أعترف، بداية، بأني مهما قدّمت في هذه المحاضرة عن الظاهرة الرحبانية سأبقى مقصراً عن الإحاطة التفصيلية الشاملة بها، بسبب طبيعتها وغناها وتشعبها، ولأنها أيضاً كوّنت ملامحها الفنية وبنت مداميكها الجمالية خلال ما يقرب من أربعة عقود من الزمن، أعطت خلالها آلاف الأغنيات وعشرات المسرحيات الغنائية والبرامج التلفزيونية والأفلام السينمائية، وحوالي ٤٠٠ اسكتش إذاعي، وكلها صبّت في سياق نهوض فني لبناني وعربي استثنائي.
لقد حضرت الظاهرة الرحبانية في الواجهة الإبداعية اللبنانية والعربية وحتى العالمية حلقة في سياق نهضوي شقّ طريقه مع مساهمات أعلام كبار سبقوها كالمعلم بطرس البستاني الذي دعا إلى الوحدة وتحرير المرأة والديمقراطية والأخذ بمعطيات العلم والمعرفة، إضافة إلى البساتنة الآخرين وأحمد فارس الشدياق وإصلاحيين تنويريين أمثال محمد عبده والأفغاني ورشيد رضا والكواكبي والشميّل وفرح أنطون وأنطون سعادة وغيرهم.
وعلى الرغم من الفارق الزمني الذي يفصل بين نتاجات هؤلاء وبين الإبداع الرحباني، إلا أن الظاهرة الرحبانية كانت حلقة أخيرة في سياق النهوض، من حيث التجديد في الموسيقى والأغنية الحديثة والمسرح الغنائي أو الشامل…
صحيح أن الفعل الإبداعي الرحباني بدأ متواضعاً في أربعينيات القرن الماضي في منطقة صغيرة من لبنان؛ هي بلدة أنطلياس وبعض جبل لبنان كضهور الشوير وبكفيا، غير أنه توسّع في الخمسينيات والستينيات ليشمل المكان والزمان اللبنانيين ويطّل على بلدان المشرق العربي كافة.
مع سعيد عقل في دواوينه الشعرية وفؤاد سليمان في «درب القمر» و«التمّوزيات» والياس أبو شبكة ومارون عبود وآخرين كان نهوضٌ أدبي كبير، وجاء الرحبانيان عاصي ومنصور بعد عقد من الزمن تقريباً ليوسّعا الدائرة باتجاه رفع القيمة الإبداعية للعامية والأزجال والأدب الشعبي، ويطأان أرض الأدب الإذاعي عبر الاسكتش والصياغة اللحنية ذات الوجه الجديد وفي إطار المسرح والغناء.
لقد كان مسرح المدرسة ونادي انطلياس والقرى المجاورة البيئة الأولى التي انطلق منها الرحبانيان. وسرعان ما انتقل هذان الشرطيان عاصي ومنصور إلى ميدان تعلم الموسيقى متأثرين ببيئة والدهما حنا الرحباني الذي كان يعزف على البزق ويستمع إلى سيد درويش ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وأبو العلا محمد، وبما كانت تعلمهما جدتهما غيتا بعقليني من أزجال وحكايات، ثم إلى تعلم الموسيقى على يد الأب بولس الأشقر ومن ثم إلى معهد الألبا (ALBA) ليتعلما أصول التوزيع الموسيقي والهارموني على يد الأستاذ برتران روبيّار.
رحلة شاقة اعترضتهما خلالها صعوبات الحياة وقد تحمّلا ذلك بصبر وتضحية وشجاعة لكي يصبحا موسيقيين وملحنين وشاعري أغنية وكاتبين لأعمالهما المسرحية الغنائية.
