89
تركت الطريقة «المنتسورية» آثاراً إيجابية كثيرة في مدارسها في أرجاء العالم. ويكفي أن نرى أنواع الأدوات البسيطة الموضوعة لسنّ الطفولة والشائعة في غالبية بيوت الأطفال. ومع ذلك لقد تعرضت هذه الطريقة لانتقادات مختلفة. ومن المآخذ التي وُجهت إليها، أنها لجأت إلى علم نفس تجاوزه علم النفس الحديث، علم نفس يهتمّ بدراسة الأحاسيس والمشاعر أكثر من اهتمامه بدراسة الذكاء الحسّي _ الحركي. وأُخذ عليها أيضاً، أنّها لجأت مع الطفل إلى أدوات مادية جامدة ثابتة محدّدة سلفاً، وبذلك تقلّل من حرية الطفل ونشاطه العفوي. «إنّ اللعب الحرّ، يظلّ فعالية من فعاليات الصغار، والأدوات الماديّة تمنع الفعالية التكيفية بما فيها من بناء عفوي وخلق حقيقي. وترى عدد من المدارس أنّ ابتكار الأدوات من قِبل الطفل نفسه، بحيث تتجدّد دوماً، هو الطريقة الحقيقية لتمرين فعاليته» .
مقدمة
يتطلّب الفكر التربوي السعي الدائم للتوفيق إلى حدٍ ما بين الطرائق الغربية الحديثة التي نعتمدها وبين طبيعة الغاية التي نتوخّى البلوغ إليها.
تكمن غاية التربية في مساعدة الفرد لبلوغ هدفه المنشود، والمساهمة في بناء شخصيته وصقلها. فهي بالتالي ترجو الاستقلال عن طريق التكيّف مع البيئة التي تحرّر الإنسان من الشعور بأنه سجين الضغوطات والتأثيرات الخارجية.
«وليست مشكلة التربية الفكرية أن ننقل إلى الطفل معارف جاهزة ثابتة متجمّدة وأن نصبّها من عقل الراشد إلى عقله، وإنّما هي أن نقود الطفل عن طريق نمو إمكانياته الخاصة نمواً منسّقاً منتظماً، من نظرة إلى أخرى ومن منظار إلى آخر إلى أن يلبس فكره شكل فكر الراشد» .
إذاً، إنّ التربية الفكرية هي عملية تعلم وظيفي. فالتربية وحدها تقود الطفل إلى الحياة الاجتماعية حيث يكمّل فيها تفتحه الذهني.
يهدف هذا البحث إلى إلقاء الضوء على المدارس الغربية وطرائقها الحديثة. وقد استخدمت في هذه الدراسة المنهج الوصفي – التحليلي لأهميته وملاءمته لمثل هذا النوع من الأبحاث التربوية، ولتحقيق الأهداف المرجوة اعتمدت على الفكر التربوي ذي العلاقة المباشرة بها
أمّا الإشكالية التي يُمكن طرحها في هذا المجال فهي على النحو الآتي:
هل ثمّة إمكانية للقول إن هذه الطرائق التربوية الغربية الحديثة هي المعيار الناجع والوحيد الذي يُحقّق الغاية المرجوّة منه، أم أنّ هناك أساليب تربويّة أخرى يُمكن الاعتماد عليها؟
سأعالج في هذا البحث بإسهاب أهم هذه الطرائق مع تبيان مبادئها العامة التي تُساهم إلى حد كبير في عملية النهوض التربوي في المجتمع. أمّا هذه الطرائق فهي الآتية: طريقة «منتسوري»، طريقة «دوكرولي»، طريقة «فرينيه»، طريقتا «دالتون» و«وينتيكا»، طريقة «المشروع»، بالإضافة إلى طريقة المربّي الألماني «كرشنشتانير» الذي يقترن اسمه بفكرة «مدرسة العمل» وأحد روّاد الطرائق الفعالة في التربية.
أولاً: طريقة «منتسوري» ورياض الأطفال:
تُعتبر طريقة المربية الإيطالية «ماريا منتسوري» (1870م ـ 1952م) نقطة انطلاق أساسية للتجارب التربوية التي قامت بها على ضعاف العقول والأطفال غير الأسوياء محقّقة بذلك نجاحاً كبيراً، مما جعلها تقتنع بصوابية طريقتها وتطبيقها أيضاً على الأطفال العاديين الأسوياء. فهي ترى أنّ التربية هي التنمية لأنّ «الطفل جسم ينمو وروح ينمو» . ومن ذلك نشأت رياض الأطفال أو ما يُسمّى «بيوت الأطفال» التي افتتحتها عام 1907م.
1 ـ المبادئ العامة للمدرسة المنتسورية:
إن المبادئ التي تستند إليها هذه الطريقة يجب أن تُعاش وتترجم عملياً من خلال تأمين الشروط الملائمة لها وضمن الظروف الخاصّة التي يعيش فيها الأطفال. وهذه المبادئ العامّة هي على النحو الآتي:
أ ـ ضرورة تأمين في بيئة الطفل بصورة مشوّقة وسائل التربية الذاتية القادرة على إثارة اهتمامه وتوفير مجموعة من الأدوات التثقيفية كي تساعده على إنماء حواسه وتدرّبه على القراءة والكتابة والحساب. فقيامه بالتمارين الملائمة تساهم أيضاً على نموّه وتفتّحه الذهني.
"وقوام التربية المنتسورية أن نضع تحت تصرّف الأطفال ادوات تربوية تُثير فيهم فعالية مهذّبة مربية. وفي هذا تقول «منتسوري» في كتابها «التربية العملية» (في الصفحة الأربعين من الجزء الثاني): «ينبغي أن يجد الطفل في الجو المتروك فيه حراً لفعاليته، أشياء تنظّم تلك الفعالية تنظيماً ذا صلة مباشرة بتنظيمه الباطني الذي ينمو وفق قوانينه الطبيعية».
فالطفل إذاً ـ في المدرسة المنتسورية ـ لا يُترك وحده إلاّ في الظاهر صحيح أنه يتمتّع بقدر كبير من الحرية ولا يفرض عليه أيّ عمل لا يهتّم به. غير أن الأدوات التربوية التي يمدّ بها توجّه اهتمامه نحو الطريق الأفضل الذي رُسم لإعداده الفكري. إنّ التمرينات المكوّنة المربية التي ينصرف إليها الطفل انصرافاً عفوياً تختلف دون شك اختلافاً كاملاً عن التمرينات التي تمارسها المدرسة التقليدية" .
ب ـ دراسة حالة الطفل ومراقبة نمو حياته الجسدية والفكرية. لقد أظهرت التجربة الفروقات القائمة بين طفل وآخر، سواء على صعيد الصحّة البدنيّة أو النمو الذهني.
«ولهذا تضع «منتسوري» لكل طفل بطاقة نفسية ـ جسدية تضيف إليها دوماً معلومات جديدة، وتسجّل عليها ملاحظات حول الوظائف الفيزيولوجية الأساسية: كالغذاء والدورة الدموية ومدى استعداد الطفل لالتقاط بعض الأمراض» .
ج ـ احترام حرية الطفل وحثّه في الوقت نفسه على تحمّل مسؤوليته.
"تُشدد المدرسة المنتسورية على احترام حرية الطفل وجعله يدرك في الوقت عينه أنّه مسؤول. فعن طريق الحرية تُحلّ مسألة النظام في «بيوت الأطفال». فكلّ طفل يفرض النظام على نفسه بنفسه بفضل اهتمامه بما يفعله ومحبّته له" .
د ـ تعويد الطفل على تنظيم حركاته والعمل على تنسيقها وضبطها والسيطرة الكاملة على ذاته وعلى تحقيق ما يرغب به.
تهدف المدرسة المنتسورية على تعويد الطفل على استقلاليته والاتكال على ذاته، وذلك من خلال قيامه بمجموعة من التمارين المختلفة. نأخذ على سبيل المثال لا الحصر تعلّمه كيف يرتدي ثيابه أو ينزعها ويغسل وجهه ويديه.
«ولبلوغ هذا الهدف ينبغي أن يقدّم له إدراكات واضحة وبسيطة. وينبغي أيضاً ألاّ يقطع عليه عمله ليتيح له أن يصل إلى اكتشافاته بنفسه» .
هـ ـ الانطلاق من تربية حواس الطفل كمبدأ أساسي لتربيته الفكرية عن طريق استخدام أدوات بارعة للتوصّل إلى معرفة نسبة نموّه الذهني ومستواه الذكائي.
تركّز المدرسة المنتسورية على مبدأ تربية الحواس كمنطلق أساسي للوصول إلى تربية القوى الفكرية.
فتربية حاسة اللمس تتم عن طريق تنمية المهارات اليدوية. أما التربية البصرية فتكون بلمس الأشياء عن بُعد، ثمّ التدرّب على إدراك مختلف الألوان والعمل على التمييز بينها. وتُعتبر تربية السمع أساس التربية الموسيقية. فهي تتم عن طريق التمييز بين كافة الأصوات. هكذا ينصرف الطفل عن الحركات غير المنتظمة، ويختار بإرادته الحركات المنتظمة والأكثر انسجاماً. لقد لجأت «منتسوري» في التربية السمعية إلى الظلمة وذلك من خلال إقفال النوافذ وإسدال الستائر وإسماع الطفل فجأة رنّة جرس صغير يقترب حيناً ويبتعد حيناً آخر
وأمّا بالنسبة لتربية حاستيّ الشمّ والذوق، اعتمدت «منتسوري» على تمارين بسيطة مستخدمة فيها مواد مختلفة، وعلى الطفل التوصّل إلى معرفتها شرط أن تكون عيناه معصوبتان.
