عنوان هذا الفصل يشي بأهمية البحث في مسألة الأقليات في العالم العربي. ذلك أن ثنائية الأكثرية – الأقلية محور تأسيس أنظمة سياسية تقوم على الديموقراطية التي هي شرعية حكم الأكثرية بمن يمثلها، وخضوع الأقلية بما يستوجبه نظام الحكم الديموقراطي نفسه.
وإذا كانت أنظمة الحكم الديموقراطي التي تنتهج هذا السبيل تتمتع بنظام مدني عادل يؤمّن المشاركة لكل فئات المجتمع، وعلى المستويات كافة، وتتصف بالاستقرار وتداول السلطة وحرية الحراك الاجتماعي، والقدرة على الاندماج المجتمعي في المفاصل الأساسية للمجتمع من دون إلغاء أو تبعية للخصوصيات الاجتماعية المتكونة بتراكم تاريخي يحفظ للجماعات ما يميزها من ضمن إطار التنوع في الوحدة؛ إذا كان هذا شأن أنظمة الحكم الديموقراطي، فكيف يمكن النظر إلى أنظمة الحكم التي تتميز فيها أكثرية تحكم انطلاقاً من وعي تميزها، وأقليات على الهامش، أو تنتظر، انطلاقاً من وعي تميزها، على غير ما تقول به الديموقراطية، وعلى غير ما هو معروف في أمور تداول السلطة؟
ديموقراطية الأكثرية وديموغرافيتها
في البداية، لا بد من التأكيد أن لا مجتمعات صافية في انتمائها الديني أو الإتني، حتى وإن كانت تتكلم لغة واحدة أو تنتمي إلى ديانة واحدة. وثمة في العالم أكثر من 600 لغة رئيسية، بالاضافة إلى 6000 إثنية. وهذا كله يجعل من المستحيل الادعاء بصفاء عرقي أو ديني أو حضاري . هكذا كان العالم، وهكذا هو الآن، وسيبقى.
إلا أن مسألة الأقليات المعقود البحث فيها في هذا المقام، تتناول ما يشكل الانتماء المغاير لانتماءات الأكثرية مهما كان تشكل الأقليات والأكثرية. من هذا التشكل، الانتماء الديني أو المذهبي ضمن الدين الواحد. ومنه أيضاً، الأقليات الأثنية التي ترى نفسها خارج إطار الانتماء الأكثري، وإن كانت لصيقة هذا الانتماء. والأقليات يمكن أن تكون دينية وأثنية في الوقت نفسه. ولكن ما هو مشترك بينها جميعاً الحرص على إظهار التميز. وهذا يعني أنها ترى نفسها، ويراها الآخرون، «تتميز عن بقية مواطنيها بخصائص سلالية أو لغوية أو دينية أو مذهبية، تكون سبباً في انعزالها اختيارياً، أو عزلها قسراً، عن الجمهور العام» . وغالباً ما يأخذ هذا التميز صفة هاجس الهوية، والانشغال بالتفتيش في بطون التاريخ ومساحات الجغرافيا عما يدعم هذا الهاجس ويؤكده . وتتساوى في هذا الإطار حقائق التاريخ وأوهامه طالما تدفع باتجاه تثبيت الهوية وتأكيد الانتماء المخصوص لهذه «الأقلية»، أو تلك، في مقابل الأكثرية التي تعمل على تثبيت الاستقرار واستمرارية الحكم ودرء الفتنة باسم الأكثرية ذاتها وبسلاحيها الأيديولوجي والعنفي؛ الأيديولوجي الذي لا يخرج عن الانتماء الديني، أو المذهبي، حسب الثنائية أو المثالثة الدينية، أو تعدد المذاهب والطوائف ضمن الدين الواحد، أو الانتماء الاثني الذي يجعل من أكثرية تحكم بهذا الاسم، أو بالإثنين معاً: الديني، المذهبي، من جهة؛ والإثني، من جهة ثانية؛ بتمفصل محكم ومتين مع السياسة التي ما استطاع الكثيرون من منظريها وكل ممارسيها، حتى الآن، أن يفصلوا بين الديني، المذهبي، والأثني وبين السياسي. فتكون الأكثرية، وبهذا المعنى، منتجة، أو في أدنى الحالات، مساعدة في انتاج
الأقلية من حيث هي دينية، مذهبية أو إثنية، أو الكل معا
وبهذا المعنى أيضاً، تكون الأقلية، أو الأقليات، قد ساهمت في تمتين أواصر الأكثرية وفي تماسكها بحكم انتمائها، على أي وجه كان، إلى تشديد قبضة الحكم، وإلى سلوك مسلك الاستبداد والقهر باسم الحفاظ على الاستقرار، وفرض الهدوء، وحماية المجتمع من الانقسام، مستعملة وسائل الاتهام كافة ليس أولها الاتصال بالأجنبي ولا آخرها تفتيت المجتمع وتقسيمه.
