محاضرة في دار الندوة تاريخ 20 حزيران 2013
قلّ أن نقرأ في عالم المفاهيم عن ثنائيات مثيرة للإشكال والالتباس كثنائية الدين والعلمانية. حتى لتبدو الصورة وكأن ثمة اختصاما وجودياً لا يقبل التسوية بينهما.
والإشكالية بين الدين والعلمنة لا تتوقف على عالم السياسة والاجتماع، وإنما تمتد أيضا وأساساً إلى عالم المابعد.. إلى عالم الميتافيزيقا. وبذلك يدخل السجال في هذه الثنائية المعقدة في صميم كل ما له صلة بعالم الإنسان. ذلك لأن مقاربتها هي مقاربة للإنسان نفسه، في وجوده ونشأته وتاريخيته السياسية والاجتماعية، وفي بعده المعنوي والروحي.
لكن لا بد لنا، ونحن في مقام مراجعة المصطلح، ان نميز بين العلمنة والعلمانية. وسعينا الى التمييز يعود إلى أن التلابس بين المصطلحين واستدخال كل منهما بالآخر، هو أصل من أصول الإشكال المعرفي الذي غالباً ما شاع في الفكر العربي فضلاً عن الغرب. الأمر الذي أدى إلى سوء الاستعمال في ميدان التفكير وكذلك في الممارسة.
أطلت العلمانية في التجربة الأوروبية كمقترح سياسي اجتماعي قانوني، غايته تشكيل منفسح عقلاني يقوم بمهمة فك الاشتباك بين تطور حركة الحداثة وحضور الإيمان الديني. لكنها لم تلبث حتى تحولت إلى فلسفة شاملة في نظرتها للكون، استطراداً الى عقيدة تقطع مع كل ما له صلة بعالم الميتافيزيقا.
وهذا هو وجه التمييز الأبرز بين العلمانية كحادث تاريخي والعلمنة كعقيدة وكهندسة فلسفية إيديولوجية للعالم.
تريد العلمانية ان تقيم دولة تحترم الإيمان على ألا يكون لجماعة المؤمنين سلطاناً سياسياً عليها. يمكن للمتدين أن يجد له محلاً في الدولة لا بصفته الدينية وإنما بصفته مواطناً مسؤولاً أمام القانون الذي يوفره له.
بذلك تظهر هوية العلمانية بصفة كونها نضيراً للقانون، وتجلياً للعقد الاجتماعي المجمع عليه. ولئن اكتفت العلمانية بهذه الغاية تكون قد اكتسبت صفة تنظيمية وإدارية تتيح للمجتمع المتنوع أن يتكيف مع تعقيداته، ويتخذ سبيله الى التفاعل الخلاق بين أبنائه سواء كانوا مؤمنين متدينين أو علمانيين لا يؤمنون بالممارسة الدينية، أو مواطنين يفصلون بين إيمانهم الديني وبين دنياهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وعلى خلاف العلمانية المجردة من أغراض الإيديولوجيا، هي غير العلمنة بما هي ايديولوجيا تريد ان تؤسس لنظام لا يكتفي بالفصل بين الإيمان الديني والدولة، وإنما لتحدث قطيعة بين الله والعالم. العلمنة بهذه المنزلة هي عقيدة وشريعة، وبالتالي فهي رؤية وجودية للعالم تقوم على إبطال كل ما لا برهان عليه وفقاً لمعيارية الواقع الفيزيائي.
لنرَ كيف فصَّلنا هذه القضية…
1 ـ العلمنة المولودة من رحم الدين
لا ينفسح الضباب عن صورة العلمنة إلا إذا وضعت في مقابل الدين. ولقد دلتنا التجربة التاريخية في الغرب على انها ولدت من الرحم الحار للديانتين اليهودية والمسيحية. ولذا فإن العلمنة بهذه الصورة ما كانت لتتخذ ماهيتها وهويتها إلا ضمن لعبة يحتل الدين فيها مكانة محورية.
المفارقة الجوهرية في ولادة العلمنة انها تلازمت وتزامنت وتبلورت مع حركة الإصلاح الديني ابتداءً من الخامس عشر الميلادي. حتى لجاز القول إنه لولا هذا الاحتدام في فضاء المسيحية ما كان لنظرية العلمنة ان تجد لها سبيلاً للظهور.
الحادث التاريخي المؤسس لهذه المفارقة جرى في اسبانيا من خلال ثلاثة وقائع سيكون لها أثر هائل في قلب أوروبا وعقلها على مدى ثلاثة قرون لاحقة.
الأول: حين تمكنت جيوش الملك فريديناند والملكة ايزابيلا، من هزيمة دولة المدينة في غرناطة وهي المعقل الإسلامي الاخير في العالم المسيحي.
