مع توسع الإنتشارالداعشي كسرطان جاهلي متوحش، يدمر الحجر، البشر، الحضارة والثقافة، يكثر الحديث عن سيناريوهات التقسيم الطائفي أو العرقي في دول سايكس بيكو: العراق، سوريا، لبنان، الأردن، السعودية، اليمن… الخ.
وقفة تأمل في جغرافيا المنطقة (الأرض والسكان) وأحداثها المتبلورة في السنوات الثلاثين الأخيرة تؤشر في اتجاه تقسيمي مختلف: إزالةتقسيمات سايكس بيكو واستبدالها بمكونات طائفية واسعة جغرافياً مع تغييرات سكانية هائلة. المكوِّنات المطروحة هي يهودية، سُنيّة، وشيعية. النظرية الاستراتيجية وراء هذا السيناريو هو في تأمين وضع يؤسس لتركيبة طائفية مستقرة تؤمن ديمومة طويلة للهدف الأساس: دولة التوراة اليهودية من النيل إلى الفرات. الفتنة السنّية الشيعيّة هدفها المحوري هو إحداث تغييرات سكانية تفرض الاستقطاب الطائفي الواسع داخل الحدود المفترضة للمكونات الطائفية المزمع إنشاؤها. لا مكان في هذا السيناريو لكيانات طائفية صغيرة أو قومية أو علمانية.
حذار هذا السيناريو والاستخفاف بإمكان حصوله. لكن مع خطورته وجديته البالغة، فإن إمكانات وسبل مواجهته موجودة، لكن تستدعي الارتقاء بالجبهة المقاومة له إلى مستويات جديدة وجريئة من خلال استراتيجية عابرة للحدود الجغرافية والفكرية والدينية. العمل الجاد على هزيمة هذا السيناريو وإنشاء نقيضه الكامن في رحمه يجب أن لا يكلّ… في السنوات الثلاثين المقبلة
قبل الدخول في صلب الموضوع، أود أن أؤكد 4 نقاط هامة لا بُدَّ من تذكُّرها كإطار عام لفهم مجريات الأحداث في إطارها الاستراتيجي الصحيح:
الأحداث التاريخية الجسام تتبلور في عشرات السنوات، لكن يتم التأسيس لها في حلقات متتابعة من أحداث هامة قد تستغرق بضعة أشهر إلى بضع سنوات في كل حلقة. هذه الأحداث الهامة عادة ما يتم التحضير لها خلال فترات من الهدوء النسبي الخادع. الفريق الذي يعمل بجد أكبر ووعي استراتيجي أعمق في زمن الهدوء، يتمكن من تحقيق هدفه أو إفشال أهداف الخصم ومخططاته في أوقات الحدث الهام.
الإيهام والخداع وامتلاك عنصر المفاجأة، عناصر هامة تتم ممارستها بحنكة في زمن الهدوء، كي تزيد من احتمالات الغلبة لفريق على آخر في مراحل الأحداث الهامة. يجدر التمييز هنا بشدّة بين هذه الممارسات لمن ينفذ خطة استراتيجية، والكذب والنفاق الذي يمارسه من لا قرار لهم ولا خطة.
القدرة على تبديل المسارات المرحلية التكتيكية في حال تعثرت، وتحضير الموارد الممكن استخدامها في المسارات البديلة، مسألة حيوية لاستمرارية المسار العام للمشروع الاستراتيجي. هذه العثرات قد ينتج عنها خسائر وانتكاسات كبيرة أو تأخير في التوقع الزمني للمشروع، لكن في كثير من الأحيان قد ينجح تبديل المسار في إنقاذ المشروع واستكماله. على القوى المُواجِهة أن تبقى ثابتة في مسارها الاستراتيجي العام المضاد مع الحفاظ على هامش من المرونة والمناورة التكتيكية لاستيعاب المسارات الجديدة التي يلجأ إليها المشروع الهدام ومواجهتها بالوعي والحزم اللازمين
القوى الفاعلة تستخدم الإعلام لتسويق توجهاتها الآنية أو المرحلية أو الاستراتيجية. الإعلام الآني أو المرحلي يحاول توجيه الرأي العام للتعاطف مع توجه معين، أو نشر إشاعات لتشويه تحركات القوى المضادة، أو تبني مواقف قد تبدو معاكسة للتوجه الاستراتيجي للمشروع، لضرورات آنية تكتيكية تستوجب تمويه النيات الحقيقية. كي تُفهم المداخلات الإعلامية على حقيقتها وعدم الوقوع في خداع معظمها يُسْتَسْقى الموقف الحقيقي فقط من الممارسات التنفيذية المُثْبتة تاريخياً على أرض الواقع ومن خلال فهم الأحداث الآنية والمرحلية في الإطار الاستراتيجي العام.