ولكن من المهم التأكيد هنا، أن المجموعات الاجتماعية في أي مجتمع كان لا توضع في سلة واحدة من حيث كونها أقليات. فثمة أقليات يغلب عليها طابع التميز، من أي مصدر أتى، وتعتبر نفسها أقليات في تعاملها مع المجتمع الذي تنتمي إليه؛ وثمة أقليات تحمل السمات العامة للمجتمع الذي تنتمي إليه، ولا تحس بإحساس التميز الذي يفصلها عن النسيج المجتمعي العام، فلا تتصف بصفة الأقليات وإن كانت لا تهمل خصائصها الذاتية أو تلغيها. وبهذا المعنى، ثمة جماعات «مميزة بخصائص ذاتية تجعلها أكثر احتمالاً لأن تعيش واقعاً أقلوياً»… وأخرى مميزة بخصائص ذاتية «ولكنها متميزة بخصائصها الوطنية والقومية، وهي بالتالي أقل تعرضاً لأن تتصرف أو تعامل باعتبارها أقلية لكونها أكثر اندماجاً في النسيج الاجتماعي الوطني والقومي» .
العرب وجدل الأكثرية والأقليات
لا يمكن الكلام على الأقليات في العالم العربي باعتبارها ذات خصائص متماثلة. فالأقليات القومية والإثنية تختلف عن الأقليات الدينية أو المذهبية أو الطائفية ضمن القومية الواحدة أو (تجاوزاً) ضمن الإثنية الواحدة. فالكردي والأرمني والبربري والشركسي والفارسي والأشوري والتركماني يختلفون عن العربي المسلم أو المسيحي؛ فهؤلاء ينتمون إلى أرومة واحدة تعود في أصولها إلى الآرامية البعيدة المتصلة بدورها بالعنصر السامي الخارج من الجزيرة العربية . بينما الكردي والتركماني والفارسي والشركسي والبربري من غير العرب، وإن كانوا بأكثريتهم الساحقة يشتركون معهم في الدين، وإن اختلف المذهب؛ وأن الأرمني والسوداني الجنوبي والأشوري من غير العرب وإن اشتركوا بأكثريتهم الساحقة، أيضاً، مع بعض العرب بالدين، وإن اختلف المذهب.
بهذا المعنى يلعب الاختلاف دوره تبعاً لأعداد الأقليات وتأثيرها في الحياة السياسية والاجتماعية. فيمكن بهذا الاختلاف أن تتأزم العلاقات بين الأكثرية والأقلية، إما بسبب الحفاظ على الذات بالتماسك الثقافي الذي يتجلى عادة بالحفاظ على العادات والتقاليد والتمسك باللغة القومية وتأمين استمرارها وانتقالها بين الأجيال بالجهود الأهلية البعيدة عن التوجه الرسمي، في حال فشل دفع الدولة إلى تبني تعليم اللغات المحلية غير العربية؛ أو بالجهود الفردية التي أخذت على عاتقها الإبقاء على اللغات «القومية» عن طريق تعليمها بمختلف الطرق. كما يمكن لها أن تكون عاملاً مساعداً في نهضة المجتمع، وفي تقدمه، في حال توجه التعامل معهم وجهة اعتبارهم جزءاً من النسيج المجتمعي العام، وفي حال ساعدوا في أخذ أنفسهم في هذا الاتجاه. وهو الاتجاه الذي يمكن أن يميزهم باعتباره يحفظ التنوع ضمن الوحدة، ويضفي على المجتمع صفة المدنية باعتباره يحفظ حق الاختلاف، ويغني التنوع فيه، وينفي، في الوقت نفسه، ثنائية الأكثرية والأقلية، بالمعنى الأهلي، ويساهم في إبراز صفة الأكثرية والأقلية بالمعنى المدني، المنشأة من ممارسة الديموقراطية وتداول السلطة، ومن نمو الحس المدني، ومن التربية على المواطنية .
وبهذا المعنى أيضاً يلعب الاختلاف دوره على مستويين إثنين؛ مستوى الانقسام العمودي ومستوى الانقسام الافقي . الانقسام الأول يحول المجتمع الواحد الى متعدد، إن كان على المستوى الإثني أو الثقافي، كما هو الحال في المجتمع السوداني والجزائري والعراقي (إتنيات جنوب السودان، البربر والأكراد على التوالي)، أو كان على المستوى الطائفي الذي لا يستقيم الانقسام العمودي فيه إلا إذا تكثف العمل على تحويل المجتمع الواحد المتعدد طائفياً إلى مجتمع متعدد ثقافياً بتعدد الطوائف الدينية، وكأن الطائفة تمثل ثقافة بعينها؛ فتتعدد، لذلك، وبحسب هذا التوجه، المجتمعات اللبنانية، مثلاً، بتعدد طوائفها الدينية. وهذا ما تروّج له الايديولوجيا الطائفية، وهي إيديولوجيا الأقلية المسيحية في لبنان منذ لحظات نشأتها كأقلية مقابل أكثرية إسلامية في كنف الدولة العربية الاسلامية على امتداد تاريخها منذ أيام الدولة الأموية والمردة، إلى الدولة المملوكية والسلطنة العثمانية مع مسيحيي جبل لبنان، وخاصة الموارنة. وهي الأيديولوجيا التي ما انفكت عن الظهور عند المفاصل الأساسية للنزاعات في لبنان عندما ترتدي (النزاعات) ثوب الثنائية الدينية، وتعود إلى الضمور عندما ترتدي النزاعات أثواب الثنائية المذهبية أو التعدد المذهبي ضمن الثنائية إياها.. وفي هذا..كلام آخر. أما الانقسام الأفقي، فهو الذي يحفظ التمايزات من دون إعاقة المشاركة الكاملة في المجتمع من ضمن إطار التنوع في الوحدة .