الثاني: حين وقّّع فرديناند وايزابيلا مرسوم الطرد الذي أصدراه لتخليص اسبانيا من اليهود الذين خُيّروا بين قبول التعميد أو الطرد.
الثالث: حين أبحر كريستوف كولومبوس في شهر آب أغسطس من ذلك العام انطلاقا من السواحل الاسبانية ليكتشف أرض المسيح في أميركا الشمالية.
في أواخر القرن الخامس عشر لم يكن باستطاعة الأوروبيين بمن فيهم الاسبان التنبوء بفداحة التغيّر الذي دشنوه. فما جرى في اسبانيا حيث تأسست اول امبراطورية مركزية حديثة للعالم المسيحي، سوف لن يتوقف مفعوله على إطلاق ثورة سياسية واقتصادية، بل سينجز ثورة ثقافية معرفية بعيدة الأثر، وستغدو العقلانية العلمية هي المنظومة التي تحكم مناهج التفكير. كانت المسيحية تتغير على الرغم من كل محاولات الإطاحة بمنظومتها اللاهوتية. ولذا سنرى ان المساهمة الاسبانية الرئيسية في حركة الاصلاح كانت ذات سمة صوفية. فقد أصبح مستكشفو العالم الروحي هم متصوفو شبه الجزيرة الإيبرية، تماماً كما كان الملاحون يكتشفون بالتوازي مناطق جديدة من العالم المادي.
كانت العلمنة متضمنة، بوعي أو بغير وعي. في الإصلاح البروتستانتي. وسنجد ذلك على نحو بيِّن من استقراء إجمالي لرحلة الاحتدام المرير مع الكاثوليكية.
لقد طور البروتستانت ما اسموه الإنجيل الاجتماعي لكي يضفوا القداسة على المدن والمصانع التي لا ربَّ لها. وهذا "الإنجيل" هو ما يمكن أن نسميه بـ "لاهوت العلمنة" كما سنرى بعد قليل…
لنقرأ هذه القصة: في عام 1909 ألقى الاستاذ المتقاعد من جامعة هارفرد جورج إليوت خطاباً بعنوان "مستقبل الدين" أوقع اليأس في قلوب من هم أكثر محافظة. فالدين الجديد ـ كما اعتقد إليوت ـ سيكون لديه وصية واحدة هي: حب الله الذي يلقى تعبيراً عنه في خدمة الآخرين عملياً. فلن يكون فيه كنائس أو كتب مقدسة. ولا لاهوت حول الخطيئة، ولا حاجة للعبادة، فحضور الله سيكون جلياً جداً، وغامراً تابعيه لدرجة انه لن يكون هناك حاجة إلى طقس القربان المقدس. مع هذا الانجيل لن يدعي المسيحيون احتكار الحقيقة لأن أفكار العلماء، والعلمانيين، أو من ينتمون إلى دين مختلف ستكون سارية فيه تماماً كما هو سريان الحقيقة المسيحية. الدين المستقبلي ـ في اهتمامه بالآخرين ـ لن يكون مختلفاً عن المثل العليا كالديمقراطية والتعليم والإصلاح الإجتماعي والطب الوقائي. كان إليوت يحاول ـ عبر هذه المخاطرة ـ العودة إلى ما كان يعتبره حقيقة الإنجيلي الأصلي. وذلك من خلال البحث عن تجاوز المعتقد وتخطيه: حب الله ومحبة الجار. فالأديان العالمية جميعاً قد أكدت أهمية العدالة الاجتماعية والإهتمام بالضعفاء. وبهذا السياق حاول إليوت التصدي إلى الأحجية الواقعية لدى المسيحيين في العالم الحديث من خلال بناء دين قائم على الممارسة أكثر من اعتماده على معتقدات متزمتة(1).
غير أن هذا الاحتدام لم يكن ليمر من دون مفارقات. إذ بقدر ما كان المصلحون البروتستانت ثوريين كانوا في الوقت نفسه رجعيين كما تقول عالمة الإجتماع الأميركية كارين آرمسترونغ. ذلك بأنهم فعلوا كما فعل مسلمو ابن تيمية حين رفض الفقه والكلام لكي يعود إلى القرآن والسنّة. ولكن مع فارق كبير في التجربة، حيث انطلقت البروتستانتية بثورتها إلى آفاق الحداثة الواسعة بينما استنقعت المدرسة السلفية التيماوية قلاعها المغلقة ولم تغادر بداوتها.
