يبحث الدكتور صفوت حاتم نكسة حزيران من خلال محورين: الأول: دور السوفيات في النكسة والثاني: انعكاسات النكسة على إسرائيل.
(1)
هل ضلل السّوفيات جمال عبد الناصر في يونيو/ حزيران 1967؟!
ضمن القضايا التي يثور حولها جدل كبير دورُ الاتّحاد السّوفياتي في حرب يونيو/حزيران عام 1967.
فلقد ثار لغط كبير وشبهات عديدة حول موقف السّوفيات في هذه الحرب.
فالسّوفيات، كما هو معروف، كانوا هم أوّل من نبّه جمال عبد النّاصر عن وجود حشود إسرائيليّة على الجبهة السّورّية.
وقد تردّد بعد وفاة عبد النّاصر رأيٌ شديدُ السّطحيّة والهشاشة، مفاده أنّ السّوفيات أرادوا "توريط" عبد النّاصر والعرب في حرب مع إسرائيل وهم يعلمون مسبقاً بضعف العرب وعدم استعدادهم للحرب واحتمالات هزيمتهم على يد إسرائيل القوية!
وأنّ السّوفيات رغبوا في أن يبقى العرب ــــ وبخاصّة مصر وجمال عبد الّناصر ــــ معتمدين على السّوفيات، بسبب هزيمتهم وحاجتهم إلى السّلاح السّوفياتي!
وهو تفسير هزليّ ولا شكّ!
قد يصلح لتسلية الأطفال قبل النوم…
لكنّه لا يستقيم مع رؤية السّوفيات لدور مصر في المنطقة وتقديرهم لجمال عبد النّاصر كأفضل صديق "تقدميّ" لهم في المنطقة!
صحيح أنّ الاتّحاد السّوفياتي كان هو المصدر الرّئيسيّ للمعلومات التي وردت للقاهرة في مايو 1967.
فقد ورد في بيان الحكومة السّوفياتيّة الصّادر في 23 مايو 1967، مايؤكّد أنّ السّوفيات كانوا هم مصدر تلك المعلومات.
يقول البيان: "وقد صدرت الأوامر فعلاً يوم 19 أبريل بتحريك قوّات إسرائيليّة إلى سوريا. وتبيّن بجلاء أنّ إسرائيل لم تكن لتستطع أن تنهج هذا النّهج مالم تكن تحظى بالتّشجيع المباشر وغير المباشر لموقفها هذا من جانب دوائر استعماريّة معيّنة" (نورا محمد ماهر، النّكسة 67، مصر ومعضلة المعلومات، دار الهدى للنّشر والتّوزيع).
بل إنّ بعض القادة العسكريّين المصريّين والّذين تمّت إدانتهم في المحاكمات الّتي تلت الهزيمة، كانوا قد راحوا يكتبون مذكراتهم يتنصلون فيها من مسؤولية الهزيمة ويوزّعون التّهم يميناً ويساراً.
وكان من تلك الاتّهامات ما أوحى به بعضهم من "احتمال" تواطؤ الاتّحاد السّوفياتي ضدّ مصر في ذلك الوقت.
ومنهم، على سبيل المثال، السّيّد صلاح نصر رئيس المخابرات العامّة في مصر وقت الحرب. وقد حُوكم بعد النّكسة وحُكِم عليه بالسّجن لمدة أربعين عاماً، ثم أفرج عنه أنور السّادات في السّبعينات.
فقد ذكر: أنه تمّ تسريب معلومات لعبد النّاصر عن طريق البحريّة السّوفياتيّة الّتي التقطت إشارات صادرة من تل أبيب توحي بقيام حشود على الحدود السّوريّة الإسرائيليّة لغزو سوريا. كما قامت إسرائيل بتسريب معلومات إلى السّفارة السّوفياتيّة في تل أبيب تفيد نفس المعنى. وأسرع السوفيات في توصيل هذه المعلومات إلى الرّئيس عبد النّاصر.
ويعلّق صلاح نصر على ذلك قائلاً: "وهنا علامة استفهام على هذا الأمر لأتساءل: هل خدع الإسرائيليّون السّوفيات فنقلوا هذه المعلومات بحسن نيّة إلى عبد النّاصر؟ وهذا في رأيي أمر بعيد الاحتمال، ومن المفروض أن يقوم جهاز المخابرات السّوفياتيّ بتحليل هذه المعلومات وتقييمها قبل أن يرسلها إلى عبد النّاصر". (صلاح نصر، الأسطورة والمآساة).
إنّ صلاح نصر يستبعد أن يكون الاتّحاد السّوفياتيّ ضحيّة خديعة إسرائيليّة. وبالتّالي لا يبقى إلّا احتمال أن يكون السّوفيات هم الّذين خدعوا عبد النّاصر!
أما الفريق عبد المحسن مرتجي قائد جبهة القتال في سيناء عام 1967، فيقول: "إنّ روسيا لديها جهاز مخابرات على أعلى مستوى وكانت تعلم أنّه لا يوجد مثل هذه الحشود، ويُستدلّ على ذلك برفض السّفير السّوفياتيّ في إسرائيل الدّعوة الموجّهة إليه من وزير الدّفاع الإسرائيليّ لمصاحبته في جولة في الجليل ومناطق الحدود ليرى بنفسه أنّه ليست هناك أية حشود عسكريّة إسرائيليّة". (نقلاً عن نورا محمد ماهر، المصدر السّابق صفحة 120).
وعلى عكس الآراء السّابقة الّتي يقول بها قادة الهزيمة ــــ الّذين تمّ محاكتمهم أو عزلهم ــــ يذهب آخرون أنّه تمّ خداع السّوفيات، ولعلّ أدقّ رواية يمكن الاعتماد عليها في هذا الصّدد هي رواية السّفير مراد غالب سفير مصر في موسكو لعدّة سنوات قبل الحرب وبعدها. إذ كان أوّل "إنذار" بوجود حشود إسرائيليّة على الحدود السّوريّة. وفي هذا الصّدد يقول مراد غالب: "كنتُ في حفل وداع الوفد البرلمانيّ المصريّ برئاسة أنور السّادات في أوائل الأسبوع الثالث من مايو 1967، عندما أبلغني سيميونوف أنّ هناك حشوداً إسرائيليّة على سوريا، ولمّا استفهمتُ منه عمّا يقترحه لمواجهة ذلك، قال: نحن نبلّغكم فقط (!).
ذهبتُ إلى السّيد أنور السّادات وأبلغته بالمعلومات واقترحت عليه أنّه ما دام سيغادر موسكو باكر صباحاً، فيمكنه توصيل هذه المعلومة إلى الرّئيس عبد النّاصر، فرفض السّادات وقال: عليك أنت إبلاغها فوراً لعبدالنّاصر (!).
وقمتُ بذلك، وعلمت فيما بعد أنّ السّوفيات أبلغوها للقيادة العسكريّة المصريّة وطبعاً علمتْ القيادة السّياسيّة بذلك.
وقد أرسلتُ إلى القاهرة برقيّة عقب سماعي بخبر الحشود فوراً، ولكني أضفت إليها هذه الفقرة: "وقد ترون عرض الموضوع على الأمم المتّحدة…" وذلك لخوفي أن ننجرّ إلى حرب".
ويستطردُ الدكتور مراد غالب: "ثم قام الفريق فوزي ومعه مستشاروه العسكريّون بزيارة سوريا. وزار هو والقيادة العسكريّة السّوريّة الجبهة بطائرة هليكوبتر، وعادوا يؤكّدون أنّه لا توجد حشود على سوريا.
وأبلغت الماريشال غريتشكو بنتيجة الزّيارة فأكّد أنّ هناك حشوداً إسرائيليّة على وجه اليقين(!)، وأنهم يعلمون تفاصيلها حتى أسماء قادة الألوية، بل وأسماء قادة الكتائب، وقال إنه يتعجّب من كلام الفريق فوزي (!).
ثمّ تداعت الأحداث كما هو معروف، وحشدنا قوتنا المسلّحة على الحدود، واستدعينا مائة ألف من الاحتياطي، ووصل الموقف إلى منتهى التّوتر وأغلقنا مضيق تيران"
ويفسّر السّفير مراد غالب هذا التناقض في المعلومات، بأنّ المعلومات الّتي وصلت بهذه الدّقّة إلى السّوفيات قد سرّبها الإسرائيليّون عمداً للتّمويه الاستراتيجيّ على أهداف وحشود إسرائيل. كما ذهب السّفير مراد غالب إلى القول: "بأنّ السّوفيات قد أبلغوه بأنّ لهم رجالاً داخل مجلس الوزراء الإسرائيليّ، مما سبق يتضح احتمال أن يكون هؤلاء قد سرّبوا هذه المعلومات عمداً لصرف الأنظار بعيداً عمّا يجري التّرتيب له على الجبهة المصريّة". (مراد غالب، مع عبد النّاصر والسّادات. سنوات الانتصار وأيّام المحن، 121).