بين الأكثرية والأقلية
لا يستقيم النظر إلى الأقليات باعتبارها مشكلة إلا إذا كانت هذه المشكلة كامنة في الأكثرية أولاً، أي في المجتمع ذاته. لذلك يمكن التساؤل: هل ثمة مبرر لإبراز تمايزات الأقلية وإظهار نفسها على أنها مجموعات مستقلة لو لم يكن لدى الأكثرية الميل نفسه إلى إبراز ذاتيتها الثقافية؟
يجيب برهان غليون عن هذا التساؤل بقوله: «إذا كنا نعترف أن هناك أقليات فإننا نعترف أن هناك داخل الجماعة الكبرى جماعات لها فعلاً تقاليد متميزة نسبياً عن الجماعة الكبرى، وليس لنا أن نطالبها بالتخلي عن هذا التمايز الثقافي من دون أن نلغي حقنا في أن يكون لدينا ذاتية ثقافية» .
هذا في حال وجود التمايز الثقافي. ولكن ماذا لو كان هذا التمايز مصطنعاً في سبيل الوصول إلى هدف سياسي؟ ماذا لو استعملت التعددية الثقافية المصنوعة ايديولوجياً والمبنية على الثنائية الدينية والتعددية الطائفية وسيلة للوصول إلى نتيجة سياسية وهي إنشاء مجتمعات على قدر الطوائف الدينية؟
تبدأ المشكلة الحقيقية عندما يصبح الشأن الثقافي وليد الممارسة السياسية المنشأة من أيديولوجيا الأقلية (الأيديولوجيا الطائفية)، وليس عندما يصبح لهذا التمايز الثقافي (التمايز القومي أو الإثني) وجود سياسي مميز، كما يقول غليون . وهذا يعني تحديداً أن من حق الأكراد أو الأرمن إنشاء الأحزاب المدافعة عن مصالحهم ضمن المجتمع الكبير باسم تمايزهم الثقافي، من دون أن يكون من حق الموارنة أو الشيعة أو السنّة في لبنان (أو غيره) المدافعة عن مصالحهم باسم التمايز نفسه، وإن كان لهم الحق في المدافعة عن مصالحهم باعتبارهم طوائف ضمن أرومة واحدة وضمن نظام طائفي، متحقق أو مضمَر، يرعى وجودهم باعتبارهم طوائف ومللاً ونحلاً يحفظ حقها الدستور والأعراف المجتمعية التي تلحظ هذه الثنائية الدينية وهذا التعدد الطائفي والمذهبي فتوزع، تبعاً لذلك، حصصها على ادارات الدولة ومواقعها الرئيسية. وعندما يتم التعامل بين الأكثرية والأقلية على أساس التوجه الثقافي لكل منهما، لن يعود من المستغرب أن يستعين كل طرف إما بعمقه الاستراتيجي المتشكل تاريخياً ولو كان دولة أجنبية، وإما برفض كل ما ينتج عن التمايز، على أي وجه كان، باسم الحفاظ على الوحدة والتضامن المجتمعيين .
في هذا المقام ينشأ التناقض بين توجه الأكثرية التي تقود الدولة والمجتمع، وتوجه الأقليات؛ وهو تناقض إما ناشئ عن عجز الأكثرية في تحقيق مواطنيتها ومواطنية الأقليات، من جهة؛ أو عن فشلها في بناء أسس الدولة الحديثة، من جهة ثانية. يساعدها في ذلك، انكفاء الأقليات بمحاولات إظهار تمايزهم وهوياتهم المغايرة، ما يساهم في زيادة حدة التناقض الموصل الى التشتت فالتقاتل والانقسام.