«وتلجأ «منتسوري» أيضاً إلى تمرينات تستهدف السيطرة على العضلات وتركيز الفكر وتهذيب الإرادة والانتباه بالتالي. من أشهر لعبة «السير على الخطّ». ويكون ذلك بأن تخطّ على الأرض خطاً مستقيماً يمشي عليه الأطفال بحيث يقع الخطّ، وهم يمشون، وسط أحذيتهم. وفي مثل هذه التمرينات ينظم طلاب مدرسة «منتسوري» حركاتهم شيئاً فشيئاً، ويعتادون على الهدوء والنظام ويسلكون بصورة عفويّة مسلكاً حسناً لائقاً .
و ـ التوصّل إلى إكساب الطفل بشكل تدريجي مجموعة من المعارف الفكرية بدءاً من الرسم مروراً بالقراءة والكتابة ووصولاً إلى التمرين على النحو والحساب. يخضع الطفل لمجموعة من التمارين؛ نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الأشكال الهندسية المتنوعة كالمثلّث والمربع والمستطيل التي تُقدم له ويُطلب إليه وضع كلّ منها في المكان المناسب والمُخصص لها، فيعمل على حفظ أشكالها ويتدرّب على رسمها متتبعاً بأصابعه لمحيطها. ويتعلّم الطفل أيضاً الأحرف الهجائية ويعمل على التمييز بينها، ومن ثمّ يتدرب على قراءة الجمل وكتابتها. «لقد تعلّم أن يكتب عن طريق رسم إطار الأحرف. وهو يعرف تلك الأحرف ولا يخطئ. وهو يؤلّف بينها بسرعة ليكوّن منها كلمات أو جملاً».
وتُشبه المواد التثقيفية التي تستخدمها في تعليم النحو مواد الكتابة، وهي مؤلّفة من قطع من الكرتون تُبوّب وتُرتّب بحيث تُؤلّف جملاً أو تصرّف أفعالاً.
أمّا قواعد الحساب فيتمّ تعلّمها عن طريق قضبان منبسطة أطوالها متدرّجة وألوانها حمراء أو زرقاء على التناوب. وأحياناً تُستخدم بعض الأشياء بدلاً من القضبان. ويتدرّب الأطفال أيضاً على النطق: فيتحلّقون حول المعلّمة التي لا تتكلّم بمقدار ما تجعلهم يتكلّمون وتعلّمهم أن يستمعوا إلى الآخرين» .
ز ـ فنّ استخدام الأجهزة والأدوات من قِبل المربّي، لأنها تثير اهتمام الطفل وتجعله يتغلّب على كراهيته الطبيعية للجهد.
تهدف الأجهزة التي استعملتها «منتسوري» إلى إرواء اللذّة الفكرية لدى الأطفال العاديين والأسوياء بين سنّ الثالثة والسادسة والمرفقة بملاحظة دقيقة وموضوعية من قِبَلهم.
وفي هذا المجال يذكر لنا «فيشر» في كتابه «التربية عند منتسوري» أنّ وصول أجهزة «منتسوري» إلى مؤسستنا لا يحمل من معاني الصحّة النفسية للأطفال أكثر مما يحمله من معاني الصحة الجسدية وصول علبة من الطحين أو المعجّنات إلى المطبخ. فإذا أنت لم تعرف أن تحيل الطعام الخام، بعملك وعنايتك الشخصية، طعاماً مغذياً مثيراً للشهيّة، مات أطفالك جوعاً، ولو أغدقت عليهم أفضل ما ينتجه سوق الأغذية من مواد أوّلية» .
2 ـ تقييم عام
تركت الطريقة «المنتسورية» آثاراً إيجابية كثيرة في مدارسها في أرجاء العالم. ويكفي أن نرى أنواع الأدوات البسيطة الموضوعة لسنّ الطفولة والشائعة في غالبية بيوت الأطفال. ومع ذلك لقد تعرضت هذه الطريقة لانتقادات مختلفة. ومن المآخذ التي وُجهت إليها، أنها لجأت إلى علم نفس تجاوزه علم النفس الحديث، علم نفس يهتمّ بدراسة الأحاسيس والمشاعر أكثر من اهتمامه بدراسة الذكاء الحسّي _ الحركي. وأُخذ عليها أيضاً، أنّها لجأت مع الطفل إلى أدوات مادية جامدة ثابتة محدّدة سلفاً، وبذلك تقلّل من حرية الطفل ونشاطه العفوي. «إنّ اللعب الحرّ، يظلّ فعالية من فعاليات الصغار، والأدوات الماديّة تمنع الفعالية التكيفية بما فيها من بناء عفوي وخلق حقيقي. وترى عدد من المدارس أنّ ابتكار الأدوات من قِبل الطفل نفسه، بحيث تتجدّد دوماً، هو الطريقة الحقيقية لتمرين فعاليته» .
ويمكن القول أخيراً، إن هذه الطريقة قدّمت تربية آلية هدفها العمل بشكل مفرط في عملية نمو الطفل قبل أوانه، عن طريق استخدام أدوات تربوية وتعليمية مكثّفة تُرهق ذهنه أكثر مما توفّر له الاستفادة المطلوبة.
ثانياً: طريقة «دوكرولي» ومراكز الاهتمام
تعتبر طريقة المربّي البلجيكي الدكتور «جان أوفيد دوكروليJean Ovide Decroly» (1871م ـ 1932م) أنّ النمو النفسي للطفل يبدأ من الشكل المحسوس المعقّد ليصل بعدها إلى مرحلة التحليل والتركيب معاً.
فطريقة القراءة عنده مثلاً هي «الطريقة الجملية» المبنية على التركيب، وهي أنّنا ندرك للوهلة الأولى الأشياء بكليّتها. هذه الطريقة تتفّق مع نظرية الصيغة أو الشكل عند «الغشتالت Gestalt».
ويُطبّق هذا الطبيب مفهوم التركيب في مبدأ مراكز الاهتمام، فهو لا يُلزم الطفل بمعلومات مكثّفة لا رغبة له فيها، بل يختار مواضيع ذات منفعة أساسيّة كالبرد في فصل الشتاء على سبيل المثال لا الحصر.
«وفي الجملة نستطيع أن نقول إن «دوكرولي» يهدف إلى إعداد الطفل للحياة بالحياة نفسها، وإلى تنظيم بيئة يجد فيها هذا الطفل الحوافز الملائمة لميوله واهتماماته الطبيعية» .
1 ـ مبادئها العامّة:
يُمكن تلخيص المبادئ العامّة لطريقة «دوكرولي» التربوية على الشكل الآتي:
أ _ ضرورة إنشاء مدرسة الثقافة العامة حتى سنّ الخامسة عشرة في جوّ طبيعي، «أي توجد في بيئة يتيسر فيها للطفل أن يتصل كل يوم بظواهر الطبيعة ومظاهر الحياة للكائنات الحية عامة وللإنسان خاصة» .
ب _ ضرورة إعداد دُور التعليم بحيث تتوفر فيها المختبرات أو المشاغل الصغيرة.
ج _ ضرورة تأمين مجموعات متجانسة من الأطفال قدر الإمكان مع الأخذ بالاعتبار عدم تجاوز عدد تلاميذ الصفّ الواحد عشرين إلى خمسة وعشرين.
د _ تخصيص فترة الصباح للدروس العملية من محادثة وقراءة وكتابة وإملاء وحساب. وتُعطى هذه التمارين بشكل ألعاب مفيدة.
أما ساعات بعد الظهر باستثناء الإجازات فتكون مخصّصة لدروس اللّغات الأجنبية أو للأشغال اليدوية.
هـ _ الاستفادة من بعض الأيام في الصباح للنزهات والرحلات والزيارات المختلفة كزيارة متاحف وأماكن سياحية وأثرية ومعامل ومؤسّسات متنوعة والقيام برحلات صيد وما شابه ذلك.
و _ ضرورة إعلام الأهل بالطريقة المتبعة في المدرسة كي يسهموا في نجاحها ويشاركوا في إدارتها بواسطة مجلس خاص بهم.
ز _ لجوء التلاميذ إلى النقاش والحوار المتبادل فيما بينهم، من خلال اختيارهم الموضوعات وعرضها على المعلّم للموافقة عليها بغية تنمية روح الثقة والمبادرة والتضامن.
«ويتم التدريب على العمل الشخصي والجمعي بالتعاون الدائم بين التلاميذ في أوجه النشاط والتنفيذ المختلفة التي يقتضيها ترتيب الأمكنة وتنظيفها وترتيب المجموعات والمواد والصور والنصوص والكتب واللوحات والأجهزة المختلفة» .
