الربيع العربي من منظار التنافس الجيوسياسي بين الصين وروسيا وإيران من جهة
والولايات المتحدة وأوروبا وتركيا من جهة أخرى
في كانون الأول 2010، اندلعت تظاهرات صاخبة في تونس ضد الرئيس السابق زين العابدين بن علي، سرعان ما انتقلت إلى ليبيا ومصر واليمن وحتى سورية، معلنة ربيعاً عربياً قال كثيرون إنه سيؤدي إلى انتشار الديمقراطية في العالم العربي. وقد أدّت التظاهرات إلى الإطاحة بكل من بن علي في تونس والعقيد معمر القذافي في ليبيا، والرئيس حسني مبارك في مصر، والرئيس علي عبد الله صالح في اليمن، فيما اندلع صراع لا يزال جارياً إلى الآن في سورية. ومع مرور الوقت تبين أن الربيع العربي لم يجر بمعزل عن تغيرات دولية وإقليمية لم تبق محصورة في المنطقة العربية، بل انتقلت عدواها جنوباً إلى القرن الأفريقي وشمالاً إلى أوكرانيا. وبالتالي فقد تبين أن الربيع العربي هو في جانب كبير منه ما هو إلا صراع بأشكال أخرى بين القوى الكبرى في الوقت الذي يتحول فيه النظام الدولي من نظام يهيمن عليه الغرب بقيادة الولايات المتحدة إلى نظام متعدد الأقطاب.
الشرق الأوسط المعاصر
تجدر الإشارة إلى أن النظام الإقليمي الذي ساد في المنطقة العربية نتج بشكل كبير عن الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية التي كانت تحكم هذه الأقطار. فقد أدى هذا الانهيار عقب هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى إلى اقتسام الحليفين الفرنسي والبريطاني ممتلكات هذه الدولة في المشرق العربي. فهيمن البريطانيون على مجمل الجزيرة العربية بشكل مباشر أو غير مباشر، فيما فرضوا انتدابهم على العراق والأردن وفلسطين وفقاً لاتفاقية سايكس بيكو مع الفرنسيين التي أعطت هؤلاء الآخرين انتداباً على سورية ولبنان. وكان المغرب والجزائر وتونس قد وقعت تحت الاستعمار الفرنسي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فيما وقعت مصر والسودان تحت الاستعمار البريطاني. والجدير ذكره أن النظام الإقليمي لم يكن انعكاساً فقط للإرادة الاستعمارية البريطانية والفرنسية بل كان ناتجاً عن اصطدام المشاريع الاستعمارية لهاتين الدولتين بإرادات وطنية ظهرت في البلدان التي وقعت تحت الاستعمار. فقد كانت السياسة البريطانية في العراق تقضي بتقسيمه إلى ثلاث مناطق، كردية في الشمال وسنية في الأوسط وشيعية في الجنوب، فيما كانت السياسة الفرنسية في سورية تقضي بتقسيمها إلى أربع دويلات، علوية على الساحل، ودرزية في جبل الدروز، ودولتين سنيتين في دمشق وحلب. إلا أن نضال قوى وطنية عراقية وسورية حال دون هذا الأمر.