وإذا كانت الأكثرية تمارس سلطتها باعتبارها أكثرية على المستوى الديني أو على مستوى الانتماء الحضاري إلى العروبة، فإنها بعدم قدرتها على الفصل بين العروبة والاسلام، أو بعدم رغبتها سلوك هذا المسلك في تاريخها الطويل بعد الاستقلال، كما قبله باعتبارها جزءاً لا ينقسم عن السلطنة العثمانية وارثة الخلافة؛ كانت الأقلية، وعلى أي مذهب أو إثنية، تعمل على أنها محكومة دينياً وباسم الشريعة الإسلامية، وهي لها نظراتها المخصوصة في شؤون العلاقة بين الخالق والمخلوق، أو بين المخلوقات حسب ما تقتضيه شريعة كل منها وإن كانت منبثقة من الدين أو من اجتهادات انسانية في شؤون الدين والدنيا. وهكذا لم تعمل الأكثرية على تطوير أنظمتها السياسية الاجتماعية بما يتلاءم مع الدولة الحديثة، وبما يستوعب مشاكل الأقليات ويدخلها في مشاركة حقيقية في مسائل السلطة والنظام العام؛ بل على العكس، عملت هذه الأنظمة، باسم الاسلام، أو باسم القومية العربية، إما على إلغاء دور الأقليات، أو تهميشه، ما ساهم في تأجيج مشاعر هؤلاء. بل وأكثر من ذلك، عملت هذه الأنظمة إما على تمتين وجودها باعتبارها تنتمي إلى أقلية متحققة من ضمن إشكالية العلاقة بين العروبة والاسلام؛ وإما على ابتداع أقلية خاصة بها، وفي كنف الأكثرية، تقتسم مغانم السلطة والنفوذ والثروة ولو أشركت في ذلك بعضاً من فئات الأقليات المتشكلة تاريخياً، والعاجزة عن المنافسة سياسياً، لأقليتها؛ واضعة بذلك، وفي الحالتين، الحواجز الكثيفة بينها وبين الأكثرية المنبثقة منها. فتحولت الأنظمة، ومن خلال الممارسة، إلى أنظمة أقلوية تُضاف، في نظر الأكثرية، إلى جملة الأقليات، ويبدأ التعامل معها على هذا الأساس.
يظهر ذلك جلياً، من خلال آلية انتقال السلطة من العثمانيين، مروراً بالمستعمرين وصولاً إلى دول الاستقلال.
الميراث العربي
بهذا التوجه، ورثت الأنظمة العربية، وإن بطريقة مغايرة، ما قدمته السلطنة العثمانية في نظام الملل الذي أعطى لكل ملـّة (طائفة) مرجعيتها الدينية باعتبارها أيضاً مرجعية سياسية للتمفصل المكين بين الدين والسياسة. وأعطى لكل مجموعة اجتماعية (أقلية) حق المطالبة بالحقوق الشرعية لها باعتبارها مجموعة دينية قبل أي شيء. وكما لم يكن لدى الأكثرية الحاكمة تصور سياسي اجتماعي خارج اطار الدين، وما يرشح عن الانتماء الديني من تصورات تؤدي إلى ممارسات عملية في شتى شؤون الحياة، ومنها شؤون الممارسة السياسية؛ كان للأقليات، على اختلاف توجهاتها، تصورات سياسية اجتماعية منبثقة من اعتبارهم ضائعين في بحر متلاطم من المسلمين. فنادى الكثيرون من متنوريهم، وخصوصاً من المسيحيين الموارنة، بالقومية العربية مقابل الجامعة الاسلامية التي كانت تمثلها الدولة العثمانية. وظهرت الأفكار القومية التي بدأت أولى إرهاصاتها في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع بطرس البستاني و«نفير سوريا»، ومع الكثير من الأدباء والصحافيين اللبنانيين في لبنان ومصر. ونسج على هذا المنوال الكثيرون من المسلمين المتنورين مثل عبد الرحمن الكواكبي وغيره من دعاة اللامركزية التي تفرضها وحدة الانتماء الديني .
مأزق السلطة الناشئ من التخلي عن تقليديتها من دون القدرة على بناء أسس الدولة الحديثة، والناشئ أيضاً من عدم القدرة على بلورة الأفكار المدنية الحديثة، ومن القصور في بناء أسس المجتمع المدني؛ مأزق أدى إلى إظهار المواجهة على أنها مواجهة دينية، طائفية أو مذهبية بين أكثرية تحكم وأقليات محكومة. ليس هذا فحسب، بل أدى دخول الدولة البطركية المستحدثة، حسب هشام شرابي ، دوامة الصراع باعتبارها «ثورة» على التقليد، فأضحت أقلية سياسية تعمل على تأبيد سلطتها، وإن كان ذلك ضد مجتمعها الأكثري ذاته، وليس فقط ضد الأقليات. وهنا يمكن فهم الثورات العربية الناشئة باعتبارها الأكثرية ضد استبعاد الأقلية الحاكمة لها، وذلك باسم الأصالة والعودة الى الدين وضد الحداثة والتحديث . ما يعني «أن كل انسداد في النظام السياسي يخلق انفجاراً في المجتمع المدني (الأهلي) ويؤدي إلى نشوء عصبوية مغلقة»
. وهنا يظهر بشكل واضح قصور الدولة المستحدثة عن إيجاد أي تغيير في بنية السلطة والنظام. وهذا ما يؤدي، بسبب العجز، إلى المطالبة بأسلمة الدولة ومعاملة الأقليات بما تقتضيه الشريعة الاسلامية.