2 ـ تقييم عام
تُعتبر الطريقة «الدوكروليّة» صالحة لتطبيقها على الصغار والكبار بخلاف الطريقة «المنتسورية» التي تصلح للطفولة الأولى فقط. وقد طُبقت فعلاً وأتت بنتائج طيبة مثمرة حيث أقام دوكرولي في مدرسته وتحقيقاً لرغبة الأهالي التعليم الثانوي.
لقد شهدت هذه الطريقة في عصرنا الحاضر تطوراً بالغاً وذلك من خلال دمجها مع طرائق أخرى، وأخذت أشكالاً مختلفة في ضوء التجارب التربوية الحديثة.
ويبقى من حصادها المثمر، فكرة «مراكز الاهتمام» التي أصبحت محوراً أساسياً من محاور النظريات التربوية الغربية الحديثة. «فجميع فروع العمل متجمّعة حول مركز الاهتمام، جميع الجهود قائمة على أساس العمليات الفكرية الثلاث الكبرى: نعني الملاحظة، والربط، والتعبير. وملاحظة الطفل تنصبّ على ما هو واقعي وحسّي. فإذا كان مركز الاهتمام مثلاً بناء البيوت، ثم ذلك باللجوء إلى ضروب من النشاط الفعلي الواقعي، كرسم المخطّطات، وجمع المواد، وإنشاء الأبنية» .
ومن ميزات هذه الطريقة أنها استبعدت كلياً الرجوع إلى الكتب المدرسية واضعة بديلاً عنها سجل بطاقات فردي يُساهم في صياغة مخطّطة المعلم والتلاميذ معاً. وهكذا يكون هذا السجل بمثابة «كتاب حياة»، يلتزم به كل طالب ويحرص على حفظ المعلومات الواردة فيه.
ومن البديهي ذكره أيضاً أن هذه الطريقة «مهيأة للعمل الفردي كما هي مهيأة للعمل الجماعي في فرائق. ومع ذلك، رغم أنها تُبقي الطفل على اتصال وثيق بالبيئة الاجتماعية التي يحيا فيها، هي مؤهلة خاصة لتتيح له أن يعدّ نفسه إعداداً حراً للعمل الشخصي» .
إذاً، لقد اهتمت هذه الطريقة بالعمل الجماعي وساهمت بصورة فعالة في تنظيم شؤون الطلاب وقيامهم بأعمالهم ونشاطاتهم ومهاراتهم المتنوّعة بأنفسهم، ملتقية في هذا المجال مع النظريات التربوية الغربية الحديثة، ولا سيما فكرة «التربية المؤسّسية» التي اغتذت بمبادئ «فرينيه Freinet» وسواه من المربّين الذين يسمحون للطلاب اشراكهم في تنظيم عملهم التربوي والتعليمي.
ثالثاً: طريقة «فرينيه»
تُعتبر طريقة المربّي «سلستان فرينيه Celestin Freinet» (1896م ـ 1966م) منطلقاً أساسياً للفكر التربوي الغربي الحديث الذي عُرف فيما بعد باسم «التربية المؤسسية Institutional education» التي تُشدد على إدخال العمل الجماعي في المدرسة.
1 ـ مبادئها العامة:
إنّ فكرة المطبعة المدرسية كانت أول حافز جوهري وضعت هذا المعلّم القدير في مرتبة عالية كأصحاب الطرائق المُبتكرة والمبُدعة. ولا تتوقّف هذه الطريقة «على توجيه تذوّق الأطفال للتمرينات اليدوية وتحويله شطر الممارسة الأولية البسيطة للطباعة. بل تجعل من تأليف النصّ، عن طريق تخيّله ثمّ كتابته وأخيراً صفّه في حروف الطباعة، مركز اهتمام اليوم المدرّسيّ» .
أمّا هذه المبادئ العامة فنستعرضها على الشكل الآتي:
أ _ اهتمام «فرينيه» بأن يؤمّن لتلامذته الظروف الجسدية الملائمة لتوازن نفسي سليم «فإذا ضمن لهم ذلك، بفضل الغذاء الصحي الكافي والنوم المريح والهواء النقي، اهتمّ بأن يثير عندهم الرغبة في العمل، تلك الرغبة التي لا يكون شيء مثمر بدونها» .
ب _ ترك الطفل يختار العمل الذي يرغبه وحسب فطرته. «فلا منصّة يعلوها المعلّم ليعلّم أو يستمع إلى تلاميذه، والبرنامج السنوي موزّع بين التلاميذ يحضّر كل منهم جانباً منه ويلقيه أمام رفاقه» .
فيقتصر دور المعلّم على تنظيم ومساعدة وتسهيل أعمال التلاميذ.
ج ـ إنّ غالبية آراء «فرينيه» ومواقفه نجدها في كُتيّب له بعنوان «لا دروس قطّ». فعملية حفظ الدرس تعني أن يعهد التلميذ إلى ذاكرته بكلمات لا يفهم إلاّ القليل من معانيها. «ولهذا وُجب أن ننصرف إلى الأشياء نفسها، وأن نلجأ إلى الملاحظة المباشرة والتجربة»
د ـ حرية الطفل في التعبير عن رأيه وتوقه إلى الاتصال بأترابه وتفاعله معهم. يُطلب إليه مثلاً أن يروي ما رآه وشاهده وأن يقول ما يخطر بباله، ثمّ يحاوره ويناقشه رفاقه في الموضوع بعد كتابته على اللّوح، ويصحّحون له أخطاءه. وهذا التصحيح يعطي ثماره اللغوية أكثر بكثير من تصحيح المعلم نفسه.
فمن خلال المراسلة التي ابتكرها «فرينيه» يتمكن كل تلميذ الاتصال برفاقه في المناطق النائية، ممّا يؤدي إلى تفتّح ذهنه وتوسيع آفاقه الفكرية والمعرفية ومضاعفة فرص الكتابة المعبّرة والهادفة أمامه.
2 ـ تقييم عام:
يقول السيد «بوشيه M.H. Bouchet»: «إن طريقة «فرينيه» التي تنتشر في التعليم الابتدائي يوماً بعد يوم، بفضل الدعاوى العنيدة التي يقوم بها صاحبها، تقوم على المعاناة اليدوية العملية لمطبعة حقيقية. وإنها لطريقة جديدة كل الجدة، تفوق سائر الطرق في كمالها وإثارتها للاهتمام. إنها تضع الطفل الذي لم يناهز الخامسة أو السادسة، والذي لا يكاد يعرف من الأبجدية إلا خمسة عشر حرفاً أو عشرين، أمام جدول حروف الطباعة، وتضع في يده آلة صفّ صغيرة، وتجعله يصف فعلاً نصّاً يعرفه الجميع، يُطبع فيما بعد» .
تُنمّي هذه الطريقة القيّمة الذاكرة البصرية والمهارات اليدوية لدى التلاميذ، وتُؤدي بالتالي إلى تبسيط تعلم أصول الخط وتسهيل عملية القراءة والكتابة لديهم. هذا بالإضافة إلى فائدتها الكبيرة لمواد أخرى كالتاريخ والجغرافيا والحساب. ويتعلّم بفضلها الأطفال أن يعبّروا بحرية عن أفكارهم منذ نعومة أظفارهم. ويكمن دور المعلم الأساسي في مراقبة نمو شخصية كل طفل، دون أن يفرض على أيّ منهم أي كبت عاطفي؛ فالجهد التربوي _ التعليمي يتلاءم في هذا المجال مع الحال العاطفية لكل تلميذ.
ويسود هذه الطريقة أيضاً روح التعاون المشترك والعمل الجماعي. فالتلاميذ يتعاونون على إنجاز «صحيفة المدرسة» ضمن توزيعهم إلى عدة جماعات، ويقرّرون بأنفسهم وبملء إرادتهم اختيار نشاطاتهم المختلفة، مكتفين من المعلّم بما يُزوّدهم به من إرشادات وتوجيهات مفيدة.
رابعاً: طريقة «دالتون» ونظام التعيينات:
يعود الفضل لنشأة هذه الطريقة إلى الآنسة «هيلين باركهرست Helen Parkhurst» التي باشرت بالتعليم سنة 1904م، في مدرسة ريفية في الولايات المتحدة الأميركية، والتي جرّبت بين سنتي 1911م و1913م، في مدينة «دالتون Dalton» الصغيرة بولاية «ماساشوستس Massachussets» الأميركية مشروعاً إصلاحياً طبّقته بعد ذلك في نيويورك. سنة 1908م اطلعت «باركهرست» على كتاب «بناء العقل» لمؤلّفه «ادغار جيمس سويفت Edgar James swift» فتأثرت بمجمل أفكاره واشتقت منه بشكل خاص فكرة" المختبرات" في التربية، تقول : «إن الهدف من طريقة «المختبر» كان تنظيم الحياة المدرسية على نسق جديد، وكانت فكرتي أن أستبدل بذلك النظام الآلي الثقيل الذي كان متبعاً، نظاماً سهلاً في الحياة المدرسية، يمكّن التلاميذ من الاستمتاع بقسط أوفر من الحرية، ويهيّئ لهم بيئة أكثر ملاءمة لمختلف فروع دراساتهم… وفوق ذلك فقد أردتُ أن أجعل صعوبات الدراسة لكلّ تلميذ ملائمة لاستعداده، وأن أهيّئ لكل منهم مجالاً للتقدم، مهما يكن خاملاً أو نابهاً» .
