"الغربة هي النّزوح عن الوطن، والابتعاد عن الأهل والدّيار، يعني أنّ يشعر المرء بابتعاده عن مكان نشأته وفراقه لذويه الّذين يرتبط معهم نفسيّاً وعاطفيّاً واجتماعيّاً" .
وليس موضوع الغربة وما تعكسه من إيحاءات وضغوط وهمّ نفسيّ على الشّاعر العربيّ بجديد، فالغربة والحنين المرادف لها واكبا مسيرة الشّعر العربي منذ أقدم عصوره، وقد عرف العربي حبّ الوطن والحنين إليه منذ أقدم الأزمان، فحمل لنا الشّعر العربي صوراً رائعةً من أشواق الشّعراء، وحنينهم إلى أوطانهم، ويندر أنّ تجد قصيدة عربيّة إلّا وفيها حنين إلى الوطن أو ذكر المنازل والدّيار، ولا غرو في ذلك، فالأرض قطعة من الإنسان ولا يستطيع نسيانها متى حلّ أو رحل، وهل يستطيع الإنسان أنّ ينسى نفسه؟ كان يقال: "أرض الرّجل ظئرُه، ودارُه مهده، والغريب النّائي عن بلده المتنحّي عن أهله، كالثّور النّاد عن وطنه، الذّي هو لكلّ رام قنيصة" .
وقد ارتبط الحنين ارتباطاً وثيقاً بالغربة في الشّعر الفلسطيني، "فالغربة تولّد الحنين وتبعثه، وكلّما طالت مدّتها أو قست ظروفها واشتدّ وقعها ضاعفت من الحنين، فكأنّهما شجرة وأغصانها أو نبتة وثمارها" . وهذا ما حصل مع القيسي وبعض الشّعراء الفلسطينيّين الذّين أبعدوا عن أرضهم، وحلّوا في ديار جديدة لا عهد لهم بها، فشعروا بالغربة، وبفقد الأهل والوطن والأحبّة، وشعروا بالحنين إلى أوطانهم واشتاقوا إلى كلّ ما فيها وكانوا كلّما اشتدّت الغربة عليهم ازدادوا حنيناً إلى وطنهم الذّي خلّفوه وراءهم.
فالغربة تجربة عامّة عاشها الفلسطينيّون واقعاً وإحساساً ومعاناة، حتّى أصبحت جزءاً من مكوّنات شخصيّتهم، وهي بالنّسبة للقيسي، بالإضافة إلى كونها تجربة عامّة، تجربة ذاتيّة خاصّة عاشها واقعّاً عندما اضطرّ للهجرة إلى الأردن، وتنقّل إلى دول عدّة من بينها (لبنان، والسّعوديّة، وإسبانيا) وغيرها. وقد امتزجت التّجربة العامّة بالتّجربة الخاصّة، لتشكّل موقف الشّاعر وأحاسيسه وانفعالاته بموضوع الغربة، وتبثّ في عاطفته قوّة تجعل حنينه إلى وطنه الحبيب الذّي يكنّ له كلّ الحبّ في قلبه تجربة متجدّدة. فماذا قال القيسي؟ وكيف صوّر هذا الحنين؟
يقول في قصيدة "مكابدة الشّوق والغصّة":
أشتاق أنّ أراك في شوارعي المغبرة
أشتاق، أشتاق يا قبرة
موّالَ حُبّ
ينقذني من الجفاف في حياتي المسوّرة
بالشّوك والأسلاك
أواه يا مدينتي المنوّرة
متى يحين موعدي، متى أراك؟
متى تُذيب غربتي يداك؟
يخاطب الشّاعر وطنه وقد أضناه الشّوق إليه، وهذا ما جعله يتخيّل صوره في كلّ أنحاء الشّوارع، فقد تكرّر الفعل أشتاق ثلاث مرات في السّطرين الأوّل والثّاني، لتأكيد استمراريّة الشّوق، ولتأكيد شدّة التّشبّث بأرض الوطن والأمل بالعودة إليه، ولعلّه يتّكئ على الدّلالة الزّمنيّة للفعل المضارع، ليشير إلى هذه النّظرة التّفاؤليّة.
