لقد وصل التيار العلماني إلى أدنى مستوياته في السنوات الأخيرة في جميع كيانات سوراقيا.
في هذه الأمسية سأحاول أن أعدّد أسباب هذا التراجع المريع وسأتناول أيضاً الحلول الممكنة.
أسباب أفول التّيارات العلمانيّة:
منذ بداية القرن العشرين رأى أنطون سعاده أن العلمنة غير ممكنة دون إعادة توحيد المنطقة التي تمت تجزئتها من قِبل الاستعمار الغربي بناء على اتفاقيات سايكس ـ بيكو عام 1916، ذلك أن تحديد العلمنة على أساس "فصل الدين عن الدولة" يستتبع بالضرورة وجود دولة قومية أو دولة – أمة ((nation-state
.
ثمة أسباب داخلية وأخرى خارجية لانحسار التيار العلمانيّ في كلّ كيانات سوراقيا من فلسطين إلى لبنان والأردن وسورية والعراق. السبب الداخلي هو ترسّخُ نظام الملّة العثماني في سوراقيا عبر خمسة قرون ما أدى إلى الانتماء والولاء للهويّة الطائفيّة/الدينية. أما السبب الخارجي فهو لجوء الاستعمار الغربي إلى التقسيم الطائفي للسيطرة على المنطقة من جهة، ولإضفاء شرعية على الكيان الصهيوني الذي يريد إنشاء دولة يهودية صرف من جهة أخرى. وكان الاستعمار الغربي قد استعمل نظام الملل بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر حيث عمد القناصل الأوروبيون إلى الادّعاء بأنهم يحمون الأقليات الدينية في الشرق، فبادرت فرنسا عبر قناصلها إلى حماية الموارنة [اقرأ: سيطرة للفرنسيين ضمن المشرق العربي]، فيما سعت بريطانيا لمؤازرة الدروز. وفي الحقيقة لم تكن هاتان الدولتان المستعمرتان تأبهان لا للدروز ولا للموارنة الموجودين فيما كان يسمى آنذاك "جبل لبنان"، بل لمصالحهما في الاستيلاء على مناطق نفوذ عبر وكلائهما وقناصلهما في أرجاء السلطنة العثمانية. ولا يجب أن يغرب عن بالنا أن هذه الهجمة ترافقت مع الثورة الصناعية في هذين البلدين وحاجتهما لتصريف الفائض من بضاعتهما خارج بلديهما لمراكمة الأرباح.
لقد اتّكل الغرب الاستعماري على نظام الملل الطائفي العثماني للتّغلغل ضمن الإمبراطورية العثمانية، لذلك ومع انتصاره في نهاية الحرب العالمية الأولى تابع السياسة نفسها لتقطيع أوصال سوراقيا. والملاحظ أن سوراقيا، عدا مصر، هي المنطقة العربية الأكثر تقدّماً وحضارة وحداثة من بين جميع الأقاليم العربية الموجودة في الجزيرة العربية وشمال إفريقيا، لذلك انصبّ اهتمام الاستعمار على تقسيمها للسيطرة عليها.
على الأقل اعترفت بريطانيا وفرنسا عبر اتفاقية سايكس ـ بيكو أنهما فعلاً عمدتا إلى تقسيم المنطقة، بينما تُتحفنا الولايات المتّحدة الأميركية ببدعة اختراع كلمات تعني عكس ما هو حاصل على الأرض. ففي 2003 حين احتلّت العراق سمّت ذلك "تحريراً"، وبعد "تحريره" تحوّل العراق إلى "ديمقراطي توافقي". وفي سورية، أصبح انفصال الأكراد في قاموسها المخادع "فدرالية"، بينما الحقيقة هي أن الفدرالية نقيض الانفصال، لأن الفدرالية بحسب القاموس هي "اتّحاد وحدات سياسية قررت التنازل عن سيادتها لصالح دولة مركزية". نستطيع القول مثلاً إن وحدة سورية والعراق ممكنة عبر نظام فدرالي، لكنّنا قطعاً لا نستطيع القول بأنّ حصول الأكراد على دولة في العراق أو سورية هو فدرالية، لأن الأكراد هم ضمن الدولة السورية والعراقية وبالتالي مطالبتهم، أو مطالبة الولايات المتحدة الأميركية بالفدرالية ليس سوى تغطية لحقيقة الانفصال.