ما هي تلك المكونات الطائفية الواسعة الجغرافيا (أنظر الخريطة) وذات التركيبة السكانية المختلفة التي يتم العمل على تركيبها بوحشية فائقة عبر اقتلاع السكان الأصليين بواسطة المذابح والتهجيرالجماعي القسري؟
1ـ دولة يهودية من النيل حتى الفرات (تحقيقاً لنبوءة عودة المسيح – الدفع العقائدي الأساس للمحافظين الجدد في أمريكا) قوامها الرئيس اليوم الكيان الصهيوني وتضم أجزاء من سوريا، الأردن، العراق (غرب الفرات) والسعودية ومعظم لبنان. سكانياً: يتم تهيئة 15 مليون يهودي من أنحاء العالم للتوطن في المناطق الواقعة ضمن حدود هذه الدولة، ولابأس من بقاء بضعة ملايين من غير اليهود يكونون مزيجاً مقهوراً من «الغوييم» لخدمتهم بتولٍّي المهن الوضيعة (وإلإيهام بالديمقراطية).
ليس بالضرورة أن تتولى إسرائيل بنفسها تركيب أجزاء هذا الهدف التاريخي. في عصر التشرذم والانحطاط العربي الذي نعيشه، هناك كثيرون من العرب يتولون هذه المهمة من حيث يدرون أو لايدرون، مقابل أوهام تحقيق أهدافٍ ثورية، أو كيانات قومية أو دينية ضحلة يسهل محوها بعد إتمام الغاية من وجودها… أو فقط مقابل صورة في البيت الأبيض. معظم أهداف إسرائيل المرحلية منذ نشأتها، تحققت عبر استراتيجيا واستعداد بائِسَيْن لخصومها من العرب، أو صراعات داخلية في بلاد العرب تزيل العقبات و تمهد السبل أمام إسرائيل.
2ـ دولة إسلامية سنية قوامها الرئيس اليوم تركيا وتضم باقي سوريا، الجزء الشمالي من لبنان وجزءاً من العراق. سكانياً: محاولة تهجير الأقليات المسيحية والشيعية وغيرها قائم على قدم وساق. بالمقابل، الدعوة مفتوحة للبدائل السلفية الوحشية القادمة من كل أصقاع العالم تحت ادعاء الجهاد، وبتسهيل ملحوظ من المنظومة الاستخبارية الغربية / الخليجية / الإسرائيلية وإشراف مباشر للمخابرات التركية، ويتم توطينها بتوفير المقام وتكوين العائلة والمدخول المالي. طبعاً بعد أن يُقتل أعداد كبيرة منهم في غزواتهم التي لاتكِلّ، أو في قصف «تأديبي» من أسيادهم لتقليم مخالبهم المتوحشة وتلميع صورة مشغليهم، والتهيئة لدور أسيادهم المباشر في الوقت المناسب. وللتمويه، تتحدث الدول الغربية عن الخطر الداهم الذي يتربص بها عبر هجوم مواطنيهم من بين هؤلاء الإرهابيين، ويتخذون خطوات لاحتواء الخطر كمثل سحب الجنسية او التهديد بالسجن الطويل في حال العودة. كأنهم كانوا في سبات عميق لثلاث سنوات بينما الآلاف من مواطنيهم، معظمهم ممن كان تحت المراقبة لشبهة التطرف الإسلامي، فجأة «يختفي»! أو ربما كانوا منشغلين بالتحضير لاحتفالات سقوط النظام السوري، في حين كان مراسلو صحفهم وأقنيتهم التلفزيونية يبثون التقارير حول نضالات هؤلاء المواطنين في صفوف «الثورة» السورية.