تدور الأبيات الشّعريّة حول تجربة مطوّلة عاشتها "الأنا" خارج الوطن في المنفى، وقد اختار الشّاعر لها بعداً زمنيّاً هو "الجفاف" بما يثيره من عذاب ومشقّة تضاعف من وحدة الغريب ومشاقّه، فاختيارات الشّاعر تنصبّ على معجم الفقر والأسى، تبدأ من "الجفاف" إلى "الشّوك والأسلاك" وهذه الدّوالّ مجتمعة ترسم لنا صورة واقعيّة لحياة الغريب أينما حلّ، دوالّ لها تأثيرها على حياة المغترب، ثم تنتهي بأمنيّة الشّاعر بالعودة إلى وطنه "متى يحين موعدي، متى تذيب غربتي؟
"
وقد شبّه الشّاعر مدينته بالمدينة المنوّرة ليظهر لنا قيمتها وأهمّيّتها، ويبّين مدى جمالها، وليعبّر عن شدّة اشتياقه لها، فكما يشتاق زوّار المدينة المنوّرة أنّ يعودوا إليها لأنّ فيها حبيباً يشدّهم للعودة إليها وهو رسول اللّه محمد (ص)، كذلك هو يشتاق للعودة إلى مدينته لأنّ فيها أحباباً وذكريات جميلة تدفعه للعودة إليها. ويستخدم الشّاعر كلمة "أواه" للدّلالة على وجعه وألمه لبعده عن مدينته الّتي تركها منذ طفولته، وأتبعها باستخدام أداة النّداء "يا" لتحمل المعنى البعيد، وتوحي بالتّحبّب والشّوق للذّكريات الّتي قضاها فيها.
كما نلاحظ في الأبيات السّابقة بروزاً واضحاً للذّات المتكلّمة الّتي تتجسّد من خلال الضّمائر، والّتي بلغت ستّة ضمائر في إلحاح من الشّاعر على إعطاء ذاته قدراً من الاهتمام والوجود قبل أنّ يتلاشى وجودها في السّطر الأخير الذّي أتى لتعليل ما يحدث من تساؤل حول العودة إلى أرض الوطن باستخدامه أداة الاستفهام "متى" بشكل متتالٍ للدّلالة على التّمنّي الّذي آثره.
وتكاد لا تخلو قصيدة من قصائد القيسي من معاني الإحساس بالغربة والحنين الجارف للوطن، والشّوق لغاباته وبساتينه، تلك المعالم الّتي تتجسّد في وجدانه إحساساً بهيجاً فيتلذّذ في تجسيدها ليواجه عذابات المنافي بمباهج الماضي- الوطن- الذّي يسكنه، قائلاً في قصيدة "المصلوب":
غريباً ضائع الخطوات منسيّاً
وظلُّ العار يتبعني
ولم أعرف سوى حزني
رفيقاً يحملُ المأساة يرويها لخلّاني
ترى هل تدركين الآن ما حُزني؟
غزيرٌ يا معلّلتي
غريب يا معذّبتي
يعرض المقطع السّابق لحال الضّياع الّتي أحسّها الشّاعر، حيث نجد الألم والحسرة يعتصران قلبه لما آل إليه أمر وطنه من تمزّق في غربته، ومن عار يتبعه باستمرار، فالحزن رفيق له، والمأساة مغروسة في قلبه، حزن غزير غريب، لا يجد له دواءً أو حلّاً، بل يحاول أنّ يخفّف من آلامه باستخدام أداة النّداء "يا" مرّتين في السّطرين السّادس والسّابع مخاطباً وطنه متوجّها إلى المعلّلة المعذّبة، لعلّ هذا النّداء يخفّف من وحشته ويقرّب إليه الوطن الغائب عنه.
تبدأ الأسطر الشّعريّة بكلمة "غريبا" في إشارة منه إلى الدّهشة والاستغراب، غريباً عن الوطن ضائعاً منسيّاً بين حنايا الغربة. فيبدأ السّطر الأوّل بجملة تقريريّة، تصوّر لنا طبيعة الغربة الموحشة، وقد أتت جملة النّداء في السّطرين السّادس والسّابع "يا معللتي، يا معذّبتي" لتبرز حاجة "الأنا" إلى الأنس في زمن الغربة الضّائعة، وفي السّطر الأوّل يبرز صراع بين "الأنا"، وموضوع الغربة تبدو فيه "الأنا" ضائعة ضعيفة منسيّة أمام قسوة الموضوع وشدّته، وقد حرص الشّاعر على استخدام الفعل المضارع "يتبعني" ليؤكّد استمراريّة الحدث وتجدّده، وتزداد عمليّة الضّياع "للأنا" تضييقاً مع السّطر الثّالثّ الّذي جاء موصولاً بما قبله، من خلال أداة النّفي "لم" الجامع للحدثين معاً، لتصبح الأنا واقعة بين فكيّ لعنة الغربة وضياعها وبؤسها، وبذلك ترسم لنا صورة غريبة ثلاثيّة، عناصرها: غريباً، ضائعاً، منسيّاً، وفي السّطر الرّابع يبرز أمامنا تقابل في البنية التّحتيّة بين الأنا الهاربة، والرّفيق الّذي يحمل المأساة، فيستخدم الصّيغة الاستفهاميّة في السّطر الخامس للإجابة عن المأساة والضّياع الّذي مرّ بهما الشّاعر "هل تدركين الآن ما حزني؟" فيجيب "غزير، غريب" منادياً "يا معلّلتي، يا معذبتي" فاستخدم النّداء للدّلالة على مأساته الحقيقيّة في غربته فينادي على بلاده، لكن لا أحد يستجيب. وهذا ما يشحن الصّياغة بدلالة متوتّرة ومتوقّدة وحزينة.
