وسط انهيار اليقينيات، والتصدّعات الناجمة عنها، طلعت أجيال مقموعة مقهورة، تكوّنت بلا أبوّة شعرية في عصر تكريس الخراب والتضخم والبطالة والكفاف الاقتصادي، وقد صاغ قانون تأثير هذه اللحظة التشكّلات الشخصية والمعرفية لها في الوعي وأساليب الكتابة.
وقد امتازت هذه اللحظة في أنها لحظة تصادم سياقي بين قصيدة النثر التي تحولت من هامش إلى مركز، وهي تتجه نحو تقويض آخر ماتبقى من نظام الوزن، وقصيدة التفعيلة التي تشغل قلب المركز، وهي تحتفظ بوحدة التفعيلة بوصفها آخر بنية تحمي السياج العروضي من الانهيار المتدرج (1).
وإن كان كتاب سوزان برنار الدليل النظري لقصيدة النثر التي كتبها جيل الروّاد، فإنه لم يعد مرجعية معيارية لقصيدة النثر التي كتبتها أجيال ما بعد مرحلة الروّاد، ليس لأنه فقدَ مفعول مركزيته المعيارية فقط، وإنما لأن وعي هذه الأجيال تشكّل بصيغ جديدة مغايرة له.
لم تلجأ هذه الأجيال إلى كتابة قصيدة النثر بوصفها أحد أهم أشكال التعويض عن (ركود الشعر الحر وانحسار وهج روّاده)(2) فقط، وإنما بوصفها أيضاً أحد أهم أشكال التمرّد على نقص الواقع وفساده بصيغة التعويض عن استحالة تحرّر النسق الاجتماعي من الإرث السياسي لتاريخ الاستبداد العربي.
وسط إنهيار هذه اليقينيات، أخذت هذه الأجيال تحرث في مناطق اللايقين، وذلك بالمراهنة على (الأبدي) بقوة (اليومي)(3) حتى ذهبت هذه الأجيال إلى (تفكيك القداسة المعطاة لقصيدة الرؤيا التي تجد في اللغة بنيتها الشكلية)(4) لتًعنى بالمسكوت عنه والمهمل والمنسي والعرضي والهامشي والراهن والمعيش والعادي والمغفول عنه.
وهناك مَن يلاحظ من داخل هذه الأجيال (إن الخروج من الشعرية بدأ بانتهاك الوعي المتعالي والإعلاء من تفتيت المركز والكشف عن ألعابه المحتملة في تجسّدات الاشياء الصغيرة خارج سطوة المنظور والنزعة الإنسانية برمتها) (5).
وهناك مَن يعتقد من هذه الأجيال بوجود أزمة ذهنية (لدى جيل يائس مقموع ومقطوع الجذور)(6) وينطلق من فرضية وجود بعض السمات المشتركة لهذا الجيل أو ذاك (منها سيطرة الأنا، والصراع الداخلي فيها، والفردانية البعيدة عن الأدلجة، والقلق والإحساس بالغربة داخل أوطانها التي تُطرد منها)(7)، بل وهناك أزمة فعلية (ليست في الأدوات بل في الحراك السياسي والاجتماعي وماينتجه من حراك ثقافي مأزوم)(8).
نلاحظ ثمة سمات مشتركة تجمع بين هذه الأجيال في العراق ومصر ولبنان والمغرب العربي(9) وإن اختلفت من حيث النيات والتوجهات في الكتابة، فجيل السبعينيات كان يتحرك تحت هيمنة الأبوّة الستينية في العراق، وإن تمرّد البعض منه على الأبوّة المهزومة في مصر، ولم يخرج هذا الجيل عن السياق الآيديولوجي من حيث الموضوع إلاّ باستحياء وبصيغ مراوغة، ولكنه سعى تدريجيّاً إلى التحرّر من الصيغ الشعرية التي أملتها الضرورات الوزنية، ومن ثم انتقل تدريجيّاً أيضاً من وحدة القصيدة إلى وحدة الجملة الشعرية، غير أن غالبية هذا الجيل ترعرع في الحاضنة المؤسساتية، وإن تمرّد البعض عليها، لكنه حقق حيازة جديدة بامتلاك القصيدة اليومية أو قصيدة التفاصيل.