لقد تحققت أمنية «باركهرست» في شهر شباط سنة 1920م، بولادة هذه الطريقة القائمة على المختبر.
1 ـ المبادئ العامّة للمدرسة الدالتونية:
تكمن أهمية المدرسة الدالتونية في عملية تسهيل طُرق العمل للتلميذ. لذلك يجب تقسيم البرنامج المُخصص على مدار شهور السنة المدرسية، وفي كلّ شهر تُقسم كل مادة أيضاً إلى وحدات من العمل يكوّن عددها أيام الدراسة الفعلية.
أما الأمر الذي ركّزت عليه «باركهرست» هو في وضع عقد للعمل يتعهّد به الطالب أن يهضم في الشهر عدداً ما من المواد. وهكذا يشعر بشخصيّته ويحدّد ما يعزم عليه. إنه يقوم بعمل شخصي مستقل. والبرنامج ليس ما يتبعه التلاميذ جميعاً، بل هو ما يريده هو. إنه عمله وهوايته» .
أما المبادئ العامة لهذه الطريقة فهي على النحو الآتي:
أ ـ قيام الطفل بواجباته المدرسية بكامل حريّته باحثاً عن أدوات العمل التي تتلاءم مع كلّ مادة من المواد. مع العلم أن بإمكانه طلب المساعدة والعون من زملائه أو من المعلم لحلّ المسائل الصعبة.
وفي هذا المجال كتبت «باركهرست»:
«الحرية إذاً هي أولى المبادئ التي تقوم عليها طريقة «دالتون». فالطفل ـ من الناحية النظرية أو الثقافية ـ ينبغي أن يترك حراً لينكبّ على عمله في المادة التي تستغرق باله ويشغف بها من غير أن نقطع عليه سلسلة أفكاره. إذ هو في هذه الحال أحدّ ذهناً وأكثر يقظة وأعظم اقتداراً على تذليل ما قد يلاقيه في دراسته من صعاب.
فهذه الطريقة الجديدة لا تعرف صلصلة الناقوس التي تنتزع التلاميذ في ساعات موقوتة لتقودهم مكبّلين إلى درس جديد ومعلم جديد، إذ أنّ هذا الأسلوب يذهب بطاقة التلاميذ ونشاطهم هباء منثوراً. وهذه النقلات المتعسّفة تبذّر جهودهم، شأن الموقد الكهربائي إذ أخذت تحوّل التيار إليه وتقطعه عنه حيناً فحيناً لغير سبب» .
ب ـ ضرورة تنمية الحسّ لدى الجماعة عن طريق التعاون المتبادل والعمل المشترك والتفاعل في الحياة الاجتماعية على حد تعبير صاحبة الطريقة التي تأثرت بصورة خاصة بأفكار المربي الأميركي «جون ديوي» من خلال كتابه «الديمقراطية والتربية». وتستشهد بعبارة له في هذا الكتاب: «إن غاية التربية الديمقراطية لا تنحصر في الوصول بالفرد إلى أن يُحسن الاشتراك في حياة الجماعة التي يتصل بها مباشرة، بل يجب أن يهيّئ الفرص للتفاعل المستمر بين الجماعات المختلفة، حتى لا يدور في خلد فرد أو جماعة اقتصادية أنّها تستطيع الحياة مستقلة عن غيرها» .
تخلق هذه الطريقة للتلميذ بيئة خاصة يُنظّم فيها عمله المدرسي، فلا يُسمح له أو للمعلم أن يكون بعيداً عن الجماعة. فهي تحتفظ بمنهج الدراسة ووحدات النظام المدرسي المؤلّفة من الغرف والصفوف. ويُعتبر كل تلميذ فيها عضواً في فرقته. وهي بالتالي تجعل عملية إعطاء الدروس للتلاميذ على شكل عمل يتعاقد المتعلّم مع معلّمه للقيام به.
«ويرتضي التلميذ العمل المعيّن لفرقته عقداً عليه، فيقسم المنهج إلى وحدات للعمل، ويمهر الصغار الأطفال فعلاً عقداً خاصاً بتوقيعهم، يُردّ إليهم إذا ما أتمّوا عملهم» .
ويرتكز العمل في هذا التنظيم ونجاحه على نظام «التعيينات Assignements» «وأول شرط للتعيين الجيد أن يكون دائماً مكتوباً، لا شفويّاً، واضح التعبيرات مبنياً للتلميذ الغاية التي يرمي إليها. وعلى المعلّمة إذا أرادت أن تضع تعييناً أن تتحلل من الاعتقاد بأنها تضع خطة لنفسها تستعين بها على إلقاء درس، وإنما المطلوب هو خطة يسترشد بها التلاميذ في تناول أقسام عقد العمل» .
تعتمد هذه الطريقة أيضاً على مراقبة العمل الدراسي مستخدمة «باركهرست» لتدوين تقدم التلاميذ والتأكد الفعلي من مقدار العمل الذي أنجزوه في كل مادة على طريقة الرسوم البيانية. «ففي كلّ صف توضع جداول ثلاثة: إثنان منهما يسجلان التقدم الذي يصيبه كل فرد على حدة، والثالث يُسجّل تقدّم الصف كله» .
إذاً، تحاول هذه الطريقة أن تتجنب في كافة الصفوف تلك الفروقات في المستوى التي تجعل المهملين يؤثرون سلباً على المجتهدين أو تجعل من المجتهدين يسيطرون على أجواء الصفّ معطّلين بذلك نشاط رفاقهم وقدراتهم الفكرية.
2 ـ تقييم عام:
تُطبّق طريقة «دالتون» اليوم في آلاف المعاهد والمؤسسات التربوية في مختلف أقطار العالم.
ومن ميزاتها الأساسية محاولتها التوفيق بين النظام المدرسي التقليدي القائم على المناهج والكتب المدرسية وبين الأفكار الموجّهة للتربية الغربية الحديثة. ويشعر التلميذ فيها أكثر بحريته الفردية ومسؤوليته الشخصية، ويزداد امتلاكاً للمادة التي يرغبها كونه يمتلك ثقة كبيرة ودائمة بنفسه.
لقد وُجهت لهذه الطريقة اعتراضات قوية. فاعتبر أحد روّاد التربية الغربية الحديثة المربّي «فيريير Ferrière» أنّ تطبيقها يشكّل خطراً عاماً كونها تعتمد على المناهج والكتب المدرسية. ويرى فيها «مجرد تبديل بسيط في أسلوب الوظائف البيئية ـ هذه الوظائف ـ التي تحضّر وفق طريقة «دالتون» في المدرسة نفسها في مدة خمسة عشر يوماً أو مدة شهر، في حين يتمّ الاحتفاظ بالكتب القديمة وبالطرق البالية التي تعتمد على الحفظ والذاكرة، وفي الجملة بجميع الأخطاء الشائعة التي يُضاف إليها فقدان التعليم الجماعي. (فيريير، ممارسة المدرسة الفعالة La pratique de l’école Active (1922))» .
يقول المربي السويسري «جان بياجيه ـ Jean Piaget»: «إن العمل الخلاّق للطفل يزول تماماً تقريباً، وأنّ الجهد الفردي يوضع في خدمة اكتساب المعارف اكتساباً محضاً، وفي خدمة التلقي والموقف المنفعل، والحياة الجمعية تظلّ من جهة ثانية مهدّدة بالمناهج الفردية تهديداً لا يفسح لها مجالاً لكي تلعب دورها المشروع في تكوين الفكر» . (بياجيه، الموسوعة الفرنسية، الجزء الخامس عشر).
إذاً، المعلم هو الذي يحدّد العمل للمتعلم حسب تقدير مؤهلاته وطاقاته الفكرية. أما بالنسبة للمأخذ الأساسي على هذه الطريقة هو عدم تنميتها الكافية للشعور الاجتماعي. فكل ما فيها نوع من التعاون المتبادل، وليس عمل مشترك على مستوى الجماعة.
خامساً: طريقة «وينيتكا»:
تعتبر طريقة «وينيتكا» مكمّلة لطريقة «دالتون» ومحاولة إصلاح النقائص الواردة فيها. وضعها المربي الأميركي «كارلتون واشبورن Carleton washburne» وقام بتطبيقها في قرية «وينيتكا Winnetka» الصغيرة في ضاحية «شيكاغو» التي يقصدها بشكل خاص رجال الأعمال بغية الحصول على الهدوء والراحة.
«ولهذا الغرض قرّر مجلس التربية فيها عام 1915م، تطبيق الطرق التربوية الحديثة في أربع مدارس حكومية عامة، مؤثراً ذلك على أن يؤسس مدرسة خاصة تُنظّم وفق مبادئ التربية الحديثة.
ودعا لهذا الأمر «كارلتون واشبورن» الذي أوصى به «فريدريك بورك Frederic Burke» مدير المعلمين في «سان فرنسيسكو» .