قامت نظرية الاصلاح الديني على قاعدة لاهوتية قوامها الجمع بين الإيمان بالله والايمان بالعالم مع إسقاط العصمة سلطة الكنيسة. ولقد تبلورت هذه النظرية مع مارتن لوثر (1483 – 1556) وجون كالفن (1509-1564) وهولدريش زفينغلي (1484 – 1531) الذين عادوا الى منابع التراث المسيحي. شدد لوثر على أهمية الإيمان لكنه رفض العقل بشدة لانه يؤدي الى الإلحاد. ذلك بأن معرفة الله عن طريق التفكير في نظام الكون العجيب كما فعل اللاهوتيون المدرسيون ـ لم يكن أمراً مسموحاً. في مؤلفات لوثر كان الله قد بدأ ينسحب من العالم المادي الذي لم يعد له أهمية اطلاقاً. وهذا ما دفعه الى علمنة السياسة. وحسب تصوره ان الكنيسة والدولة يجب ان تعملا مستقلتين عن بعضهما، وأن تحترم كل منهما العالم الملائم لنشاطها. وسنرى تبعا لذلك كيف أن هذه الرؤية ستجعل لوثر من أوائل الاوروبيين المدافعين عن فصل الكنيسة عن الدولة. فقد جاءت علمنة السياسة عنده بمثابة طريقة جديدة للتدين. أما كالفن وزفينغلي فذهبا أبعد مما ذهب إليه "المعلم" في التأسيس الاهوتي للعلمنة. آمنا بضرورة الجمع بين وحيانية الكتاب المقدس وواقعية الحياة الشرية. لقد وجدا أن على المسيحيين ان يعبّروا عن إيمانهم بالمشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية بدلا من الانسحاب إلى داخل الدير. وأن عليهم أن يقدّسوا العمل من خلال تعميد أخلاق رأس المال الصاعد. ذلك بأن العمل هو سعي مقدس نحو الألوهة وليس عقاباً إلهياً على الخطيئة الآدمية الاولى. لقد اعتقد كالفن أن رؤية الله في خلقه أمراً ممكناً، فلم ير تعارضاً بين العلم والكتاب المقدس. فالإنجيل لم يقدم معلومات حرفية حول الجغرافيا ونشأة الكون بل انه عبّر عن حقيقة عصية على الوصف من خلال كلمات ليس في وسع البشر المحدودين فهمها وإدراك سرِّها.
تضيء لنا هذه المقدمات على حقيقة أن العلمنة التي كانت تننمو ببطء في أوروبا لم يكن نموها خارج سيرورة الاصلاح الديني.
في مثل هذه الحال، بدت الصورة وكأن البروتستانتية المحتجة لاهوتياً على إكراهات الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، هي التي فتحت الباب العالي لنظرية العلمنة ولثورتها الشاملة فيما بعد. وسيأتي من رواد حركة الحداثة من يضفي على هذه الصورة مشروعيتها العلمية.
ففي مستهل الحداثة سيشارك العالم الفلكي الهولندي كوبر نيكوس (1473 – 1543) كالفن رؤيته اللاهوتية المعلمنة لما قال إن ما أنجزته حول مركزية الشمس، هو أكثر إلهية مما هو بشري. أما غاليلي الذي اختبر فرضية كوبرنيكوس عملياً فقد كان مقتنعاً بأن ما أنجزه كان نعمة إلهية. كذلك سيحذو اسحق نيوتن (1642 – 1727) حذو نظيريه حيث أعرب عن قناعته بأن فكرة الجاذبية كقوة كونية تجعل الكون كله متماسكاً وتمنع الأجرام السماوية من الاصطدام بعضهما ببعض، وبأن ما توصل اليه يثبت وجود الله العظيم ميكانيكياً.
وهكذا سنستمع الى اينشتاين وهو يعلن في اواخر عمره أن الله ما كان يلعب النرد، وهو يهندس الكون الأعظم.
لكن المفارقة التي نلحظها في التساوق بين الإصلاح الديني وحركة الحداثة هي التالية: مصالحة الاعتقاد بالله مع العلم، وتناقضه الفكر الديني وسلطة الكنيسة في الآن عينه.
وسيبينُ لنا، وبحلول القرن السابع عشر، كيف ستبدأ رحلة معرفية جديدة في أوروبا قوامها سطوة العلم وكشوفات العقل على سلطان الاسطورة. سيظهر ذلك بقوة مع كتاب "تقدم التعلم" (1605) لفرانسيس بيكون (1561 – 1626) مستشار ملك انكلترا جيمس الأول. لقد أكد بيكون أن كل حقيقة يجب اخضاعها للنقد الصارم عبر العلم التجريبي حتى تلك المتعلقة بأكثر الاعتقادات الدينية قداسة. فإذا تناقضت مع حقائق تمت البرهنة عليها ومع دليل حواسنا عندئذ ينبغي رميها جانباً.
