيل المعروف بالدير الأعلى على نهر دجلة في جوار الطابية العليا (بأشطابية)، ومدرسة دير مار ميخائيل الواقع شمالي الموصل، ومدرسة النبي يونان (النبي يونس) في نينوى، ومدرسة مار إيليا الحيري في غربي الموصل. وكانت تدرّس في هذه المدارس مختلف العلوم والفلسفة واللاهوت واللغات.
ومن المدارس الأخرى التي أسّسها السريان في العراق وبالأحرى النساطرة مدرسة قسطفون. كما اشتهرت مدرسة قنسرين على الفرات بتعليم فلسفة اليونان وأبرز تلامذتها سويريوس الذي نقل علوم الفلسفة واللاهوت إلى السريانيّة وبرز من تلامذته يعقوب الرهاوي واضع علم النحو السريانيّ، وجيورجيوس المعروف بأسقف العرب، الذي ترجم بعض كتب أرسطو.
وكان لهذه المدارس أثر كبير في نشر الثقافة، وبما أنجبته تلك المدارس من العلماء والأدباء والمؤلّفين السريان يعاقبة ونساطرة، وكان أبرزهم في العصر العباسيّ يوحنّا بن ماسويه رئيس أعظم مدرسة في بغداد، وحنين بن اسحق شيخ تراجمة عصره ورئيس الفلاسفة والأطبّاء.
كما وكانت هذه المدارس لا تقوم فقط بمهمّة التعليم لمختلف صنوف العلم والمعرفة وإنّما كانت دوراً للترجمة والتأليف فتعتبر الفترة الواقعة بين ظهور الفرق المسيحيّة، وبين الفتح الإسلاميّ للعراق عنيفة وغنيّة بالترجمة من اليونانيّة إلى السريانيّة ومنها إلى العربيّة لتأييد معتقداتها، وكانت الترجمة منصبّة على علم اللاهوت والدراسات الدينيّة، وبعد الفتح الإسلاميّ استمرّت الترجمة على العلوم الطبيّة والفلسفيّة والكيمياء والفلك وذلك منذ القرن الأول الهجري، فإنّ خالد بن يزيد الأول (ت 85هـ) كان أول المحبّين لعلوم اليونان، فأمر بترجمة الكتب في علم الهيئة والطبّ والكيمياء حتى يروى أنّه وجد الحجر الفلسفيّ الذي يصنع به الذهب الاصطناعيّ.
المترجمون بالعشرات
إن من أشهر المترجمين في العصر الأمويّ يعقوب الرهاوي الذي ترجم كثيراً من كتب الإلهيات اليونانيّة إلى العربيّة.
ودخلت علوم اليونان وفلسفتهم إلى العرب عن طريق السريان في العصر العباسيّ منذ خلافة المنصور، حيث كان شغوفاً بالطبّ والهندسة والفلك والنجوم، وهو أول من راسل ملك الروم يطلب منه كتب الحكمة، فبعث إليه بكتاب إقليدس وبعض كتب الطبيعيات [44]. وجمع حوله صفوة مختارة من العلماء في مختلف نواحي المعرفة وشجع على ترجمة العلوم من اللغات الأخرى. وقد نقل حنين بن اسحق (195-260هـ/ 809-873م) للمنصور بعض كتب أبقراط وجالينوس في الطبّ، وترجم يحيى بن بطريق كتاب المجسطي، وترجم كلّ من جورجيس بن جبرائيل الطبيب، وعبد الله بن المقفّع كتب المنطق لأرسطوطاليس واعتنى يوحنّا بن ماسويه وسلام الأبرش وباسيل المطران بكتب الطبّ [45].
وقد زادت عناية الرشيد واهتمامه بترجمة الكتب فأمر بترجمة جميع ما وقع في حوزتهم من الكتب اليونانيّة والسريانيّة، كما وسّع ديوان الترجمة الذي كان قد أنشأه المنصور لنقل العلوم إلى العربيّة وزاد عدد موظّفيها. فولّى الخليفة تعريب الكتب إلى الطبيب يوحنّا بن ماسويه وعيّن له كتّاباً حذّاقاً يشتغلون بين يديه ويساعدونه في عمله.