بدأ هذا المربّي تعليمه في مدرسة ريفية صغيرة بالقرب من «إلمونته Elmonte» في كاليفورنيا. منذ ذلك الحين استرعى انتباهه الفروقات الفردية بين الأطفال محاولاً جعل عمل كل تلميذ يتلاءم وميوله وإمكانياته الشخصية. «وتابع هذا النهج وأكمل نقائصه في مدرسة «تولار Tulare» التي مارس فيها بعد ذلك التدريس في الصفوف الخمسة العليا. غير أنّ غلوّه في «تفريد» التعليم وفي جعله موجّهاً إلى كل طالب حسب قابلياته، قاد إلى نوع من الفوضى كانت سبباً في صرفه من العمل». على أثر ذلك كلفه مدير دار المعلمين «فريدريك بورك» الذي قام بأبحاث مشابهة تدريس العلوم في الدار المذكورة. حيث قضاها هنالك خمس سنوات، ثم انتقل بعدها إلى إدارة المدارس الحكومية العامة في قرية «وينتيكا».
1 ـ مبادئها العامة:
يُمكن تلخيص المبادئ العامة لطريقة «وينتيكا» التربوية على النحو الآتي:
أ _ حاولت أن تجعل عمل الأطفال يتناسب في الوقت عينه مع مراحل نموّهم النفسي وميولهم الفردية، لقد قامت _ كطريقة «دالتون» _ إلى «تفريد التعليم». «فالمنهاج فيها يراعي التطور الذهني للطفل. وكلّ تلميذ يسير فيه وفق طريقته الخاصة، متبعاً بنفسه القراءات والتمرينات التي تجعله يكتسب ما يجب عليه معرفته» . وتهدف هذه الطريقة إلى مساعدة التلميذ على النمو بشكل متوازن على الصعيدين الجسدي والنفسي.
ب _ أوجدت هذه الطريقة مجموعة من الأدوات والوسائل المدرسية الكثيرة التي يستطيع التلميذ بواسطتها التزوّد بما يريد بصورة سهلة وجلية، مصححاً أيضاً أخطاءه بنفسه. ويتجوّل المعلم في الصف، مجيباً على الأسئلة المطروحة عليه من قِبل التلاميذ، ومن ثم تشجيعهم وحثّهم على المثابرة الدائمة على تحصيلهم الدراسي.
2 ـ تقييم عام
وفّرت طريقة «وينيتكا» الكثير من الوقت. فالتلاميذ البارعون المتفوّقون لديهم الإمكانية الكافية لإنجاز خلال أربع أو خمس سنوات الدرجات الثماني الخاصة بالتكوين المدرسي.
هذا بالإضافة إلى احتوائها على مجموعة من التمارين التي يُثقف بها التلميذ نفسه بنفسه وعلى مجموعة من روائز واختبارات المراقبة والضبط يطلق عليها عادة اسم «وسائل وينيتكا» .
«وهي بهذا تضع الحجر الأساس في نهج التعليم الذاتي (Auto – education) ذلك النهج الذي اكتسب شأناً خاصاً في السنوات الأخيرة، لا سيما بعد ظهور التعليم المبرمج (Programmed instruction) والتعليم عن طريق الحاسبات الإلكترونية (Computer – assistedinstruciton) وسواهما من وسائل التعليم الذاتي» .
وهي تُعنى عناية خاصة بالإيقاع الشخصي للعمل، ولا تُلزم كل التلاميذ بمنهاج واحد، بل تقيم منهاجاً مرناً يتكيّف وإمكانيات وقدرات كل تلميذ.
تستطيع هذه الطريقة كطريقة «دالتون» تسهيل اكتساب الحدّ الأدنى من المعرفة.
سادساً: طريقة «المشروع»
يقترن اسم «المشروع» باسم المربّي الأميركي «وليام كلباتريك William kilpatrick» تلميذ الفيلسوف والمربي الشهير «جون ديوي» الذي حاول عن طريقها تطبيق نظريات أستاذه في الفلسفة وعلم النفس.
تقوم هذه الطريقة على مبدأ تجميع المعلومات الضرورية حول بعض الأفكار الأساسية. وعن طريق استخدام المشروعات يستهدف أصحابها أن يكون التعليم دينامياً آخذاً بالاعتبار نشاط التلميذ ودوره الإبداعي.
تستمد هذه الطريقة جذورها من المربّي الفرنسي «جان _ جاك روسو Jean – Jacques Rousseau» الذي دعا إلى استخدام المشروع لمرحلة المراهقة في كتابه الشهير «أميلEmile »، وإلى «بستالوتزي Pestalozzi» الذي أعطى لتعليم الأشياء الحسية الأولوية القصوى على الأقوال والكلمات، وإلى «فروبل Frobel» الذي أوضح في كتابه الشهير «تربية الإنسان» أهمية النشاط الذاتي مشيراً إلى كيفية الإفادة من الهدايا والهبات.
لقد عرّف «كلباتريك» طريقة «المشروع» بأنها تجربة ذات دوافع داخلية أو فاعلية هادفة تطبّق عملياً ضمن النطاق المدرسي.
1 ـ مبادئها العامة:
تبغي طريقة «المشروع» تحقيق هدفين أساسيين: الأول تقديم مضمون مشخّص دينامي للتعليم بدلاً من المضمون اللفظي القائم على الكتاب. والثاني اعتماد المجرى الطبيعي لاكتساب المعرفة ونمو الفعاليات المعنوية للتلميذ بدلاً من التعليم القائم على التلقين. فالمهمة الأساسية إذاً، هي أن نجعل التلميذ يربط جميع جهوده الشخصية بتحقيق غايته المنشودة.
وترتكز هذه الطريقة إلى الأسس الاجتماعية والنفسية التي أتت بها التربية الغربية الحديثة، والتي قام بإعدادها وصياغتها بصورة خاصة المربّي الأميركي «جون ديوي John Dewy».
أما أهم المبادئ العامة التي استندت عليها هذه الطريقة فهي على النحو الآتي:
أ ـ مبدأ الاهتمام والعناية بطبيعة التلميذ واعتباره المحور الأساسي في عملية التربية والتعليم بقصد تحقيق أهداف اجتماعية مرجوة.
ب _ مبدأ النشاط الفردي للتلميذ وتعلّمه عن طريق العمل (Learning bydoing) والخبرة الشخصية. كما أنه يعتمد على جهوده والأبحاث والتجارب التي يقوم بها.
ج ـ مبدأ الحرية، وقوامه الانطلاق من ميول المتعلم ومهاراته واهتماماته الذاتية.
أما بالنسبة للأسس الاجتماعية التي بُنيت عليها طريقة «المشروع» فأهمها اعتبار المدرسة مؤسسة اجتماعية فاعلة. «فالتربية عند «كلباتريك» ـ كما هي عند أستاذه «ديوي» ـ «ليست مجرد إعداد للحياة بل هي الحياة نفسها». «ولهذا وُجب أن نجعل من المدرسة مدرسة المجتمع أو مجتمعاً مصغراً تتمثّل فيه الحياة ويتدرّب عليها الطلاب عملياً، بنقل البيئة الاجتماعية إلى المدرسة تارة وبخروج المدرسة إلى البيئة تارة أخرى» .
2 ـ تقييم عام
ولّدت طريقة «المشروع» الكثير من الأساليب التربوية الغربية الحديثة. «غير أنه من الخطأ أن نعتقد أن تطبيق هذه الطريقة لا يعدو إدخال بعض المشروعات في إطار تربية تقليدية، تظل على ما هي عليه في بنيتها ومناهجها وأهدافها. ولا بدّ أن يقرّ في ذهننا أن هذه الطريقة تستلزم في الواقع تغييراً كاملاً في أساليب المدرسة التقليدية ونظامها.
وعند ذلك تأخذ هذه الطريقة مكانها في إطار النظرات التربوية الجديدة التي تحاول أن تبني نظاماً «تربوياً مرناً»، لا يعرف الحدود القاطعة بين الصفوف، أو بين مراحل التعليم، أو بين التعليم النظامي والتعليم غير النظامي..
أما إذا اقتصر الأمر على تطبيق هذه الطريقة في إطار النظام المدرسي التقليدي المألوف، فإنّ فوائدها لن تكون معدومة دون شكّ، غير أنها ستكون محدودة لا محالة، كما ستطرح مشكلات جذرية صعبة تتعلق بالتوفيق بينها وبين جملة النظام المدرسي المرسوم والمنهاج المدرسي المقرر» .
تلخص هذه الطريقة في أعماق جذورها معظم أفكار التربية الغربية الحديثة. فهي تنطلق من إمكانيات التلميذ وميوله، مطبّقة بذلك الطريقة الفعالة في التربية. كما أنها تستند إلى تحليل نفسي دقيق لطبيعة الفكر البشري ولطريقة معالجته للقضايا الطارئة. هذا بالإضافة إلى استنادها إلى المبادئ الفلسفية الهامة التي وضعها المربي القدير «جون ديوي» حول أهمية الخبرة، ودور التعلم عن طريق العمل، ومراحل عملية التفكير، والغاية الاجتماعية للتربية.
سابعاً: طريقة «كرشنستانير»:
يعتبر المربي الألماني «جورج كرشنستانير Georg kerschensteiner» (1854م ـ 1932م) من أوائل الذين أطلقوا فكرة المدرسة المهنية التي عرفت فيما بعد باسم «مدرسة العمل Die Arbeitsschule»، وأدخل على المدارس الألمانية مجموعة من الإصلاحات المدرسية والتربوية، علماً أنه استمدّ أفكاره هذه من حصيلة خبراته الشخصية ومواهبه التنظيمية وتجاربه العملية المتنوعة. ولم تتوقف تجارب «كرشنستانير» على الإدارة المدرسية، وممارسة العليم. بل قام بزيارات عديدة للمعاهد التعليمية في المدن الألمانية، كما قام بعدة رحلات إلى خارج ألمانيا اطلع خلالها على المؤسسات التربوية الجديدة وطرائقها المحدثة.