لم يكن تأثير الامتيازات الأجنبية بأقل مما أثـّر نظام الملل. فقد اعتبرت الدول الأوروبية أن هذه الامتيازات هي الباب الذي يمكن أن تدخل منه للتأثير في الملل غير المسلمة (وغير السنية أيضاً). بواسطتها تؤثر على الطوائف التي تنتقيها باسم الرعاية والحماية. وبواسطة هذه الامتيازات دخلت عناصر التبشير بالمسيحية الغربية الكاثوليكية والبروتستانتية، ليس في أوساط المسلمين، إذ ليس بمقدورهم ذلك بحكم الأكثرية، إلا في القليل النادر؛ بل في أوساط المسيحيين المشرقيين، وخصوصاً في الأرياف والمناطق النائية. ما قدمته هذه العناصر، وبواسطة المدارس التي أنشأتها، لم يساهم في نهضة تعليمية كبرى فحسب، بل ساهم أيضاً في توسيع الهوة بين المسيحيين (الأقلية) والمسلمين(الأكثرية)، من ناحية؛ وفي ترسيخ أولوية الانتماء الديني والمذهبي، من ناحية ثانية. وهو ما عمل، بالاضافة إلى عوامل أخرى، إلى تفجير النزاعات الطائفية في جبل لبنان(1841 – 1860)، والى نشوء النظام الطائفي ابتداء من 1861، وهو ما عرف ببروتوكول 1861 ومن ثم 1864، أو نظام المتصرفية.
بين الأكثرية الدينية والقومية
عندما نجح العروبيون في فك العروة الوثقى بين العرب المسلمين والسلطنة العثمانية، وصل هذا الانفكاك إلى التحالف مع الغرب المسيحي ضد الدولة العثمانية المسلمة باعتبارها شريكة المحور في الحرب العالمية الأولى، وباعتبارها الرجل المريض الذي لا بد أن يورث العرب دولتهم بالسلم أو بالحرب. وطالما لم يعط العثمانيون استقلالاً للعرب في إطار اللامركزية في الأقل الواجب، فلا بأس من وراثتها حرباً، وإن كان بالتعاون مع دول عدوة مع الدولة التي لا تزال دولتهم.
هكذا، وصل الأمير فيصل إلى سدة الملك بحكم منطق القوة والنصر الذي انعقد للحلفاء في الحرب. فأسس الدولة العربية الموعودة بمعزل عن ارادة المنتصرين باعتبارها تحصيل حاصل. وكان هؤلاء في صدد ترتيب أوضاعهم واقتسام تركة العثمانيين بصرف النظر عن وعودهم للعرب مع تأكيد الوعد بإنشاء دولة قومية لليهود؛ وهو الوعد الذي لا يخرج عن منطق التعامل مع نموذج ساطع من الأقليات.
بانتهاء الحرب العالمية الأولى التي أذنت بانتهاء أربعة قرون من حكم العثمانيين، اتضح المجال على نوع جديد من التعامل السياسي – الاجتماعي بين العرب أنفسهم، وإن كان وسط لغط متناقض نشأ عن ظروف التعامل مع الغرب، وعن ظهور الدولة العربية الجديدة، وعن إلغاء الخلافة الاسلامية لأول مرة في تاريخ الاسلام والمسلمين. ومن هؤلاء من كان مع الدولة «الحديثة»، ومنهم من كان ضدها باعتبار أنها نشأت على أنقاض الخلافة، ومنهم من سكت على مضض. أما الأقليات، والمسيحيون منهم على الخصوص، فقد اعتبروا ذلك نصراً لهم لأنهم شاركوا في تأسيس هذه الدولة، كما أملوا أن يشاركوا في قيادتها على أنها الدولة المدنية الأولى في التاريخ العربي الإسلامي. ويعتبر يوسف الحكيم (الأرثوذكسي) من أهم الوزراء في الحكومات المتعاقبة أيام فيصل.