هذه كانت لحظة مفصلية في نظرة العقل الغربي الى العلم. ومع أنها كانت لحظة تقديس للعلم فإنها لم تصل إلى الإلحاد، إلا أنها ستؤسس لما يمكن اعتباره فصلاً وظيفياً بين الله والعالم. وكان ذلك ضرباً من علمنة تعترف بالخالق وتعطل في الوقت نفسه تأثير هذا الاعتراف على الاجتماع البشري.
مثل هذه الطريقة نجدها في فلسفة ديكارت الذي كان قادراً على التكلم بلغة عقلانية، لكنه وهو الكاثوليكي الورع، أراد أن يقنع نفسه بوجود الله مع رفضه العودة الى معتقدات الكنيسة. ورأى ان الشيء الوحيد الذي يمكننا التأكد منه هو تجربة الشك العقلي في إطار بديهيته المعروفة "أنا أفكر إذاً أنا موجود".
بالتزامن ديكارت اعتقد الفيلسوف البريطاني توماس هوبس ان هناك إلهاً لكن لأسباب عملية قد لا يكون الله موجوداً. وربما لتأثره بالجذر التوراتي رأى هوبس مثلما رأى لوثر ـ ان العالم المادي خال من الإلهي، وان الله قد كشف ذاته في فجر التاريخ البشري وسوف يكشف نفسه في نهايته. وحتى ذلك الوقت ـ يقول هوبس ـ علينا الاستمرار في العيش من دونه، وكأننا ننتظر في الظلام.
أما جون لوك (1623 – 1704) الذي كان أول الفلاسفة من الذين ادخلوا التنوير الفلسفي في القرن الثامن عشر، فلسوف يُدخل العلمنة الى الحيز السياسي الاجتماعي. فكان عليه أن يسيِّلها كفلسفة وعقيدة في حركة الواقع، وكانت ما نسميه العلمانية كتجربة حية. فمن أجل الوصول الى دين صحيح ينبغي على الدولة ـ حسب رأيه ـ ان تتسامح تجاه جميع أشكال الاعتقاد، ويجب أن تنشغل بالادارة العلمية وحكم المجتمع فقط. وينبغي ان تكون الدولة منفصلة عن الكنيسة وألا يتدخل أي منهما في شؤون الآخر، بذلك سيكون الناس لأول مرة في التاريخ البشري أحراراً، بالتالي قادرين على إدراك الحقيقة.
في مرحلة تالية، وبينما كان هؤلاء اللاهوتيون والفلاسفة يعلنون سيادة العقل العقلاني راح الالماني إيمانويل كانط (1724 – 1804) يشتغل على تنقية مشروع التنوير من التباساته وغموضه فقال: يجب أن يكون لدى الناس الشجاعة الكافية كي يتخلوا عن الكنائس والسلكات وأن يبحثوا عن الحقيقة بأنفسهم. فالتنوير برايه هو خروج الانسان من الوصاية التي ابتلي بها. لكن العزاء الوحيد الذي تمكن كانط من تقديمه هو ان من المحال دحض وجود الله. فعلى الصعيد الشخصي كان كانط تقياً، ولم تكن افكاره معادية للدين، وان مقتنعاً أن القانون الأخلاقي منقوش داخل كل كائن بشري. لكنه سيبين في كتابه المعروف "نقد العقل العملي": انه من دون ألوهة ومن دون إمكانية حياة اخرى، من الصعب ان نرى لماذا ينبغي علينا ان نتصرف بطريقة اخلاقية. غير ان الإعلاء من شأن العقل بوصفه المنطلق الوحيد للحقيقة في الغرب سوف يتزامن مع انفجار نزعة لا عقلانية دينية. وهذه الفترة كانت مرعبة لسكان الغرب على جانبي الأطلسي. لقد قسمت حركة الاصلاح أوروبا الى معسكرات متعادية واندلعت حروب البروتسانت والكاثوليك على مدى ثلاثين عاماً (1618 – 1648) والمؤسسات الديمقراطية التي كانت تنهض في الغرب كان ثمنها المذابح والآلام. أما الثورة الفرنسية فكانت آثارها كارثية. فلقد ولد في الغرب نظام اجتماعي أكثر عدالة وتسامحاً لكنه لم يتحقق ذلك إلا بعد انقضاء قرنين كاملين من العنف الأعمى(1).