والبرهان على ذلك أنه حين حاولت اسكتلندا الانسحاب من "المملكة البريطانية المتحدة" هذا العام، سُمّي ذلك انفصالاً لا فدرالية!! ليس هذا فقط لا بل صبّ أوباما جهوده في دعم الوحدة لا الانفصال لأنه يعرف تماماً أن بريطانيا ستكون أضعف بكثير فيما لو انفصلت عنها اسكتلندا. الدول القومية تتعامل مع غيرها بحسب مصالحها ولا تستعمل معياراً واحداً لنفس الحالة. فالولايات المتّحدة الأميركية مع التقسيم والانفصال في سورية والعراق لأن مصلحتها من مصلحة "إسرائيل"، بينما هي مع الوحدة وعدم الانفصال في بريطانيا وأوروبا لأن وحدة أوروبا مفيدة جداً للولايات المتّحدة الأميركية التي تضع أوروبا في مواجهة روسيا، وأيّ إضعاف لأوروبا يعني ازدياد قوة روسيا. أفهم موقف الولايات المتحدة الأميركية التي تريد الحفاظ على مصالحها في العالم، لكنّني لا أستطيع أن أتفهّم أن يطالب أحمد أبو الغيظ، الأمين العام للجامعة العربية، ومن على هامش منبر الأمم المتحدة، بتقسيم سورية تحت مسمّى إقامة نظام فدرالي! (راجع جريدة «الحياة»، 28 أيلول 2016 :"أبو الغيظ للحياة: الفدرالية هي الحل لإنقاذ سورية").
المؤسف أن العديد من الصحافيين العرب يتبنون المصطلحات الأميركية المغلوطة فتنتشر المقالات حول "فدرالية" الأكراد، وهذا خطير لأننا إذا استعملنا كلمة فدرالية فذلك يعني أننا سلّمنا بأن للكرد دولتهم المستقلة، وأنهم عبر الفدرلة قرّروا الاتحاد مع سورية!
نستطيع القول إن تجربة الدولة السورية ما قبل عام 2011، كانت الأقرب إلى تطبيق فصل الدين عن الدولة من بين الدول العربية، وربما ذلك ناتج عن عقيدتها القومية، لذلك لم تستطع الولايات المتحدة الأميركية وبعد مرور خمس سنوات على حربها، على دحر الدولة السورية بالرغم من إشعالها ناراً طائفية مذهبية تكفيرية لم نرَ مثيلاً لها من قبل، إذ كانت الولايات المتحدة الأميركية تستخدم طريقة الانقلابات العسكرية للإطاحة بالأنظمة. تغيير الخطة باتجاه إثارة نار الفتنة المذهبية بدلاً من الانقلاب العسكري يعني أنها تريد تفتيت سوراقيا ومحوها من الوجود، فهي فتّتت لبنان إلى حدٍّ كبير خلال 15 عاماً من الحرب الأهلية، وهذا التفتيت لا يعني إلا شيئاً واحداً: انهيار التيار العلماني الذي كان صاعداً قبل الحرب واستبداله بالتيّارات المذهبية المتطرفة والسلفية التي تقود إلى حروب داخلية مستدامة.
ظنّت أميركا أن نهاية سورية لن تطول أكثر من بضعة أشهر، إلّا أنّ المفاجأة السارة كانت بتوحّد جبهات القتال، فهبّت المقاومة اللبنانية لنجدة سورية كما سارع من استطاع من العراقيين الوطنيين إلى الوقوف في وجه الإرهاب الذي يريد تدمير حضارة هذه المنطقة الغنيّة بانفتاحها وتلاوينها الفكرية والدينية. نحن اليوم نعيش مرحلة جديدة مرحلة ما بعد سايكس-بيكو لأن مقاومتنا تخطّت الحدود الاصطناعية التي وضعها الغرب لإضعافنا وإذلالنا. هذه المقاومة تخلّت عن "العروبة الوهمية"، وبحسب سعاده العروبة الوهمية هي حين يتقاعس السوراقيون عن الدفاع عن أرضهم ويتّكلون على العرب أو المسلمين لإنقاذهم، والنتيجة في هذه الحالة فقدان الأرض كما سلبت منّا في الإسكندرون وكيليكيا وفلسطين، أمّا اتّكالنا على أنفسنا كما فعلت المقاومة دفاعاً عن أرضنا، وكما يفعل الجيش السوري وقوات الدفاع الوطني، فهو طريق الانتصار.