«وقد جمع إلى المشاهدة والاطلاع دراسة الأفكار التربوية لعدد من كبار المربين الذين يلتقون معه في نظرته: فدرس أفكار «بستالوتزي» في البداية؛ ثم أفكار «جون ديوي» وأخيراً درس أفكار «ادوار سبرانغر Edward Spranger» الذي غدا من تلاميذه ومريديه» .
فمنذ أن أصبح «كرشنستانير» مرشداً تربوياً فذاً «عرف أن الإصلاح التربوي المطلوب في المدارس الابتدائية في ألمانيا لا يقتصر أبداً على مجرد التقليل من المواد الدراسية بل يجب الاهتمام بعملية تنظيم للمعارف نفسها لكي تصبح وسيلة تربوية هادفة. «ومنذ ذلك الحين أصبحت التربية مركز اهتماماته الإصلاحية. ولكي يتحقق الإصلاح في المدرسة، ولكي تصبح المدرسة فعلاً أداة تكوين تربوي حق، رأى أن من الضروري أن يسودها العمل اليدوي. ولم تكن هذه الفكرة من ابتكاره بل استقاها مما كان سائداً فعلاً في مدارس سويسرا والنمسا خاصة. أما موطن الجدة عنده فهو أنه جعل من الاهتمامات العملية للشبيبة «نقطة انطلاق التربية» وأنه حاول أن يقيم صلة وثيقة بين التعليم النظري والدربة العملية» .
1 ـ مبادئها العامة:
تقوم العملية التربوية عند «كرشنستانير» في الأساس على إعطاء كل فرد نمطاً يتناسب مع بنيته الذاتية ويرتكز إلى القيم الروحية للجماعة. «والعمل التربوي ـ إذا أراد أن يحقّق هذه الغاية وأن يدخل الكائن الفتي في عالم القيم هذا ويمده بخيرات الثقافة ـ يستلزم في بدايته على أقل تقدير وسائل تربوية تمكنّه من بلوغ هذا الهدف» .
ولدت المبادئ العامة لهذه الطريقة من القِران الناجح بين القول النظري والفعل العملي. وهي على الشكل الآتي:
أ ـ يشكّل الكيان الفردي للمتعلم محور التربية وموضوعها الأساسي. «شبّه الفيلسوف الإنكليزي «جون لوك John locke» نفس الطفل حين يولد «بصفحة بيضاء Tubula rosa» خاوية، خلوه من أي فكرة أو تصور ذهني، وكيف رأى أن التجربة تنقش فيها بعد ذلك ما يتكون عندها من أفكار. وقد قادت هذه النظرة إلى النفس الإنسانية إلى أخطاء تربوية ضخمة ظلت سائدة نيفاً وقرنين. وجوهر تلك الأخطاء القول بأننا نستطيع أن نملأ تلك الصفحة البيضاء بما نشاء» .
لقد عارض «كرشنستانير» مع الكثير من المربين المحدثين هذا الرأي الخاص معتبراً أن كل نفس بشرية هي أصلاً صفحة فريدة في نوعها، لها مميزاتها الخاصة التي تظهر في مجمل أفعالها وأعمالها. إذاً، لكل إنسان كيانه المميز والمؤثر الذي يتفاعل مع محيطه الخارجي ويتأثر به. «ونمو الوعي الفردي ـ في نظر «كرشنستانير» ـ لا يتوقف على البيئة المحيطة به وحدها، بل يتوقف أيضاً وخاصة على الأمور التي نعتبرها عادة حصاد ثقافة المجتمع، والتي ندعوها باسم «خيرات الثقافة». ومن هنا فإن أهم ما يُميز الإنسان من سائر الحيوانات «القيم الروحية والفكرية» .
يجب أن يقوم العمل التربوي بإعداد المتعلم لتربية مستقلة ومتجانسة. فبناء الشخصية يتم عبر جهود متواصلة يقود المتعلم من نطاق القيم النسبية إلى نطاق القيم المطلقة وتحاول «مدرسة العمل» توجيه نمو الشخصية في هذا الاتجاه عبر وسائل عديدة: أهمّها إثارة اهتماماته بأنواعها المختلفة على حدّ تعبير «كرشنستانير». فالاهتمامات المباشرة هي التي تُثيرها أشياء مقصودة لنفسها، كالألعاب والأعمال اليدوية والذهنية. أما الاهتمامات غير المباشرة فهي التي يثيرها موضوع محدد يُتخذ وسيلة لبلوغ غاية محددة.
إن الاهتمام الحقيقي يفترض الوحدة بين النزاعات الحركية لدى الأنا وبين الموضوع.
ويخطو «كرشنستانير» في دراسته للاهتمامات خطوة أخرى، فيتحدّث عن أربع مراحل في نموها:
المرحلة الأولى هي مرحلة الطفولة الأولى أو مرحلة الترويض (بين السنة الأولى والثانية من العمر). وفيها يكون نشاط الطفل اندفاعياً محضاً. وإرواء حاجاته الغريزية (من طعام وشراب ودفء وحركة) يشكّل أولى تجارب القيم الغازية والقيم الحسيّة ـ الحركية.
أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الطفولة الثانية أو مرحلة سن اللعب (بين السنة الثالثة والسابعة من العمر)، وفيها ترتبط الغرائز والميول والإحساسات بالإدراكات والتصورات الفكرية. وفيها يستيقظ خاصة الشعور بالغاية والهدف.
والمرحلة الثالثة هي مرحلة الاهتمامات الأنانية بالعمل (بين سن الثامنة والرابعة عشرة)، وفيها تنمو لدى الطفل القدرة على توجيه انتباهه فترة طويلة على الغايات التي يهدف إليها. وتتجه القيم في هذه المرحلة إلى الأمور العملية: كصناعة الأشياء ومساعدة الآخرين، إلخ… وتتأكد فيها أيضاً إرادة تكوين الكيان الخلقي.
أما المرحلة الرابعة والأخيرة فهي مرحلة الاهتمامات الموضوعية بالعمل (في سن المراهقة)، وفي هذه المرحلة يبدأ الكائن الإنساني بالشعور بأنه «حامل قيم» وينمو لديه خاصة «الإحساس بأهداف أوسع وأشمل، ولا سيما الأهداف المتصلة بـ«المجموعات الاجتماعية» كما ينمو عنده وعي القيم الروحية» .
ب ـ تنحصر فاعلية التربية على دور المعلمين والمربين وأهمية المؤسسات التربوية التي تقسم إلى نوعين: مؤسسات ثقافية عامة ليست التربية هدفها الرئيسي كالوثائق العلمية والتقنية والفنية المتنوعة، ووسائل الإعلام المختلفة، ومؤسسات وُجدت لتلتزم العمل التربوي كالمعاهد التعليمية والمدارس المهنية والكليات الجامعية. تحافظ التربية الحقة دوماً على بقاء الجماعة وتعمل لرفع مستواها المعنوي. «ومثل هذا الهدف لا يمكن بلوغه إلا بالإعداد المهني. ولكن حذار أن يُفهم من ذلك أنّ الإنسان يُربّى من أجل العمل، بل الصحيح أن نقول إننا نربي العامل من أجل أن نربي الإنسان. لقد دعيت المدارس التي لم تحدد أغراضها تحديداً محصوراً باسم مدارس «الثقافة العامة»، بينما دعيت المدارس ذات الهدف المحدد الواضح باسم «المدارس المهنية». ومثل هذا التمييز _ في نظر «كرشنستانير» _ تقسيم معقول شريطة أن نعني بمندارس الثقافة العامة تلك التي تعد «العاملين بالفكر»، وألا نعتبر المدارس المهنية ـ كما يحدث غالباً ـ مدارس ذات قيمة تربوية أدنى. فمن حيث المبدأ، كلّ مدرسة مهنية معهد للتربية الحقّة شأنها في ذلك شأن مدرسة «الثقافة العامة» .
أما بالنسبة لدور المعلمين والمربين، فيرى «كرشنستانير» أنّنا لا يمكن الفصل بين التربية وأهميتها وبين التعليم ودوره. فكلّ معلم هو أصلاً مربّ. لذا يجب علينا أن نعرف أولاً البنية النفسية والروحية للمربّي.
«وعمل المربّي ـ في نظر «كرشنستانير» ـ عمل يعتمد على الفهم، وعلى المحبة، بالإضافة إلى كونه عملاً دينياً وعملاً نظرياً (يتجلى في اتساق المبادئ التربوية). وانطلاقاً من هذه الصفات يُمكن تحديد الأسس النفسية المطلوبة من المربي: إنّ قوامها التعاطف مع الإنسان. ومع الطفل خاصة؛ وقدر من إرهاق الشعور؛ والفرع باللّعب الخالي من الغرض؛ وامتلاك موهبة الملاحظة التي تُتيح الكشف عن قابليات الطفل وعن شخصيته سريعاً؛ وأخيراً القدرة على تكوين الطفل انطلاقاً من استعداداته الشخصية.