إسرائيل مريضة بسوريا!
والواقع أنّ التّفسيرين غير صحيحين على ضوء ما كشفت عنه الوثائق الإسرائيليّة الجديدة، وما يقول به منطق الوقائع.
ولقد حاول الأستاذ محمد حسنين هيكل تفسير واقعة الحشود الإسرائيليّة معتمداً على تفسيرات الأستاذ آفي شلايم في كتابه "الحائط الحديديّ".
ويعتمد هيكل فيها على اعترافات متأخّرة لموشيه ديان عن استفزازات متعمّدة لسوريا في ذلك الوقت، بهدف توريط عبد النّاصر بالوقوف مع سوريا والدّخول في حرب يتم فيها اصطياد عبد النّاصر وفق خطة إسرائيليّة – أميركيّة سابقة تُعرف باسم "خطّة اصطياد الدّيك الرّوميّ". وقد ذكر الأستاذ هيكل هذه الوثائق الجديدة في كتابه "عام من الأزمات" 2000- 2001.
أولاً: إنّ الوثائق الإسرائيليّة الّتي تمّ الكشف عنها في كتاب "الحائط الحديدي" لآفي شلايم تكشف اعترافات متأخّرة لموشي ديان لاستفزاز سوريا.
ثانياً: إنّ إبلاغ السّوفيات لمصر بمعلوماتهم عن الحشود الإسرائيليّة ألقى مهمّة التأكّد من صحّة هذه المعلومات على عاتق الجانب المصريّ، الّذي أصبح حرَّ التّصرّف في المعلومات الّتي حصل عليها والتحقّق منها بالتّأكيد أو النّفي.
ثالثاً: إنّ وقائع المحادثات بين السّوفيات ووزير الحربيّة شمس بدران الّتي تمّت على جلستين، الأولى في 26 مايو والثانية في 27 مايو، تظهر بوضوح تحذيرات السّوفيات لمصر بعدم التّورّط في حرب مع إسرائيل رغم كلّ المعلومات الاستخباراتية للسّوفيات بوجود حشود إسرائيليّة ونيّة للقيام بهجوم شامل ضدّ مصر وسوريا!
ومن المفيد هنا ذكر نصّ – تلخيص – المحادثات الّتي تمّت بين الوفد المصريّ برئاسة وزير الحربيّة – آنذاك – شمس بدران، ورئيس الوزراء السّوفياتيّ إليكسي كوسيجين. فمدلولات الألفاظ واضحة، حسب ما جاء في مذكّرات السّيّد أمين هويدي الّذي تولى منصب وزير الحربيّة ورئيس المخابرات في أعقاب الهزيمة.
يقول أمين هويدي: "… "لخّص" أليكسي كوسيجين رئيس الوزراء السّوفياتيّ الموقف السّوفياتيّ في العبارات التّالية:
"عندما حشدت إسرائيل قوّاتها ضدّ سوريا أبلغناكم بذلك، وكانت المعلومات صريحة وأظهرت الحوادث سلامة سياسة الجمهورية العربيّة المتّحدة، مما دفع بالأنظمة العربيّة الرّجعيّة إلى تأييد إجراءتكم خوفاً من الرأي العام، فالشّعوب حلفاؤكم وليس الحكومات".
ويستطرد كوسيجين: "معلوماتنا تؤكّد وجود نشاط كبير في إسرائيل، وقد تقوم بعمليّات عسكريّة في نهاية أيار/مايو فهم يجهّزون لتوجيه ضربة (؟!) والمعروف أنّه عندما تنشب العمليّات العسكريّة صعب على العالم معرفة من بدأها. وأنا أفهم وجهة نظر عبد النّاصر هي أن يزداد التّوتر على الحدود، ولكن بصورة لا تؤدّي إلى عمليّات عسكريّة، فقد حصلتم على كلّ ما تريدون… ونحن نرى الاكتفاء بما وصلتم إليه: انسحاب قوّات الطوارئ وسيطرتكم على الخليج، قواتكم في غزة، ماذا تريدون أكثر؟ ولكنّ العدو لن يوافق على إغلاق الخليج تماماً".
ثم يضيف كوسيجين بوضوح حسب محضر الجلسة: "نحن نعتبر النّقاش حول الطّاولة مفضّلاً على المعارك الحربيّة مع إظهار القوّة.
فإذا قبلتم هذه الأفكار تكون أفكارنا متطابقة.
وبخصوص طلباتكم العسكريّة قدّموها لوزير دفاعنا، ولكن هذه الأمور يجب ألّا تساعد على الحرب، لأنّ عدم قيام حرب في مصلحتكم والمعلومات الّتي وصلتنا اليوم تقول إن هناك داخل اسرائيل من يدعو إلى عمليّات عسكريّة حتّى بعد زيارة يوثانت.
إنّ تأجيل المشكلة ليس في مصلحة إسرائيل، وسوف يشترك ديان في العمليّات… وهم يقيمون خنادق في تل أبيب ويعزّزون الدّفاع الجويّ.
لا بدّ من التّصرّف العاقل والتفكير البارد، ولا نعطي فرصة للاستفزازات، وسنجتمع في مكتبي السّاعة العاشرة صباحاً لنستمع إلى وزيرنا للدّفاع"". ( نقلاً عن كتاب أمين هويدي، حرب 1967، أسرار وخبايا، المكتب المصريّ الحديث، صفحة 67).
واضحٌ – أولاً – من نصّ الجلسة يقين السّوفيات وتأكّدهم من معلوماتهم عن نيّة إسرائيل واستعداداتها لبدء عمليّات عسكريّة.
وواضح – ثانياً – من هذه الجلسة "تفهّم" السّوفيات مناورة عبد النّاصر التّكتيكيّة في تصعيد الموقف من دون الدّخول في حرب عسكريّة والاكتفاء بالمكاسب "التّكتيكيّة" في قول كوسيجين: "لقد تمّ سحب قوات الطّوارئ والسّيطرة على خليج العقبة… وماذا تريدون أكثر؟".
وواضح ثالثاً أنّ السّوفيات لا يريدون الوصول بالأزمة إلى حالة الحرب، لأنّها كما قال كوسيجين بوضوح: "ليست في مصلحتكم" (!).
وواضح – رابعاً – من النّص أنّ السّوفيات قد قبلوا بمطالب مصر العسكريّة من حيث المبدأ، وأنّه سيتم عرض هذه المطالب على وزير الدّفاع السّوفياتيّ.
الجلسة الثّانية من المباحثات مع السّوفيات
إذا انتقلنا إلى الجلسة الثّانية المنعقدة في اليوم التّالي 27 مايو 1967، فقد انعقدت في موعدها المحدّد في مقرّ رئاسة السّوفيات، بحضور وزير الدّفاع السّوفياتيّ الماريشال غريتشكو، سنجد في نصوصها ممّا قاله السّوفيات لوزير الحربيّة المصريّ شمس بدران الآتي:
1- "بعثنا رسالة إلى رئيس وزراء إسرائيل نحذّرهم من بدء العدوان. وسنرسل اليوم رسالة إلى رئيس الولايات المتّحدة الأميركية متضمّنة رأينا بأنّ مساعداتها لإسرائيل تزيد من حدّة التّوتر، وسنخبره بأنّه إذا قامت إسرائيل بالعدوان فإنّ الولايات المتّحدة ستكون في نظرنا هي المعتدية.
وسنؤكّد أن عواطفنا مع العرب… وسنرسل رسالة أيضاً إلى بريطانيا لتوضيح موقفنا".
2 – "قسّمنا طلباتكم من الأسلحة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول الخاصّ بالعقود المفروض تنفيذها عام 1968 سيتمّ شحنها كلّها تقريباً في تموز وآب (يوليو وأغسطس) هذا العام (أي 1967).
أمّا القسم الثّاني والخاصّ بالطلبات الجديدة، فقد صدرت التّعليمات بسحبها من مخازن الوزارة وشحنها فوراً (!).
أمّا بالنّسبة إلى القسم الثّالث فقد اتصلنا بالمصانع وسنخطركم بالقرار خلال عشرين يوماً.