القومية بين الأكثرية والأقلية
في الجانب الآخر بدأ العمل على صوغ النظام السياسي لجبل لبنان باعتباره موقع المسيحيين وملاذهم. هل يبقى شبه مستقل أم سيتمتع بالاستقلال التام؟ هل يكون من ضمن المملكة العربية الكبرى أم المملكة السورية؟ ما هو النظام السياسي الذي سيعتمده؟ وما هو موقفه من العرب والعروبة، ومن الاسلام والمسلمين؟ هل هو نصير الغرب الذي يشترك معه في الدين، أم نصير العرب الذي يشترك معهم في العنصر واللغة والتاريخ والمصير؟
هذه الأسئلة وغيرها الكثير، كانت تدور في أذهان المطالبين من المسيحيين بالاستقلال عن الدولة العثمانية باسم العروبة وباسم التاريخ المشترك واللغة الواحدة. وفي تلك اللحظات، راحت الدولة العثمانية، ولم يبق إلا ما تركته. وما تركته أغلبية ساحقة من المنتمين الى الاسلام ديناً، والى العروبة حضارةً ينتمي إليها المسلمون والمسيحيون معاً. فكيف السبيل الى الاختيار في توجههم السياسي؟ وكيف عليهم أن يبنوا مستقبلهم؟
إذا كان الواقع الاجتماعي – التاريخي يصوغ الأفكار ويبلورها، فإن المطالبة باستقلال العرب عن الدولة العثمانية باسم القومية العربية الجديدة على أسماع المسلمين والطارئة على قاموس التعامل الاسلامي اليومي حينها، انقلبت إلى مطالبة بقومية أضيق كانت لباساً يستر جسداً ذا توجه ديني، وهي القومية اللبنانية. وبدأ المطالبون بها ينقـّبون عن المقولات الفكرية والنظريات السياسية التي تدعم هذا التوجه. ومما وجده هؤلاء من ممارسات فعلية تصب في هذا الاتجاه، الصدامات المسلحة التي أخذت المنحى الطائفي بين نصير للاستقلال وللفرنسيين، وبين معادٍ للفرنسيين ونصير للدولة العربية . ومما وجده هؤلاء أيضاً ممارسات في بدايات الحكم العربي تفصح عن إرادة واضحة في تطبيق الشريعة الاسلامية . ووجد هؤلاء أيضاً أن نضالهم من أجل الاستقلال عن الدولة العثمانية لا يعني الغرق مجدداً في بحر من المسلمين العرب، فآثروا تغطية انتمائهم الأقلوي برداء نسجوه مما كان سائداً من أفكار حديثة في القومية والعلمانية وفصل الدين عن الدولة والقيمة العليا للفرد؛ وهي أفكار غربية لم يجدوا بأساً من استعمالها في تفصيل لباس القومية اللبنانية بعد أن استعمله أسلافهم في تفصيل ثوب القومية العربية. وهما لباسان بديلان إثنان، كل في زمانه، عن لباس الإسلام باعتباره وعاءً يحتوي المسلمين وغيرهم في أمة الإسلام.
في هذا التوجه كانت تدور المفاوضات في مؤتمر السلام في باريس عشية إعلان دولة لبنان الكبير. وحظي المسيحيون بدولتهم بعد أن ألحقت بها أقضية وسّعت مساحتها وزادت سكانها، وغيرت من معادلاتها الديموغرافية، وأعطت المسيحيين، وخاصة الموارنة، سلطات حفظها الدستور ورعتها الدولة المنتدبة، وأقصت مناطق مثل طرابلس عن عمقها الديموغرافي وعن موقعها المميز في دولة غابت، لتحلّ في موقع تابع بعد أن كانت في موقع المتبوع بحكم انتمائها الى الاكثرية. فذاقت مرارة الشعور الأقلوي الذي منعها من الدخول في صلب المعادلة الجديدة لفترة امتدت إلى أكثر من عقد ونصف .
جدل الأقليات
مع إيجاد دولة لبنان الكبير تغيرت المعادلة. وتحول لبنان من جبل تقطنه أقليات مقابل أكثرية تمثلها الدولة العثمانية، وتتعامل فيما بينها باعتبارها أكثرية (مارونية – درزية)، وأقليات، منها الأقلية السنية؛ إلى دولة تضم مجموعة من الأقليات وصلت في وقتنا الحاضر إلى ثماني عشرة طائفة دينية، وإلى أكثرية آرامية عربية تمثل أكثر من 90% من المجتمع اللبناني بالإضافة إلى الأرمن 7 – 8% والأكراد 2 – 3% .
مع الواقع الجديد وبتأسيس لبنان الكبير، أولاً، ومن ثم الجمهورية اللبنانية مع وضع دستور 1926، تغيرت أدوات الصراع في لبنان مع الإبقاء على المضمون نفسه. وكان لحمة هذا الصراع وسداه هاجس الهوية وقضايا الانتماء. وكان الانتماء الديني لا يزال يحظى بأولية عناصر الانتماء، وإن لبس ألبسة مختلفة منها اللباس السياسي: القومية العربية والقومية اللبنانية؛ أو الحضاري: العربية أو الفينيقية؛ ومنها اللباس الحزبي النجادة أو الكتائب إلخ. وكلها تسميات تفصح بكلمات حديثة عن مضمون متشكل من الانتماء الديني: الاسلام والمسيحية.
أخذ الصراع على الهوية، وهو الصراع المتميز الذي تستحضره الأقليات للدفاع عن وجودها، ولإثبات هذا الوجود الذي لا يخفي الصراع على السلطة، بل يؤكده باسم الشراكة التي عليها أن تتناسب مع الحجم العددي، ومع ما يتيحه النظام السياسي الذي يلحظ هذه المشاركة، فتتعزز بقدر التغيرات الديموغرافية التي تفرضها؛ أو تفرض هذه المشاركة بتوسل المتغير الديموغرافي ذاته. من هنا نشأ عدم الاستقرار السياسي في لبنان الناشئ عن التغير الديموغرافي، وبالتالي عن تغير مواقع السلطة التي لا تخرج عن كونها سلطة الطوائف أو السلطة الطائفية.