2 ـ العلمنة في مستوعب الإيمان الأعلى
قد تكون المنطقة المعرفية الأكثر إثارة للجدل هي تلك التي عبَّرت عنها مطارحات فلاسفة الأخلاق والمتصوفين في مرحلة ما بعد الحداثة. ولقد دلّت الاختبارات الدينية لدى المتصوفين ولا سيما منهم طبقة العرفاء والقديسين، على مسعى مركب قوامه بلوغ الحد الأعلى من الإيمان. المعني بهذا الحد للإيمان هو الدرجة التي يصل اليها المتصوف بالسير والسلوك والتعرف على حقائق الوجود، وتمكنه من معرفة نفسه ومعرفة الموجودات وصولاً الى معرفة الله. والذين يصلون الى هذه الدرجة المتعالية هم الذين يطلق على كل فرد منهم صفة العارف أو الإنسان السالك في طريق الكمال. وهؤلاء لم يقطعوا مع الأحكام الدينية أو القوانين الكنسية.
ذلك بأنهم بدأوا من الدرس الديني، أو مما يسمى بالعلوم النقلية التي لا نقاش في حرف من حروفها حيث يتجاوز العارف الواصل حرفية النص الديني من دون ان يفارق ابعاده ومراتبه وخفاياه. فالإيمان الأقصى هو الذي يوفّر لصاحبه القدرة على التجاوز والتعالي والاستيعاب والإحاطة. ومن يبلغ تلك الدرجة القصوى يستطيع أن يعيش الأسطورة والحقيقة بنفس المقدار. ان يعيش الغيب والشهود كما لو كان في عالم واحد. فهو في حالة انسجام ووئام ولو ظن الآخرون خلاف ذلك. إيمان المؤمن بما يؤمن لا يمكن وصفه، بل لا يمكن تحديده. فهو ليس مجرد ظاهرة تجاور الظاهرات الأخرى، بل انه الظاهرة المركزية في حياة الإنسان الشخصية الجلية والخفية في الوقت نفسه. فالإيمان في حده الأقصى كما يقول اللاهوتي والفيلسوف الوجودي الألماني بول تيلتش(1)، ديني ويتعالى عن الدين، وهو كلي وجزئي في الآن عينه، وهو متنوع بلا نهاية، وهو نفسه دائماً. ذلك بأن الإيمان هو إمكانية جوهرية للإنسان، ولذلك فوجوده ضروري وكلي، وهو ممكن وضروري أيضاً في زماننا هذا. وإذا فُهِمَ الإيمان في جوهره على انه همُّ أقصى، فلا يمكن إذّاك أن يثلمه العلم الحديث أو أي نوع من الفلسفة. وهو يسوغ ذاته ضد من يهاجمونه، لأنهم لا يستطيعون أن يهاجموه إلا باسم إيمان آخر. ولعل أبرز ما في واقعية الإيمان أن الذين يرفضونه إنما يعبِّرون، وهم يفعلون ذلك عن إيمان ما.
مع ذلك فإن جانباً مهماً في الاشكال يبقى مفتوحاً على فضاء لا متناه من الغموض. هو الإشكال الناجم من احتدام الدين بالعلمنة على مستوى المفهوم النظري والاختبار العملي. وهو ما يتمثل بالتناظر الضدي بين الإيمان والعقل. فعلى هذا الصعيد يجب أن يسأل المرء أولاً: بأي معنى تُستعمل كلمة "عقل" حين تُواجَه بالإيمان؟ هل المقصود بها، كما هي الحالة في الغالب اليوم، أن تُطلّق بمعنى المنهج العلمي والصرامة المنطقية والحساب التقني؟ أم أنها تُستعَمل، كما كان الحال في كثير من حقب الثقافة الغربية، بمعنى منبع المعنى والبنية والمعايير والمبادئ؟
في الحالة الأولى، يوفر العقل الأدوات اللازمة لمعرفة الواقع والسيطرة عليه، ويوفر الإيمان الاتجاه الذي تتم فيه ممارسة هذه السيطرة. وقد يطلق المرء على هذا النوع من العقل اسم العقل التقني، الذي يوفر الوسائل، دون الغايات. ويهتم العقل بهذا المعنى بالحياة اليومية لكل إنسان، وهو القوة التي تحدد الحضارة التقنية لعصرنا. وفي الحالة الثانية، يتماهى العقل بإنسانية الإنسان في مقابل جميع الكائنات الأخرى. فهو أساس اللغة، والحرية، والإبداع. وهو داخل في عملية البحث عن المعرفة، وفي تجربة الفن وتحقيق الأوامر الأخلاقية، حيث يجعل من الحياة الشخصية المشاركة في الجماعة أمراً ممكناً.