وينفرد جيل الثمانينيات- بوصفه أكثر الأجيال التي طحنتها الحرب والتضخم الاقتصادي، إنه جيل بلا أبوّة شعرية، ولد وهو يحمل بذرة التمرّد في داخله، وبذا كان (جيل شتات بامتياز)(10) وقد اتجه مع غياب الأبوّة والتحلّل من الالتزام الآيديولوجي نحو (كتابة حرة لاتقيدها تأثيرات، ولاتخضع للإكراه الأيديولوجي، ولا لغيرها من الشروط التي كانت نوعاً من الالتزام الأخلاقي عند جيل الستينيات والسبعينيات)(11).
وقد اشتغل بعض شعراء هذا الجيل على الدوال الحافة في مناكدة السلطة المؤسساتية، كالمحذوف والمحذوف بالتكرار والتطريس والفراغ المنقوط.
وعلى الرغم من أن جيل التسعينيات امتداد لجيل الثمانينيات من حيث غياب الأبوّة وعدم الالتزام الآيديولوجي، فقد طلع وسط الحصار والفوضى في بلادنا، والعولمة والتشظي في العالم، وكانت (الفوضى جزء من حركة التغيير، لكنها حركة مبعثرة لا اتجاه معيناً لها)(12).
وقد استعار جيل التسعينيات الصعلكة والسخرية والتهكم من جهة، واستثمر الرموز الميثولوجية بصيغ مباشرة (غيابة يوسف/ طفوف كربلاء/ أهل الكهف/ المسكوت عنه) من جهة أخرى، حتى (صار هاجس الشكل (عنده) أو التحزب له أكبر من هاجس الشعرية)(13).
وعلى الرغم من أن كتّاب التسعينيات لايشبهون بعضهم البعض، فإن ما تجمعهم العزلة الفردانية بأوصافها الشخصية، والتمركز حول الذات، ويختزل هذا الجيل تفكير الجيل الذي سبقه والجيل الذي أعقبه بفكرة الكتابة المرتدّة إلى ذاتها، والقائمة بذاتها، مثلما ذهبت إلى ذلك الشاعرة الكويتية سعدية المفرح على نحو مفارق من التفكير بالقول:
(الكتابة عن القضايا الكبرى أصبحت شيئاً مضحكاً كاركاتيرياً منفصلاً عن واقعنا، حيث لا توجد لدينا قضايا كبرى حتى نكتب عنها، وبالتالي فإن قضايانا الصغرى يجب أن تتحوّل إلى قضايا كبرى)(14).
تلك هي واحدة من إشكاليات الوعي المتمرّد لهذا الجيل، وهو يتحرك بحساسية مضادة لكل ما يمت بصلة إلى الهوية، ولكن أهو جيل بلا هوية أم جيل بلا قضية؟
ومن بين كتّاب جيل التسعينيات من كان أكثر تمرّداً وفوضى في انتهاك المحرّم وخرق المقدس (كما سنلاحظ ذلك في سياق آخر).
لهذا كان الانتماء إلى الكتابة بدلاً من الهوية من العلامات الفارقة لجيل التسعينيات وخاصة على مستوى الانشغال بالدوال والبحث عن جماليات جديدة لقصيدة النثر، فقد ظهرت أواخر الثمانينيات جماعة تنتمي إلى التسعينيات، لكنها أكثر نزوعاً نحو التفكك واللاترابط واللامعنى، حيث اتجهت نحو استثمار أسلوب (البوب) وثقافة (الروك) وفن (الفيديو كليب) وفن (المونتاج السينمائي) في نثرنة الحياة اليومية بالمعنى (المبتذل) للكلمة، وذلك باستخدام جمالية الصورة بدلاً من جمالية اللغة(15).