في العام 1948، قامت دولة إسرائيل على أرض فلسطين بعد تهجير الكثير من شعبها منها في الوقت الذي كانت الدول العربية قد بدأت تتحرّر فيه من الاستعمار. وقد قادت مصر حركة التحرر هذه ليس فقط في المنطقة العربية بل أيضاً في أفريقيا ما أدى إلى تحرر معظم أقطارها من الاستعمار. لكن اصطدام حركة التحرر هذه بصعود المشروع الامبراطوري الأميركي، خصوصاً بعد اغتيال الرئيس جون كينيدي في العام 1963 أدى إلى تراجع هذه الحركة ووقوع معظم هذه الأقطار تحت النفوذ الأميركي، فيما نجت بعض هذه الدول كليبيا واليمن الجنوبي وسورية بانحيازها إلى المعسكر الاشتراكي خلال الحرب الباردة. لكن مع انهيار كتلة الدول الاشتراكية والاتحاد السوفياتي في العام 1991 بعد هزيمتهما في الحرب الباردة أضحت الولايات المتحدة زعيمة العالم بلا منازع، لكن إلى حين. فقد كانت واشنطن تعرف حق المعرفة أن عدداً من القوى من بينها الصين وروسيا وأوروبا واليابان والهند والبرازيل كانت في طريقها لتبوء دور عالمي، وكان هم القادة الأميركيين هو في ضمان أن تبقى بلادهم القوة الأولى في العالم. والجدير ذكره أن التفكير الجيوساسي الأميركي كان متأثراً باعتبار الولايات المتحدة قوة بحرية وريثة لبريطانيا العظمى في سيادة البحار، والتي هي المفتاح الرئيسي لفرض السيادة العالمية كما يعتبر الأدميرال الأميركي الشهير ألفريد ثاير ماهان. وقد تأثر التفكير الأميركي أكثر ما تأثر بالنظريات الجيوسياسية للعالم البريطاني الشهير هالفورد ماكيندر الذي اعتبر أن السيطرة على أوراسيا هي مفتاح السيطرة على العالم. وفي مقالته الشهيرة حول المحور الجغرافي للتاريخ اعتبر ماكيندر أن قلب أوراسيا الذي يضم روسيا كان دائماً منطلقاً لصعود امبراطوريات برية كبرى كانت تهدد بفرض سيطرتها على مجمل أوراسيا وبالتالي تهدد بعزل القوى البحرية وآخرها بريطانيا تمهيداً لاحتلالها. وقد اعتقد ماكيندر أن من مصلحة بريطانيا عدم توحد أوراسيا تحت مظلة قوة وحيدة، كما آمن بضرورة منع أي قوة برية في أوراسيا من الخروج بحرية إلى طرق المواصلات البحرية. وقد أثر ماكيندر بالمفكرين الجيوسياسيين الأميركيين وعلى رأسهم نيكولاس سبيكمان الذي كتب خلال الحرب العالمية الثانية عن الخطر الذي يتهدد الولايات المتحدة في حال اتحدت أوراسيا تحت مظلة قوة واحدة، لأنه في هذه الحالة ستنعزل الولايات المتحدة في شمال أميركا وستصبح محاصرة من الشرق والغرب بقوة معادية. إلا أن سبيكمان رأى أن التهديد بتوحيد أوراسيا يمكن أن ينشأ ليس انطلاقاً من قلب أوراسيا وهي روسيا بل من المناطق المحاذية لها والتي يسميها مناطق الأطراف. وقد تأثر زبغنيو بريجنسكي، المستشار السابق للأمن القومي الأميركي في عهد الرئيس جيمي كارتر، والذي اعتبر أنه لكي تبقي الولايات المتحدة على زعامتها للعالم فإن عليها أن تبقي أوروبا الغربية تحت مظلتها، لأنها تشكل جسر عبور لواشنطن إلى البر الأورواسي. كذلك فهو أشار إلى ضرورة أن لا يقع الشرق الأوسط ووسط آسيا تحت سيطرة أي من القوى الأوراسية وألا تخرج الولايات المتحدة من تلك المنطقة وأن تبقى محكمة للتناقضات فيها.