ولما تولّى المأمون الخلافة اهتمّ بالترجمة والتأليف وأخذ يضمن شروط الصلح مع ملوك الروم إرسال كتب الحكمة فكان أحد شروط الصلح بينه وبين ميخائيل الثالث أن يهب له (للمأمون) إحدى المكتبات الشهيرة في القسطنطينيّة وكان بين ذخائرها الثمينة كتاب بطليموس في الفلك، فأمر المأمون بنقله إلى العربيّة وسمّاه المجسطي.
كما وأنشأ المأمون في بغداد بيت الحكمة وهو مجمع علميّ ومرصد فلكيّ ومكتبة عامّة وأقام فيه طائفة من المترجمين من السريان وأجرى عليهم الأرزاق من بيت المال. وأرسل المأمون بعد ذلك بعثة علميّة لشراء كتب الحكمة من بلاد الروم مكوّنة من الحجّاج بن مطر، وابن بطريق، وسلّم صاحب دار الحكمة (ت 215هـ/830م) فأخذوا ممّا اختاره عدداً كبيراً وحمّلوه إلى بغداد مجموعة كبيرة من كتب الفلسفة والمنطق والموسيقى والفلك وغيرها.
ازدهرت إذن الترجمة على أيدي السريان في الفترة الواقعة بن عامي 750-900م. فقد عكفوا على ترجمة أمّهات الكتب السريانيّة واليونانيّة والفهلويّة الفارسيّة والسنسكريتيّة الهنديّة إلى العربيّة، وكان على رأس أولئك المترجمين في بيت الحكمة حنين بن اسحق الطبيب النسطوريّ فقد ترجم إلى اللغة السريانيّة مئة رسالة من رسائل جالينوس، وإلى العربيّة تسعاً وثلاثين رسالة أخرى، وترجم أيضاً كتب المقولات الطبيعيّة والأخلاق الكبرى لأرسطو، وكتاب الجمهوريّة، وكتاب القوانين والسياسة لأفلاطون، فكان المأمون يعطيه ذهباً زنة ما ينقله من الكتب. وقام ابنه اسحق في أعمال الترجمة أيضاً فنقل إلى العربيّة من كتب أرسطو الميتافيزيقيا والنفس وفي توالد الحيوانات وفسادها، كما نقل إليها شروح الإسكندر الأفروديسي وهو كتاب كان له أثر كبير في الفلسفة الإسلاميّة. وكان يعمل معه نقلة مجيدون أمثال اسطفان بن باسيل، وموسى بن خالد، ويحيى بن هارون، وحبيش بن الأعسم، وعيسى بن يحيى بن ابراهيم. وكان قسطا بن لوقا يشرف على الترجمة من اللغات اليونانيّة والسريانيّة إلى العربيّة. وقد أقام المأمون يوحنا بن البطريق الترجمان أميناً على ترجمة الكتب الفلسفيّة من اليونانيّة والسريانيّة إلى العربيّة، وتولّى كتب أرسطو وبقراط.
ولم يكن الخلفاء وحدهم يهتمّون بالترجمة والنقل إلى العربيّة بل نافسهم الوزراء والأمراء والأغنياء، وأخذوا ينفقون الأموال الطائلة عليها، فيقول ابن الطقطقي: إن البرامكة شجعوا تعريب صحف الأعاجم حتى قيل إن البرامكة كانت تعطي المعرّب زنة الكتاب المعرّب ذهباً. وبالغ الفتح بن خاقان في إنفاق الأموال على الترجمة والتأليف. وكان عبد الملك بن الزيات لا يقل عنه سخاء في هذا المجال.
العلوم اللاهوتيّة بالعربيّة
ولم يقتصر اهتمام السريان بالترجمة ولا سيّما ترجمة فلسفة اليونان بل تعدّاه إلى اللاهوت الذي كتبه آباء الكنيسة بالسريانيّة فعرّبوه ليكون جاهزاً وواضحاً أمام إخوانهم النصارى العرب وممّن اهتمّ بهذا المجال نكتفي بذكر أسمائهم:
أبي الحسن عيسى بن حكم المسيحيّ الدمشقيّ، والراهب هارون بن عزور وأبي زكريا يحيى ابن البطريق، ويوسف بن إبراهيم الحابس ابن داية، وجاثليق النساطرة تيموتاوس الكبير (+823) الذي بالإضافة إلى ترجمته لكتاب أرسطو في الشعر له محاورة معروفة مع الخليفة المهدي حول العقائد النصرانيّة وموقف النصارى تجاه الإسلام. حول هذا الجاثليق نرى صديقه أبا نوح ابن الصلت الأنباري وكاتبه أبا الفضل علي ابن ربان النصرانيّ وخليفته على كرسي الجثلقة يشوع بن نون وكلّهم من الكتبة المبدعين.