الأحداث الهامة في هذه الحلقة من صناعة تاريخ المنطقة تشي بالكثير حول دور تركيا المركزي في التأسيس للتغييرات «التاريخية» المرجوة. عشرات آلاف المقاتلين من أنحاء العالم يدخلون إلى سوريا والعراق عبر تركيا من معابر على الجانب السوري يسيطر عليها المسلحون بإشراف المخابرات التركية وليس «تهريباً». معسكرات تدريب هؤلاء المسلحين وغرف عملياتهم الرئيسية ومراكز علاج جرحاهم ومداخل إمداداتهم بالسلاح وتموينهم وحليب أطفالهم وخطوط استراحتهم الخلفية كلها في تركيا وعبرها. المخابرات التركية تلعب الدور المنفذ والمنسق والموجِّه. «شنط» الأموال النقدية تمر عبر تركيا، كما يتم فيها ترتيب بيع المنهوبات من نفط ومصانع وآثار… الخ. وإذا أرادت تركيا في المستقبل وضع اليد على المناطق التي «يحررها» مسلحو «أهل السنة»، هل سيكون من الصعب إيجاد الحجج والمسبِّبات؟ تبريرات من نمط «احتواء الإرهاب» أو إنشاء «مناطق عازلة وآمنة» يسهل تسويقها. وبالمناسبة، من الجيد أن يتعوّد مئات الآلاف من المهجرين (ومن المرتقب ان يزيدوا أضعافاً في السنوات المقبلة) على السُّلطة التركية فما الضير في توطينهم على الاراضي السورية والعراقية «المحررة» تحت الحماية الأمنية التركية – الأطلسية، و«الرعاية الإنسانية» الغربية، ثم ضمهم إلى تركيا مع الارض بعد سنوات عديدة في «استفتاء ديمقراطي» برعاية دولية؟
ملاحظات سريعة تؤشِّر إلى التنسيق الاستراتيجي لنشأة الكيانين اليهودي والإسلامي السني (المُصَنَّع أمريكياً): ما هو سر تركيز داعش الرئيس هذه المرحلة جغرافِيّاً في المنطقة بين نهري الفرات ودجلة والعمل على السيطرة على الشمال السوري من خلال القضاء على التنظيمات الأخرى بالتنسيق الواضح مع تركيا، في حين أن تنسيق مسلحي المعارضة السورية جنوب الفرات أكبر مع إسرائيل: توجيه استخباري، تنسيق عمليات عسكرية، تسهيل مرور والتفاف عبر الجولان وتسليح وعلاج جرحى؟
ليس بالضرورة أن ينشأ المكونان الطائفيان اليهودي والسّني بشكل متزامن. الأولوية كانت لتولي إسرائيل الدفع لإنشاء الدولة اليهودية أولاً، معتمدة على الثقة التامة بقواها الذاتية. لكِّن مسار تكوين الدولة اليهودية الموسَّعة أولا تعثُّر، إثر فشل إسرائيل في غزواتها التوسعية شمالاً. تم عندها نقل التركيز إلى الكيان السنِّي، الذي في حال نجاحه، يُمهِّد الطريق لمعاودة مسار الكيان اليهودي في وقت لاحق أكثر مؤاتاة.
الخيار السنِّي الأول كان الإخوان المسلمين كونهم كمٌّ معلوم ويمكن ضبطه من خلال تركيا وقطر، كما أن نظرية الدولة الإسلامية الموسعة تتناسب مع عقيدة الإخوان. أما الخيار البديل المتمثل في التيار السلفي التكفيري المَفتون بـ «دولة الخلافة»، فبالرغم من كونه صنيعة الغرب وارتباطه الوثيق بالفكر الوهَّابي للسعودية، لكن تنظيماته متعددة، أكثر تطرفاً، واحتمالات انفلاتها في مسارات ثانوية خاصة بها وارد… وهذا يتطلب من الغرب وإسرائيل وتركيا مراقبتهم عن قرب و«تشذيب» النتوءات التي قد يبرزها توحشهم، خارج الخط المرسوم.
انطلقت تجربة الإخوان المسلمين كرأس حربة لمسار الكيان السني، العام 2009 في تونس، وتبعتها مصر، ليبيا واليمن في إطار ما أطلق الغرب عليه «الربيع العربي». تم استخدام النموذج نفسه بنجاح: استنهاض شعبي عام جُنِّد له حشد إعلامي هائل ليتحول إلى ثورة شعبية، تلاه تدخل عسكري من الجيش ليتم عزل رأس الدولة، ما عدا ليبيا حيث استُخدِم التدخل العسكري الخارجي المباشر. انضم الاخوان للحراك الشعبي بهدوء كأحد الفصائل المُشاركة، لكن بعد إتمام قلب النظام والتوجه نحو الانتخابات لتركيز النظام البديل، كان الإخوان الأكثر تنظيماً وعلى أتم الاستعداد لركوب الموجة و«حصد الأغلبية الشعبية». طبعاً حصل كل ذلك تحت العين الساهرة لمخابرات الغرب واليد الضاغطة لتركيا والمحفظة الملآنة لقطر.