هذا بخلاف موافقتنا – بناء على طلب الرّئيس ناصر – على إمدادكم بـ 40 طائرة ميج، 100 مصفّحة، كما قرّر المكتب السّياسيّ في اجتماعه أمس تخفيض السّعر إلى 50% بسبب الظّروف الحاليّة". (كان المتبع دفع ثلثي ثمن الأسلحة على عشر سنوات بفائدة 2%).
3- "إن إمدادات الأسلحة لكم ولسوريا هدفها ألّا يحدث اشتباك مسلّح، لأنّنا نريد السّلام من خلال القوّة، وقد وصلت برقية الآن من سفيرنا في تل أبيب عن مقابلته مع اشكول، والّتي أكّد فيها رئيس وزراء إسرائيل أنّهم لا يسعون إلى الحرب وأنّ واشنطن تدعوهم إلى التّحفّظ".
***
واضح من هذه الجلسة – أولاً – استجابة السّوفيات للطلبات المصريّة و"كرمهم" في التّعامل مع طلبات وزير الحربيّة المصريّ شمس بدران. فالعقود الّتي تمّ الاتفاق عليها مسبقاً تمّ الإسراع في تنفيذها لتصل إلى مصر خلال يوليو وأغسطس. أمّا الطلبات الجديدة "فسيتم سحبها من المخازن وشحنها فوراً". والطلبات الأخرى سيتم الاتصال بالمصانع وإخطار مصر بالموقف خلال عشرين يوماً.
وواضح – ثانياً – أن السوفيات لا يريدون الوصول إلى نقطة الحرب، وأنّهم لا يشجعون على الصّدام بل ويحذّرون من الاعتقاد أن موافقتهم على طلبات السّلاح وتنفيذها تعني موافقتهم على الحرب والصّدام.
إنّ تحذيرات إلكسي كوسيجين الواضحة والصّريحة لم تؤخذ على محمل الجدّ من الجانب المصريّ.
وهنا يهمّني أن أثبّت بعض الملاحظات في ما يخصّ موقف السّوفيات:
أولاً: إن القادة العسكريّين المصريّين الّذين تمّت محاكتمهم بعد الهزيمة (عبد الحكيم عامر، شمس بدران، صلاح نصر، عبد المحسن مرتجي، أنور القاضي وغيرهم) حاولوا إلصاق تهم متعدّدة بالسّوفيات مفادها: تضليل مصر في ما يخصّ الحشود الإسرائيليّة على سوريا واستعداداتها العسكريّة.
ثانياً: إنّ الوثائق الإسرائيليّة الجديدة أوضحت بجلاء خطط الخداع الاستراتيجيّ التي قامت بها إسرائيل في الجولان بهدف توريط عبد الناصر والعرب في الحرب.
وهو ما لا يدع مجالاً للشكّ – في صحة المعلومات الاستخباراتيّة الّتي حصل عليها السّوفيات، والّتي تمّ نقلها فوراً إلى الجانبين المصري والسوري.
ثالثاً: إنه رغم عدم اقتناع السّوفيات بتصعيد التّوتر إلى حدّ الحرب والصّدام، إلّا أنهم انصاعوا للرّغبة العربيّة، المصريّة بالذّات، في التّصعيد للحصول على مكاسب "تكتيكيّة" (سحب قوّات الطّوارئ والسّيطرة على الخليج).
ولكنّهم في الوقت ذاته يحذّرون من المضيّ أكثر من ذلك (فالحرب ليست في مصلحتكم!).
والسّؤال المهمّ: هل كان يعلم السّوفيات بهشاشة الاستعدادات العربية لحرب "جديّة" مع إسرائيل؟ هل أرادوا تجنيب العرب وتجنيب أنفسهم هزيمة النّظامين الحليفين لهم في المنطقة، مصر وسوريا، بالتحذيرات الواضحة من الحرب؟!
أعتقد أن السوفيات لم يكونوا بعيدين – استخباراتيّاً وسياسيّاً – عن الأوضاع "المنفلتة والمنفلشة" في الجيشين المصريّ والسّوريّ!
الطّريق إلى الهزيمة
أما بقيّة قصة السّوفيات مع الوزير شمس بدران، فيذكرها أمين هويدي الّذي تولى منصب وزير الحربيّة بعد الهزيمة العسكريّة في كتابه "خمسون عاماً في العواصف" وفي كتابه "حرب 1967 ". حيث نراه يقول:" إن صورة محضر الاجتماع بين الوزير شمس بدران ورئيس الوزراء السّوفياتي إليكسي كوسيجين تمّ إرسالها إلى الرّئيس عبد النّاصر… ولكنّه لم يقرأها إلا بعد انتهاء الحرب لأنّ وقته لم يسمح إلا بالاستماع إلى تقرير شفويّ من الوزير شمس الّذي كان متأثّراً إلى حدّ كبير بحديث عابر للمارشال غريتشكو أثناء توديعه في المطار… إذ قال له وهو على سلّم الطّائرة في طريق العودة: "على العموم أساطيلنا تحت أمركم" علماً بأنّ حديث غريتشكو لم يكن إلّا "حديث طريق" لرفع الرّوح المعنويّة للوزير وهو يغادر موسكو، حسبما قال المارشال السّوفياتي بنفسه للسّفير مراد غالب حينما سأله عن معنى ما قاله للوزير المصريّ".
ويضيف هويدي: "ويبدو أنّ الرّئيس عبد النّاصر صدق ما نقله إليه الوزير لأنّه قال لأعضاء مجلس الأمّة يوم 30/05/1967 حينما اجتمع معهم في قصر القبة ليبلغوه بقرار مجلس الأمّة "تفويضه" بقرار الحرب.
ويقول هويدي ولقد استمع مجلس الوزراء – وقد كنت عضواً فيه( وزير دولة لشؤون مجلس الوزراء) – إلى بيان وزير الحربية شمس بدران عرض فيه بعض الخرائط الّتي سارع بعض الضباط إلى وضعها على لوحات معدّة من قبل… وهو يبتسم ابتسامة لا تتّفق مع خطورة الاجتماع والأوضاع (يقصد الوزير شمس بدران). ( نقلاً عن أمين هويدي. حرب 1967، ص 70
ويهمّني هنا أن يطالع القارئ بنفسه ما كتبه الوزير أمين هويدي عن وقائع جلسة مجلس الوزراء الّتي نوقش فيها موضوع الحرب تفصيليّاً. وفي رأيي أنّ وقائع تلك الجلسة كانت غريبة، لأنّها تُبيّن بوضوح طريقة اتّخاذ القرار في الدولة. يقول هويدي: "… وكان البيان (يقصد بيان وزير الحربيّة في اجتماع مجلس الوزراء) يؤكد الثّقة بالنفس وبالقدرة القتالية… وحينما أبديت – بصفتي وزيراً للدّولة لشؤون مجلس الوزراء – قلقي من الأوضاع المحليّة والعربيّة، ومن احتمال تدخّل الأساطيل الموّزعة في المنطقة، ردّ وزير الحربيّة – بنفس الابتسامة والثقة – "إذا تدخّل الأسطول الأميركي فنحن كفيلون به (!)".
وانتهى اجتماع مجلس الوزراء من دون اعتراضات من أحد". ( هويدي، حرب 1967…).
بدران يشرح خطّة الهجوم في موسكو
إن قصة لقاءات وزير الحربيّة المصريّ شمس بدران في موسكو وسلوكه العامّ تستحقّ السّرد بشيء من التّفصيل، لأنّها تنمّ عن العقليّة الّتي ميّزت عبد الحكيم عامر ورجاله، وتشي بالدّرجة العالية من الاستهتار والغرور الّتي ميّزتهم.
فشمس بدران هو أحد رجال عبد الحكيم عامر والتالي له في المسؤولية.
ويصف الدكتور مراد غالب وقائع هذه اللقاءات بما يدعو إلى الدهشة. إذ نراه يقول: "كان شمس بدران الرّجل الثّاني في القوّات المسلّحة بعد المشير عامر… ومن أقرب العسكريين إليه. وقبل حرب يونيو بعشرة أيام، جاء شمس بدران إلى موسكو، وكان وزيراً للحربيّة في زيارة للاتّحاد السّوفياتي، ليشرح الموقف السّياسيّ والعسكريّ المتوتّر في المنطقة للقيادة السّوفياتية. طلب شمس أن يكون لقاؤه مع الزعماء السّوفيات على انفراد، على أن أكون معه فقط كطلب المشير عبد الحكيم عامر.(!)