مع زواج عاصي وفيروز سنة ١٩٥٤ بدأت رحلة حياة ورحلة فنية في آن واحد، وبعد غناء فيروز أغنية «بلمح بعيونو» من تلحين عاصي التي لم تبثّ، لحّن عاصي أغنيته الأولى لفيروز «حبذا يا غروب» من شعر قبلان مكرزل، ثم كرّت سبحة من الأغاني والاسكتشات من إذاعة الشرق الأدنى وإذاعتي دمشق ولبنان. وللحقيقة التاريخية لعب الفنان الفلسطيني صبري الشريف دوراً كبيراً في توضيب أعمال فنية رحبانية وتوليفها والعمل على بناء الفرقة الموسيقية وإخراج عدد كبير من أعمالهما المسرحية الغنائية. كذلك، لعب أحمد عسّه مدير إذاعة دمشق منذ بداية الخمسينيات دوراً كبيراً آخر في تبني النفس الرحباني الجديد والرؤية الرحبانية الجديدة وبث الأغاني الرحبانية- الفيروزية بشكل مركز من إذاعة دمشق التي كانت أقوى الإذاعات في المشرق العربي.
منذ بداية الستينيات بدأ التحول الكبير في الظاهرة الرحبانية عبر العمل على بنية موسيقية وغنائية جديدة تجاوزت نظام التخت الشرقي العربي إلى استخدام الآلات الموسيقية التي لم تكن مستخدمة والتوزيع الموسيقي والنص الكلامي النثري والشعري والعامي، فكانت أعمال مهمة توقّف عندها بالتقدير كتّاب وموسيقيون عرب كبار أمثال محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وأم كلثوم وعدد من النقاد الموسيقيين أمثال نجاة قصاب حسن وصلحي الوادي وصميم الشريف، كذلك شعراء وكتّاب أمثال أنسي الحاج وجورج شحادة وعصام محفوظ وخالدة سعيد وبولس سلامة ونزار قباني وتوفيق الحكيم وبدوي الجبل وغيرهم.
أما أبرز سمات الظاهرة الرحبانية:
1- نقل عامية الريف إلى لغة فنية عملت على وحدة الكلام اللبناني. وقد حدث هذا بنبش جمالات الفولكلور الشرقي اللبناني والعربي وتقديمه نصوصاً غنائية وأعمالاً راقصة… وكان هم الرحبانيين بناء لبنان وهويته الثقافية والفنية على قيم التسامح والعيش الواحد، خاصة في بلدٍ معرّض للانفجارات والاهتزازات المؤلمة، وفي بلد كان كيانه كوليد حديث بحاجة قوية إلى جمع المبعثر والفئات المتباينة إضافة إلى رفض العنف والظلم والاستبداد. وأعمال «موسم العز» و«جبال الصوان» و«أيام فخر الدين» و«جسر القمر» و«ناطورة المفاتيح» نماذج صريحة في هذا السياق.
2- ابتعدت الظاهرة الرحبانية في أعمالها عن الكلام العابر متبنية النص الأدبي الأجمل والأبقى من شعر سعيد عقل وميشال طراد والياس أبو شبكة وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي والأخطل الصغير وجبران خليل جبران، كما قامت بتلحين عيون قصائد شعراء عرب أمثال بدوي الجبل ونزار قباني وطلال حيدر وابراهيم طوقان وعبد العزيز الكرمي…
وفي مراجعة شاملة دقيقة لبعض الظاهرة الرحبانية الشعري، نجد مروحة واسعة من تلحين أجمل الشعر العربي الكلاسيكي بدءاً من العصر الجاهلي، مروراً بالعصرين الأموي والعباسي وانتهاء بالموشحات الأندلسية.
3- في إطار الموشحات وتجديد صيغة تقديمها لحّن الرحبانيان موشحات لكبار الوشاحين الأندلسيين أمثال الحفيد بن زهر ولسان الدين الخطيب وابن سناء الملك وصدر الدين الوكيل. والإشارة ضرورية هنا إلى أن الرحبانيين، بدءاً بالاعتناء بالموشحات وتلحينها منذ بداية الخمسينيات فكانت مجموعة منها مع حسن عبد النبي و«صاحب الليل» مع ملحم بركات والمجموعة، ثم جاءت فيما بعد موشحات «جادك الغيث» للسان الدين الخطيب ١٩٦٠ و«يا ليل الصبّ» للقيرواني الحصري وأخرى من تأليفهما وتأليف رفيق خوري.