لكن وهج السلطة فعل فِعله في اهتزاز التوازن التنفيذي للإخوان فغرقوا في رمال الاستئثار المتحركة وأساؤوا تقدير سطوة الجيش ومقدار تحمُّله لاستبعاده عن مواقع القرار خاصة في مصر… فكان انهيار النموذج الإخواني، مؤقتا على الاقل. عندها، كان لا بد من تفعيل الخيار البديل: السلفي التكفيري.
في الواقع الجغرافي اليوم، يتم العمل على تأسيس الكيان السنِّي من خلال مسارين أساسيين: داعش لتثبيت الجغرافيا المستقبلية: شمال الفرات زائداً شمال سوريا. والفتنة السنيّة الشيعيّة التي تضرب بأوجُهٍ مختلفة والتي تحقق هدفين أساسيين: إنهاك وتحجيم القوى التي يمكن ان تواجه هذا المشروع، وبالتالي تسهيل اجتياح إسرائيل لها في الوقت المناسب؛ واقتلاع الشيعة والأقليات من سوريا ولبنان وأجزاء من العراق.
يبقى الإخوان خياراً يمكن تفعيله مستقبلاً بشكلٍ محدود أو موسَّع حسب الحاجة، بعد «إعادة تأهيل» وتهيئة المحيط المناسب. آلاف المسلحين من «مشتقات» الإخوان المسلمين دُرِّبوا وآلاف آخرين يتم تأهيلهم وتدريبهم في تركيا، الأردن، الداخل السوري والعراقي، ليبيا، سيناء، إسرائيل، ومؤخراً في السعودية لتأدية عدد من المهمات على الأرض بعضها في الوقت الحاضر (المنطقة العازلة في الجولان، استنزاف النظام السوري، مشاغلة حزب الله في لبنان، الابتزاز الأمني لمصر) وبعضها الآخريتم إعداده لمهام مستقبلية (حفظ الأمن في «مناطق السُنَّة المحررة» في سوريا والعراق، ابتزاز أمني للأردن أو السعودية إذا لزم الأمر، مواجهة الحوثيين في اليمن… إلخ).
هنا قد يبرز سؤال هام: ما هي مصلحة السعودية في المساهمة في مسار يكون المستفيد الرئيس فيه تركيا ويبرزها كمتزعمة للسنَّة؟ الجواب متعدد الجوانب. الهدف الاستراتيجي غير معلن ويجري تمويهه بإعطاء السعودية دوراً بارزاً في العديد من القضايا الإقليمية المرحلية التي لا تؤثر على المسار الاستراتيجي، وبعضها قد يوهم بـ «تقليص» النفوذ التركي. كما وأن حكم العائلة المالكة مرهون بالحماية الغربية في ظل تسلطها مع بعض العائلات القريبة منها على معظم موارد المملكة. وأخيراً، يحمل الغرب سيفاً مسلطاً فوق رؤوس حكام السعودية في ما يخص مخالفات حقوق الإنسان وارتباط الفكر الوهَّابي في دعم نهج التطرف الإسلامي الذي يمارس تمييزاً عنصرياً وحشياً ضد المذاهب والأديان الأخرى، ويضم في صفوفه نسبة عالية من الجنسية السعودية. باختصار: التوجه الاستراتيجي يتم تحديده وتنفيذه على مستوى أعلى من الذي يقدر عليه التأثير السعودي.
إنشاء المكوِّن السنِّي أولاً يسهل تسويقه إعلامياً بالرغم من هول المآسي التي يفتعلها مساره: يتم ُإخَراجه من خلال معارك طاحنة أبطالها إرهابيو العالم «السلفيين» ضد «الإرهابيين» الآخرين المنتمين لـ «التطرف الشيعي»، ويمهِّد الطريق للمكوِّن اليهودي بأقل الخسائر لإسرائيل؛ وأيضاً يدفع نحو تفعيل مسار الكيان الشيعي. وهكذا يكون «العالم الحر» قد أمَّن الخلاص من إرهابيي العالم بتوجيه إرهابهم إلى نحور بعضهم البعض، ومهَّد لشرق أوسطٍ جديد أكثر أمناً واستقراراً وازدهاراً عبر تفعيل الاستقطاب السياسي والسكاني المنسجم مع النسيج الطائفي للمنطقة.