صعود الصين
منذ القدم عندما كانت الصين تنهض وتزدهر، كانت ترنو بأنظارها ناحية بحر جنوب الصين إلى الجنوب الشرق من الصين، وناحية وسط آسيا التي كانت تعتبر عقدة المواصلات التجارية البرية عبر آسيا والتي اصطلح على تسميتها بطريق الحرير. وقد كان هذا ديدن الصين منذ توحيدها في القرن الثالث قبل الميلاد وحتى يومنا هذا. ويُعتبر صعود القوة المغولية في القرن الثالث عشر والرابع عشر في جانب منه صعوداً للهيمنة العالمية للصين. وتعود الخشية الغربية من توحّد أوراسيا إلى تلك الحقبة التي شهدت تهديداً مغولياً لأوروبا الغربية لم يتوقف إلا في المجر. وبعد الإطاحة بالحكم المغولي في الصين على يد مؤسس أسرة مينغ عادت الصين إلى عزلتها في ظل أسرتي مينغ وتشين حتى بداية القرن التاسع عشر. وقد بقيت الصين معزولة عن العالم بشكل كبير حتى منتصف القرن الثامن عشر، حين شنت بريطانيا عليها حرباً لإجبارها على فتح أسواقها أما تجارة الأفيون المنتج بالمستعمرات البريطانية وذلك في العام 1840 ما أدى إلى بدء وقوع الصين في ظل الهيمنة الغربية في ما سيعرف بقرن الذل. قرن الذل هذا قدر له أن ينتهي مع انتصار الثورة الصينية بقيادة ماو تسي تونغ في العام 1949 وإقامة جمهورية الصين الشعبية. وقد تمكّن جيل ماو من إعادة وضع الصين على الخريطة العالمية، لكن خروج الصين إلى العالم لم يحصل بشكل كبير إلا بعد وفاة ماو في العام 1976 ووصول دينغ كسياو بينغ إلى السلطة في العام 1978. وقد سارع دينغ للانفتاح على الولايات المتحدة. أما على الصعيد الاقتصادي فقد عمد لتطبيق خطة اقتصادية مبنية على التصور الذي وضعه شوين لاي في العام 1975، والتي تقوم على التركيز على التصنيع ثم الانتقال إلى التنمية المتوازنة في القطاعات الاقتصادية الأربعة وهي الزراعة والصناعة والدفاع والتكنولوجيا.
اضافة إلى ذلك بدأت الصين بإقامة مناطق اقتصادية حرة للانفتاح على الاقتصاد العالمي، وبناء على ذلك نما الاقتصاد الصيني في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي بمعدلات تتراوح بين 8 و 10 بالمئة سنوياً، فيما ارتفعت مستويات المعيشة للأفراد بنسبة ثمانين بالمئة وارتفعت حصة الصناعة من الناتج المحلي إلى 50 بالمئة. ومع حلول العام 1992 بدأت الصين بتحقيق فائض في التبادل التجاري مع الولايات المتحدة ما جعلها تراكم احتياطات بالعملات الأجنبية بنحو أربعين مليار دولار، لترتفع بعد ذلك إلى أضعاف ذلك المبلغ. وقد مكّن هذا الصين من تجاوز الأزمة التي ضربت كتلة الدول الاشتراكية والتي أدّت إلى انهيارها وانهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991.
ما إن انطلقت الصين اقتصادياً حتى بدأت تسعى لتدعيم هذه الانطلاقة سياسياً. وقد كان لدى الصين تاريخياً قلق من منطقة وسط آسيا التي كانت مصدر معظم الغزوات التي تعرّضت لها الصين، كما أنها كانت المنطقة التي تنطلق منها الصين لتدعيم التجارة في البر الآسيوي، تحت مسمّى طريق الحرير. لذا فقد قامت الصين وبالتعاون مع روسيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان بإنشاء مجموعة الخمسة في العام 1996 والتي تحولت في حزيران من العام 2001 إلى منظمة شنغهاي للتعاون بعد انضمام أوزبكستان إليها. ووفقاً لدستور المنظمة فإن هدفها الرئيسي هو حفظ الأمن والاستقرار في منطقة وسط آسيا ومكافحة الحركات الانفصالية المنطلقة منها. وأهمية منظمة شنغهاي للتعاون تكمن في أنها تحتل ستين بالمئة من مساحة أوراسيا وتضمّ ربع سكان العالم. وإذا أخذنا في الاعتبار الدول التي تتمتع بصفة مراقب وهي أفغانستان والهند وإيران ومنغوليا وباكستان فإن منظمة شنغهاي للتعاون تضم ثمانين بالمئة من مساحة أوراسيا ونصف سكان العالم. وقد أرست المنظمة هيئة خاصة تُعنى بمكافحة الإرهاب. والجدير ذكره أن طلب الولايات المتحدة بالانضمام إلى المنظمة رفض في العام 2006، كما رفض طلبها في أن تكون عضواً مراقباً. وقد فسّر المحللون ذلك لخشية الصين وروسيا من تمدد نفوذ واشنطن إلى وسط آسيا. أما المنطقة الأخرى التي تحظى باهتمام الصين فهي منطقة جنوب بحر الصين لأهميتها في الربط بين المحيط الهندي والمحيط الهادئ من جهة، ولدورها كمنفذ للصين على طرق الملاحة البحرية. ويرى محللون أن الولايات المتحدة تسعى لمنع الصين من بسط نفوذها على تلك المنطقة وذلك بتدعيم علاقاتها مع الدول المشاطئة لتلك المنطقة، بالإضافة إلى اليابان وكوريا الجنوبية وذلك لمنع الصين من الخروج إلى طرق الملاحة البحرية.