وهذه البنية الروحية اللازمة للمربي تأخذ أشكالاً مختلفة، غير أنّ أساسها المكين الذي لا بديل عنه هو الإيمان بالقيم غير الزمنية، وبإمكان انتصار العقل على الحواس وبأهميّة بذل الذات في سبيل التنمية الثقافية والخُلقية للفرد وللجماعة وللإنسانية. ومن هذا الإيمان يولد الإيمان بقيمة التربية العامة» .
يعتبر «كرشنستانير» أنّ إصلاح التعليم الابتدائي يقوم أصلاً على المدرسة التي تعتمد على العمل بدلاً من الكتاب. هذا يعني الاعتماد على طريقة تربوية ترتكز إلى معرفة النمو الجسدي والنفسي لدى المتعلّم. فهذه الطريقة ترى أنّ العملية التربوية يجب أن تنطلق من حاجة الفرد إلى التعبير لتصل إلى أعلى درجات النشاط الفكري ـ الروحي.
«ولم يبتكر «كرشنستانير» في الواقع فكرة «مدرسة العمل» أو المدرسة الفعالة (école Active). فلقد سبقه إلى ذلك خاصة المربي والفيلسوف الشيكاغي «ديوي Dewey» على أن هذه الفكرة اتخذت لديه مفهوماً أحدث وأعمق: فلقد أكد «كرشنستانير» ـ كما أكد «ديوي» ـ على الدور الأساسي الذي يلعبه العمل الفعال في التربية.
ووضع في مقابل المعرفة المكتسبة (savoir acquis) اكتساباً آلياً المعرفة الممتلكة (savoir conquis) التي هي ضرب من الخلق والابتكار، لأنها إعداد شخصي للمعرفة» . وعملية الاكتساب الآلي للمعارف بحسب رأيه تظلّ عديمة الأثر والفاعلية في التربية الفكريّة والروحية وفي تنمية الفعل الإرادي.
فعن طريق «العمل المنتج» يتطلب منا أن نجعل المتعلّم قادراً على امتلاك المعلومات بذاته ويقوم بتحويلها إلى مشاعره وذاكرته وحياته العملية.
«ومن هنا رأى «كرشنستانير» أن المهمة الأساسية للمدرسة هي إعداد الطفل لمهنته المقبلة. والجمهرة الكبرى من الناس ينصرفون إلى أعمال مادية، لأن كل مجتمع إنساني يستخدم عدداً من العمّال اليدويين يفوق بما لا يُقاس عدد العمال الفكريين. زد على ذلك أن قابليات الكتل الكبيرة من الناس لا تسمح لهم بالاتجاه نحو أعمال الفكر، بل نحو أعمال الإنتاج. ثم إن العمل اليدوي هو أساس كل فن حقيقي بل أساس كل علم جدير بهذا الاسم. ولذا فالمدرسة العامة ينبغي أن تعد عمالاً يدويين وعمالاً فكريين في آن واحد» .
هذا يعني أن نمو القدرات البدنية واليدوية لدى المتعلمين يسبق نمو قدراتهم الذهنية. وتبقى الأولوية لتذوق النشاط الفردي من السنة الثالثة حتى السنة الرابعة عشرة.
لذا، نستنتج أنّ المدرسة الابتدائية ـ حسب رأي «كرشنستانير» ـ يجب أن تكون مجهزة بصالات متنوعة: على سبيل المثال لا الحصر قاعات للخياطة والمختبرات والمطابخ والحدائق وغيرها للتمكّن من تنمية النشاط اليدوي لدى الأولاد سواء كانوا أغنياء أم فقراء.
«ولا يعني هذا أن تقدم المدرسة الابتدائية لمن يعد للعمل اليدوي في المستقبل معارف متصلة بالمهن وبآلات وبسواها من وسائل العمل، كما لا يعني أن تقدم هذه المدرسة لمن يعد للعمل الفكري في المستقبل معرفة «مباشرة متصلة بالمهنة التي سيقوم بها. إن ما تهدف إليه أن تنمي في الحالين الأعضاء الضرورية لممارسة المهنة وأن تعود الطالب على العمل المخلص وأن تجعله يتذوق العمل الكامل المنجز ويشعر بما في العمل من متعة وحبور» .
ولذا من الضروري القيام بالتعليم العملي في المدرسة الابتدائية. لأنّ ممارسة أيّ عمل يستلزم أصلاً معلومات أساسية تشكّل ما يعرف «بالتقنية الفكرية» للعمل، كاتقان القراءة والكتابة والحساب والرسم.
هذا بالإضافة إلى أهمية العلوم الطبيعية والرياضة البدنية في مناهج المدرسة الابتدائية، كي نُعرّف المتعلم بالعالم الخارجي ونكوّن لديه عادات صحية سليمة.
«ويرى» «كرشنستانير» بعد ذلك أنّ المهمة الثانية للمدرسة الابتدائية العامة هي تكوين الطبع والخُلق. وسبيلها إلى ذلك أن تعطي العمل المهني معنى خُلقياً. إنّ مفهوم المشاركة الإرادية مفهوم ما يزال غريباً عن المدرسة، رغم أنّ المربين قد بيّنوا منذ زمن طويل أهمية تحويل المدرسة إلى مجتمع عمل، وأوضحوا دور التضامن والتعاون في التكوين الخُلقي» . ولذلك فمن المُستحسن حسب رأي «كرشنستانير» تزويد المتعلمين بروح الإخلاص والتضحية للجماعة التي ينتسبون إليها، لأنّ مثل هذه الصور العاطفية سرعان ما تتلاشى لديهم إذا لم تلتزمها المدرسة منذ نعومة أظفارهم. ومثل هذه التربية الأخلاقية عنده لا تتحقّق عن طريق التعليم النظري بل عن طريق الممارسة اليومية للفضائل الاجتماعية والأخلاقية.
«والمهمة الثالثة للمدرسة الابتدائية العامة ـ في رأيه ـ هي أن ننمي لدى الطالب الطموح إلى أن يُسهم عن طريق عمله المهني وتفتّح شخصيته في التقدم المعنوي للجماعة التي ينتسب إليها. ولا يعني هذا أن نقدّم له نوعاً من التربية المدنية، لأن مثل هذه التربية لا يسمح بها مستوى النضج لدى الطالب في المرحلة الابتدائية» .
وكلّ ما يمكن أن تقوم به هذه المدرسة هو توفير التربية الملائمة، عن طريق تعويد المتعلمين على العمل من أجل تأمين تنمية مادية ومعنوية لمجتمعهم الصغير، مفضلين من حيث الأولوية المصلحة العامة على مصالحهم الشخصية.
ج _ ليست التربية من عمل المربّي وحده بل هي من عمل الفرد أيضاً. إنها تتطلب، أن تكون القيم الروحية المحور الأساسي لوجود الكائن الإنساني. «يرى «كرشنستانير» أنّ كلاً منا يجرّب خلال نموه، بوسائله الخاصة وعلى حسابه، القيم الروحية الخاصة بالخيرات الثقافية التي يجدها في مجتمعه. والتربية، حين ننظر إليها على هذا النحو نظرتنا. إلى عمل تقوم به الجماعة الثقافية، لا بدّ أن يكون هدفها أن تكوّن الكائن الروحيّ لدى الفرد وأن تحقّق فيه القيم الروحية المتأصلة في الجماعة» .
تجسد الخيرات الثقافية والقيم الروحية بصورة موضوعيّة دور الفكر البشري وأهميته عند الفرد والجماعة على حد سواء. ويُستنبط في هذه القيم مجتمعة قيمة تربوية وأخلاقية تكون صالحة لبناء شخصية المتعلّم.
«والمسألة المطروحة أمام العمل التربوي هي أن يُيسّر الوصول إلى صميم الخيرات الثقافية، وإلى القيم الحالة فيها. وذلك هو دور التعليم. فالهدف النهائي للتعليم لا يمكن أن يكون مجرّد نقل المعارف، بل لا بد أن يكون أولاً تنمية الإحساس بالقيم.
ولمّا كانت القيم المشتركة في جماعة معينة متحلّقة حول العمل المشترك، كان من الضروري أن تنظم المدرسة بحيث تنقلب إلى مجتمع عمل، يُسهم فيه المعلمون والطلاب في أداء عمل مشترك، وعند ذلك فقط، تصبح للمدرسة بُنية اجتماعية وتغدو هي نفسها موئلاً للخيرات الثقافية» .
د _ يعتبر هذا المربّي أن نمو الكيان الروحي لدى الفرد، يستند إلى أساس فيزيولوجي هو الجسد، وإلى أساس سوسيولوجي هو حصيلة القيم الاجتماعية، «أما الكيان الجسدي فعلى كل إنسان أن يُبقي على استمراره ونموه بجهده الخاص، منذ أن يبلغ مرحلة كافية من النمو. ولهذه الغاية يتوجّب على كلّ فرد أن يكتسب قدرة خاصة على العمل.