يقضي هذا السيناريو أن تكون السنوات المقبلة حبلى بالأحداث الجسام التي تدفع المسيحيين وغيرهم من الأقليات إلى الهجرة إلى الغرب. أما لِمَن نجا من القتل من الشيعة والعلويين فإلى جنوب العراق وإيران؛ والسنَّة إلى دولة الخلافة (بعد تبني الفكر الجاهلي المتزمت أو القتل) تمهيداً لضمهم لتركيا. هذا الفرز السكاني الطائفي يُعتبر ضرورياً للاستقرار الداخلي للدول الثلاث الناشئة، ومقلِّصاً لدواعي التنازع بينها. هذه المتغيرات الجذرية في المنطقة تصبح ممكنة بعد التدمير والتغيير الممنهج لوجه المنطقة الحضاري والثقافي والتاريخي، والإرهاق الاجتماعي والاقتصادي للموارد البشرية والمادية، مع ورود ملايين سكانية جديدة من كل أنحاء العالم ترى في الكيانات الجديدة ملاذاً وتحقيقاً لتطلعاتها ومستقرَّاً للعيش بموجب عقيدتها.
هذا المخاض الدموي المدّمر يؤمن لهيمنة الغرب ووسطائه على مصادر الطاقة وممراتها، والعقود الفاحشة الأرباح لشركاته، والأهم هو التحكُّم في نشأة الكيانات السياسية الملائمة لديمومة تاريخية للدولة اليهودية قد تطول عقوداً عديدة إن لم تكن قروناً… أو حتى عودة المسيح!
عمليات سرقة الأرض والمساكن والدعم المالي والاجتماعي، مع تجذير الوجود المستجد لأناس قادمين من دول كثيرة من خلال بث الفكر المتزمت الحاقد… قواسم مشتركة في الأسلوب والتنفيذ بين إسرائيل ربيبة الحركة الصهيونية العالمية ورديفتها داعش، ربيبة تركيا، ومن خلفهما بصُوَرٍ وحِللٍ وأساليب متنوعة: الحلف الأطلسي و الولايات المتحدة. المشاهد التي نراها في الرقة، دير الزور، حماة، الموصل، سنجار، تكريت… إلخ؛ لا تختلف عن المشاهد الموثقة عن هدم القرى، المذابح وقتل وتهجير المدنيين في فلسطين 1948 أو 1967 أو في غزة وجنوب لبنان أو ذبح وتهجير الأرمن في تركيا أوائل القرن العشرين. أما المحرِّكون الأساسيون فحدِّث ولا حرج عن القتل. بدءاً بهيروشيما، مروراً بكوريا، فييتنام، أمريكا اللاتينية، أفغانستان، يوغوسلافيا، الصومال، العراق… كلها «حروب استباقية» أسست للتواجد العسكري الأمريكي والأطلسي في تلك المناطق على جماجم الملايين من مدنييها، والذين يطلق عليهم من دون رفّة جفن توصيف «ضحايا عَرَضية».
التنسيق الاستراتيجي على إنجاز هذا السيناريو واضح المعالم بين إسرائيل وتركيا ومن خلفهما الغرب. وإذا نجح معظم هذا الجزء من السيناريو، عندها قد تنجر إيران إلى تنفيذ الجزء الأخيرحماية لوجودها و«إنقاذ» ما أمكن من الشيعة وفروعهم المذهبية! لايوجد دلائل حتى الآن أن التعاون التركي ـ الإيراني أو التفاوض الغربي ـ الإيراني يتضمن تنفيذ هذا السيناريو. من المحتمل أيضا أن تركيا تقوم بخدعة تاريخية مع إيران، كما فعلت من قبل (ونجحت) مع سوريا قبل الانقضاض عليها؛ أو أنَّ إيران تعمل وفق قاعدة «أبق أصدقاءك قريبين لك، وأعداءك أقرب»! الأحداث المستقبلية وحدها تكشف الحقيقة.