وفي هذا السياق وغيره من الألوان الأدبية والفنية، تعاون الرحبانيان مع باقة من كبار المغنين والمطربين والموسيقيين أمثال وديع الصافي وصباح ونصري شمس الدين والكبيرين الياس الرحباني وزياد الرحباني، بالإضافة إلى ممثلين كبار مثل أنطوان كرباج وروجيه عساف ومادونا غازي. ومن المفيد ذكر بعض المغنين كجوزف عازار وجوزف صقر وهدى وجوزف ناصيف ومحمد غازي ومحمد مرعي…
4- إذا تجاوزنا أعمال الرحبانيين الأولى، قام مسرحهما الغنائي والشامل حسب تعبير منصور الرحباني على القواعد والمبادئ الموسيقية العلمية الحديثة. فهما استخدما الأوركسترات الصغيرة والكبيرة بهدف إبراز المحتوى الدرامي للجانبين الموسيقي والنثري والشعري والعلاقة بينهما، وما تتطلبه ضرورات التعبير الموسيقية. وهكذا قام العمل الموسيقي والغنائي على قاعدة التوزيع. واستشهد هنا بما قالته أم كلثوم لعاصي الرحباني: «أنت أفضل من وزّع الموسيقى في العالم العربي»، ولشدة إعجاب محمد عبد الوهاب بالتوزيع الرحباني للمادة الموسيقية، قام الرحبانيان بطلب منه بتوزيع «سهار بعد سهار» و«مرّ بي» و«سكن الليل» و«خايف أقول اللي في قلبي» ونشيد «طول ما أملي معاي» الذي كتب عبد الوهاب موسيقاه في مكتب الرحبانيين.
5- بناء المحتوى الدرامي على مضمون النص ووضع المجتمع وقضاياه. فالمسرح الغنائي الرحباني عالج بعمق قضايا الناس جميعاً كالسكير والناطور ورئيس البلدية والمختار والخيّاط والكنّاس والعربجي والباعة والمجنون والانتهازي والحاكم والديكتاتور والحرامي. وننوّه بأن الرحبانيين أوجدا لكل شخصية لغتها وملامحها، وكذلك اللحن المناسب والموسيقى الخاصة بها وموقعها في الدراما المسرحية. وهكذا كان مسرحهما اجتماعياً بامتياز، وأخلاقياً بامتياز آخر لأنهما بنيا عملهما على قيم مثالية ووطنية وإنسانية. وفي السياق كتب الرحبانيان أغنيات للباعة والكناسين كما في «الشخص» ولعمال الطرقات كما في «بياع الخواتم».
6- قدم المسرح الرحباني الغنائي والشامل مجموعة من النصوص الغنائية الوطنية اللبنانية والعربية. فهناك حوالي ٣٠٠ أغنية وطنية عن لبنان وحوالي ٣٠ أغنية عن فلسطين وتحرير الجزائر. وأذكر هنا أغنيتين غير معروفتين ولا تذاعان إطلاقاً وهما «جميلة» عن الثورة الجزائرية، و«سافرت القضية» عن فلسطين، بالإضافة إلى أكثر من عشر أغانٍ فلسطينية ساعدت في تكوين الشخصية الوطنية العربية في بعدها الفلسطيني من مغناة «راجعون» ١٩٥٤ إلى «القدس العتيقة» و«احترف الحزن والانتظار» و«زهرة المدائن» و«ردني إلى بلادي» و«سنرجع يوماً» ويقول الشاعر محمود درويش: «قدّم الرحبانيان، فنياً، لفلسطين ما لم يقدمه الفلسطينيون أنفسهم. ولقد أشهر الفلسطيني هويته الجمالية بالأغنية الرحبانية العربية…»، وفي مجال الاعتناء الرحباني بالأغنية العربية غنّت فيروز من شعر سعيد عقل والرحبانيين باقة من أغانيها للمدن العربية كدمشق (قصائد لسعيد عقل والأخطل الصغير) وبيروت وبغداد ومصر وعمّان والكويت، لكن من زاوية محددة هي إبراز هوياتها ومكانتها التاريخية والحضارية دون أي تزلّف أو محاباة.