لو كان الإيمان نقيضاً للعقل ـ حسب تيليتش ـ لكان يميل إلى نزع الصفة الإنسانية عن الإنسان. فالإيمان الذي يدمِّر العقل يدمر في المقابل نفسه ويدمر إنسانية الإنسان. إذ لا يقدر سوى كائن يمتلك بنية العقل على ان يكون لديه هماً أقصى. أي أن يكون شغوفاً بالله والإنسان في آن، وذلك إلى الدرجة التي يؤول به هذا الشغف إلى تخطي الثنائية السلبية التي تصنع القطيعة بين طرفيها. وحده من يمتلك ملكة "العقل المتصل" ـ أي العقل الجامع بين الإيمان بالله والإيمان بالإنسانية ـ هو الذي يفلح بفتح البـاب العالي على الوصل بين الواقع الفيزيائي وحضـور المقـدسي. في هــذا الواقــع. وما نعنيــه بالعقل المتصل هـو العقــل الذي يشكل البنية المعنويــة للذهن والواقع، لا العقل بوصفه أداة تقنية بحتة. وبهذا المعنى يصير العقل شرطاً تأسيسياً للإيمان: ذلك لأن الإيمان هو الفعل الذي يصل به العقل في نشوته الإنجذابية إلى ما وراء ذاته. أي الى ما بعد أنانيته التي يتجاوزها بالإيثار والعطاء والغيرية. بتوضيح أن عقل الإنسان متناهٍ ومحدود. فهو يتحرك داخل علاقات متناهية ومحددة حين يهتم بالعالم وبالإنسان نفسه. ولجميع الفعاليات الثقافية التي يتلقى فيها الإنسان عالمه هذه الخاصية في التناهي والمحدودية. لكن العقل ليس مقيداً بتناهيه، بل هو يعيه، بهذا الوعي يرتفع فوقه وعندها يجرب الإنسان انتماءً إلى اللامتناهي الذي هو مع ذلك ليس جزءاً منه ولا يقع في متناوله، ولكن لا بد له من الاستحواذ عليه. وحين يستحوذ على الإنسان يصير بالنسبة إليه هماً لا متناهياً أي مقدساً ونبيلاً.
وحين يكون العقل ـ بهذه الصيرورة ـ مسلّمة للإيمان، يكون تحققاً للعقل. والإيمان بوصفه حالة هم أقصى هو العقل في طور نشوته الإنجذابية. والنتيجة أن لا تناقض بين طبيعة الإيمان وطبيعة العقل بل يقع كل منهما في داخل الآخر(1). إذن، ما الذي يمكن أن يؤدي اليه تمازج الايمان والعقل من آثار على حل الإشكال بين الإيمان الديني والعلمنة.
تبدأ الإجراءات التنظيرية بتقديرنامن خلال السعي الى العثور على ما يمكن وصفه بمنطقة الجاذبية التي يلتقي فيها الإيمان الديني بالإنشغال بقضايا العالم. وإذا كانت مهمة الفلسفة الأولى تركزت على فهم سر العلاقة بين الله والعالم، فإن الفلسفة اللاحقة في حقبة ما بعد الحداثة لم تستطع مغادرة هذا المسعى. ظل العقل البشري على قلقه وحيرته ولم يقدر أن يجتاز لعبة الاختيار الحر بين الثنائيات: الله أو العالم، العقل أو الوحي، الإيمان أو العلم، العلمنة أو الدين، الدولة العلمانية أو الدولة الدينية.
ذلك يدل على أن الإشكال الناجم عن هذه اللعبة هو إشكال فلسفي من قبل أن يكون إشكالاً إيديولوجياً وسياسيا وثقافياً.
لننظر إذاً إلى الدائرة الأصلية التي صدر منها الإشكال؟
يذهب عدد من اللاهوتيين وفلاسفة الأخلاق إلى عرض القضية على النحو التالي:
أولاً، يجب الاعتراف بأن الإنسان يعيش حالة اغتراب عن طبيعته الحقيقية. ما يفضي إلى سوء رؤية فعلية تعود الى الاستعمال المشوه لكل من العقل والإيمان. وثم يقولون انه لا يمكن أن يصل الحل فيما يتعلق بالطبيعة الحقيقية للإيمان والطبيعة الحقيقية للعقل الى نهايته المنشودة، من دون تأهيل جذري للطبيعتين في ظل ظروف الوجود الإنساني.
والنتيجة التي تترتب على هذا التأهيل هي وجوب التغلب على هذا الاغتراب. والتجربة التي يحدث فيها هذا الاجراء كما يقررّون هي تجربة الوحي.
استخدام مفردة "الوحي" سواء من جانب السلطة المعرفة الدينية أو من جانب المتحيّزين الى الفكر العلْمني. وأما حصيلة مثل هذا الاستخدام فهو صدور احكام تعيد ثنائية الوحي وصلته بالواقع إلى معاركها الأولى. يُفهم من الوحي شعبياً أنه معلومات إلهية عن قضايا إلهية، تعطَى للأنبياء والرسل، تمليها الروح الإلهية على كتاب "الكتاب المقدس" أو "القرآن فضلاً عن بقية الكتب المقدسة. والقبول بهذه المعلومات، مهما تكن محالة ولا عقلية، هو الذي يسمى بعدئذ بالإيمان.