(راجع أنطون سعاده، الأعمال الكاملة، الجزء الثامن، "حاربنا العروبة الوهمية لنقيم العروبة الواقعية"، صفحة 267-271. بيروت: مؤسسة سعاده للثقافة، 2001).
لقد ظهر جلياً خلال السنوات الخمس الأخيرة، أن العديد من الدول العربية تتعارض مصالحها مع مصلحة سوراقيا، فوزير المملكة العربية السعودية السابق، سعود الفيصل مثلاً، أكّد أن أمن السعودية هو في السيطرة على كلّ كيانات سوراقيا وعدم السماح باستقلالها وسيادتها، ومن أجل ذلك تؤازر السعودية التقسيم المذهبي، وتبعث بالمال والسلاح والرجال ومنهم الشيخ عبدالله المحيسني السعودي، والقاضي الشرعي لجبهة النصرة (القاعدة)، الذي لا يخجل أن يقول صراحة إنه دخل سورية لمحاربة النصيريين العلويين! (راجع جريدة «الأخبار»، عبدالله المحيسني، "في حلب معركة وجود"، 21أيلول 2016).
الحديث إذاً عن "أمة عربية"، أو "أمة إسلامية"، أو حتى "أمة مسيحية" هو نوع من أنواع القنابل الصوتية التي لا تعني شيئاً، إذ أن السؤال الحقيقي هو: من سيمثّل هذه "الأمة العربية"؟ هل هي مصر، أو السعودية، أو سوراقيا؟ والسؤال نفسه يُطرح على من ينادون بـ"الأمة الإسلامية"، فكلٌّ من باكستان وإيران يؤمن بالأمّة الإسلامية، فهل يعني ذلك أن إيران ستقبل بأن تحكمها باكستان باسم هذه الأمة؟ أو العكس؟
المشكلة في إطلاق مواقف من هذا النوع أن أعداداً كبيرة من النخبة المثقفة لا تستطيع التمييز بين الدولة القومية والدولة الدينية، فتخلط بينهما. مثال ذلك ترداد أساتذة جامعيين "أن العروبة هي الإسلام، والإسلام هو العروبة"، فكيف يصحّ ذلك وكيف يمكن تفسيره، وإذا كانت العروبة هي الإسلام، فما الفرق بين الاثنين؟
هذا التشوّش الفكريّ أدّى بالكثير من القوميين العرب إلى التماهي مع السلفيين والإخوان المسلمين في جميع دول العالم العربي من دون استثناء، فارتدّ هؤلاء عن محاربة الكيان الصهيوني إلى محاربة سورية لأن رئيسها علوي، ومحاربة إيران لأنها شيعية. هذا لا ينطبق فقط على السعودية التي تقود حرباً لا هوادة فيها على الدولتين، بل ينطبق أيضاً على تونسيين ومصريين وخليجيين يحاربون في سورية لإسقاط نظام "علوي". والمخجل وغير المفهوم مسارعة بعض الفلسطينيين إلى ترك قضيتهم الوطنية، وقضية استعادة أرضهم، وحملهم السلاح لمحاربة النظام الوحيد الذي دعم مقاومتهم ضد "إسرائيل"، ألا وهو سورية.
أحد أسباب انحسار التيار العلماني أيضاً في منطقتنا سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1990 الذي مثّل كارثة للدول الصغيرة ككيانات سوراقيا التي استفادت من النزاع الأميركي السوفياتي خلال حقبة الحرب الباردة للمحافظة على حدٍّ أدنى من البقاء وعدم التّفتت، فبعد عام 1990 قررت الولايات المتحدة الأميركية أن السيادة العالمية لها ولا منازع لقوتها وسطوتها، فبدأت أولاً بسلب دول أوروبا الشرقية من مجال روسيا وضمّها إلى حلف الناتو وأوروبا الغربية التي تهيمن على قراراتها بصورة كليّة، وهكذا ضيقت الخناق على روسيا الاتحادية، ثم بادرت الإدارة الأميركية برئاسة بيل كلنتون إلى تقسيم يوغوسلافيا تقسيماً دينياً بين مسلمين ومسيحيين، أيضاً لإضعاف روسيا، وسارع العديد من الأحزاب الدينية في أرجاء سوراقيا إلى إرسال قوات تحارب مع المسلمين ضد المسيحيين كما فعلت دول الخليج أيضاً، وهذا خطأ كبير لأنّ هؤلاء حاربوا الى جانب الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني ضدّ روسيا وهم ينظرون إليها على أنها ملحدة يجب قطع رأسها!