وبمعاودة النّظر في حركة الأفعال داخل الصّياغة يتبيّن أنّها كانت العنصر الأوّل الذّي أشعل الصّراع وكثّفه، حيث بدأ السّطر الثّاني بالفعل "يتبعني" الّذي يلخّص مجمل الصّراع القائم في الصّياغة، وقد جاءت الأفعال جميعها بصيغة المضارعة " يتبعني، أعرف، يحمل، يرويها، تدركين"، وبذلك تطغى الاستمراريّة للحدث على جميع الأسطر.
وفي قصيدة "المصلوب" نلاحظ أنّ رؤيّة القيسي للغربة والحنين تنبع من أيديولوجيّة معيّنة، وهي أنّ الحنين للوطن، لا يتحقّق إلّا عن طريق الموت فعشقه لوطنه جعله يعشق الموت، ويصوّره لنا في ضوء ما هو معروف، إنّه يعشق الوطن من أجل الخلاص من الغربة ومصاعبها، يقول:
لغربتنا ونحن نكابد الآلام، نطعم ذاتنا للحرف والفكرة
أموتُ، وهل تموتُ الشّمس لو طالت خيوط اللّيل؟
سيزهر حزننا، إمّا يعانق شعبنا فجر الخلاص، ويكسرُ الجرَّة
هذا الأمر الّذي يجدّد الأمل في انبعاث الماضي حاضراً، الأمل الواعد، وحتميّة العودة من تيه المنافي، ومكابدة الآلام والموت الذّي من أجله تتحقّق العودة، وسيزهر حزننا بمعانقة أرض الوطن، وكسر الجرّة وفجر الخلاص.
تبدأ الأسطر بحرف الجرّ "اللام" الّذي يحمل معنى التّوكيد، كي تصبح المكابدة والآلام مكاناً يتّسع لنطعم ذاتنا للحرف والفكرة، فإطعام الذّات ينبعث من المكابدة والآلام وينتشر فيه، وقد استخدم الشّاعر الضّمير المنفصل "نحن" لتفيد العموم والشّمول، بمعنى أنّ الغربة ومكابدة الآلام تتجسّد في كلّ شخص من الأشخاص مهما صغر، وكثيراً ما تكون الغربة قسريّة بسبب ما يتعرّض له الإنسان من ظلم وخوف أو جوع، وعلاقة إطعام الذّات بالآلام علاقة اضطراد، كلّما كبرت الآلام والمأساة زاد الأمل والحلم بالعودة، فإن كان الألم في السّطر الأول ينبعث منه أمل بسيط توحي به كلمة "نطعم ذاتنا للحرف والفكرة" فإنّ هذا الأمل سرعان ما يقوى وينبلج في صورة فجر مشرق "وسيزهر حزننا". وفي السّطر الثّاني بدأ بالفعل المضارع "أموت" الّذي يلخّص مجمل الصّراع القائم في الصّياغة، وقد جاءت الأفعال جميعها بصيغة المضارعة "نطعم، أموت، تموت، سيزهر، يعانق، يكسر" ما عدا فعلاً واحداً "طالت" وهو فعل منفيّ من حيث المعنى لدخوله في إطار الاستفهام المنفيّ، وبذلك تطغى صفة الاستمراريّة على الأسطر الشّعريّة. وهذه الأفعال لها دلالات رمزيّة واضحة عند الشّاعر. "هل تموت الشّمس" فالشّمس لا تموت بل سيزهر عصر جديد "سيزهر حزننا" ، فبدأ السّطر الثّالثّ بحرف "السّين" للتّأكيد على عصر الحريّة.