ومن هنا تأتي أهمية الإعداد المهني. غير أن التربية المهنية وتربية القيم أمران لا يتمّان إلا في قلب مجتمع ينبغي أن يُسهم كل فرد في بقائه واستمراره. وهذا هو المظهر الاجتماعي للجهد التربوي» . إنّ المحافظة على الكيان الجسدي وتأمين المتطلبات الاجتماعية الملائمة، يشكّلان عند «كرشنستانير» هدف التربية وغايتها الأساسية.
2 ـ تقييم عام
تُعتبر أفكار «كرشنستانير» في التربية منطلقاً أساسياً لأحدث التيارات التربوية الغربية في عصرنا الحاضر مع تأكيدها القاطع على الصلة الوثيقة بين حاجات سوق العمل وحاجات التربية. فهي جعلت من طبيعة المتعلم الاجتماعية والبيولوجية والنفسية المحور الرئيسي للعمل التربوي. كما أنها جعلت التعليم يُساهم إلى حد كبير بشؤون المتعلم واهتماماته الشخصية. لقد نادت بحرية المتعلم واستقلاليته مع الحرص الشديد على أن يكون صاحب القرار في تعليم نفسه وصنع معرفته. إذاً، نادت بالطريقة الفعالة في التربية، داعية إلى عدم الفصل بين العمل الفكري والعمل اليدوي الذي يشكل محوراً هاماً من محاور النشاط في المدرسة الابتدائية وسواها. فهي بالتالي تجعل المتعلّم يرتبط ارتباطاً وثيقاً بثقافة مجتمعة والعمل على رفع المستوى الروحيّ والثقافي للجماعة التي ينتمي إليها
لقد «استطاع في خاتمة المطاف وبعد نيف واثنتي عشرة سنة من التفكير والعمل، وضع ذلك المؤلف الضخم الذي سمّاه باسم «نظرية التربية» والذي جمع فيه حصاد تجاربه وخبراته، فإنّ ما نجده في هذا الكتاب لا يعدو في كثير من الأحيان أن يكون تجميعاً لأفكار ومبادئ تربوية قديمة، أحسن عرضها وتقديمها في شكل منهجي» .
لقد تبني روّاد التربية الغربية الحديثة فكرة المدرسة الفعالة، أي مدرسة العمل، مطالبين كما فعل «كرشنستانير» بعدم الفصل بين التربية النظرية والتربية العملية. فالتيارات التربوية الغربية المعاصرة تسعى دوماً لمنح التربية طابعاً عملياً يلبّي متطلبات الحياة اليومية والحاجات الاجتماعية والاقتصادية.
خاتمة
في ختام هذا البحث، لا بدّ لي من التوقف عند الاستنتاجات الآتية للمدارس الآنفة الذكر:
1 ـ اتبعت «منتسوري» الطريقة العلمية لمراقبة النظام البيولوجي لنمو الأطفال بهدف تصميم منهج تعليمي يراعي الإمكانيات والخصوصيات الفردية لكل طفل، ويتجلى أساس هذه الطريقة في توفير وسائل التربية الذاتية في بيئة الطفل، ويشترط فيها أن تكون طبيعية قادرة على إثارة اهتمام الطفل. وبتعبير آخر، يمكن القول إن المنهج المنتسوري هو منهج تعليمي يعتمد على فلسفة تربوية تأخذ بمبدأ أن كل طفل يحمل في داخله الشخص الذي سيكون عليه في المستقبل.
2 ـ اهتم «دوكرولي» بدراسة وتحليل الإدراك الكلي عند الأطفال مؤكداً على أن الفائدة هي أساس نشاطهم. فهو يؤمن بأن المدرسة «للحياة وبالحياة». وهناك تشابه كبير بين «دوكرولي» و«منتسوري»، ثم طبّق التجارب الناجحة في مجال التعامل مع الأسوياء، وكلاهما يؤمنان بالاهتمام بالتربية الذاتية. غير أن هناك اختلاف واضح في طرق التعليم، «فمنتسوري» تجزئ وظائف الطفل وتضع تمرينات خاصة لإنماء كل وظيفة على حدة وخطوة بخطوة، لذا فهي تستعمل أدوات صناعية، بينما «دوكرولي»: الطفل عنده يوضع أمام شيء محسوس بكل ما فيه من تعقيد، ثم يأتي التحليل بعد ذلك، وأدواته دوماً من الطبيعة، وهو يتبع منهج الجشطالت (أي الطريقة الكلية في التعليم)، مما جعل طرقه يمكن تطبيقها على الصغار والكبار، بخلاف «منتسوري» التي تختص طرقها بالصغار فقط.
3 ـ أما مميزات التربية عند «فرينيه» فترتكز على مفاهيم أساسية ثلاثة:
أ ـ التعبير الحرّ والتواصل.
ب ـ التنظيم المشترك الذي يهدف إلى التسيير الذاتي والمسؤول.
ج ـ التعلم عن طريق المحاولة والتجربة.
4 _ أنشأت باركهرست برنامج دالتون بهدف تحقيق توازن بين مواهب الطلاب واحتياجات المجتمع. وتمثلت أهدافها بشكل محدد في: تصميم كل برنامج من برامج الطلاب بما يتوافق مع احتياجات كل طالب واهتماماته وقدراته؛ وتعزيز كل من الجدارة والاستقلالية.
5 ـ وضع طريقة «وينتيكا» المربي الأميركي «كارلتون وشبورن» ضمن اهتماماته التربوية الغنية، ويمكن اعتبار منهجه نوعاً من التعديل والتطوير لمنهج مشروع دالتون.
أما المرتكزات التي يقوم عليها تصوره، فتتلخص في العناصر الآتية: برنامج مكيّف وأنشطة مختلفة. يكون عمل المتعلمين قائماً على عملية التكييف مع درجات التطوّر والاستعدادات الذاتية. والتكييف مع درجات التطوّر يبدأ انطلاقاً من برنامج مشترك وموزّع حسب سنّ المتعلمين، ومضمون بواسطة عمليات الملاحظة أثناء مراحل التطوّر السيكولوجي للمتعلمين، وبعد تحديد نوعية المعارف التي تفرضها ضرورات الحياة ومتطلباتها الاجتماعية المعاصرة، يتم حصر السن الأفضل لتلقي هذه المعلومات بالنسبة لمعدلات الأطفال، ويتم تحديد عمليات التكييف مع الاستعدادات والأذواق الذاتية خلال الأنشطة الابتكارية التي يتم تتبعها بطريقة فردية، أو في مجموعات مكونة بطريقة فورية: أعمال فنية، أدبية، علوم اجتماعية، رياضيات، أشغال معملية أو مختبرية وغيرها.
6 ـ تتميز طريقة المشروع كنشاط شامل بالسمات الآتية:
أ ـ يتفاعل المتعلم مع هذه الطريقة لأنه قد يكون شارك في اختيار الموضوع.
ب ـ تشبع هذه الطريقة حاجة المتعلم النفسية لأنها تراعي الفروقات الفردية.
ج ـ تدفع هذه الطريقة المتعلم إلى التعلم الجماعي، وتحرره من قيود الكتاب المدرسي.
7 ـ لن يعرض لنا «كرشنستانير» مذهباً تربوياً غربياً حديثاً كما فعل المربي «جون ديوي» مثلاً. لذا، لا يمكننا أن ننسب إليه نظرية تربوية متكاملة. فهو صاحب نظرة تربوية _ إصلاحية وذلك من خلال ما قدمه لنا من تجارب تربوية _ إصلاحية وذلك من خلال ما قدّمه لنا من تجارب تربوية وخُبرات عملية مبعثرة كان من أهمّ نتائجها معاناته المريرة لواقع التعليم الابتدائي ودعوته الصريحة لإقامة المدرسة الابتدائية العامة التي تُشدّد على فكرة العمل والطريقة الفعّالة في التربية.
ومن مساوئ التربية الغربية الحديثة اهتمامها بالجانب العقلي أو الثقافي أكثر من اهتمامها بالجانب الأخلاقي، وذلك نتيجة تأثرها بنظريات «داروين» في النشوء والارتقاء ونظريات «فرويد» حول النفس الإنسانية واتجاهه إلى التفسير «الحيواني» لتصرفات الإنسان، ونظريات «جان بول سارتر» ومن سار في طريقه إلى الوجودية وإطلاق طاقات الشباب بغير ضوابط فضلاً عن تقبل المجتمع للكثير من الأوضاع «غير الخلقية» التي لم يكن يتقبلها من قبل، وانسلاخه من الأديان انسلاخاً حقيقياً نتيجة فصل الدين عن الدولة، وضعف سلطة الكنيسة. لقد حرصت التربية الغربية الحديثة على «التكيف» مع البيئة، واعتبار ذلك هدفاً رئيساً من أهداف التربية، فالمواطن الصالح هو المواطن الذي يتكيف مع البيئة، والتربية الناجحة هي التي تعمل على تكييف المواطن مع البيئة، فإذا كانت البيئة عنصرية ربّت شبابها على ذلك كما حدث في ألمانيا النازية بإثارة نعرة «ألمانيا فوق الجميع»، وكذلك فعلت الفاشية في إيطاليا. ومع ذلك لا تعدم التربية الحديثة إشارات إلى الحفاظ على التراث الروحي فضلاً عن اهتمامها بالوسائل العملية القائمة على الحصول على تنمية القدرات والمهارات المختلفة.