وكان أول لقاء مع الماريشال غريتشكو وزير الدّفاع. وقد قابله عند وصوله إلى المطار، ثم قابله في مكتبه في وزارة الدّفاع السّوفياتية مقابلة رسميّة أولى. وسأله الماريشال غريتشكو عمّا سيقوله لرئيس الوزراء كوسيجين في لقائه معه… ورد شمس بدران بكلام بعيد عن حدود اللياقة إذ قال له: لو أنّي أبلغتك بما سأقوله لكوسيجين فم الذي سوف أقوله له عندما أقابله؟ (!)
وامتعض غريتشكو (!).
ولكنّه انتقل بالكلام إلى سؤاله: إذن هل أغلقتم مضيق تيران؟
وردّ عليه شمس بدران: نعم أغلقناه (وعقب اللقاء أبلغني شمس بدران أنّنا لم نغلق المضيق حتى الآن !).
قال غريتشكو: لأفترض أنّ سفينة إسرائيليّة أرادت المرور من المضيق؟
قال شمس: سوف نوقفها.
فعاد غريتشكو للسّؤال: وإذا كانت تابعة لأيّ دولة أخرى؟
أجابه شمس: سنقف بكلّ حزم ولن نسمح لها بالمرور.
قال غريتشكو: افترض أنّ سفناً حربية أميركية هي الّتي جاءت؟
أجابه شمس: سننذرها بأنّ المضيق مغلق وأنّها لا تستطيع المرور.
وراح غريتشكو يهزّ رأسه مستنكراً هذا الكلام. (!).
لكنّه كان يتمتع بصبر أيوب، لأنّني أنا أيضاً أصابتني دهشة بالغة من هذا الكلام".
"ثم ذهبنا لمقابلة كوسيجين". وهنا يروي السّفير مراد غالب جانباً آخر من الحوار بين رئيس الوزراء ووزير الحربيّة المصريّ وانطباعاته الشّخصيّة عن الحوار. قائلاً: "… راح شمس بدران يشرح وضع الحشود المصريّة على الحدود الإسرائيليّة، وشرح بإسهاب أنّ الخطّة المصريّة هي خطّة هجوميّة (!)
وقال إنّ القوّات المصريّة ستنقسم إلى ثلاث شعب تتجه شمالاً إلى تل أبيب. وشعبة في الوسط إلى بير سبع. والشعبة الرابعة ستذهب في اتجاه إيلات (!)
وبعد شرح الخطّة تفصيليّاً ردّ كوسيجين وقال ما يأتي بالحرف الواحد: "نحن نعتقد أنّ الموقف في منتهى الخطورة… وأن مواجهة قوّات مسلّحة بهذا الحجم وبهذا التّسليح على جانبي الحدود، قد تؤدّي إلى حرب وعمليّات عسكريّة بين الجانبين. وفي هذه الحالة لا يستطيع أيّ طرف منهما الادّعاء بأنّه لم يبدأ الحرب، لأنّ أيّ شرارة معناها الحرب، وعليكم أن تضعوا هذا في حسابكم".
وبعد أن شرح كوسيجين خطورة الموقف، وجّه إلى شمس بدران مباشرة أسئلة يطلب الإجابة عليها وهي:
هل في حساباتكم أنّ الأردن لن يدخل الحرب؟
فردّ عليه شمس بعدم اكتراث : لا… لا… لم نضع في حساباتنا أنّ الأردن سيدخل الحرب.
وهل في حساباتكم أن سوريا غير جاهزة ولن تدخل الحرب؟ (!)
فقال بدران: لا… لا… ليس في حساباتنا مطلقاً دخول سوريا. ونحن أبعدنا من حساباتنا الأردن وسوريا(!).
وجاء السّؤال المهمّ جداً – يقول مراد غالب – وأعتقد أن شمس لم يفهم معناه.
سأل كوسيجين: هل في حساباتكم أنّ الولايات المتّحدة قد تتدخّل في هذه الحرب؟
ويقول مراد غالب: "إن المعنى الّذي يعكسه السّؤال أنّ الاتّحاد السّوفياتي لن يتدخّل في الحرب".
فقال شمس بدران: إنّ هذا سوف يجعل العالم كلّه يرى أمامه دولة عظمى تضرب دولة من دول العالم الثّالث.
ويقول مراد غالب: "ولقد تعجّبت من ردود وزير حربيّة مصر، وظهر التعجّب أيضاً على وجه رئيس وزراء الاتّحاد السّوفياتي".
وقال كوسيجين لبدران: عليكم تهدئة الموقف على الحدود.
وعاد كوسيجين يكرّر أن الموقف في غاية الخطورة وينذر بحرب واسعة النّطاق في الشّرق الأوسط، وأنّ حشد قواتكم المسلّحة على حدود إسرائيل جعلها تردّد أنّها لا تريد الحرب وأنّها تريد السّلام وأنّها أيضاً لا تريد الهجوم على سوريا. كما أنّكم أبعدتم قوات الطّوارئ الدّوليّة عن الحدود عند خليج العقبة ومضيق تيران وهذا يعني أنّكم أنقذتم سوريا وأخفتم إسرائيل.
وأضاف كوسيجين: من ناحية أخرى فقد حقّقتم مكسباً يتمثل في التخلّص من آخر بقايا حرب 56 بإخراج قوّات الطّوارئ الدّوليّة من على حدودكم وعليكم أن تحافظوا على هذه المكاسب.
أما كيف تحافظون عليها، فهذا يستلزم أن تعملوا على تهدئة الموقف على الحدود مع إسرائيل، وأيضا الموقف بصفة عامّة في المنطقة، ولا بدّ أن تتّخذوا خطوات عمليّة تثبت أنّكم لا تريدون حرباً فعلاً".
وكان معنى كلام كوسيجين – كما يقول مراد غالب – أن تُسحب القوّات وإن لم يقل هذا صراحة.
بعد ذلك عُقدت الجلسة الثّانية من المباحثات لمناقشة طلبات مصر فأحاله كوسيجين إلى المارشال غريتشكو.
ثم وصلت في آخر يوم لإقامة شمس بدران في موسكو برقيّة من القيادة العسكريّة في القاهرة تطالب بتسليح فرقة دبابات، وفرقة مشاة مصفّحة ومدفعيّة وطلبات أخرى كثيرة
ويقول مراد غالب: "ومن جانبي تعجّبت من أنّ حرباً توشك أن تنشب بعد أيّام قليلة، ونطلب الآن هذه الأسلحة الّتي تحتاج إلى وقت لجمعها وتوصيلها، ثم التدريب عليها، وتساءلت هل القاهرة تنتظر حرباً أو لا تنتظر؟ (!).
ولم تنته شهادة السّفير المصري الدكتور مراد غالب عن "عجائب" شمس بدران في موسكو.
"بالشبشب" في حضرة الماريشال!
يضيف السّفير مراد غالب أحد غرائب هذه الزيارة فيقول: "وفي صباح اليوم التّالي وصل الماريشال غريتشكو إلى دار الضّيافة الّتي يقيم بها شمس بدران. وكان غريتشكو مرتدياً زيّه الرّسميّ العسكريّ مرصّعاً بكلّ نياشينه. فقد كان بطلاً من أبطال الحرب العالميّة الثّانية
ولم يكن شمس بدران في استقبال غريتشكو. فانتظر هذا الأخير حتى نزل شمس بدران من الطّابق الثّاني" (!).
ويقول مراد غالب: "ثمّ وجدنا وزير حربيّة مصر ينزل من الطّابق الثّاني مرتدياً القميص والبنطلون ومنتعلاً "شبشباً" في قدميه. (مراد غالب. مع عبد النّاصر والسّادات، مركز الأهرام للتّرجمة والنّشر, ص 106).
وهكذا قابل شمس بدران الرجل المسؤول عن الحرب في مصر، بطل الاتّحاد السّوفياتي في الحرب العالمية الثانية الماريشال غريتشكو بالشبشب!
وفي هذه المقابلة العجيبة، قدّم شمس بدران قائمة الطّلبات التي وصلت برقيتها من القاهرة.
ملاحظتنا حول شهادة السّيد أمين هويدي:
1- أن الأستاذ أمين هويدي "يعترف" صراحة بعدم وجود أيّ اعتراض من وزراء عبد النّاصر على كلام شمس بدران. ورغم أنّ الأستاذ أمين هويدي رجل عسكريّ وخبير استراتيجيّ متميّز وعضو في مجلس الوزراء، وكان موضع ثقة الرّئيس عبد النّاصر، فقد عيّنه وزيراً للحربيّة ومديراً لجهاز المخابرات خلفاً لشمس بدران وصلاح نصر.