إنّ مثل هذه الرّوح المتفائلة تصبح سمة من سمات شعر القيسي، وإنّ حنكة الشّاعر وخبرته كثيراً ما تطفو على السّطح لتحجب حالة التّشاؤم والقلق النّفسي الّتي تنتاب الشّاعر، وتبيّن ذلك بجلاء في هروبه إلى ربوع الوطن كلّما اشتدّ كربه، ليستشرف المستقبل من فوق رباه الشّامخة، وليحقّق رسالة في إشاعة روح التّفاؤل والأمل في النّفوس، ويبشّر بحتميّة العودة المأمولة.
وها هو الشّاعر يتجرّع لحظة القسوة من ظلم وخطر يهدّد حياة أحبابه، قائلاً في قصيدة "مقاطع من مدائن الأسفار":
أحبابنا في الرّيح والأهوال والمطر
أحبابنا هناك في العراء
يسطّرون روعة البقاء
ويجدلون من عذابهم للمجد أُغنيّات
ويبسمون رغم قسوة الحياة
أحبابنا،
والأرض،
والإنسان في خطر
يبدأ السّطر الأول بمناداة "أحبابنا" المتّصل بالضّمير "نا" للدّلالة على البعد ما بينه وبين أحبابه، وهم جالسون تحت المطر والرّيح، وفي تكرار دالّ "أحبابنا" في السّطرين الأوّل والثّاني الّذي أضيف إلى "نا" المتكلّمين ما يشير إلى عموم المأساة واتّساعها. وبدأ السّطر الثّاني بظاهرة أسلوبيّة لافتة للنّظر وهي رمزيّة ظرف المكان "هناك" الدّالة على ما هو خارج الوطن، كما يكثّف الشّاعر من حروف الجرّ الّتي بلغ ظهورها خمس مرّات كانت على النّحو الآتي: ثلاث مرّات للحرف "في"، مرّتين للحرف "من"، ومرّة للحرف "اللام" بما يفيد اضطرابه وتأثّره من سوء صنيعهم، وكأنّه يريد القول بأنّ المأساة والمعاناة قد حلّت بهم من كلّ جانب. ونجد الحضور المكثّف للذّات المتكلّمة والّذي تجسّد من خلال الضّمائر المتّصلة الّتي بلغت سبعة ضمائر في ستّة أسطر شعريّة يعلن من خلالها توجّعه وحسرته على ما يتعرّض له المغتربون من عذاب ومشقّة في غربتهم وهم في خطر دائم. كما نجد في بداية السّطرين السّابع والثّامن استخدام كلمة "الأرض، الإنسان" فالأرض هي أرض المغترب الأصليّ الّتي ما زالت تصرخ من أجل أهلها وأحبابها الذّين يعانون أبشع الظّلم والهوان في حياتهم.
وبالعودة إلى الأفعال نجدها في الأسطر أفعالاً مضارعة تقف في حركتين متّفقتين "يسطرون، يجدلون، يبسمون" رغم العذاب والمشقّة، لذا فهو في اغتراب دائم إلى أنّ يعود إلى ينبوعه السّامي الذّي لن يكون قريباً، لأنّ قوة جذب الأرض أكبر، يبرز ذلك من قوله "هناك" تأكيداً على بعده من الأرض، وهذا ما جعله في اضطراب.
وها نجد القيسي بعد مذاقه مرارة الغربة وقسوتها، يودّع هذه الغربة الّتي آلت عليه بأشد عذابها، قائلاً "أيتها الغربة وداعا":
يا غربةُ هاتي كفّيك
أودعك بها كلماتي المرّة
ورنين الزّمن الجاحد
إنّي أرتحل الآن
فياضاً بالفرح إلى خالدّ
هنا الشّاعر يودّع الغربة بكلماته المرّة، ورنين الزّمن المظلم، والقسوة الّتي عانى منها في غربته، وها هو يرحل فياضاً بالفرح والسّعادة إلى خالد.
تبدأ الأسطر بأداة النّداء الّتي تستحضر المنادى إلى سطح الصّياغة، لتحمل دلالة البعد الّذي انتهى ولن يعود، لتكون في بؤرة الحركة، وتمتدّ أفقيّاً فتتلاحم مع الموضوع باسم فعل أمر قوله "هاتي". وهذا ما يدلّ على شدةّ تمسّكه وفرط حبّه للوطن، وقبل أنّ يصل إلى متمّم الجملة بعدم صموده للوصول إليه قبل التّأكيد على مكانة الوطن في نفسه وقلبه مجيباً "إني أرتحل الآن" بعد رنين الزّمن الجاحد وزمن الغربة السّوداء، فهنا يودّعها بفيض من الفرح والسّعادة.