وأمّا حبيب بن بهريز فكان أولاً أسقفاً على حران ثمّ انتقل إلى كرسي الموصل، وعاش في زمن المأمون، ولهذا الخليفة عرّب كتباً في المنطق والفلسفة واللاهوت، وللأسف حبيب بن بهريز له نظريات عدّة قريبة من الإسلام.
وفثيون بن أيوب الترجمان الشامي نقل إلى العربيّة بعض الأسفار المقدّسة وعاش في بغداد في نصف القرن التاسع الميلاديّ، وكانت تربطه صداقة حميمة بعبد الله بن كلاب، كما أخبر ابن النديم.
وإذا كان الجاثليق يوحنا بن عيسى ابن الأعرج [68] (+905) لم يترك أثراً في كتب المؤلّفين المسلمين، رغم كونه كاتباً كنسياً مشهوراً في عالم الفقه، فإنّ أبا بشر متى بن يونس ينعم بشهرة نادرة. حكى عنه القفطي قال: "عالم بالمنطق… وعلى كتبه وشروحه اعتماد أهل هذا الشأن في عصره". وقد شهد عنه ابن النديم فقال: "إليه انتهت رئاسة المنطقيّين في عصره". وهو من أكابر شرّاح الفلسفة الأرسطيّة. تعلّم في مدرسة مار ماري في دير قني حيث كانت تدرس علوم المنطق والنحو والشعر والهندسة والفلك والطبّ والفلسفة وعلوم الدين باللغة العربيّة إلى جانب اللغتين السريانيّة واليونانيّة.
وفي القرن العاشر والحادي عشر قام بين النساطرة أساقفة عديدون الّفوا أو عرّبوا كتباً هامّة خلدت أسماءهم وهم جرجس مطروبوليط الموصل وإسرائيل أسقف كشكر وإيليا الأول الجاثليق [75] (+1049) وخصوصاً إيليا مطران نصيبين (1046) صديق أبي القاسم الحسين بن علي المغربي وله معه مجالس مشهورة، ولمطران نصيبين مؤلّفات كثيرة في العقائد الدينيّة والتاريخ والأخلاقيات والفقه واللغة السريانيّة والعربيّة.
ولا نغفل عن ذكر الراهب قورياقوس بن زكريا الحرّاني وجبرائيل بن نوح وعيسى بن علي النصرانيّ صاحب قاموس سريانيّ – عربي، وابي الحكيم يوسف بن البحيري من ميافرقين وبشر بن السري الدمشقي مفسّر الكتب المقدّسة.
أمّا أبو الفرج عبد الله بن الطيب فكان من الرجال البارزين في عصره وبين قومه فهو الفيلسوف والطبيب والقسّ الذي شغل منصب كاتب الجاثليق أيام يوحنا بن نازوك (+1022) وتوفي سنة 1043 إليك ما كتب عنه القفطي: "فيلسوف فاضل مطلع على كتب الأوائل وأقاويلهم، مجتهد في البحث والتفتيش… قد أحيى من هذه العلوم (أي فلسفة أرسطوطاليس وطب جالينوس) ما دثر وأبان منها ما خفي… وشيخنا أبو الفرج عبد الله بن الطيّب بقي عشرين سنة في تفسير ما بعد الطبيعة ومرض من الفكر فيه مرضه كاد يلفظ نفسه فيها…". فهذا الذي قدم شروحاً قيّمة لكتب أرسطوطاليس وفرفوريوس الصوري وجالينوس وأبقراط اهتمّ أيضاً بتفسير الكتب المقدّسة النصرانيّة بأجمعها، كما أنّ له كتباً عقائديّة وأخلاقيّة وفقهيّة عدّة، قسم منها نشره علماء أوربيون، وقسم ما زال طيّ المخطوطات.