في لبنان الجمهورية، تكرست الأكثرية الجديدة بثلاث مجموعات تراوحت نسبتها بين 23 و25% من مجموع العديد الإجمالي للبنانيين. وبقيت الطوائف الخمس عشرة ضمن حدود 25% مجتمعة. وهذه لعبت دورها كأقليات، مهمشة أو تابعة، في مسألة التعاطي مع شؤون الحكم والسلطة.
وتناوبت الطوائف الثلاث على الامساك بزمام الأمور في البلاد باسم لبنان المسيحي، أولاً، ذي الوجه العربي، ومن ثم لبنان الميثاقي الذي عدّل من هذا التوجه، المرسوم من سلطات الانتداب، ولموقع الموارنة في الجبل قبل ضم الملحقات؛ وهو التوجه الذي أفضى إلى اعتماد نفيين لدرء خطر الأكثرية التي يمكن أن تتجلى في تأثير الخارج على الداخل: عدم الاعتماد على العمق العربي (المسلم) مقابل عدم اللجوء الى الغرب (المسيحي)، ما حدا بالصحافي جورج نقاش إلى قول عبارته الشهيرة: «نفيان لا يصنعان أمة Deux négations ne font pas une nation. هذه المبادلة شكلت المرتكز الأساسي للميثاق الوطني الذي أعطى السنّة في لبنان المشاركة الفعلية في شؤون الحكم في ثنائية تقوّت بمخاض أحدثه المدّ العروبي في لبنان، وأبقى الأكثرية الشيعية على حدود الممارسة السياسية، إن لم يكن على هامشها. وهذا ينطبق على الطوائف الأقل عدداً، وبالتالي الأقل أهمية، على مستوى هذه الممارسة.
النظام المنتج للفكر الأقلوي
لم تتعدل هذه المشاركة الثنائية إلا أثناء الحرب اللبنانية وتكرست في اتفاق الطائف بمعادلة المثالثة التي أتاحت للشيعة حق المشاركة الكاملة في الحكم من ضمن نظام الترويكا الذي أعطى لمجلس النواب رئيساً ملكاً غير متوج؛ وهو عطاء متزامن مع صعود نجم المقاومة اللبنانية التي أعطت للشيعة قوة غير مسبوقة. هذا العطاء المزدوج أتاح لهذه الطائفة الموقع المتقدم في المعادلة الجديدة والمنافسة مع الطائفة السنية واقتسام الطائفة المارونية مناصفة، أو ما يشبه المناصفة بين هذه وتلك في المجال السياسي، وإن كان في جميع الطوائف من لا يخضع لهذا المنطق في الانقسام. وقد عبّر كمال ديب عن هذه الحالة بقوله: «بدأت المنافسة على السلطة السياسية في البرلمان ومجلس الوزراء والمراتب العليا في الدولة بين السنة والشيعة… وسعى الجانبان إلى اجتذاب المسيحيين… وبدت قيادتـ(هما) بموقع الهاجم على تركة الموارنة… (الـ) مشتتين (الـ) موزعين» . وقد شبّه ديب العلاقة بين الطوائف في التسعينيات مع ما حصل في العشرينيات من القرن الماضي مع انقلاب في الأدوار، بقوله: « ثمة شبه كبير في التسعينات بين سعي الزعامات الإسلامية لجلب المسيحيين إلى الجمهورية الثانية والمساهمة فيها، وسعي الموارنة بعد ولادة دولة لبنان الكبير في العشرينات لجلب المسلمين إلى جانبهم ».
لا يخرج الانقسام السياسي اللبناني، في صيغه المختلفة، عن جدل الأكثرية والأقليات، وإن كان المتغير الطائفي المحدّد الأساسي لهذه الانقسام. ونوعية النظام السياسي اللبناني هو الذي أبقى على هذا الانقسام ذي الوجه الآخر قبل تحديد لبنان الكبير، وقبل انتقال الأكثرية والأقليات إلى مجال جديد حظى فيه الجميع بمواقع أقلوية، وإن كانت بنسب متفاوتة.
هذا الوجه الجديد كرسه الدستور اللبناني بحماية حقوق المجموعات الطائفية التي يتألف منها لبنان. وهذا ما أضيف إليه، باعتباره الترجمة شبه الحرفية لدستور الجمهورية الفرنسية الثالثة. فكان أن اجتمع فيه الحق في ممارسة الحرية والمساواة أمام القانون، مع إعطاء الطوائف سلطات لا تتلاءم مع سلطة الدولة، وتحد من قوة نفاذها. وربط الفرد بطائفته عندما أعطى اللبنانيين الحق في الوظيفة والخدمة العامة بصفتهم أعضاء في طوائف دينية، وليس بصفتهم مواطنين في المجتمع ويدينون
بالولاء للدولة.