7- إزاء الألم والضياع اللذين كان يتخبط فيهما المجتمع اللبناني والمشرق العربي وبسبب ترسخ إيمان الرحبانيين وفيروز، كتب الرحبانيان وسعيد عقل نصوصاً ذات طبيعة إيمانية خالصة تنادي الله وتطلب منه أن يتدخل… إلى الله «ساكن العالي» في «أيام فخر الدين» وإلى الله في «شمس المساكين» في «ناطورة المفاتيح»، وإليه أيضاً في «جبال الصوان» من خلال أغنية «ساعدني يا نبع الينابيع». ويتبدى من خلال مراجعة الأغاني الدينية التي بلغ عددها تسعين أغنية، بعضها كتبه سعيد عقل والرحبانيان، كما ذكرنا، وبعضها الآخر منتقى من النصوص الدينية من الأدب الديني المسيحي. ومن قصيدة «غنيت مكة» لسعيد عقل:
وأعِزّ ربي الناسَ كلّهمُ بيضاً فلا فرّقت أو سودا
وبالطبع فإن لهذا البيت معناه العميق والكاشف لأمراضنا الحالية وصراع العصبيات في أنواعها كافة، إن صلاة فيروز جرت في كل مكان مناسب للعبادة: البيت، المعبد، الجبال وعند تخوم السماء والظلال ومعالم الخلق.
ونعود للاستشهاد بنصٍ أخّاذ غنته فيروز هو:
أومن أن خلف الريح الهوجاء شفاه تتلو الصلاة
أومن أن في صمتِ الكون المقفلِ من يصغي لي
وفي هذا السياق الإيماني غنّت فيروز لسيد درويش: «الشمس طلعت والملك لله» و«اجري لرزقك خليها ع الله»، و«يالله بنا على باب الله» ومن أغانيها ذات الطابع الإيماني أيضاً أغنية «بعلبك أنا شمعة على دراجك… أنا نقطة زيت بسراجك»، وواضح هنا معنى الشمعة والزيت والسراج في الأدب الإيماني المسيحي.
8- أبدعت الظاهرة الرحبانية في إطار مسرحها الغنائي نصاً وموسيقى وغناءً، صيغة فنية جديدة متطلعة وذات أبعاد تجديدية من حيث رؤيتها الاجتماعية والإنسانية بتأكيدها على شرف العمل والعطاء كسقي المزروعات والغزل على المغزل والحياكة على النول، إضافة إلى الاحتفال بأعياد القطاف والحرير في إطار المواويل والأزجال والأغاني والموسيقى المرافقة. وفي هذا الصدد نجد شبكة واسعة من الأغاني الرومانسية والاجتماعية والفولكلورية والأناشيد العسكرية وأغاني البحارة والصيادين، وبعضاً مهماً من الأغاني ذات الطابع البدوي. كأننا أمام منظومة غنائية أمسكت بقلب المسرح الغنائي الرحباني فنياً وجمالياً.
9- حيّد الرحبانيان وفيروز عملهم عن التطبيل للحاكم واسترضائه كما يجري اليوم من قبل «مغني» الأغنية الهابطة، فكان رفض الغناء للحكام. فقد رفضوا أن تحيي فيروز حفلة للرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، وكذلك رفضوا طلب الرئيس الياس سركيس إحياء حفلة بمناسبة انعقاد مؤتمر القمة العربية في القاهرة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن فيروز منعت من الظهور على شاشة التلفزيون السعودي إلى أن أدت «غنيت مكة أهلها الصيدا» لسعيد عقل.