2- أنه ينسب لنفسه: أنّه الوحيد الّذي سأل عن احتمال تدخّل الأساطيل الأميركية في الحرب. وهو ما يعني أنّ "قرار" الحرب كان مُجمعاً عليه من كلّ الحاضرين. وأنّ القضية الّتي أثارت اهتمام هويدي هي احتمال تدخل الأساطيل الأميركيّة.
وإضافة إلى كلّ ما سبق، فإن الوزير أمين هويدي وجّه في مذكراته اتهامات صريحة بالتّقصير في الاستعداد للحرب لكلّ من الفريقين محمد فوزي – رئيس الأركان آنذاك – ومحمد أحمد صادق مدير المخابرات الحربيّة وغيرهما. وهي اتّهامات صريحة بالإهمال وإخفاء تفاصيل الوضع عن القيادة السّياسيّة.
في المقابل لا نلمح في مذكّراته أيّ سؤال أو تساؤل عن مدى جاهزيّة واستعداديّة القوّات المسلّحة للدّخول في حرب مع إسرائيل – حتى بدون تدخل الأساطيل الأميركيّة؟!
إنّ الوزير هويدي لا يذكر في مذكّراته الصّريحة والجريئة أيّ مناقشة تفصيليّة عن "جاهزيّة القوّات" للدخّول في حرب فعلية؟!
ولأنّه رجل عسكريّ رفيع المستوى والفكر، ولأنّه خبير استراتيجيّ متميّز، ولأنّه الوحيد الّذي سمح لنفسه "انتقاد" هؤلاء الّذين "صمتوا" ولم يناقشوا بيان وزير الحربيّة شمس بدران… أتساءل: ولماذا لم يُناقش الوزير أمين هويدي هذه القضية، أي مسألة "جاهزيّة وقدرة القوّات واستعدادها لخوض الحرب" ما دامت الأمور كانت تسيرب اتجاه الحرب والصّدام؟!
ولأنّه ليس بحوزتنا محضر اجتماع مجلس الوزراء المشار إليه، فيتعذّر علينا الحكم على مواقف الأشخاص خلال الأزمة، ولكن نذكر سريعاً الملاحظات التّالية:
الأولى: إنّ قنوات الاتصال بالقيادة السياسية، وهو الوزير شمس بدران، نقل معلومات مضلّلة للرّئيس جمال عبد النّاصر في مسألة حسّاسة حول موقف السّوفيات من الحرب.
الثانية: إنّ محضر اللقاءات مع السّوفيات لم يصل إلى رئيس الجمهوريّة إلا بعد نشوب الحرب؟!
الثالثة: إنّ الأجهزة الاستخباراتيّة المنوط بها التحقّق من المعلومات على الجبهة مع إسرائيل، في سوريا ومصر، لم تقم بواجبها وأهملت واجباتها الأساسية.
والسيد أمين هويدي نفسه يعترف بذلك صراحة حين يقول: "كان الأجدر بدول المواجهة – يقصد مصر وسوريا – أن تتأكّد بنفسها من صحّة المعلومات الّتي تُنقل إليها من خلال أجهزتها القائمة، والّتي ثبت أنّ حصيلتها من المعلومات عن إسرائيل قبل الحرب كانت في غاية التّواضع، لأنّها ربّما كانت مشغولة بأمور أخرى تهمّ "التّأمين الذّاتيّ" لبقاء النّظام أكثر مما تهتمّ بالأمن القوميّ للبلاد"!
ولا أدري كيف يمكن حماية أمن نظام ما إذا كان الأمن القوميّ للبلد فيه ثغرات وفجوات تتّسع ولا تسترعي اهتمام الأجهزة المعنيّة بالأمن القوميّ للبلد!
الرابعة: إنّ صنع القرار كان يعتمد على شخص واحد، هو الرّئيس عبد النّاصر نفسه.
يقول الأستاذ هويدي في مذكّراته: "… وهكذا لم تكن التّحرّكات قبل اليوم تحرّكات "فردية" من عبد النّاصر.. بل كان الكلّ يشاركون فيها: (أعضاء الّلجنة التّنفيذيّة والوزارة ومجلس الأمة والمؤسّسة العسكريّة والرأي العام) كان الكلّ متحمّساً وموافقاً من دون اعتراض!!! (علامات التعجّب من عند الأستاذ هويدي) يعني كان التّحرّك جماعياً على المستوى القطري، ثم شارك بعض الملوك والرؤساء العرب ووافقوا، ويا ليت الأصوات ارتفعت لتحذّر أو تعارض، وقد كان هذا كفيلاً بإعادة الحسابات…".
براءة الاتّحاد السّوفياتي
من هذا السّياق – يبدو – الاتّحاد السّوفياتي هو الوحيد الذي حذّر وعارض بوضوح وصراحة قيام الحرب – بحسب الوقائع التي ذكرها مراد غالب وأمين هويدي.
فالأستاذ أمين هويدي نفسه يقول بوضوح: "… إنّ الاتّحاد السّوفياتي هو الّذي كان ينصح دائماً بتهدئة الموقف، وليس له مصلحة في وضع العرب في مأزق يؤدي بالقطع إلى تآكل مصالحه في حال هزيمتهم، لأنّ الهزيمة العربيّة كادت تعصف بالترويكا السّوفياتية الحاكمة في ذلك الوقت، لأن الشّعب السّوفياتي لم يقبل أن يهزم السّلاح السّوفياتي الذي لدى العرب أمام السّلاح الأميركي الّذي كان لدى إسرائيل. وقد لمستُ ذلك بنفسي بعد نهاية الحرب، حينما ذهبت إلى الاتّحاد السّوفياتي كوزير للحربيّة.. وتمثّل ذلك في قلقهم واهتمامهم الزائد". (أمين هويدي، حرب 1967، 71).
وكان هذا فصلاً حزيناً من دراما يونيو/ حزيران 1967.
(2)
إسرائيل… خمسون عاماً بعد يونيو/ حزيران 1967 !
"الحرب هي اختبار لجميع قوى الأمّة من اقتصاديّة وتنظيميّة"
المؤرّخ العسكريّ "كلاوزفيتز"
***
1- عندما تنهزم كتلة بشريّة تعدادها أكثر من مئة مليون أمام كتلة أخرى تعدادها حوالى مليونين ونصف، فينبغي ألّا نقف عند حدود ما يمكن تسميته بالخطأ أو القدر أو المؤامرة "الإمبرياليّة"، رغم وجود مثل هذه العناصر في أيّ صراع بشريّ، سياسيّاً كان أو عسكريّاً.
2- لذلك لا يمكن النّظر إلى هزيمة يونيو/ حزيران 1967 باعتبارها مجرّد هزيمة عسكريّة لجيوش عربيّة في لحظة من لحظات التاريخ. فالحرب ـــ أيّ حرب كانت ـــ اختبارٌ حقيقيٌّ لقدرة المجتمع العربيّ على الخروج من حالة التخلّف التّاريخيّ الذي يرسف في أغلاله من قرون طويلة. لقد كانت الهزيمة هي أوّل تحدٍّ للمجتمع العربي المستقلّ حديثاً والخارج من كابوس الاستعمار والاحتلال.
كانت الهزيمة ـــ في جوهرها ـــ أعمق اختبار للمجتمع العربيّ التّقليديّ القبليّ الإقطاعيّ ــــ شبه المدنيّ أو المدنيّ المتريّف ــــ القائم على سيادة العلاقات الشّخصيّة والعائليّة والقبليّة والقطريّة… كلّها في آنٍ واحد.
فقد كشفت الهزيمة هشاشة الدّولة العصريّة القائمة والتي تحاول تشييدها نخب الاستقلال التي كانت أنجزت بنجاح ملحوظ مهمّة الاستقلال الوطنيّ وتحرير الوطن من الجيوش الأجنبيّة، ولكنّها بقيت على أعتاب بناء دولة المؤسسات والقانون والكفاءة الموضوعية، أو على الأقل، التّقدّم باتجاه هذه القيم الحديثة، قيم الثّورة على التخلّف والمحسوبيّة والعواطف والانفعالات…
3 – لقد وقعت حرب يونيو/ حزيران على العقل العربيّ "كالزّلزال"، وتركت توابع هذه الهزيمة الكارثيّة نفس الأثر الذي تتركه الزّلازل والكوارث الطّبيعيّة في الذّهن البشريّ من ذهول وتشتّت عقليّ. ذهول قد يستمرّ لفترات تطول أو تقصر، بقدر ما تختزن الطّاقة البشريّة من قدرات على تجاوز الانكسار واستجماع طاقات المقاومة والبقاء.