ظهر النظام السياسي – الاجتماعي اللبناني المبني على الطائفية على أنه المنتج الرئيس لحالات التوتر والتعصب بين جناحي لبنان، ومن ثم بين أجنحته الثلاثة، من جهة؛ ولحالات التوتر والتعصب بين العناصر المشكلة لكل جناح، من جهة ثانية. وهي حالات تعلو بعلوّ درجة توترها؛ أو تخفّ، أو تختلف، حسب ما تقتضيه الظروف والأحوال في علاقات التقابل بين الطوائف. ومنطق النظام نفسه أملى على المتزعمين داخل كل طائفة احتلال المواقع المتقابلة، وتوسل سبل المنافسة المتوترة القائمة على دعم مرجعيات الطائفة ورموزها الدينية، من جهة؛ وعلى التكتلات القرابية والمرجعيات العائلية، من جهة ثانية. ودأبُ المتزعمين الدائم تعزيز المواقع داخل الطائفة ليكونوا في منعة من أمرهم وفي علاقاتهم معها من الداخل، ولتكون الطائفة في منعة من أمرها في علاقاتها مع الخارج. ويتوسل الجميع، إلى أي طائفة انتموا، أساليب متعددة تبدأ في حركات الاستنهاض، مروراً بإيقاظ وتغذية شعور الاستعلاء، وصولاً إلى تسويغ العنف من أجل الدفاع المشروع عن الموقع والهيبة والوجود في مواجهة الآخر، مهما كان شأنه، ومهما كانت هويته: العائلة أو الطائفة أو الدين.
النظام من الداخل إلى الخارج
أملى النظام السياسي – الاجتماعي في لبنان على الطوائف التي لا تنعم بسلطة الأكثرية أن تمعن في الانخراط باللعبة الطائفية. وظهر هذا الإمعان في المطالبة بحصصها باعتبارها طوائف عليها المشاركة في الحكم بتوسل الديموغرافيا. وكان من أهم أسباب هذا التوجه المحاصصة الثلاثية الجديدة على حساب بقية الطوائف . ولدعم مطالب الأعيان فيها لا بد، كما ترى، من شد أواصر المنتمين إليها طائفياً، وبالمعنى السياسي لهذا التعبير، فأنشئت، باسم الطائفة، الروابط والأحزاب التي تدعم هذا التوجه، وأعدت المعاجم التي تلحظ وجوه الطائفة والمنظورين فيها، وفي شتى المجالات. وبدأت المطالبات برفع الغبن عنها، كما بدأت المنافسة على ترؤس مناصب لم تنوجد بعد على أرض الواقع (مجلس الشيوخ). كما وُضعت المشاريع الانتخابية التي تلحظ لكل طائفة نوابها المنتخبين من الطائفة نفسها. وبدأ النظر، لأول مرة، إلى بعض الطوائف، ومن قبل المنتمين إليها، على أنها أقلية، مع أنها كانت ولم تزل تعتبر نفسها داخل النسيج المجتمعي العربي العام. وقد عبر المطران جورج خضر، وعلى ذمة كمال ديب، عن قلقه عن وضع المسيحيين في المجتمعات الاسلامية بقوله: « إن زوال السلطة والنفوذ والقوة من أيدي المسيحيين لا يعني أن عليهم قبول الذمية مجدداً» . أما السياسي اللبناني ريمون إدة فكان أكثر تشاؤماً عندما نصح قريبه كارلوس بقوله: «إسمع يا كارلوس، بدي منك تبقى بالبرازيل وما تروح تشتغل سياسة بلبنان. بعد عشرين سنة ما رح يبقى ولا مسيحي بلبنان» . وتضع هذه الطوائف نفسها في خانة الأقلية مقابل توجه أكثري يغلب فيه الطابع الديني- المذهبي العام على الطابع الوطني أو القومي.
في هذا المنحى المطبوع بطابع الخوف، وهو إنتاج أقلوي بامتياز، وإن كان من جملة منتجيه التوجه الأكثري المخالف، إلى درجة التناقض، مناحي الأقليات، يجد النظام الأقلوي في محيطه الطبيعي والحضاري ما يغذي هذا الخوف، بسبب الانتماءات الدينية والمذهبية. ولا يجد في هذا المحيط، في أيام الانتماء الوطني والقومي إلا الذوبان في محيط حضاري أكثري، خوفاً من ضياع الهوية وفقدان التميز، وإن خرق الكثيرون من طوائف مختلفة هذه القاعدة وأنشأوا الأحزاب العقائدية والدنيوية المتجاوزة للانتماء الديني، وانتسب إليها الكثيرون من طوائف الأقلية والأكثرية، ولا يزالون، وإن تراجع حجم تأثيرهم، ووصل عند الكثيرين منهم إلى حد الفشل في التأثير.
وكان أن الفشل أصاب الطرفين؛ فشل المحيط الحضاري في استيعاب الأقليات على اختلافهم، وعجزه عن ضمهم إلى النسيج المجتمعي العام؛ وفشل الأقليات في تجاوز خصوصياتها وتمايزها في علاقاتها مع الأكثرية، وعجزها عن الاستمرار في التأثير الفكري والحضاري في المحيط الأوسع الذي تنتمي إليه.
وهنا تحمـل كل جهة وزر الجهة الأخرى.
يقيني أن التزمت والانغلاق والتعصب صانعو للموت. وهل عليّ القول مَن هم صانعو الحياة؟