3ـ دولة إسلامية شيعية قوامها الرئيس اليوم إيران وتضم جنوب وبعض وسط العراق، مع إمكانية توسع محدود إلى الخليج، أفغانستان وباكستان. سكانياً، يلجأ معظم الشيعة والعلويين المهجرين وبعض الأقليات إلى مناطق آمنة لهم في جنوب العراق وإيران كما يمكن استيعاب قسم كبير من الأقلية الشيعية (التي سيزداد اضطهادها) في أفغانستان وباكستان… إضافة إلى مَن يرغب من شيعة العالم.
إيران بعد 10 أو 20 سنة مستقبلاً قد تكون غيرها اليوم. فشلت محاولات التغيير في إيران دخولاً من الباب الرئيسي: استكمالا لاجتياح العراق العام 2003 أو قصف النووي، فهل ينجح الدخول من الباب الخلفي؟ هل تكون إيران الهدف التالي عبر تركيا بعد سوريا والعراق؟ ألم تبدأ أحداث هذين البلدين بتظاهرات مكثفة تطالب بـ «الحرية» و «محاربة الفساد» و «إسقاط النظام» ثم تلتها العسكرة؟ فشلت المحاولة الأولى لتفعيل التظاهرات الواسعة إلى حراك شامل أثناء انتخابات الرئاسة العام 2009. لكن تهيئة الأجواء للحراك التالي لم تتوقف في زمن الهدوء الخادع والمفاوضات «المطمْئِنة» وربما تنتظر الإشارة بأن تحضيرات العسكرة باتت جاهزة!الضغط الاقتصادي على أشُدَّه و تدريب مجاهدي خلق وتنظيمات أخرى لم يتوقف: ابتدأ على نطاق واسع في العراق أثناء الاحتلال الأمريكي وتوزع على مناطق عدة من دول الفلك الأمريكي بعد رحيل الاحتلال العام 2012، مع تموضع كبير في تركيا وباكستان. إيران التي تناسب المشروع الاستراتيجي الطائفي تكون أكثر تجذُّراً في «شيعيتها» والهدف هو إيصالها بالتدريج إلى هذا التموضع عبر أحداث وحشية متتالية عنوانها الفتنة السنية – الشيعية.
العقل الشيطاني الذي يبني هذا السيناريو، يفترض أن التوزع الجغرافي والسكاني الجديد يؤمن وضعاً أكثر استقراراً لمنطقة الشرق الأوسط، وحتى مناطق أخرى من العالم؛ في الإطار الأساس المتمثل بإنشاء وديمومة دولة إسرائيل الكبرى. هذه الكيانات الطائفية الثلاث لن يحتاج أي منها إلى إلغاء الآخر، لابل يكون لكل منها من التجانس الطائفي الداخلي والموارد الطبيعية والبشرية ما يعزز سعيها لعدم الإخلال بالوضع المستحدث، وأن تقبل به وإن على مضض في البدء، ومع الوقت، تتقبله وتعمل على ديمومته.
بالطبع هناك مناطق عدة متروك مصيرها النهائي وتموضعها في إطار التوزع الطائفي المتبلور عبر السنين. الحدود النهائية قد تتطلب سنوات طويلة لحسمها وتكون نتيجةً للمناوشات العسكرية بين المكونات الطائفية الناشئة، إنما تكون محصورة في مناطق التماس على الأطراف من دون المساس بالهيكل الجغرافي الأساسي لتلك المكونات. منطقة الخليج وأجزاء من كردستان ووسط العراق وبعض الجزء الشمالي والغربي من سوريا هي مثال لتلك المناطق.
تحقيق هذا السيناريو يتطلب توفير الظروف المؤاتية لتبلوره ونجاحه أمنيا وسياسيا وإعلاميا وبشريا:
إبقاء المنطقة كلها في حالة من الغليان، قد تكون على مراحل تتخللها فترات من الهدوء، كي يسهل الدفع باتجاه المتغيرات الجغرافية والسكانية المطلوبة عند نضوج التوقيت المناسب.
السيطرة الأساسية في ضبط الإيقاع الرئيسي هو للمخابرات الأميركية، الغربية والإسرائيلية، والتي تقوم بتوزيع الأدوار التفصيلية على مستوى المناطق للمكونات الاستخبارية التابعة والمتعاونة فعلاً أو تحييداً، والتي تتولى بدورها توزيع المهام التنفيذية بواسطة عملائها ووسطائها على الأرض.