4 – ورغم مرور سنوات طويلة على هذه الحرب، إلّا أنّها تحتلّ مساحة متجدّدة من الاهتمام في الفكر السّياسيّ العربيّ، وما زالت رؤيتنا لوقائع هذه الهزيمة متجدّدة بفعل ظهور وثائق ووقائع جديدة لم تكن في حساباتنا.
إنّ الرّواية الحقيقيّة لظروف حرب 1967 تستقطب اهتماماً أوسع من الاهتمام الذي تستحوذه وقائع حرب أكتوبر عام 1973. وزاوية الرّؤية في الأولى ـــ أيّ حرب يونيو 1967 ــــ هي زاوية سياسيّة وتاريخيّة قبل أن تكون زاوية عسكريّة. وكثيراً ما كانت تصادفني دراسات ومذكرات لسياسيّين وخبراء عسكريّين، عرب وغربيين، يتناولون هذه الحرب بطرق مختلفة حسب مصالحهم وأهوائهم وأدوارهم وقت صناعة ۤالحدث.
5 – فالبعض وجد في انعدام الديمقراطية سبباً للهزيمة، بينما أرجعها البعض لأسباب طبقيّة محض تتمثّل في عدم راديكاليّة وجذريّة النّظام الناصريّ، وشاع في الأدبيّات اليساريّة تعبير "البورجوازيّة الصّغيرة".
لقد وجد البعض في هذا التعبير ضالّته لتفسير كلّ ظواهر العالم العربي، انكساراته المؤلمة ونجاحاته المؤقتة.
بينما وجد الآخرون ضالّتهم في تعبير براقٍ جديد: البيروقراطيّة العسكريّة!
وأخيراً، ظهرت دراسة أكاديميّة حديثة لباحثة من مصر تفسّر الهزيمة بغياب المعلومات عن نوايا الخصم واستعداداته وتسليحه، الأمر الّذي أدّى إلى الفشل التّام في التّعامل مع الأزمة (نكسة 67، مصر ومعضلة المعلومات، نورا محمد ماهر).
ولكن بعد أربعين عاماً من حرب عام 1967، أين نقف نحن العرب وأين تقف إسرائيل؟
كيف ننظر إلى هذه الحرب وكيف تنظر إليها إسرائيل بعد كلّ هذا الزّمن؟
***
خلال عامي 2007 و2008 ولمناسبة مرور أربعين عاماً على حرب يونيو/ حزيران، حدث أن أفرجت إسرائيل عن بعض وثائقها المتعلّقة بحروب 1948 و1967.
ومنذ ذلك التّاريخ وحتى الآن، نُشرت في إسرائيل عدة كتب تعتمد بشكل مباشر على ما تمّ الإفراج عنه في هذه الوثائق.
والحقيقة أنّ هذه الوثائق الإسرائيليّة بدأت بكشف الغموض عن بعض "الألغاز" المتعلّقة بهذه الحرب.
وهدف هذا المقال ليس تناول ما تمّ الكشف عنه من هذه الوثائق، وهو ما قد نفعله في مقال آخر.
هدفنا في هذا المقال هو قراءة جديدة في الكتابات والأدبيّات الإسرائيليّة المعاصرة المتعلّقة بحرب عام 67 وتأثيرها في المجتمع الإسرائيليّ بعد مضيّ كلّ هذه السّنين.
***
في يونيو 2007نشرت مجلّة "مختارات إسرائيليّة"، وهي مجلّة مصريّة متخصّصة في الشّؤون الإسرائيليّة، في عددها 151 الصادر في يوليو/ تموز 2007 مجموعة من المقالات لعدد من الكتّاب الإسرائيليّين في الذّكرى الأربعين لحرب يونيو/ جزيران 1967. وقد أدهشني ما كتبه المثقفون الإسرائيليون عن تأثير هذه الحرب في المجتمع الإسرائيليّ بعد مرور كلّ هذا الزمن.
وربما يكون من المفيد لنا ــــ نحن العرب ــــ أن نقرأ ما يكتبه الإسرائيليّون عن أنفسهم وعن رؤيتهم لنتائج تلك الحرب.
***
يونيو 1967… مصدر كلّ الشّرور!
كتبت شالوميت آلوني (وهي وزيرة سابقة وعضو في الكنيست) تحت عنوان "مصدر كلّ الشّرور" (والعنوان له إيحاءات شديدة) تقول:
" لم يكن بالإمكان منع وقوع حرب الأيام السّتة عام 1967 حيث أغلق الرئيس المصري مضائق تيران وأبعد القوّة الدّوليّة من سيناء وأدخل الجيش المصريّ شبه جزيرة سيناء. بينما وقفت الولايات المتّحدة والاتّحاد السوفياتي (سابقاً) موقف المتفرّج ولم يتدخّلا. كلّ هذه الأمور دفعت الجمهور الإسرائيليّ للإحساس بالعزلة والهلع والدّمار. وفور انتهاء اليوم الأول من المعارك، تخلّص الجمهور الإسرائيليّ فجأة من حالة التّوتر النّفسي والتّأهّب والخوف كما يندفع السّهم من القوس. وفي 5 يونيو بعد أن دمّر سلاح الجوّ الإسرائيليّ طائرات العدوّ، صاح عيزر فايتسمان الّذي كان آنذاك قائد شعبة العمليّات في الجيش الإسرائيليّ: "لقد انتصرنا!".
وتضيف آلوني: "لقد أدّى التحوّل النّفسيّ في الوعي العام من حالة الهلع من الدمار إلى السيطرة على أرض إسرائيل الكبرى وعلى سيناء وعلى مرتفعات الجولان، وإلى إحياء الأساطير الّتي حملها الشّعب اليهوديّ لآلاف السّنين، وتحكي عن قدوم المخلّص، وقد كانت لغةُ الحوار المتبادل في الشّارع الإسرائيليّ تتركز في مقولات من قبيل: ها هي بداية أيّام الخلاص! لقد تحقّق الوعد الإلهيّ لأبينا إبراهيم!
ولكنّ المشاكل السّياسيّة بدأت بعد نشوة النّصر الأولى، بعد التكالب على الأماكن المحتلّة من أجل مشاهدتها والتّعرف إليها وتملّكها، فنحن بصدد "الاحتلال".
إنّ الغطرسة والتّعالي أصابا الفكر بالشّلّل، وقد انفعل موشيه ديان الرّجل القويّ والمبجّل ومحبّ التّوراة آنذاك، وأثر في الجميع في إسرائيل بقوله: لقد عدنا إلى بيت الرّب وإلى "عناتوت" (موطن النبيّ آرميا).
بينما صرخ آخرون: ها قد عدنا إلى مدينة الآباء في الخليل وإلى قبر الأمّ راحيل في بيت لحم".
***
محتلّون: ورعون ومنافقون !
ثمّ تضيف شالوميت آلوني قائلة: "من دون الخوض في الحديث عن التّطوّرات التّاريخيّة لمعاملتنا للفلسطينيّين ولأطماعنا في الأراضي المحتلّة، فإنّ الحقيقة هي أنّنا تحوّلنا إلى شعب احتلاليّ، وغرسنا في الأذهان النّعرة القوميّة المتعالية والاستخفاف بالأطفال الّذين حوّلناهم في السنوات الأولى للاحتلال إلى سكان هضاب وحطّابين وسقاة ومنظفي أواني ودورات مياه وقائمين بأيّ عمل أسود وقذر مقابل أجر ضئيل وفي ظلّ غياب ظروف اجتماعيّة ملائمة. ومن أجل توسيع سيطرتنا على المناطق الفلسطينيّة اخترعنا مقولة "أراضي الدولة" الزائفة، كما لو كانت ملكاً لنا حقاً، لنا نحن المحتلين، وليس للشّعب الّذي يعيش عليها تحت نير الاحتلال، كما ينصّ القانون الدّوليّ، بل قمنا بالاستغلال التّعسفيّ والجشع لقوانين الطّوارئ الصّادرة في عصر الانتداب البريطاني عام 1945 بهدف مصادرة المزيد من الأراضي لمصلحة المستعمرين".
وتنهي شالوميت آلوني مقالها قائلة: "خلاصة القول: إنّ الاحتلال سبّب لنا انهياراً أخلاقياً ودعم المنظّمات المظلمة (كالشّاباك والموساد وغيرهما) وأفرز عبادة القوّة وسياسة الخداع والجحود. وذلك من أجل إخفاء حجم الجشع والاستثمارات الإسرائيليّة في المستعمرات في المناطق الفلسطينيّة المحتلّة عن أعين العالم. وبالتوازي مع ذلك، جاء الانهيار الأخلاقي للجهاز القضائي الذي سمح بالعقاب الجماعي والهدم الجماعي لمنازل الفلسطينيّين وطرد عائلات كاملة.