بعد أن ضمنت الولايات المتحدة الأميركية أوروبا كاملة لها اتّجهت نحو الشرق الأوسط لمتابعة تحطيم الدولة الوطنية العلمانية التي تقف عائقاً أمام هيمنتها الكلية على العالم، فاستعملت ذريعة هجمات الحادي عشر من أيلول لتشن حرباً ظالمة، لا شرعية على العراق عام 2002.
توصّلت الولايات المتحدة الأميركية إلى نتيجة أن النظام اللبناني الطائفي هو الأمثل للسيطرة الكاملة، لأن الطوائف تمنع وحدة المجتمع، وتتنافس فيما بينها إلى حد القتل والدمار، لذلك عمد بريمر، المندوب السامي الأميركي في العراق، إلى وضع دستور جديد يقسم الدولة الى ثلاثة أقسام: شيعية وسنية وكردية
أما في حربها على سورية بدءاً من عام 2011، فلقد استعملت الولايات المتحدة الأميركية التيار السلفي الوهابي التكفيري والتيار الإخواني المتزمّت لتدمير الدولة السورية، وإثارة التناقضات الداخلية من إثنية وطائفية، ودعم فئة ضد أخرى، ومدّها بالمال والسلاح، ما يسمح لها بالسيطرة على المشرق العربي أو سوراقيا من دون أن تتكبّد أيّ خسائر مادية أو بشرية.
ما بين الطائفية والعلمنة
لنقارن كيفية إدارة الدولة الطائفية/الدينية واختلافها عن الدولة العلمانية:
أولاً، في دولة الطوائف يتحكّم رجال الدين بكلّ أفراد المجتمع في الشأن العام كما الخاص أيضاً، بينما الدولة العلمانية لا تتدخّل في شؤون المواطن الخاصة فتترك له حرية ممارسة معتقداته. يأمر رجال الدين الناس باتّباع نظام واحد شمولي في المأكل والملبس والعبادة والفكر إلخ. ويقرّر رجال الدين طريقة التصرف في كل مناحي الحياة والدخول في أتفه التفاصيل ما يمنع أيّ حرية أو مبادرة من قِبل الأفراد.
ثانياً، لأن دولة الطوائف الدينية لا تفصل بين الشأن العام والخاص، يستتبع ذلك انتشار الفساد والمحسوبيات والمحاصصات والقفز فوق القانون. فالطوائف في النهاية، مسألة تختصّ بمصالح كل طائفة على حدة لا بالكلّ المكوّن للوطن/الأمة. فقط ضمن نطاق الدولة القومية العلمانية نستطيع أن نتكلّم عن الشأن العام، أي شؤون عامة الشعب بشكل متساوٍ، وبدون تمييز أو تحيّز
ثالثاً، تفرض الدولة الدينية الطائفية الأحوال الشخصية الدينية على الجميع بالولادة، فلا خيار أمام الفرد، تعلّبه وتملي عليه القيود الواجب اتّباعها وتجبره على البقاء ضمن الطائفة والولاء لها، ولا تسمح له بالتغيير والتقدم، فيما تتبع الدولة العلمانية القانون الوطني- المدني المتحرك والذي يتغير بناء على إرادة الشعب.
يخضع جميع المواطنين للقانون المدني من دون أيّ استثناء في الدولة العلمانية بينما قانون الأحوال الشخصية يفرّق بين المواطنين فتصبح كلّ فئة تتبع قانوناً مغايراً لفئة أخرى وقد يكون مناقضاً لها، ويتلاشى مفهوم المواطنة. ثم إن القوانين الدينية تفتح الباب أمام رجال الدين للسيطرة على الدولة، فبدلاً من أن يكون الزواج والطلاق والإرث والوفاة في يد الدولة يتحكم رجال الدين بأفراد المجتمع، وهم يتحكمون أيضاً بالمدارس التي هي طائفية في غالبيتها المطلقة بما فيها الإرساليات الأجنبية، والمستشفيات، والجمعيات الخيرية، والمقابر، ولرجال الدين الحق في وضع المناهج المدرسية والموافقة عليها، كما أنهم يقررون مَنْ مِن الأساتذة يُقبلون في المدارس والجامعات. وتصبح الدولة ألعوبةً في يد الطوائف التي تهدّد الحكومات بإثارة الناس عليها إذا لم تنصَع لإرادتها.