هؤلاء هم المؤلّفون النساطرة وقد كانوا من نخبة القوم علمياً واجتماعيّاً عصر ذاك.
أما اليعاقبة فقد برز منهم بالحقبة ذاتها مفكّرون كبار يتقدّمهم أبو رائطة حبيب بن خدمة التكريتي، المعاصر لأبي قرّة أسقف حرّان وطيموثاوس الكبير الجاثليق له رسائل دينيّة عدّة نشرها العالم جورج غراف مع ترجمة ألمانيّة وقد اهتمّ بتربية نسبيّة نونّوس رئيس شمامسة نصيبين الذي ألّف تفسيراً لإنجيل مار يوحنّا، ما عدا كتاباته باللغة السريانيّة، أشهر منه كان عبد المسيح ابن ناعمة الحمصي معرّب المغالطات السفسطائيّة والسماع الطبيعيّ لأرسطو والكتاب المنحول (إيثولوجيا).
وبعد أن نذكر ذكراً عابراً موسى بن الحجر، صاحب التفاسير الكتابيّة الخطب الدينيّة ومعاصره يوحنا الداراني وله مقالة عن الشياطين وكتاب في الكهنوت، نصل إلى قمّة الفكر النصرانيّ أعني يحيى بن عدي التكريتي نزيل بغداد (+974) أعطى القفطي لائحة كتبه الفلسفيّة وأهمل كتبه اللاهوتيّة المسيحيّة. ومن تلاميذه الفيلسوف فرج بن جرجس ابن أفريم اليعقوبيّ، وأبو الخير الحسين ابن السوار، وأشهرهم أبو علي عيسى ابن اسحق ابن زرعة (+1008): "أحد المتقدّمين في علم المنطق والفلسفة" [90] وتلميذه أبو نصر يحيى ابن جرير التكريتي (+1080) كان كثير الإطّلاع في العلوم وذا فضل في صناعة الطبّ. وله كتب في الطبّ وعلم النجوم ذكرها ابن أبي أصيبعة وكتاب المرشد وهو مختصر مفيد لأهمّ العقائد المسيحيّة.
تحولات
مدارس في العهدين الأموي والعباسي
كما اشتهرت بغداد بمدارسها، اشتهرت الموصل هي الأخرى بهذا المضمار، منها مدرسة دير مار جبرائيل المعروف بالدير الأعلى على نهر دجلة في جوار الطابية العليا (بأشطابية)، ومدرسة دير مار ميخائيل الواقع شمالي الموصل، ومدرسة النبي يونان (النبي يونس) في نينوى، ومدرسة مار إيليا الحيري في غربي الموصل. وكانت تدرّس في هذه المدارس مختلف العلوم والفلسفة واللاهوت واللغات.
ومن المدارس الأخرى التي أسّسها السريان في العراق وبالأحرى النساطرة مدرسة قسطفون. كما اشتهرت مدرسة قنسرين على الفرات بتعليم فلسفة اليونان وأبرز تلامذتها سويريوس الذي نقل علوم الفلسفة واللاهوت إلى السريانيّة وبرز من تلامذته يعقوب الرهاوي واضع علم النحو السريانيّ، وجيورجيوس المعروف بأسقف العرب، الذي ترجم بعض كتب أرسطو.
وكان لهذه المدارس أثر كبير في نشر الثقافة، وبما أنجبته تلك المدارس من العلماء والأدباء والمؤلّفين السريان يعاقبة ونساطرة، وكان أبرزهم في العصر العباسيّ يوحنّا بن ماسويه رئيس أعظم مدرسة في بغداد، وحنين بن اسحق شيخ تراجمة عصره ورئيس الفلاسفة والأطبّاء.
كما وكانت هذه المدارس لا تقوم فقط بمهمّة التعليم لمختلف صنوف العلم والمعرفة وإنّما كانت دوراً للترجمة والتأليف فتعتبر الفترة الواقعة بين ظهور الفرق المسيحيّة، وبين الفتح الإسلاميّ للعراق عنيفة وغنيّة بالترجمة من اليونانيّة إلى السريانيّة ومنها إلى العربيّة لتأييد معتقداتها، وكانت الترجمة منصبّة على علم اللاهوت والدراسات الدينيّة، وبعد الفتح الإسلاميّ استمرّت الترجمة على العلوم الطبيّة والفلسفيّة والكيمياء والفلك وذلك منذ القرن الأول الهجري، فإنّ خالد بن يزيد الأول (ت 85هـ) كان أول المحبّين لعلوم اليونان، فأمر بترجمة الكتب في علم الهيئة والطبّ والكيمياء حتى يروى أنّه وجد الحجر الفلسفيّ الذي يصنع به الذهب الاصطناعيّ.