لقد أكثرنا من قتل المشبوهين بلا أدلّة ولا محاكمة، ومن الاغتيالات الجويّة للمطلوبين الفلسطينيّين ومن قتل السّكان المدنيّين، الأطفال والمسنين، لقد قمنا بتنمية الإحساس بالاستقواء المغلّف بالنّفاق عن طريق الاستعانة بيهود الولايات المتّحدة، وبالعلاقات العامة والضرب على وتر مشاعر الاتهام تجاهنا من قبل العالم المسيحي، كما لو أنّنا الضّحيّة المطاردة كما كنا في الماضي. لقد رسّخنا لدى العالم الاعتقاد بأنّنا الضّعفاء والمعرّضون للهجوم وأنّنا نستحقّ حدوداً آمنة وسلاماً، بينما نحن نصادر المزيد من أراضي الفلسطينيّين وأملاكهم ومصادر مياههم".
***
الأيدي الملطّخة بالدّم!
وتضيف آلوني في مقالها المنشور في الذكرى الأربعين لحرب يونيو/ حزيران 1967: "لقد كنّا نرغب في إقامة مجتمع مثاليّ هنا، ودولة مدنيّة ديمقراطيّة بموجب ميثاق الاستقلال، ولكنّنا في الواقع أقمنا جماعة كبيرة تنتمي إلى اليهوديّة الدّينيّة وتعيش على حسابنا ومعادية للدّيمقراطيّة "جمهور متعصّب أرثوذكسي" متمرّد على قوانين الدّولة يسيء معاملة الأطفال الفلسطينيّين، أناس خارجون على القانون يقرّرون مصيرهم بأنفسهم، عنصريون ويبثّون الرّعب في جميع أعضاء الحكومة في إسرائيل، نحن نعتقل ونسجن ونخطف مئات الفلسطينيّين بحجّة أنّ أيديهم ملطّخة بالدّماء، في حين لا نرى أيدينا نحن الملطّخة بالدّماء، وفي ضوء كلّ الاغتيالات الجويّة والبريّة، وكلّ أعمال القتل على أيدي الوحدات الخاصّة واستخدام القنابل العنقوديّة، فإن أيدي كلّ رئيس أركان إسرائيليّ وكلّ ضابط وجندي يخدم في الجيش ملطّخة بالدّم، يكفي عقد مقارنة بين عدد القتلى اليهود والفلسطينيّين في الانتفاضة الأولى وكذلك الثّانيّة حتى نرى مدى كوننا قتلة!
وتختم شالوميت آلوني مقالها بالقول: "ما حدث لنا منذ الانتصار العظيم في عام 1967 هو انحلال تربويّ واستخفاف بالتّعليم العالي والعلوم، وخصخصة الأملاك العامّة وبيعها بثمن زهيد لأصحاب رؤوس الأموال، وتنصّل الحكومة من أداء واجبها تجاه المستشفيات والسّجون ورعاية المسنين والتّنميّة الثّقافيّة والاجتماعيّة المدنيّة المناسبة… إلخ. وبدلاً من ذلك انتشرت ظواهر تأليه الجيش وحبّ المال والاستسلام للأصوليّين المستعمرين الذين لا يختلفون عن أيّ جماعة أصوليّة إسلاميّة كمجتمع مستنير وديمقراطيّ ومثقّف يعيش في سلام مع جيرانه" (مختارات إسرائيليّة… مركز الدّراسات السّياسيّة والاستراتيجيّة بالأهرام، العدد 151 يوليو/ تموز 2007).
***
أربعون عاماً كارثيّة!
ولعلّه من المفيد أن نرصد في هذا المقال تأثير حرب يونيو/ حزيران على بنية المجتمع الإسرائيليّ ومن خلال الكتابات الإسرائيليّة ذاتها.
فها هو المفكّر الإسرائيليّ ران كوهين يكتب في جريدة "معاريف" تحت عنوان "سنوات الإفساد": "من يعرف ويتذكّر إسرائيل قبل عام 1967، سيفرك عينيه بذهول وهو يتذكّر هذه الأيام. فقط 19 عاماً عشناها آنذاك صغاراً (يقصد من 1948 وحتى عام 1967) كنا عادلين وصالحين (الكاتب ينسى جرائم ما قبل وبعد إنشاء الدّولة عام 1948!) ولكنّه يضيف: "كنّا عادلين وصالحين، وها قد مرّت أربعون عاماً ونحن نشعر بأنّنا لا نعرف إسرائيل السّابقة، لقد خلّفت حرب الأيام السّتة التي بدأت كحرب دفاعيّة بامتياز وراءها نتائج وتداعيات أخذت في التضّخم والتعقّد، وكانت نهايتها مدمّرة لإسرائيل أكثر من أيّ حدث تاريخيّ آخر منذ إقامتها. الاحتلال الذي أعقب الحرب وبناء المستعمرات بوجه خاصّ، إنّهما الأمران اللذان دمّرا المجتمع الإسرائيليّ".
ورغم أن الكاتب يتبنى وجهة النّظر الإسرائيليّة في اعتبار الحرب كانت حرب دفاع مشروع عن النفس، إلا أنه يختتم مقاله قائلاً: "فوق كل هذا، تمثّل المستعمرات حجر العثرة الرئيسيّ أمام الخروج من الأزمة في الأربعين عاماً الماضيّة، إذ خلقت المستعمرات، خاصّة طريقة بنائها، التي كانت قائمة على استقواء حركة "جوش أمونيم" ومكر وخداع كلّ الهيئات القانونيّة وغضّ الطّرف من جانبها، واقعاً مشوّهاً وشجّعت التّطرّف المهووس والحالم الذي أبرز بذور شرور مرضيّة جديدة تباعاً، ومن بينها التّنظيم السّريّ اليهوديّ وتوابعه، وكذلك المسؤولية عن خلق المناخ الّذي أدى إلى اغتيال رابين، أثبت أنّ من الممكن بضغطة واحدة على الزّناد إسقاط حكومة منتخبة وتغيير مسارها. لقد خلق واقع المستعمرات الآخذة في الترسّخ أيضاً وضعاً يتكوّن من دولتين داخل دولة واحدة: دولة "المستعمرات" وفيها هيئة رفاه اجتماعيّ نشطة وقادرة ماديّاً وفيها خدمات عامّة لكلّ من يطلب (من اليهود بالطبع) وشبكة تشغيل وإسكان ودعم جماهيريّ ومنح وامتيازات. وفي النّاحية الأخرى دولة "إسرائيل" التي داخل الخطّ الأخضر الآخذة في "نحر" نفسها بالخصخصة والتّنازل عن كلّ ثراوتها وخدماتها العامّة وتعمل على تدهور وضع سكانها ومواطنيها".
يونيو 1967 سبب في إرهاب اليوم
يضيف ران كوهين قائلاً: "وثمة نتيجة مدمّرة أخرى للاحتلال، هي تشجيع التّطرّف الآخذ في الازدياد بين الجمهور الفلسطينيّ والشّعوب العربيّة. فالاحتلال هو الّذي أتى بحماس والجهاد الإسلامي وحزب الله، وأدّى إلى تطرّف بالغ في مواقفهم وعنفهم. إذن 40 عاماً من الاحتلال هي 40 عاماً كارثيّة على إسرائيل التي تستطيع فقط أن تحنّ إلى 19 سنة الخاصّة بإسرائيل الصّغيرة الّتي كانت أكثر يهوديّة وديموقراطيّة". (مختارات إسرائيلية، مصدر سابق).
هل كان يضع الّذين خطّطوا لحرب 1967 "في إسرائيل" كلّ هذه الشّرور في حسبانهم؟!
لا أظن.
قد يعترض البعض قائلاً: إن الموقف مختلف على الجبهتين: جبهة المنتصر وجبهة المهزوم. فلقد خسرنا في الحرب أراضي عربية شاسعة ودفعنا ثمن الهزيمة من كرامتنا. وبالتالي فمشاعر المهزوم تفوق في جرحها وآلامها مشاعر المنتصر.
لكن خارج نطاق المشاعر والعواطف، هل يمكن لمؤرّخ أو باحث أن يغمض عينيه عمّا حدث قبلها وبعدها من تداعيات، وما أحدثته من نتائج قصيرة الأمد وبعيدة المدى؟
***
ليس هكذا يبنون جيشاً!
