ربما كان من أكثر الحوادث المثيرة للنكد والتوقف عن تبادل الاستماع، هو ذلك الحوار حول العلمانية، فنحن لمّا نزل نتناولها وهي تدور حول محور وحيد، هو المعتقد الذي لا حدود واضحة لمقدساته، كما أنه ليست هناك حدود واضحة للتثريب أو التقريظ في مسألة اهترأت من كثرة التداول، ولم يعد هناك ما يقال أكثر مما قيل فيها، لتبقى مسألة العلمانية كمعضلة ثقافية، تغصّ فيها حلوق منتجي الثقافة من الناطقين بالعربية، فهي مسألة لا يمكن تجاوزها، كما أنها لا يمكن القبول بها في هذه البنية الثقافية، على الرغم من ضرورتها المعرفية، ما يصنع تعثراً كارثياً في تصوّر المجتمع والدولة والقيم والإنتاج (وكلها بالمعنى العلمي/ المعرفي المعاصر)، خصوصاً أن رفض العلمانية يعني تماماً رفض كل منتوجات العصر نظرياً على الأقل.
ليست كل منتوجات العصر هي منتوجات ملموسة فيزيائية الوجود، إنما توازيها منتوجات مفهومية فكرية ومعنوية لا تقلّ أهمية عنها، ولا مناص من تشابك وتفاعل النوعين كي تتم الاستفادة المجدية من الأداء الإنساني، ما يحوّل هذه المنتوجات برمتها إلى تكنولوجيات (أدوات أو وسائل)، تستعمل في تسهيل العيش البشري على هذه الكرة الأرضية، ومن هنا يمكن النظر إلى تكنولوجيات الاجتماع المحدثة كوسيلة لإرساء المجتمعات، وكذلك تكنولوجيات التحزب والحوكمة الخ، حيث تبدو رؤيتها من هذه الزاوية أكثر حيادية وبروداً، وبالتالي أقل نكداً وانحيازاً، حيث لم نلحظ أي اعتراضٍ، لا من قاصٍ أو دانٍ، على ممارسة تكنولوجيات مثل أدوية القلب أو العمليات الجراحية أو استعمال السيارة والكلاشينكوف وركوب الطائرة واستخدام ثورة الاتصال الحديثة والحداثية، وكلها تكنولوجيات معاصرة متشابكة مع التكنولوجيات المعنوية الموازية والمتفاعلة معها.
ربما علينا النظر إلى العلمانية من هذه الزاوية، زاوية التكنولوجيات، أي الأدوات المسخّرة لخدمة الإنسان في عصره وبيئته، لنتبين بالقياس والمعايرة مدى ضرورتها، فالإنسان (وغيره من الثدييات) يستطيع وهذا من حقه، السفر إلى الصين بواسطة أي من تكنولوجيات السفر، مشياً أو في عربة تجرّها الدواب أو في سيارة وقطار وكذلك في طائرة، وعليه هو أن يختار وأن يحصد نتائج خياراته، ومن هنا يمكننا النظر إلى العلمانية، كتكنولوجية تأسيسية في تكنولوجيات الاجتماع البشري وغيره، وأيضاً كواحد من الخيارات التي علينا استخدامها، في حال كان مقصدنا هو الوصول إلى المجتمع بمعناه الحديث المعاصر، هذا المجتمع القادر على الإنتاج بما يفيد مسألتي الشبع والمنعة، في خضم الاحتدام الحيوي بين مجتمعات هذا العالم.
وهنا يأتي دور المعايرة، والمعايير بطبيعتها باردة ومحايدة ولا تتقبل المواربة، وهو الجزء الذي لم تتقبله "مجتمعاتنا" متمثّلة "بنخبنا" حتى اليوم، بحجة أنها مستوردة ولا تتناسب مع خصوصياتنا، على الرغم من قبولها بالكثير الكثير من المعايير المستوردة، في شتى تطبيقات التكنولوجيات، مع كامل الامتنان، وهو ما يقودنا إلى التفكير في إنتاج معايير (أو استيرادها)، تستطيع قياس جدوى استخدام العلمانية كتكنولوجية في خدمة الإنسان، فإذا كانت المساواة هي جزء مؤسّس للمجتمع وشرط من شروطه، فهذا يقودنا (مثلاً) إلى رفض أو إبعاد كل وسيلة تمنع حصولها، وهنا سوف نكون في مواجهة الحاجة لمعيار يقرر ما هي المساواة، لضمان عدم تأسيس المجتمع على قواعد طائفية أو جنسية أو عرقية، وبالتالي البحث عن تكنولوجيات معرفية تحقق هذا الشرط التأسيسي، والبحث في مجموعة التواؤمات المطلوبة التي تحقق استخداماً أمثل لهذه التكنولوجيات، وخصوصاً أن الهدف واضح وصريح، وهو الوصول إلى كيان حيوي قادر على التنافس بالإنتاج، في خضم هذا الاحتدام الأممي.
وهنا تبدو العلمانية كتكنولوجية محايدة، قادرة على تقديم دور أساسي في إيجاد المجتمع وتوليد دولة منه، فمجالها الحقوقي هو المساواة، وهو أمر من الصعب وجود وسيلة بديلة له إلا بالتجربة والخطأ، الأمر الذي يستهلك من عمر الأقوام ودمائها، قدر يجعلها أبعد ما تكون عن الوجود الحيوي المرتجى.