المترجمون بالعشرات
إن من أشهر المترجمين في العصر الأمويّ يعقوب الرهاوي الذي ترجم كثيراً من كتب الإلهيات اليونانيّة إلى العربيّة.
ودخلت علوم اليونان وفلسفتهم إلى العرب عن طريق السريان في العصر العباسيّ منذ خلافة المنصور، حيث كان شغوفاً بالطبّ والهندسة والفلك والنجوم، وهو أول من راسل ملك الروم يطلب منه كتب الحكمة، فبعث إليه بكتاب إقليدس وبعض كتب الطبيعيات [44]. وجمع حوله صفوة مختارة من العلماء في مختلف نواحي المعرفة وشجع على ترجمة العلوم من اللغات الأخرى. وقد نقل حنين بن اسحق (195-260هـ/ 809-873م) للمنصور بعض كتب أبقراط وجالينوس في الطبّ، وترجم يحيى بن بطريق كتاب المجسطي، وترجم كلّ من جورجيس بن جبرائيل الطبيب، وعبد الله بن المقفّع كتب المنطق لأرسطوطاليس واعتنى يوحنّا بن ماسويه وسلام الأبرش وباسيل المطران بكتب الطبّ [45].
وقد زادت عناية الرشيد واهتمامه بترجمة الكتب فأمر بترجمة جميع ما وقع في حوزتهم من الكتب اليونانيّة والسريانيّة، كما وسّع ديوان الترجمة الذي كان قد أنشأه المنصور لنقل العلوم إلى العربيّة وزاد عدد موظّفيها. فولّى الخليفة تعريب الكتب إلى الطبيب يوحنّا بن ماسويه وعيّن له كتّاباً حذّاقاً يشتغلون بين يديه ويساعدونه في عمله.
ولما تولّى المأمون الخلافة اهتمّ بالترجمة والتأليف وأخذ يضمن شروط الصلح مع ملوك الروم إرسال كتب الحكمة فكان أحد شروط الصلح بينه وبين ميخائيل الثالث أن يهب له (للمأمون) إحدى المكتبات الشهيرة في القسطنطينيّة وكان بين ذخائرها الثمينة كتاب بطليموس في الفلك، فأمر المأمون بنقله إلى العربيّة وسمّاه المجسطي.
كما وأنشأ المأمون في بغداد بيت الحكمة وهو مجمع علميّ ومرصد فلكيّ ومكتبة عامّة وأقام فيه طائفة من المترجمين من السريان وأجرى عليهم الأرزاق من بيت المال. وأرسل المأمون بعد ذلك بعثة علميّة لشراء كتب الحكمة من بلاد الروم مكوّنة من الحجّاج بن مطر، وابن بطريق، وسلّم صاحب دار الحكمة (ت 215هـ/830م) فأخذوا ممّا اختاره عدداً كبيراً وحمّلوه إلى بغداد مجموعة كبيرة من كتب الفلسفة والمنطق والموسيقى والفلك وغيرها.
ازدهرت إذن الترجمة على أيدي السريان في الفترة الواقعة بن عامي 750-900م. فقد عكفوا على ترجمة أمّهات الكتب السريانيّة واليونانيّة والفهلويّة الفارسيّة والسنسكريتيّة الهنديّة إلى العربيّة، وكان على رأس أولئك المترجمين في بيت الحكمة حنين بن اسحق الطبيب النسطوريّ فقد ترجم إلى اللغة السريانيّة مئة رسالة من رسائل جالينوس، وإلى العربيّة تسعاً وثلاثين رسالة أخرى، وترجم أيضاً كتب المقولات الطبيعيّة والأخلاق الكبرى لأرسطو، وكتاب الجمهوريّة، وكتاب القوانين والسياسة لأفلاطون، فكان المأمون يعطيه ذهباً زنة ما ينقله من الكتب. وقام ابنه اسحق في أعمال الترجمة أيضاً فنقل إلى العربيّة من كتب أرسطو الميتافيزيقيا والنفس وفي توالد الحيوانات وفسادها، كما نقل إليها شروح الإسكندر الأفروديسي وهو كتاب كان له أثر كبير في الفلسفة الإسلاميّة. وكان يعمل معه نقلة مجيدون أمثال اسطفان بن باسيل، وموسى بن خالد، ويحيى بن هارون، وحبيش بن الأعسم، وعيسى بن يحيى بن ابراهيم. وكان قسطا بن لوقا يشرف على الترجمة من اللغات اليونانيّة والسريانيّة إلى العربيّة. وقد أقام المأمون يوحنا بن البطريق الترجمان أميناً على ترجمة الكتب الفلسفيّة من اليونانيّة والسريانيّة إلى العربيّة، وتولّى كتب أرسطو وبقراط.