وإلى هذا فإن الوحي، بحسب فلسفة الدين هو التجربة التي يستحوذ فيها هم أقصى على العقل الإنساني ثم يسود وسط جماعة حضارية بحيث يعبّر فيها هذا الهم عن نفسه عن طريق رموز الفعل والخيال والفكر. وحيثما تحصل تجربة الوحي هذه، يتجدد كل من الإيمان والعقل. ويتم قهر صراعاتهما الداخلية والمتبادلة، ويستبدل التغريب بالمصالحة. هذا هو ما يعنيه الوحي، أو ما يجب أن يعنيه. فهو الحدث الذي يتجلى به الإيمان الأقصى في هم أقصى، ومحولاً إيــاه في الديـن والثقافة. في مثل هـذه التجربـة، لا يمكن أن يوجد صراع بين الإيمان والعقل، لأن بنية الإنسان الشاملة من حيث هو كائن عقلي يستحوذ عليها تجلّي الوحي للهمّ الأقصى ويغيرها. وهذا ما ذهب اليه فيلسوف الدين الروسي نيقولا بردياشيف حين رأى ان لليقظات الفلسفية دائماً مصدراً دينياً. وظل يميل إلى الإعتقاد بأن الفلسفة الحديثة عموماً. والألمانية خصوصاً هي أشد مسيحية في جوهرها من فلسفة العصر الوسيط. حيث نفذت المسيحية برأيه إلى ماهية الفكر نفسه ابتداءً من فجر عصور الحداثة.
وإذن، ما من صراع بين الإيمان في طبيعته الحقيقية والعقل في طبيعته الحقيقية. ويشمل هذا التأكيد أنه لا يوجد صراع جوهري بين الإيمان والوظيفة الإدراكية للعقل.
وإذا فُهِمَ ذلك، ظهرت الصراعات السابقة بين الإيمان والعلم في ضوء مختلف تماماً. فالصراع في الحقيقة لم يكن بين الإيمان والعلم، بل بين إيمان وعلم لا يعي كلاهما بعده الصحيح.
فلم يكن الصراع الشهير بين نظرية التطور ولاهوت بعض الطوائف المسيحية صراعاً بين العلم والإيمان، بل صراعاً بين علم يجرد إيمان الإنسان من إنسانيته، وإيمان شوه التأويل الحرفي للكتاب المقدس تعبيراته. ويفضي هذا التمييز بين حقيقة الإيمان وحقيقة العلم إلى تحذير لا بد من توجيهه للاهوتيين وعلماء الدين في ألا يستخدموا المكتشفات العلمية الحديثة لتأكيد حقيقة الإيمان. وسرعان ما صار الكتاب الدينيون يوظفون هذه المكتشفات لتأكيد أفكارهم عن الحرية الإنسانية، والإبداع الإلهي، والمعجزات. ولكن لا مسوغ لمثل هذا الإجراء، لا من وجهة نظر الفيزياء ولا من وجهة نظر الدين. فالنظريات الفيزيائية المشار إليها لا علاقة لها مباشرة بالظاهرة المعقدة تعقيـداً لا نهائياً عن الحرية الإنسانيــة.
3 ـ معيار الأخلاق والإيمان في جمع المتناقضين
إذا اتفقنا على المبدا الأخلاقي كمعيار تأسيسي لإجراء المصالحة بين الإيمان الديني والعلمنة، نكون قد وضعنا الفرضية الأولى لأطروحتنا. فإذا كانت غاية الدين ومقاصد الشريعة قائمة على الخير والعدل والحب والجمال، وإذا كانت غاية العلمنة هي الوصول بالإنسان ليكون سيد نفسه وسيداً على الكون.. فإن الغايتين سوف تلتقيان بالضرورة على الجوهر الواحد وهو الخيرية.
وهنا يمكن القول ان الإيمان الديني المتجرد من الأغراض يتضمن في منطقه الداخلي كل ما له صلة بخير الانسان وبهذه الرابطة الجدلية لن يُرى الإنسان ومن موقعية الإيمان الأعلى إلا ككائن نبيل ومكرّم تستحيل فصل علمانيته عن روحانيته.
لا شيء يحول دون هذا التوحّد الضروري سوى تحويل الإيمان إلى رأي والعلمنة إلى إيديولوجيا. ومثل هذا التحويل هو من طبيعة السلطة كل سلطة سواء كانت دينية أو علمانية. والسلطة الدينية بسبب من غرضيتها وتحيّزها واستئثارها بما لها وما لغيرها تروح توظف مبادئ الخير والجمال لأغراضها وأهوائها وديمومتها.