على عكس ذلك، الدولة العلمانية تحيّد الدين وتجعله شأناً خاصّاً بينما تُعلي من شأن الدولة القومية والمواطن لأن العلمنة تبغي توحيد المواطنين وجعل حياتهم وقوانينهم واحدة كي يجسدوا مجتمعاً متجانساً منسجماً مع بعضه.
رابعاً، دولة الطوائف تعطي الأولوية للدين والمذهب وبالتالي هي تابع لأوامر خارجية بحسب انتماءاتها الدينية، فانحاز الموارنة تاريخياً لفرنسا، وانحاز السنة للسعودية. بينما تؤازر الدولة العلمانية مفهوم الاستقلال القومي والسيادة القومية، فرجل الدين الفرنسي ولو كان كاردينالاً هو فرنسي قبل كل شيء وينصاع للقوانين الفرنسية لا لقوانين روما، ويحاكم بتهمة الخيانة إذا عصى القانون الفرنسي. هذا الوضع ليس حاصلاً في سوراقيا حيث يتبع السكان قوانين وافتاءات رجال الدين يحرّضونهم على القتل كما حصل للشهيد ناهض حتر ولا يلتزمون بقانون دولتهم
خامساً، قوانين الأحوال الشخصية هي قوانين دينية تفرض على التابعين لها التقيّد بها حيثما كانوا شرقاً أو غرباً، بينما القوانين الوضعية مختصّة بكل دولة على حدة، وينتج عن ذلك أن كل طائفة أو ملّة تتبع قرارات مرجعياتها الدينية الموجودة خارج حدود كيانات سوراقيا ما يشكل عائقاً أساسياً في توحيد المجتمع وصياغة دولة القانون.
سادساً، يختلف الوضع دراماتيكياً بين مجتمع علمانيّ ومجتمع طوائف دينية، فيما يختص بحريّة الفكر والعلم والمعرفة، فلا حرية للفكر حيث تُهيمن الدولة الدينية، ونصبح في وضع نجد فيه رجال دين شبه أميين ولا اختصاص لديهم يقررون الحقائق المعرفية، فيصعد أحدهم على منبر المسجد ليؤكد أن الأرض مسطحة، ويصدقه المؤمنون لأن عدم تصديقه يعني الكفر بدينهم!
يقودنا ذلك إلى تقهقر العقل والمعرفة كما هو حاصل في سوراقيا التي تراجعت فيها المعرفة وحرية التفكير تراجعاً مخيفاً عمّا كانت عليه منذ نصف قرن! لقد انهار المستوى الفكري العلمي المبتكر والمحلل والمستنبط لقواعد الكون بسبب تدخل الدين في العلوم الوضعية، وهذا ما لم يحصل في الدولة الأموية وبداية الدولة العباسية حيث كان الدين مفصولاً فصلاً تامّاً عن العلوم. لقد تبنّت السلفية الوهابية تجربة الإمبراطورية الكاثوليكية في القرون الوسطى والتي كانت تحتكر العلم وتضطهد العلماء، بينما حافظت إيران الإسلامية على التراث الحضاري القائم على فصل الدين عن العلوم الوضعية ما أدى الى تطوّرها السريع في التكنولوجيا، هذا التطور هو بالضبط ما تريد "إسرائيل" وأده لأنه يهدّد وجودها العائم على بحر من التخلّف. "إسرائيل" تستعمل الفالق المذهبي السني-الشيعي لتسيعر النار ضد إيران لأنها تخاف من تقدّمها العلمي والقومي لا من توجهها الديني، والبرهان على ذلك أنها تتحالف مع أشد الدول في تطرّفها الديني التكفيري ألا وهو السعودية الوهابية.