ولم يكن الخلفاء وحدهم يهتمّون بالترجمة والنقل إلى العربيّة بل نافسهم الوزراء والأمراء والأغنياء، وأخذوا ينفقون الأموال الطائلة عليها، فيقول ابن الطقطقي: إن البرامكة شجعوا تعريب صحف الأعاجم حتى قيل إن البرامكة كانت تعطي المعرّب زنة الكتاب المعرّب ذهباً. وبالغ الفتح بن خاقان في إنفاق الأموال على الترجمة والتأليف. وكان عبد الملك بن الزيات لا يقل عنه سخاء في هذا المجال.
العلوم اللاهوتيّة بالعربيّة
ولم يقتصر اهتمام السريان بالترجمة ولا سيّما ترجمة فلسفة اليونان بل تعدّاه إلى اللاهوت الذي كتبه آباء الكنيسة بالسريانيّة فعرّبوه ليكون جاهزاً وواضحاً أمام إخوانهم النصارى العرب وممّن اهتمّ بهذا المجال نكتفي بذكر أسمائهم:
أبي الحسن عيسى بن حكم المسيحيّ الدمشقيّ، والراهب هارون بن عزور وأبي زكريا يحيى ابن البطريق، ويوسف بن إبراهيم الحابس ابن داية، وجاثليق النساطرة تيموتاوس الكبير (+823) الذي بالإضافة إلى ترجمته لكتاب أرسطو في الشعر له محاورة معروفة مع الخليفة المهدي حول العقائد النصرانيّة وموقف النصارى تجاه الإسلام. حول هذا الجاثليق نرى صديقه أبا نوح ابن الصلت الأنباري وكاتبه أبا الفضل علي ابن ربان النصرانيّ وخليفته على كرسي الجثلقة يشوع بن نون وكلّهم من الكتبة المبدعين.
وأمّا حبيب بن بهريز فكان أولاً أسقفاً على حران ثمّ انتقل إلى كرسي الموصل، وعاش في زمن المأمون، ولهذا الخليفة عرّب كتباً في المنطق والفلسفة واللاهوت، وللأسف حبيب بن بهريز له نظريات عدّة قريبة من الإسلام.
وفثيون بن أيوب الترجمان الشامي نقل إلى العربيّة بعض الأسفار المقدّسة وعاش في بغداد في نصف القرن التاسع الميلاديّ، وكانت تربطه صداقة حميمة بعبد الله بن كلاب، كما أخبر ابن النديم.
وإذا كان الجاثليق يوحنا بن عيسى ابن الأعرج [68] (+905) لم يترك أثراً في كتب المؤلّفين المسلمين، رغم كونه كاتباً كنسياً مشهوراً في عالم الفقه، فإنّ أبا بشر متى بن يونس ينعم بشهرة نادرة. حكى عنه القفطي قال: "عالم بالمنطق… وعلى كتبه وشروحه اعتماد أهل هذا الشأن في عصره". وقد شهد عنه ابن النديم فقال: "إليه انتهت رئاسة المنطقيّين في عصره". وهو من أكابر شرّاح الفلسفة الأرسطيّة. تعلّم في مدرسة مار ماري في دير قني حيث كانت تدرس علوم المنطق والنحو والشعر والهندسة والفلك والطبّ والفلسفة وعلوم الدين باللغة العربيّة إلى جانب اللغتين السريانيّة واليونانيّة.