استخدام أجواء «مكافحة الإرهاب» لضبط إيقاع عمل التنظيمات الإرهابية التي تُستخدم في إبقاء حالة «الفوضى الخلاّقة» قائمة. يتم تفعيل وتسهيل هذا الإرهاب في المواضع المطلوب تدمير بنيتها الجغرافية والسكانية، في حين يتم محاربة هذه التنظيمات الإرهابية نفسها في مواضع منتقاة لضبط حراكها ومناسبته لظروف ومتطلبات كل مرحلة، وللتعمية على الدور الحقيقي للمحرك الرئيسي في إنشائها وتسهيل مهامها.
لامكان لنشأة كيانات عرقية مثل كردستان أو كيان طائفي هامشي مثل كيان مسيحي أو علوي أو درزي. هذه المكونات الثانوية قد يتم تفعيلها واستخدامها في بعض المناطق والمراحل بشكل مؤقت قد يدوم لسنوات، لكن لن يسمح لها بتكوين وجود مستقل دائم لها، لابل سيتم في الوقت المناسب تأمين إخضاعها أو احتوائها ضمن المكونات الطائفية الرئيسية الثلاث أو استيعابها في الغرب كمهجرين
الخداع هو الأسلوب الأساس الذي يستخدمه المخططون الاستراتيجيون في هذه المرحلة بحيث يتم دعم واستخدام مكونات مسلحة تستميت لتحقيق أهداف موضعية، إمّا مباشرة أو من خلال وسطاء. عدّة الشغل متنوعة: خلق حالات إنسانية هائلة ثم التدخل لحلها ومساعدتها، أو استخدام مواد محرمة وإلباس التهمة للطرف المنوي إخضاعه، أو تفعيل ضغوط اقتصادية أو مالية أو أمنية حتى مع وسطائهم لدفعهم للتعاون غير المحدود. إنَّ استخدام المتطرفين العقائديين عبر الوسطاء والوكلاء يسمح للجلاّد أن ينصِّب نفسه قاضياً وحكماً ومتبرعاً ومنقذاً وشريكاً… والهدف هو أن يكون وصياً على مايتحقق في كل مرحلة.
الاستخدام الخلاَّق للإعلام بهدف صناعة البيئة الفكرية والشعبية والاجتماعية الملائمة لأهدافه. المطلوب هو تحويل الأنظار عن الصراع الأساس وتوجيهها إلى صراعات أخرى من صناعته وتأليفه، وتشويه صورة وسمعة من يمارس استراتيجيات مضادة قد تعيق أو تهزم توجهاته.
الخطوات التي أنجزت نحو تحقيق هذا السيناريو حتى اليوم تبدو كثيرة ومتقدمة. لكن هذا المشروع أصيب بانتكاسات هامة في السنوات الـ 15 الماضية. السير بثبات وقوة في المسار الاستراتيجي المضاد الذي أنجز هذه الانتكاسات، من شأنه أن يعكس التيار ويهزم حلقات متتالية مستقبلية من المشروع، ما قد يلغيه؛ لابل ويؤسس لبروز مشروع مضاد نهضوي، قد يغيِّر جغرافيا المنطقة وتاريخها.
هذا السيناريو ليس حكماً محتوماً. لكن هزيمته لايمكن أن تأتي من الخارج، بل من قوى داخلية ترتقي إلى مستوى المواجهة، متجذرة في شعبها وتتسلح بالعدة الفكرية والتنظيمية والعسكرية التي تمكِّنها من التفوق على المقدرات الهائلة الموظفة لإنجاز هذا المشروع الطائفي على مدى العقود الآتية من تاريخ المنطقة.
أين نجح مشروع الدول الطائفية الثلاث وأين فشل؟ وما هي العوامل التي يحملها في رحمه، التي يمكن أن تعيق نموه والقضاء على إمكانية ولادة دُوَلِه المشوهة إنسانياً، على جماجم و مآسي عشرات الملايين من أبناء المنطقة؟
إقرأ للكاتب:
http://www.khabaronline.com/PAD.aspx?Id=4260
http://www.khabaronline.com/PAD.aspx?Id=4278
http://www.khabaronline.com/PAD.aspx?Id=4350
http://newspaper.annahar.com/article/186979-
الشرق-الأوسط-الجديد-ثلاث-دول-طائفية