سابعاً، تراجع وضع المرأة نتيجة اضمحلال القوانين الوضعية التي تواكب التطور واستبدالها بالقوانين الدينية التي تعتمد على النظام البطريركي المُذلّ للمرأة كما كان سائداً في المجتمعات التي تولدت فيها الأديان منذ قرون بعيدة. ما يحصل اليوم هو قمع المرأة ومنعها من الحصول على حقوقها كمواطنة أسوة بالرجل، وتتحكّم بها قوانين الأحوال الشخصية الدينية التي تعطي الأفضلية للرجل في الزواج والطلاق والإرث وحضانة الأطفال.
أما في السياسة، فالتمثيل النيابي لا يمثّل الشعب بل الطوائف في لبنان وكذلك في العراق بعد الاحتلال الأميركي عام 2003، ونرجو ألا يتحوّل نظام سورية إلى طائف لبناني آخر بفعل شنّ الولايات المتحدة الأميركية الحرب عليها. فالترشّح للانتخابات أساسه ديني لا وطني، والناخب يذهب إلى صناديق اقتراع مختلفة حسب انتمائه الديني كما يظهر على هويته التي تُسمّى زورا هوية وطنية، إذ إنها في الحقيقة هوية طائفية مبنية على قوانين الأحوال الشخصية الدينية. وإخفاء الطائفة عن الهوية في لبنان ما بعد الحرب الإهلية لا يعني إلغاءها إذ إن قانون الانتخاب والتقسيمات الإدارية لا تزال قائمة على المذهب الديني.
الانتقال من الطائفي/الديني إلى العلماني في سوراقيا
دول المشرق العربي لا تزال تعيش في نظام الملل الديني الذي وضعه العثمانيون منذ ما يناهز الستة قرون. جلّ ما حدث حين قسمنا البريطاني والفرنسي في سايكس-بيكو إلى دويلات هو تصغير الإطار الجغرافي لكن إبقاء الصراعات الطائفية من ضمنه لديمومة السيطرة الغربية.
ما هي الحلول الممكنة لتغيير الأنظمة الطائفية؟
غالباً ما يقوم المثقفون ببثّ اليأس في قلوب الناس مؤكدين أنّ التغيير مستحيل. بالطبع التغيير مستحيل إذا رفضنا العمل باتجاه التغيير واكتفينا بالمقالات والديباجات. الهدف من إنشاء الأحزاب العلمانية هو تطبيق هذا الفكر وتحويله إلى عمل دؤوب وتضحيات في اتجاه التغيير، وإلّا ليس من سبب لإنشاء الأحزاب، فلقد أرسى أنطون سعاده مثلاً في المادة الأولى من دستوره أن غاية الحزب هي بعث نهضة في سورية الطبيعية أو سوراقيا. فهل نستطيع بعث نهضة؟
غالباً ما يؤكد كثر أنّ الولوج في الدولة العلمانية لن يحصل قبل قرن أو قرون، وها قد مضى قرن على سايكس-بيكو ولم نتقدّم خطوة واحدة لا بل أصبحنا أشد طائفية وأكثر تخلّفاً مما كنّا. هذا يدل على أن الزمن ليس كفيلاً بتغيير الظروف، وإننا إذا لم نبادر نحن إلى العمل باتجاه العلمنة فلن يتحول الوضع إلّا إلى عكس ما نشتهي لأنّ غيرنا يعمل بالاتجاه المعاكس.
لقد توصلت السعودية إلى إنجاز كبير عبر عملها المتواصل لمدة ثلاثين عاماً، إن لم يكن أكثر، في نشر التعاليم الوهابية المتطرفة والتكفيرية والرافضة للعلم والمنطق وللتطوّر الإنساني بشكل خاص في دول سوراقيا، لأن سوراقيا أصبحت لقمةً سائغة بعد تقسيمها إلى دويلات سايكس-بيكو. داعش والنصرة ليسا إلا نقطة النهاية في سلسلة طويلة من العمل اليومي لاحتواء المجتمع السوراقي وتدجينه وإلحاقه بالمشيئة السعودية عبر التبشير الديني. أذكر هنا كيف انتشر الدعاة بالآلاف في لبنان، وفي سورية، وفي العراق والأردن وفلسطين، في ثمانينيات القرن الماضي، يزورون البيوت ليلاً، ويبشرون في المساجد والمدارس بالدين الوهابي، فهل فعل القوميون العلمانيون الأمر ذاته؟
ماذا كانت النتيجة؟ تحولت كل كيانات سوراقيا من السير في مفاهيم القومية والوطنية والعلمانية والتطور الحضاري، والبناء على أسس علمية، إلى نبذ العلم والمنطق بكل أشكاله، فأول ما استهدفته الوهابية هو إلغاء التربية الوطنية من المدارس واستبدالها بالدين (الوهابي).