كما ظهرت مجموعة من الشعراء الفلسطينيين سُميّت بـ(ضيوف النار الدائمون) عام 1999(16) يقول عنهم عز الدين المناصرة:
"إن هؤلاء الشباب اختاروا السائد العربي، على مواصلة تطوير الحداثة الشعرية الفلسطينية – لكن الخطر في هذا الخيار هو استبدال سائد فلسطيني بسائد عربي دون إن يعترف السائد بهم – فرعاً جديداً)(17) غير أن هذه المجموعة ليست (نتاج ثقافة السلام) فقط، وإنما هي نتاج مرحلة جديدة من التخلّي عن الالتزام السياسي والآيديولوجي بـ(ثقافة المقاومة).
أمّا جيل الألفية الثالثة، فقد تزامن ظهوره مع (الفوضى الخلاقة) التي رافقت نشر الديمقراطية بالقوة العسكرية المسلحة في أفغانستان والعراق وباكستان، ولأنها فوضى غير بناءة، فقد أفضت إلى تصدّعات عميقة في البنى التحتانية التي تعرّضت إلى الحرب والتفكك والاحتلال.
لهذا ولد جيل الألفية من رحم الفوضى غير الخلاقة، وقد خرج منها بذات متصدّعة وحواس مشوّشة مرتبكة، إنه جيل فوضوي قلق، متوتر، رافض من دون طرح أي بديل، وبذا يسعى إلى تحويل القصيدة إلى كتابة- لامركز لها ولانهاية، كتابة بلا قياس ولا قانون، وذلك إيذاناً بمرحلة جديدة من الانتقال إلى ما بعد قصيدة النثر (18).
ومن نزعات هذه الكتابة، رد الفعل العبثي في التصوف، وذلك بتجريده من المتعالي وإنزاله إلى أرض الواقع(19).
ويلخص الناقد المصري محمد توفير كتابة قصيدة النثر اليوم بقصيدة كتبها محمد آدم عن حقيقة الكائن وعزلته:
أسير في شوارع العتمة
وأنا أحدق بعيني الممتلئتين بعناكب الفراغ
وأتوقف أمام نجمة ضالة، وأقول
تلك أشلائي المنبسطة (20)
لقد كانت حركة التحوّل وسرعة التغيير تفوق درجة استيعاب هذه الأجيال، كما كانت الرواسب التحتانية للواقع العربي تفوق قدرتها على الاحتمال، وإلاّ كيف كان بمقدور الأجيال الطالعة وسط الخراب وانهيار اليقينيات – مواجهة العولمة وحالات التشظي العربية بنزعة إنسانية مهمّشة؟
إذاً هذه الأجيال كانت بحاجة إلى نزعة جديدة من الرفض السلبي للواقع والتمرّد عليه، وهذا ما جعل الوعي بالتمرّد عند بعض كتاب الثمانينيات والتسعينيات، وخاصة عند جيل الألفية الثالثة- يرتد نحو الذات بلا صفات، ويرتد نحو الواقع بلا دلالات، ويرتد نحو الكتابة بلا مستندات، حتى خرجت قصيدة النثر نسبياً من جنس القصيدة، فانزلقت نحو فوضى لم تفضِ إلى نظام بعد.
إحالات وإشارات
من الصعب علينا أن نتعامل حصرياً مع أسماء الأجيال التي ظهرت في الثمانينيات والتسعينيات، وإلى حد ما في الألفية الثالثة، وذلك لسببين:
– أولهما: كثرة الأسماء التي لايمكن حصرها في هذا المجال.
– ثانيهما: انتقال أغلب شعراء التفعيلة إلى كتابة قصيدة النثر خلال الثمانينيات والتسعينيات والألفية الثالثة.