10- لعبت فيروز في التجربة الرحبانية دوراً تكامل معها وأعطاها زخمها وحضورها الواسع والمؤثر. فالدور الإبداعي الرحباني استكمل نفسه مع فيروز وتألق. وفي حوالي ألفي أغنية أدتها فيروز كان صوتها كما يقول أنسي الحاج صوتاً يحرّر الإنسان من آثام البشاعات الموروثة كما يمثل التعويض عن الأحلام، وبغض النظر عن طاقة هذا الصوت واتساعه، فإنه تخطّى بحساسيته وإرهافه وعمقه ودلالاته المستعصية كل عادي وتقليدي وعابر. ومن خلال الرؤية الرحبانية أخرجت فيروز الغناء العربي ككل من دائرة الطرب الخارجي إلى دائرة الوجدان وجذور الروح في بعدها الإنساني والاجتماعي. وفي هذا الخصوص كتب المسرحي الكبير جورج شحادة: صوتها صوت الملائكة. لا نملك رؤية للملائكة، لكن يحدث أحياناً أن نسمعها تغني. ويضيف محمود درويش: أغنية فيروز هي الأغنية التي تنسى أن تكبر «هي الأغنية التي تجعل الصحراء أصغر والقمر أكبر».
أما محمد عبد الوهاب فيقول: «عندما نستمع إلى صوت فيروز يخيّل لك أنه مرّ في مصفاة بحيث يصل إلى المستمع نقياً خالياً من أي شائبة، فيروز مجيدة في كل ما تقدمه ومطربة عظيمة واستثنائية»
كل ما قلناه عن صوت فيروز وأدائها يبقى مقصراً عن الإحاطة بأبعاده ودلالاته ونموذجه الفريد في الغناء اللبناني والعربي. لهذا شكّل قلب الظاهرة الرحبانية الغنائية من حيث الغناء والأداء، وإذا كان العمل الإبداعي الرحباني استثنائياً في تاريخ موسيقانا ومسرحنا الغنائي، فإن صوت فيروز كان معادلاً غنائياً وأدائياً ملبياً ومكملاً له وإحدى دعائمه، خصوصاً أنه جاء من التعبير الدرامي الصادر من الداخل ومن الفرح الوسيع والحب والحزن العميق والصلاة، مقاوماً الوحشة والظلم ومؤكداً على السلام والوحدة.
11- الظاهرة الرحبانية نموذج استثنائي وفريد في مسيرة الحداثة الفنية العربية التي بدأها سيد درويش في الربع الأول من القرن العشرين وتوقفت بعد رحيله إلى أن جاء الرحبانيان واستأنفا هذه المسيرة من لبنان بتجربة فريدة ورائدة، خاصة أنها كانت متعددة الأبعاد الموسيقية والشعرية والفولكلورية والاجتماعية والمسرحية.
12- من يراجع معظم الأعمال المسرحية الغنائية الرحبانية سيجد أنها احتضنت وقدمت جميع أنواع الزجل بحلة جديدة موقّعة في الإطار الغنائي والمسرح على حدٍ سواء، وبذلك أصبحت جزءاً عضوياً من النص المؤدى.
وقد انطلق الرحبانيان في عملية تحديث الأزجال من تراث لبناني عريق. وعلى سبيل المثال نذكر زجلية ابن القلاعي وزجلية سليمان الأشلوحي وأزجال بولس الشاعر وعلي عجمي وموريس عضيمي وغنطوس نكد وأيوب ثابت وعبد الله غانم وأسعد سابا وأسعد السبعلي وغيرهم.