لقد استولى الوهابيون على عقول الأطفال والمراهقين في سورية والعراق ولبنان والأردن وفلسطين وجندوهم لأيديولوجيتهم عبر التدريس الديني في المدارس والجامعات وليس فقط المساجد.
يتفاجأ كثيرون ومنهم من كان وزيراً في رئاسة سليم الحص للوزارة عام 1998 حين أخبرهم أنه هو الذي ألغى مادة التربية الوطنية من المدارس الرسمية واستبدلها بالتربية الدينية! لم يستطع الحريري أن يفعل ذلك، لكنه تمّ على أيدي من يُعتبر وطنياً قومياً عربياً، وكان آنذاك وزير التربية محمد يوسف بيضون الذي يُنظر إليه أيضاً على أساس أنه معتدل ووطني. فكيف يحصل ذلك منذ 17 عاماً ولم يتحرّك وطني علماني واحد للاستنكار، ولم يتحرك أي من الأحزاب الوطنية العلمانية لهذه الكارثة المحققة والتي ستخرج في بضع سنوات السلفيين الإرهابيين الذين يدمروننا اليوم؟
الأمر نفسه حصل في العراق وسورية والأردن وحتى فلسطين، ففيها جميعها أُلغيت التربية الوطنية لصالح الدين، وطالب الإخوان المسلمون بحقيبة واحدة ألا وهي وزارة التربية والتعليم العالي. فهل نتعجّب اليوم لما نراه من أعمال لداعش والنصرة وغيرهما، ولمئات الألوف من السوراقيين الذين تحوّلوا إلى متطرفين دينيين همهم إقامة الدولة الإسلامية على الطريقة الوهابية؟
لا حلّ أمامنا إذا لم نربِّ جيلاً جديداً على القيم الوطنية/ العلمانية، فهنا يكمن التغيير الحقيقي، وللدلالة على ذلك سأعطي مثلين من لبنان: ففي خمسينيات القرن الماضي أُنشئت مدرستان قوميتان واحدة بناها يوسف الأشقر في ديك المحدي والثانية أنيس أبي رافع في عاليه. خرّجت هاتان المدرستان جيلاً وطنياً قومياً من جميع الطوائف من دون استثناء. وما إن توقف عمل هاتين المدرستين حتى تلاشى هذا الوجود وتحوّل الجيل الجديد إلى تعصب طائفي جرّاء المدارس الدينية المسيحية والإسلامية. الأمر نفسه حصل في سورية حيث أنشئت مدارس قومية في صافيتا وطرطوس، وعمد العديد من القوميين إلى التدريس في تلك المدارس قبل أن تغلق أبوابها أيضاً بسبب اغتيال عدنان المالكي.
لقد تنبّهت الولايات المتحدة الأميركية لهذا الموضوع الأساسي لوجودها فمنعت المدارس الخاصة في البدء، ثم سمحت لبعضها بالوجود بسبب وجود جاليات أجنبية وهي قليلة جداً بالنسبة إلى عدد السكان الذي يتجاوز الثلاثمئة مليون نسمة. ركزت أميركا كل تعليمها الابتدائي الرسمي على ترسيخ فكرة الولاء لأميركا، هذه هي المهمة الأولى للتعليم في المدرسة الابتدائية.
التعليم الديني في المدارس السوراقية أدى إلى إرساء التطرف الديني في الجامعات أيضاً التي ليست إلا التكملة المنطقية لتعليم المدارس، حيث تمّ اللجوء إلى التفسير الديني بدلاً من التنقيب العلمي، فنرى مثلاً أن الأساتذة في العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية أصبحوا يبشرون في صفوفهم بالأيديولوجية الدينية فيُلقّن الطالب "أن الاتحاد السوفياتي سقط لأنه شرّع الكحول والرقص والمسرح والموسيقى"، و"أن الاقتصاد الأوروبي فاشل لأنه غير ملتزم بالاقتصاد الإسلامي"، وتُمنع دراسة النظريات السياسية اليسارية على أنها تدعو إلى الإلحاد، وتُحجب النظريات القومية لأنها تتعارض والدين الإسلامي الشمولي. (راجع ماهر الخشن، "في الجامعة اللبنانية إن سُئلت عن ماركس تحدث عن أفلاطون"، جريدة «الأخبار» في 16 آب 2016).