في مواجهة احتمالات صعود الصين كقوة أولى في العالم، حاولت الولايات المتحدة اختلاق أزمات لها عبر تشجيع الحركات الانفصالية في منطقة التيبت وفي منطقة جينجيناغ ذات الغالبية المسلمة في شمال غرب الصين. ففي تموز 2009 اندلعت مواجهات عنيفة بين المسلمين الويغور والبوذيين الهان. وقد اعتبرت الحكومة الصينية أن هذه المواجهات تسببت بها حركات سلفية متطرفة لاقت تشجيعاً من أفغانيين وباكستانيين. وأصدر الحزب الشيوعي الصيني بياناً اعتبر فيه أن الاستقرار في جينجيانغ هو أمر حيوي جداً بالنسبة للصين وأن الأحداث نتجت عن نشاط قوى إرهابية وانفصالية متطرفة. وقد واجهت الصين حملة غربية تمثلت بالانتقادات التي وجهت لها من قبل الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون ورئيس الوزراء الأسترالي كيفين رود والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والناطق باسم الخارجية الأميركية إيان كيلي. كذلك فقد استهدفت الولايات المتحدة الصين في منطقة أخرى ذات أهمية كبرى بالنسبة لها وهي منطقة جنوب بحر الصين. ويعتبر المسؤولون الصينيون أن الولايات المتحدة تحاول خلق المشاكل بين الدول المشاطئة لجنوب بحر الصين. ففي شباط 2014 انتقد الناطق باسم الخارجية الصينية هونغ لي الاتهامات الأميركية لبلاده بأنها تحاول بسط سيطرتها على مناطق متنازع عليها في منطقة جنوب بحر الصين واتهم الولايات المتحدة بالعمل على زيادة التوتر في تلك المنطقة. وفي آب الماضي وخلال قمة آسيان أعلن بيان صادر عن مكتب وزير الخارجية الصيني وانغ يي أن على الولايات المتحدة أن تكفّ عن التدخل في شؤون منطقة جنوب بحر الصين. واعتبر البيان أنه لا يمكن له أن يفهم لماذا تسعى دول "غريبة عن المنطقة أن تثير المشكلات فيها"، وأنه لا يفهم لماذا تحاول واشنطن إثارة القلاقل والفوضى كما فعلت في العراق وسورية وليبيا. بعد ذلك، خلال شهر نيسان 2015 اتهم قائد مدمرة أميركية الصين بإقامة حواجز وعوائق في مناطق متنازع عليها في جنوب بحر الصين لتعزز مطالبها في ضم تلك المناطق.