ولقد استغل الرحبانيان جميع أنواع الزجل لصوغ الأغنية الشعبية، فكانت الميجانا والعتابا وأبو الزلف والقرادي والمواويل والغزيّل والدلعونا وغيرها:
من أبو الزلف تغني فيروز:
المطلع/ هيهات يا بو الزلف عيني يا موليا محلا الوما بالوما ومحلا العزوبيا… الدور/ ورحت انا لعندكن قبل العشا بنتفي
ولقيتكن نايمين وسراجكن مطفي
مدّيت ايدي ع الحبق
لاقطف أني قطفي
صاحت بنتا لّكن يمّا يما حراميا
ومن القرادي:
المطلع/
باب البوابي ببابين قفولي ومفاتيح جداد
عالبوابي في عبدين الليل وعنتر بن شداد
الدور/
حلوي وشباكين ودار العاشق غط العاشق طار
نغمي ونار وعوادين عوادين ونغمي ونار
ونارين ونغمي وعواد
ومن المواويل:
أوف أوف أوف
غرب الحسون والزنبق تكي وتشرين عم يجمع الزهر الليلكي
ما عاد تحرز هيك قلا شو بني كترت قصصنا وما بقى يساع الحكي أوف
ومن العتابا البدوية:
يا مركب الريح خلي البحر وإنزل عَ بَر
من طول فرقاه دمعي فوق خدي عَبر
حبيت والدهر علّمني بحبو عِبَر
شرع شراع السفر عالهجر قلبو نوى
عهد الهوى يا قلب ما عاد منو نوى
ولما التقينا لقينا العمر ولى وعبر
13- عصرنت الظاهرة الرحبانية الرقص الفولكلوري ونقلته من صيغته الشعبية القروية التقليدية إلى صيغة مولفة ومحدثة مبنية على الأصالة، استعانت بالفنان عبد الحليم كركلا في «جبال الصوان» و«ناطورة المفاتيح» و«بترا» و«ناس من ورق» و«المحطة» وغيرها، الذي عالج في تشكيلاته مادة الرقص الفولكلوري وحوّلها تشكيلات وتوليفات حركية فنية جمعت بين نبض الرقص الحديث والمادة الشعبية اللبنانية الراقصة.
أما الفنان فهد عبد الله في «لولو» و«ميس الريم»، فقدم فولكلورنا الراقص بأصالته دونما تغريب فظ ومكشوف، وحافظ بدراية ورهافة على أن يكون الرقص جزءاً عميقاً من المشهدية البصرية الدرامية. وتتوجب الإشارة هنا إلى مساهمات سيمون عواد وشبل وسميرة بعقليني وفاديا الحسيني وإلى مصممي الأزياء أمثال بابو لحود، ومصممي المشاهد المسرحية أمثال الفنان الراحل غازي قهوجي.
14- نقد المسرح الرحباني الفساد بكل أشكاله كما في «الشخص» و«ناس من ورق»، كما دان تزوير الانتخابات في البلدان العربية وأنظمة التسلط والديكتاتورية في «يعيش يعيش» وفي «لولو» وفي سياق قراءة عميقة للواقع اللبناني تنبأ الرحبانيان باندلاع الحرب اللبنانية إذ تقول فيروز:
خلصت الحفلة، خدنى لعندك يا جدي
المجنون إلو حق يحاكم العالم
طيارات رمادية مِتل التَرغَل
انفجار القنابل فِضي بلون الشمس
ناس بالخنادق
ناس بالبارات
العدالة كرتون
الحرية كذب
صار الحبس كبير
وكل حكم بالأرض باطل
حلّو يطلع الضو.. كاسك يا جدي
أرادت هذه المحاضرة وصل ما انقطع، خصوصاً إزاء هذا الكم الفظيع من الغناء الهابط والموسيقى المقلّدة والأصوات المتعثرة التي تحاصرنا اليوم في آلاف الأشرطة المتهاوية وبرامج وسائل الإعلام المرئي والمخفي. كأن خط النهوض الفني الذي مثلته وقدمته الظاهرة الرحبانية ومجموعة من الموسيقيين اللبنانيين الكبار أمثال الياس الرحباني وزياد الرحباني وتوفيق الباشا ومارسيل خليفة انقطع عن مستقبله، وكأن خط النهوض في المسرح الغنائي الرحباني الذي تألق نموذجاً وحيداً في العالم العربي لثلاثين سنة أو أكثر انقطع أيضاً وتوقف. أما أسباب ذلك فيتقدمها سقوط مشروع النهوض وشراء البعض للتدخل الأجنبي وسياسات الهدر والتفريط بكل ثروات البلاد وتشجيع الساقط والمبتذل وعلو كعب الطائفية والمذهبية والفساد والإرهاب…
يقول الإمام الشافعي: من اجتهد وأصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد… وأنا حاولت.