هذا الوضع يؤدي إلى استلاب المجتمع وتحويله إلى تعصب ديني قاتل خاصة أن ذلك لا يتطلب علماً أو جهداً بل على العكس من ذلك، فأيديولوجية داعش والنصرة تعتبر أن لا لزوم للعلم وللدرس والتمحيص فالأجوبة حاضرة جميعها في الدين، ويصبح رجال الدين هم أولياء المجتمع، وهذا ما يحصل اليوم، فهم الذين يقررون عنا أيّ كتاب نقرأ، وأيّ فيلم يُعرض أو لا يُعرض، وأيّ لباس بحري نرتدي: البوركيني أو غيره، وأيّ طعام نأكل (حرام أو حلال)، وإن لم نفعل فتهديد بالتكفير والقتل.
ترسيخ مفهوم الدولة القومية العلمانية ممكن على الصعيد التربوي إذا ما انصبّت جهودنا في هذا المضمار لمواجهة التعليم الديني السلفي، كما هو ممكن على الصعيد السياسي عبر التشديد على أن طرح فصل الدين عن الدولة يجمع كيانات سوراقيا، بينما لا تؤدي المطالبة بالدولة الدينية إلا إلى حروب لا نهاية لها ضمن دول سوراقيا لأن هذه الأخيرة تتشكل من أديان ومذاهب مختلفة ومتنوعة. لا تستطيع سوراقيا أن تتوحّد داخلياً إلا اذا كانت دولة علمانية، ومن أجل ذلك على كياناتها أن تقف بوجه الخطط الاستعمارية الغربية التي تريد القضاء على الدولة القومية، لأن هذه الأخيرة تؤمّن الاستقلال السياسي والاقتصادي والاجتماعي لشعبها بمعزل عن أهواء الدول الخارجية.
مع بدء الألفية الثالثة، هدفت مخططات الولايات المتحدة الأميركية بالنسبة إلى المشرق العربي دعم الدولة الدينية: إما إخوانية أو سلفية، فالإخوانية مرجعيتها تركيا الحليف الموثوق في حلف شمال الأطلسي، والسلفية مرجعها السعودية، وآل سعود عائلة لا تحيد عن السياسة الأميركية قيد أنملة، إذ إن وجودها منوط بالإرادة الأميركية، وفي الحالين كليهما تمنع الولايات المتحدة الأميركية أيّ تقارب أو تنسيق بين كيانات سوراقيا لأن تفاهمها وتعاونها يعني القضاء المبرم على "إسرائيل" التي هي رأس الحربة الأميركية في المنطقة. الطريقة الوحيدة لمنع كيانات سوراقيا من التعاون هو إدخالها في حرب طائفية دينية مذهبية واثنية
الصراع بين المبدأ القومي العلماني من جهة، ومبدأ الدولة الدينية من جهة أخرى لن يختص بدول سوراقيا فقط بل ستعمد الولايات المتحدة الأميركية إلى تطبيقه في دول آسيا التي ستهدّد هيمنتها، وخاصّة في الصين وروسيا حيث توجد أعداد كبيرة من السنة عبأتها المملكة السعودية وحولتها إلى المذهب الوهابي التكفيري الحاضر لإلغاء الآخر بقوة السلاح.
تدور الحرب إذاً بين اتجاهين ومقولتين: مقولة العولمة الأميركية التي تريد إلغاء الدول الوطنية/القومية التي تقف عائقاً أمام الإمبراطورية الأميركية، ومن أجل ذلك تدعم التيارات الدينية السنية المتطرفة، والاتجاه المعاكس الذي يدافع عن مبدأ استقلال الأمم وحقها في الوجود وفي تحقيق مصالح شعبها، والمكون من الدولة السورية وإيران وروسيا وحزب الله، والمقاومة الشعبية في العراق وسورية ولبنان وفلسطين.
نخلص للقول إن لا علمنة إلّا بوحدة سوراقيا لأن الذي يعطّل الوحدة داخلياً وخارجياً هو النظام الطائفي/الديني، والعكس صحيح أيضاً: سوراقيا لا تستطيع أن تكون موجودة فعلياً إلا إذا كانت علمانية.