وفي القرن العاشر والحادي عشر قام بين النساطرة أساقفة عديدون الّفوا أو عرّبوا كتباً هامّة خلدت أسماءهم وهم جرجس مطروبوليط الموصل وإسرائيل أسقف كشكر وإيليا الأول الجاثليق [75] (+1049) وخصوصاً إيليا مطران نصيبين (1046) صديق أبي القاسم الحسين بن علي المغربي وله معه مجالس مشهورة، ولمطران نصيبين مؤلّفات كثيرة في العقائد الدينيّة والتاريخ والأخلاقيات والفقه واللغة السريانيّة والعربيّة.
ولا نغفل عن ذكر الراهب قورياقوس بن زكريا الحرّاني وجبرائيل بن نوح وعيسى بن علي النصرانيّ صاحب قاموس سريانيّ – عربي، وابي الحكيم يوسف بن البحيري من ميافرقين وبشر بن السري الدمشقي مفسّر الكتب المقدّسة.
أمّا أبو الفرج عبد الله بن الطيب فكان من الرجال البارزين في عصره وبين قومه فهو الفيلسوف والطبيب والقسّ الذي شغل منصب كاتب الجاثليق أيام يوحنا بن نازوك (+1022) وتوفي سنة 1043 إليك ما كتب عنه القفطي: "فيلسوف فاضل مطلع على كتب الأوائل وأقاويلهم، مجتهد في البحث والتفتيش… قد أحيى من هذه العلوم (أي فلسفة أرسطوطاليس وطب جالينوس) ما دثر وأبان منها ما خفي… وشيخنا أبو الفرج عبد الله بن الطيّب بقي عشرين سنة في تفسير ما بعد الطبيعة ومرض من الفكر فيه مرضه كاد يلفظ نفسه فيها…". فهذا الذي قدم شروحاً قيّمة لكتب أرسطوطاليس وفرفوريوس الصوري وجالينوس وأبقراط اهتمّ أيضاً بتفسير الكتب المقدّسة النصرانيّة بأجمعها، كما أنّ له كتباً عقائديّة وأخلاقيّة وفقهيّة عدّة، قسم منها نشره علماء أوربيون، وقسم ما زال طيّ المخطوطات.
هؤلاء هم المؤلّفون النساطرة وقد كانوا من نخبة القوم علمياً واجتماعيّاً عصر ذاك.
أما اليعاقبة فقد برز منهم بالحقبة ذاتها مفكّرون كبار يتقدّمهم أبو رائطة حبيب بن خدمة التكريتي، المعاصر لأبي قرّة أسقف حرّان وطيموثاوس الكبير الجاثليق له رسائل دينيّة عدّة نشرها العالم جورج غراف مع ترجمة ألمانيّة وقد اهتمّ بتربية نسبيّة نونّوس رئيس شمامسة نصيبين الذي ألّف تفسيراً لإنجيل مار يوحنّا، ما عدا كتاباته باللغة السريانيّة، أشهر منه كان عبد المسيح ابن ناعمة الحمصي معرّب المغالطات السفسطائيّة والسماع الطبيعيّ لأرسطو والكتاب المنحول (إيثولوجيا).
وبعد أن نذكر ذكراً عابراً موسى بن الحجر، صاحب التفاسير الكتابيّة الخطب الدينيّة ومعاصره يوحنا الداراني وله مقالة عن الشياطين وكتاب في الكهنوت، نصل إلى قمّة الفكر النصرانيّ أعني يحيى بن عدي التكريتي نزيل بغداد (+974) أعطى القفطي لائحة كتبه الفلسفيّة وأهمل كتبه اللاهوتيّة المسيحيّة. ومن تلاميذه الفيلسوف فرج بن جرجس ابن أفريم اليعقوبيّ، وأبو الخير الحسين ابن السوار، وأشهرهم أبو علي عيسى ابن اسحق ابن زرعة (+1008): "أحد المتقدّمين في علم المنطق والفلسفة" [90] وتلميذه أبو نصر يحيى ابن جرير التكريتي (+1080) كان كثير الإطّلاع في العلوم وذا فضل في صناعة الطبّ. وله كتب في الطبّ وعلم النجوم ذكرها ابن أبي أصيبعة وكتاب المرشد وهو مختصر مفيد لأهمّ العقائد المسيحيّة.