ويعود الحنين والشّوق إلى الشّاعر ليستذكر كلّ الليالي الجميلة مع سكون اللّيل والأغاني الجميلة، ويطلّ علينا في قصيدة "الحداد يليق بحيفا" حيث يهتزّ صراخ الحقد- القهر ليعلن أنّ القمر الآتي جميل قائلاً:
مراسم قهرك جارية،
إنّهم يتركونك وحدك في ساعة الطّلق،
يُلقون باللّوم – زوراً- على القابلة
سمعت الرّياح تُغنّي
يليقُ الحداد بحيفا
يليق بها كلُّ سجن ومنفى
يليقُ الحداءُ بأفراسها الحمر والقافلة
ينفتح النّص على عالم سحيق، وسيلة الكشف فيه تداعي الذّكرى، والحنين إلى ربوع الوطن، فالأسطر تبرز موقفاً سلبيّاً لزمان تجاه الغريب، فبينما يحتفظ بعضهم بذكرى تبرز هويّتهم، وحنين يخفّف وحدتهم، فإنّ الزّمان يأتي ليمحوها ويتركهم وحدهم فالأفعال "يترك، يلقون" يحملان دلالة سلبيّة تتمثّل في الحزن واللّوم تّجاه الشّاعر، فإنّ عمليّة اللّوم جاءت مشوّهة لعدم اكتمال طبيعة اللّوم تّجاه القيسي، وقد استغلّ الشّاعر الصّيغة الحواريّة في الكشف عن هذه العلاقة فبدأ الحوار بتوجيهه إلى أحد طرفي المحاورة، وهو الزّمن الماضي بغيّة الكشف عن هويّة الغريب، وعندما سمع الرّياح تغنّي، بدأ يستذكر تلك الليالي الجميلة تّجاه حيفا.
وفي السّطر الرّابع تأتي الصّياغة على شكل دفقات تعبيريّة متتاليّة، تبدأ كلّ دفقة منها بوسيلة تعبيريّة مؤثّرة هي فعل الماضي "سمع"، لتصبح "الأنا" في مستوى فوقي يسمح لها بالقدرة على التّحرّك على مستوى الدّلالة. ومع أنّ الشّاعر قد زاوج بين ألفاظ المعجمين، معجم الحزن ومعجم الفرح، فإنّه استطاع من خلال عمليّة الإسناد والتّعليق أنّ يغلب جانب الفرح على الحزن، وأن يجعل الدّلالة في الأسطر تتحوّل كلّها إلى قالب من الفرح والسّعادة، فطبيعة الخطّ الدّلالي في الأسطر تتّجه من الحزن إلى الفرح، ليكون الجانب الإيجابي المشرق هو المسيطر في النّهايّة، وتأكيداً لهذا التّحرّك جاء قوله "سمعت الرّياح تغني"، وهذا ما أراده القيسي ليحمل المتلقّي على المساهمة في إثراء المعنى. وإذا ما عاودنا النّظر في الصّيغة الفعليّة نجد في الأبيات خمسة أفعال مضارعة، وفعلاً للزّمن الماضي، وهذا يمنح الخطاب صفة الدّيمومة والاستمراريّة من خلال هذا التّذكار بالماضي ومآسيه، وأنّه يحاول أن يقاوم الذّبول، ذبول الذّكريات ونسيانه، بما أضاف إليه المنفى من مآس حفرتها الأيّام الأولى من حياته فصارت جزءاً لا يتجزّأ.
مّما تقدّم يمكننا القول إنّ صورة الوطن والأرض لم تغب عن قلب الشّاعر وتفكيره، فحبل الحنين بقي قويّاً عنده، وازداد صلابة مع الأيّام، وحبّ الوطن ظلّ يجري في عروقه، كما أنّ المنافي لم تضعف من حلمه بالعودة إليه، وإلى الذّكريات الّتي يحملها في حناياه، فحنين القيسي إلى وطنه لم يكن حنين العاجز ذا الطّبيعة السّلبيّة، بل اتّخذ منه انطلاقة نحو نهاية الاغتراب، وقوّة تدفعه إلى الخروج من واقع الغربة إلى واقع الأنس في الوطن، وهذا يبيّن أنّ موضوع الغربة هو موضوع الحياة والحنين الّذي يزخر به وجدانه، وأنّ الغربة لديه طراز متفرّد، لأنّه يقف صامداً بذكرياته وحنينه سدّاً منيعاً في وجه تلك الإرادة الّتي أرادت محو العلاقات الأزليّة مع الوطن بكلّ ما تمثّله هذه الرّوابط من تاريخ وتراث.
* ريما أمهز- طالبة دكتوراه بالجامعة اللبنانية