انها لحظة تاريخية خاصة تمر بها بلادنا و منطقتنا والعالم، لحظة نوعية بكل المقاييس الخاصة والعامة، وبكل ما تحمله من تحديات ومخاطر وتغيرات وتطورات وديناميات متشعبة ومتقلبة ومتضاربة في الاتجاهات والخيارات والمسارات، لدرجة أنها تعصى على أي قدرة للتحكم بها، أو التكهن الجازم بتداعياتها ونتائجها وانعكاساتها وارهاصاتها وتأثيراتها الجوهرية والسطحية، في الأمن والسياسة والاقتصاد والثقافة والتربية والوعي والسلوكيات المنبثقة منها جميعاً…
لقد تغير هذا العالم منذ ولوجنا الألفية الثالثة تغيراً مدهشاً وبوتائر سريعة -بالطبع ـ صورة التغيير كانت مناقضة على طول الخط لأحلامنا الوردية، لتطلعاتنا في الحاضر، لتخيلاتنا المستقبلية حول ما نطمح أن نكون عليه، وكذلك للصور المطبوعة في أذهاننا عن انتماء وهوية ومواطنة واستقرار ولو نسبي في بلاد تقع على خط زلازل سياسي – أمني يمتد في الزمن الى ما قبل التاريخ الجلي…
لقد شهدنا وفي خلال حقبة زمنية قصيرة نسبياً تداعي لعمارات فكرية وثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية اعتقدناها أكثر عمقاً ورسوخاً فاذا بالعين المجردة ترصد السقوط المريع دون مناظير ومن دون استعمال تقنيات الرؤية الليلية من أشعة ما فوق الحمراء أو بنفسجية أو غيرها من الألوان…
فكان سقوط الاتحاد السوفياتي، وتداعي المنظومة الاشتراكية المرتبطة به، الى تراجع يرقى الى حد السقوط لحركات التحرر القومي والنهضوي في بلادنا، وانحسار المد القومي على تشوهاته في تلك الفترات، وعلى سوء تدبيره وقصور نظر القيمين عليه، اضافة الى صعود (بين هلالين وبالمعنى السلبي) لنجم الفكر الظلامي في العالم مدعوماً بأطروحات "نهاية التاريخ" و "صراع الحضارات" ومؤطراً في تنظيماته ومؤسساته وبناه التحتية والفوقية من القاعدة والاخوان المسلمين وتنظيمات النصرة وفتح الاسلام وعشرات التسميات الأخرى لمضمون واحد يقوم على الجهل والتجهيل والتسطيح والتشويه والتحريف والتزوير لتراثنا وتاريخنا ومفاهيمنا وأخلاقنا ومناقبنا في أخطر غزوة ثقافية ضحلة يمكن أن تتعرض لها أمة أو جماعة عبر التاريخ.
وتمر الأيام والسنوات، في سرعة قياسية، وينجح أعداؤنا نسبياً –طبعاً- في تحويل وقائع حياتنا اليومية الى أجندات غريبة عجيبة لا علاقة لها لا بواقعنا ولا بمصالحنا ولا بضرورات عيشنا وحياتنا وتطورنا وتقدمنا في معارج الحياة، وتبدأ الاسقاطات من الخارج يتلقفها صنائع الخارج في الداخل، فتدور أبواقهم تصدح وتلعلع موغلةً في عملية التغريب والتجهيل تلك، وتنطلق دينامية مستحدثة تصول وتجول في قلب مجتمعنا وعلى ضفافه حاملةً شعارات الدمقرطة والحرية وحقوق الانسان والتنمية والتقدم والازدهار بأدوات القرون الوسطى وأخلاقها وسلوكياتها المتخلفة، ويساهم الاعلام الدولي المجوقل في تحويل أياماتنا الى محطات انتظار لمحكمة دولية من هنا، وربيع "عربي مزعوم" من هناك، وتدجين للانسان من هنالك في عملية "سلام موهوم" تُدفع من أجل تشويه حقيقته وتزوير مضامينه المليارات من دولارات تُقتطع من موازنات دول غارقة الى ما فوق أذنيها في التبعية والاستتباع لقيادة "الأوركسترا العالمية" المتصهينة والمتهودة والموغلة في خططها ومشاريعها الحاقدة لفصل الانسان عن الانسان، ولفصل المجتمع عن قواعده الأخلاقية والاجتماعية والمناقبية، وكل ذلك تحت مسميات الحراك الديمقراطي (هذه الكلمة البلهاء ) التي جُوِّفت وأُفرغت من أي مضمون حقوقي وسياسي واجتماعي يُذكر، الى دعايات بناء الأنظمة الحضارية والانسانية التي يحاولون ارساءها على دماء الأطفال والشيوخ والنساء، وعلى ثقافة بقر البطون وقطع الأعناق والتهام القلوب….
هذه اللحظة التاريخية تمثل منعطفاً فاصلاً في التاريخ، وهذه اللحظة علينا امتلاكها من جديد، وهذا فرض عين على الأحرار والنهضويين والحريصين والمناضلين الحقيقييين من أجل مستقبل من نوع أخر يليق بأمة الحرف والأبجدية والأديان والحضارة….
اعتقادي، أن الظلم له نهاية، وأن الكذب حبله قصير فعلاً، وايماني أن أوركسترا العزف على أوتار الموت في العراق والشام ولبنان وفلسطين قد شارفت على انهاء مقطوعتها "الموسيقية الحزينة السوداء" ….
وقناعتي، أن أناشيد الحياة والربيع الحقيقي –بالرغم من كل التصحر والجدب وقلة المياه- ستصدح من جديد على تلالنا وسهولنا، وفي مدننا ودساكرنا وكل الربوع…
لسبب واحد، لأننا نمتلك منطق الحياة الذي هو في حصرية الصراع من أجل الوجود والبقاء والاستمرار…
السباق بين العزف على أوتار الموت…و أناشيدِ الحياة…
108
المقالة السابقة