إنّ كاتباً إسرائيليّاً آخر هو أماتسيا حين العقيد بالاحتياط يعبّر عن نفس المعاني التي عبّرت عنها شالوميت آلوني وران كوهين في مقاله في افتتاحيّة "يديعوت" يوم 17/09/2007 بعد هزيمة إسرائيل في حرب لبنان أمام حزب الله، إذ نراه يقول تحت عنوان "ليس هكذا يبنون جيشاً": "إذا كنتم تريدون فهم سبب ضعف الجيش الإسرائيليّ في حرب لبنان الثانيّة، فعليكم أن تعودوا بنظركم أربعة عقود إلى الوراء، وصولاً إلى حرب الأيام الستة عام 1967، من هناك بدأ الجيش الإسرائيليّ بالانزلاق في منحدر أملس. من جيش مكوّن من كلّ ما تقع عليه اليد في حرب الاستقلال، وصل الجيش الإسرائيليّ في حزيران 1967 إلى مستوى الجهاز المنظّم في صورة الجيش الحقيقيّ.
ولكنّ المزيج الهدّام من استغلال الانتصار لأهداف سياسيّة وشخصيّة، وقياسه بناء على محكّ ومعيار النتيجة، طمس الطابع المتهاوي في أداء الجيش في الحرب وحال دون استخلاص العبر حينئذ.
الانتصار في حرب حزيران 1967 شوّش عقل الأمّة بكاملها، إذ لم تدرك أنّ وتد الثّقافة الفرعيّة الإدارية والقيميّة قد دُقّ حينئذ وأخذ يؤثر في نشاط الجيش المتواصل حتى يومنا هذا.
لهذا لم يكن عبثاً أنّ أحداثاً خطيرة قد جرت بعد الحرب مثل فشل معركة الكرامة، قد اعتُبرت خللاً موقعيّاً عابراً".
ويضيف أماتسيا حين قائلاً: "البرهنة على هيمنة ما تحت ــــ الثّقافة هذا جاءت من خلال لجنة اغرانات التي حقّقت في أحداث حرب يوم الغفران 1973. أعضاء هذه اللجنة ركّزوا استخلاصاتهم على "فشل النّظريّة" وحرفوا أنظارهم عن العامل الحقيقي: تجاهل قادة الجيش الحاجة إلى إعداده للحرب "الدّفاعيّة".
عندما اندلعت حرب يوم الغفران 1973 فوجئ الجيش بعدم جاهزيّته لإدارة الدّفاع وفقد توازنه الأمر الّذي تمخّض عن آلاف القتلى والجرحى.
لو كان رئيس هيئة الأركان حينئذ، دافيد اليعيزر، يمتلك الفهم المهنيّ لأوضح لغولدا مئير عندما رُفض مطلبه بتوجيه ضربة مسبقة لاعتبارات سياسيّة، بأنّ الجيش غير جاهز للدّفاع، ولذلك ربما كان سيتسبّب في تغيير قرار رئيس الوزراء وتغيير نتائج الحرب كليّاً.
رغم الثّمن الفظيع الذي تسبّبت به تلك الحرب، إلّا أنّه لم يكن كافياً لاستخلاص العبر من ذلك.
بدلاً من تعلّم الدّروس الحقيقيّة صرفت إسرائيل مبالغ ضخمة على "إعادة بناء الجيش"، كلّها انطلاقاً من الشّعور الباطنيّ العاطفيّ ووفقاً لتعليمات رئيس هيئة الأركان آنذاك موطا غور الّذي فرض عليهم تجاهل الماضي (استخلاص العبر) وفتح صفحة جديدة.
هذه الخطوة كانت مدمّرة للجيش في دولة واقعة تحت الحصار.
***
هزائم عسكريّة بالجملة !
ويضيف مفسّراً الهزائم العسكريّة الإسرائيليّة بعد حرب يونيو 1967 قائلاً: "هذا هو السّبب وراء عودة نواقص حرب يوم الغفران 1973 بقوّة أكبر بعد ثماني سنوات في حرب سلامة الجليل (يقصد غزو لبنان عام 1982). وهكذا يستمرّ المسلسل الّذي يقوم كلّه على المشاعر الباطنيّة كبديل من الدّروس والعبر الحقيقيّة المستفادة، الأمر الذي تمخّض عن تكرار الإخفاقات في حرب لبنان الثّانية والدّليل على ذلك: الطريقة التي يتصرّف بها الجيش بعد الهزيمة في الحرب الأخيرة.
المعركة تتمركز حول التحقيقات المثيرة للاهتمام والتي تهدف إلى استيضاح ما حدث متجاهلة القضيّة الأهم بالفعل: لماذا حدث ذلك؟
على سبيل المثال في عملية التحقيق في ما حدث، اتضح أنه لم تُجرَ تدريبات بالدّرجة الكافية عشية شنّ الحرب الأخيرة، الأمر الّذي أدى إلى مضاعفة كميّة التّدريبات.
الحقائق من حروب الماضي تشير إلى عكس ذلك بالضبط. في تلك الحروب كانت التّدريبات قبل الحرب كبيرة، ولكن الفشل لم يكن متجسّداً بكميّة التّدريبات وإنما بطريقتها وبتقدير قوات الجيش الميدانيّة.
الدّليل على الفشل في تقدير القدرات يفوق كلّ مفارقات القرارات السّياسيّة الّتي ألزمت قبول تقديرات وتقييمات المستوى العسكريّ.
الجيش ضلّل المستوى السّياسيّ فيها كلّها:
ديان في عمليّة قاديش.
ورابين في حرب حزيران.
ودادو في حرب يوم الغفران.
ورافول في حرب سلامة الجليل.
وموفاز في الانسحاب الذي تحوّل إلى فرار من لبنان.
وحلوتس الذي شوّشت معطياته عقل الحكومة وعقله في الحرب الأخيرة. (حرب 2006).
أنا أوصي المواطن بأن يعترف بحقيقة أنّه لم يكن لإسرائيل أبداً جيش حقيقيّ(!)".
وينهي أماتسيا حين مقالته بالقول: "هذه هي الحقيقة الّتي غابت عن أنظار الجمهور بسبب عمليّات الوحدات الخاصّة النّوعيّة والأذرع العليا والتّكنولوجية المذهلة.
ولكن في كلّ الحروب برزت إخفاقات الجمع بين الذراع الجويّة والقوّات البريّة. والفشل أيضا بين الأذرع المختلفة من استخبارات وتكتيكات مختلفة وأداء سيئ للمنظومة اللوجستيّة".
وينهي مقاله قائلاً: "إنّه الفشل في التّنسيق والجمع بين الأذرع المختلفة بالتناسب الصحيح في المكان والزمان، وهو برهان على كون هذه الأذرع أجساماً منفصلة خلافاً للغاية منها، وهي بناء جيش حقيقيّ بكلّ معنى الكلمة". ("يديعوت"، مقال افتتاحي، 17/09/2007، ليس هكذا يبنون جيشاً، أماتسيا حين، عقيد في الاحتياط).
***
كانت تلك نماذج من كتابات بعض المفكّرين الإسرائيليّين تطرح تصوّرهم لتأثير حرب يونيو/ حزيران 1967 على المجتمع الإسرائيليّ.
وكما أصبحت يونيو/ حزيران "لعنة" على العرب استفاقوا منها في 1973
فقد تحوّلت إلى "لعنة" على إسرائيل نفسها وعلى أسطورة الجيش الإسرائيليّ الذي لا يُهزم. خصوصاً بعد هروبه المدوّي من جنوب لبنان في الليل، ثم هزيمته المدوّية أمام حزب الله في عام 2006.
وهل من الممكن أن نتجاهل – ببساطة – مشاعر – كتلك التي عبّرت عنها شالوميت آلوني و ران كوهين؟
وهل يمكن إنكار أن مثل هذه المشاعر تتماثل مع مشاعر مساحة ليست بالقليلة من أفراد النّخبة الإسرائيليّة؟ هل يمكن التّغاضي عن الشّحنة العاطفيّة القويّة بنفس البلاغة اللفظيّة التي عبّرت بها شالوميت آلوني عن أزمة مجتمعها بعد كل هذه الأعوام من "الانتصار" العسكري في الحرب؟
إنّه "الإنتصار" بين مزدوجات صغيرة تظلّله وتحصره في حدوده التاريخية!
إنه حساب متأخر لفاتورة الحرب… وبعد نصف قرن!
إنها الحقيقة التي يقتضي التنويه لها في الذكرى الخمسين لحرب يونيو ضمن ما يقتضي التنويه إليه من أشياء كثيرة!