الحواشي
(1) لمزيد من التفصيل ينظر كتابنا: رماد العنقاء– شعراء اللحظة الحرجة من الهامش إلى المركز/ منشورات الغسق للطباعة/ بابل/ ط1/ 2001 / الفصل الأول (شعراء اللحظة الحرجة.. وتحولات الكتابة الشعرية الجديدة).
(2) محمد الجزائري/ التركيب الغرائبي في قصيدة النثر/ جريدة الزمان العراقية/ ع (1506) في 17/ 5/ 2003.
(3) سلمان داود محمد/ الاقتصاص من الضحايا/ جريدة الأديب الثقافية العراقية/ ع (127) في 12/ تموز/ 2006.
(4) صالح دياب/ جيل السبعينيات هو الأساس/ موقع كيكا/ انترنت.
(5) محمد سميرعبد السلام/ طفرة الخروج/ التجاوز والتجديد في قصيدة النثر المعاصرة/ انترنت.
(6) أزمة الشعر العربي من منظور الشعراء الشباب/ ملف من إعداد وتقديم عبد الوهاب عزّاوي/ مجلة الآداب البيروتية/ ع (7،9) 2008.
(7) أزمة الشعر العربي من منظور الشعراء الشباب/ مرجع سابق.
(8) أزمة الشعر العربي من منظور الشعراء الشباب/ مرجع سابق.
(9) لابد من الإشارة إلى أن قصيدة النثر في المغرب (هذا الشكل الجديد- لم يتبلور إلاّ مع أواخر السبعينيات، على الرغم من المحاولات المحدودة التي ظهرت من قبل).
ينظر:عبدالله شريف/ في شعرية قصيدة النثر/ منشورات اتحاد كتاب المغرب/ ط1 /2003 / ص/ 28/ الهامش.
(10) صلاح أبو سريف/ مايُمعن في الخفاء /موقع العلم الثقافي في 14/ أبريل/ 2009.
(11) صلاح أبو سريف/ مايُمعن في الخفاء/ مرجع سابق.
(12) رعد فاضل/ الشاعر.. وفوضى المكان/ حداثة الثقافة وحداثة الفوضى/ جريدة الأديب الثقافية العراقية/ ع (4) في 7/ 1/ 2004.
(13) ملف أزمة الشعر السوري الجديد/ جيل التسعينيات/ مجلة الآداب البيروتية/ ع (7 – 9) 2008.
(14) حوار مع الشاعرة الكويتية سعدية المفرح/ حاورتها: مريم جمعة فرح/ موقع بيان الثقافة ع (69) في 5 /مايو/ 2001.
(15) يوسف بزي/ قصيدة النثر والفنون البصرية/ ورقة مقدمة إلى مؤتمر قصيدة النثر العربية/ بيروت– 2006.
ينظر أيضاً: نص الورقة منشوراً في ملحق نوافذ/ جريدة المستقبل اللبنانية في 21 / أيار/ 2006. وتضم هذه الجماعة: يوسف بزي/ فادي أبو خليل/ اسكندرحبش/ شبيب الأمين/ يحيى جابر/ شارل شهوان.
(16) ينظر: (ضيوف النار الدائمون) مختارات شعرية لكتّاب شباب/ أعدّها غسان زقطان/ منشوات بيت شعر/ رام الله، فلسطين/ 1999.
(17) لمزيد من التفصيل ينظر: عز الدين المناصرة/ إشكاليات قصيدة النثر/ مرجع سابق/ ص 174 ومايليها.
(18) أحمد عبد الزهرة الكعبي/ توضيح/ نثر القصيدة/ نموذج (فخاخ) جريدة الصباح/ ثقافة في 15/ نيسان/ 2009.
(19) أسعد الجبوري/ في مجموعته (الملاك الشهواني).
(20) مشهد قصيدة النثر المصرية – 2/ من إعداد وتقديم: محمد الحمامصي/ انترنت في 6 /5/ 2008.