كذلك تفعل السلطة العلمانية لما يأخذها الغرور لتنتزع من الإنسان عالمه المعنوي وتلقي به في عوالمها الأرضية الصمّاء. وفي اختباراتها السياسية والثقافية والأمنية على مدى قرون الحداثة ما يستظهر مشاهد مدوية في ميادين القهر والإقصاء والنفي. الإيمان بوجود قانون أخلاقي مطلق لا يتناقض مع القول بأن الأفكار الأخلاقية تختلف باختلاف البلدان والعصور والحضارات. والقول بأن الشيء نفسه يكون خيراً في ثقافة معينة وشراً في ثقافة أخرى لا يعني أن الاخلاق نسبية، بمعنى ان الشيء نفسه هو خير في ثقافة وشر في أخرى. الذين يؤمنون بذلك ربما جهلوا القانون الأخلاقي الحقيقي. والدليل العقلي انه إذا كانت السرقة خطأ فهي في كل مكان وعلى الدوام، وكذلك الظلم والقتل وسائر صفوف الشر.
تلك رؤية الأديان على الجملة فكل إنسان يؤمن بأن العالم يمثل نظاماً أخلاقياً لا بد له بالضرورة من ان يعتنقها لكي يكون إنساناً سوياً ولو كانت القيم الأخلاقية موضوعية، فهي مستقلة عن معتقدات الناس وآرائهم. فلا يكون الشيء خيراً لأن بعض الثقافات يعتقد انه خير. فما هو صواب سوف يكون ما هو عليه في انسجام مع النظامي الكوني، ومعنى ذلك على الجملة، ان أي نوع من الموضوعية الأخلاقية ينطوي على القول بوجود أخلاق كلية واحدة.
رب معترضٍ على فكرة ان المنزلة المعنوية للإيمان الأقصى لا تستطيع ان تفعل شيئاً ينطوي على آثار اجتماعية وهي تحاول الجمع بين الوحي والعالم ما دامت خارج الاحتدام. والجواب ان الصفوة المتعالية الآخذة بالإيمان الأقصى هي نخبة تعيش الواقع، وتعاينه وتؤثّر فيه من دون ان تستغرق في شؤون التفصيلية. فهي متصلة بالواقع منفصلة عنه في الوقت عينه. ومثل هذه الجدلية المعقدة والدقيقة سوف تحد من سلبية التحيز ومن أضرار الانحياز الى هذه الجهة أو تلك. كما انها تخفف عيوب، تحول الإيمان إلى إيديولوجيا بحيث تعيد التناقض بين الإيمان الديني والعلمنة إلى سابق عهده.
يستطيع الإيمان الأعلى، وهو إيمان الصفوة من القديسين والأولياء والحكماء والفلاسفة وعلماء الأخلاق، ان يحتوي بحكمته ورحمانيته وعقلانيته الفكر السلطوي في حقل المؤسسة الدينية وحقل المؤسسة العلمانية على السواء.
ولأن القرن الواحد والعشرين هو القرن الفاصل بين عصرين، فإنه في مرحلة انتقالية يلتبس فيه القديم المتداعي بالجديد الواعد. أي انه قرن الاحتمالات المفتوحة في ساحة الأفكار والنظريات والمفاهيم. ولأنه كذلك فهو يحتاج الى جهد تنظيري ليملأ الفراغات التي عصفت بعالم المفاهيم. لم يعد العقل الذي ابتنت عليه الحداثة منجزاتها العظمى على امتداد خمسة قرون متواصلة، قادراً وبأدواته المعرفية المألوفة على مواجهة عالم ممتلئ بالمفارقات والتناقضات. لم تعد العلمنة التي تقدست مسالكها ونعوتها وأسماؤها مؤهلة لمواصلة حروبها مع من يخالفها ثقتها المفرطة في بناء مدينتها الفاضلة. ولا الدين الذي صنعته الجماعات الحضارية على قياسها، قادراً على نيل رضى الله في خلقه.
هذا ضرب من الإدعاء، قد تقولون، لكن لا بد من الإدعاء بعدما استغرق الإنسان شرقاً وغرباً في فوضاه وقلقه وحيرته.
حين انتهت ما بعد الحداثة الى الحديث عن الإنسان الأخير وعن موته فبديهي ان ينصب الحديث الذي سيلي على الحاجة الى إنسان مستأنف، يجمع ولا يفرق ويجتمع حيث ينبغي الاجتماع.
العلمنة والإيمان الديني نحو أمرٍ بين أمرين
107
المقالة السابقة