صعود روسيا
في مواجهة محاولات الهيمنة الأميركية، سعت الصين لإقامة تحالف مع روسيا، والتي تعتبر نفسها مستهدفة من الولايات المتحدة والغرب عموماً. والجدير ذكره أنه منذ تحرّر الروس من الهيمنة المغولية عليهم بعد معركة كوليكوفو في العام 1380 فقد حكمهم هاجسان، الأول ضمان أمنهم في منطقة وسط آسيا، منطلق الغزوة المغولية التي تعرضت لها روسيا، وضمان مقعد لهم في نادي الدول الأوروبية. مع حلول منتصف القرن السابع عشر كانت روسيا قد أمنت نفسها في منطقة وسط آسيا بعد وصولها إلى المحيط الهادئ شرقاً وتوقيعها معاهدة نيرشينسك في العام 1648 لتقاسم النفوذ مع الصين في منطقة وسط آسيا. هذا أهّلها لتوجيه أنظارها غرباً نحو أوروبا الشرقية. هذا ما دفع ببطرس الأكبر إلى إقامة تحالف مع الدنمارك وبولندا لشن حرب تهدف إلى كسر الهيمنة السويدية على بحر البلطيق. وقد دامت الحرب لنيّف وعشرين عاماً وانتهت في العام 1722 بانتصار روسيا وحصولها على مناطق على سواحل بحر البلطيق من ضمنها لاتفيا واستونيا وليتوانيا. في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وجهت روسيا أنظارها جنوباً نحو البحر الأسود الذي كان بحيرة عثمانية منذ القرن الخامس عشر. وخلال عهد الأمبراطورة كاثرين الثانية توسّعت روسيا غرباً لتضم ليتوانيا وروسيا البيضاء وروسيا الجديدة وأوكرانيا على حساب بولندة التي قسمت لاحقاً بينها وبين بروسيا. هذا أهّل روسيا لتكون في موقع أفضل لشن الحرب ضد السلطنة العثمانية. ففي العام 1768 شنت روسيا الحرب في القرم ضد السلطنة العثمانية ونجحت في الانتصار عليها بعد ست سنوات لتنال بموجبها شبه جزيرة القرم التي أعلنت في البداية منطقة ذات حكم ذاتي قبل أن تضمّ لاحقاً إلى روسيا. وبذلك حصلت روسيا على منفذ على البحر الأسود والذي أصبح أول منفذ لها على المياه الدافئة.
بعد ذلك واجهت روسيا خطر الغزو من قبل نابوليون بونابارت في العام 1812، وكان سبب الغزو يكمن في خرق الروس للمقاطعة الاقتصادية التي فرضها نابوليون على البضائع البريطانية، وللخلاف على النفوذ في شرق أوروبا، خصوصاً في بولندة. وقد فشل نابوليون في غزو روسيا وبنتيجة هذا الفشل تمكنت القوات الروسية مع تحالف عريض من النمسا وبروسيا وبريطانيا من الإطاحة به في العام 1815. وبنتيجة مقررات قمة فيينا في ذلك العام باتت روسيا القوة الأولى في منطقة شرق أوروبا، وبالتالي أصبحت روسيا قوة أوروبية معترفاً بها من باقي القوى. في هذا الوقت تابعت روسيا مسعاها في الوصول إلى المياه الدافئة عبر التوسّع في منطقتي وسط آسيا والقوقاز. وقد أقلق هذا البريطانين الذين حاولوا استخدام أفغانستان وفارس والدولة العثمانية كمناطق عازلة تحول دون وصول الروس إلى الهند التي كانت قد أضحت مستعمرة بريطانية، ودون الوصول إلى المحيط الهندي الواقع تحت النفوذ البريطاني. وقد كان سعي روسيا إلى الدفاع عن نفوذها في شرق أوروبا، هو السبب الرئيس في اندلاع الحرب العالمية الأولى. فقد أدّى سعي حليفتها صربيا إلى إقامة اتحاد للسلاف الجنوبيين إلى تشجيع حركات الاستقلال في البلقان، خصوصاً في منطقة البوسنة والهرسك التي كانت تحتلها النمسا والمجر. وبعد اغتيال قوميين صرب لولي العهد النمساوي وزوجته في سراييفو، هاجمت النمسا صربيا، فتدخلت روسيا إلى جانب حليفتها بلغراد ما دفع بالالمان إلى شنّ الحرب ضد الروس. وبنتيجة الخسائر التي تعرضت لها روسيا في الحرب اندلعت الثورة البولشفية في تشرين الأول 1917 وتتالت الأحداث ليوقع الشيوعيون على اتفاقية بريست ليتوفسك في آذار 1918 مع الألمان خرجوا بها من الحرب وخسروا فنلندا وبولندة وأوكرانيا وروسيا البيضاء وغيرها من الأراضي في شرق أوروبا.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى كان على روسيا أن تعيد بناء اقتصادها ومجتمعها الذي دمّرته الحروب، كما كان عليها أن تواجه خطر تصاعد الفاشية في أوروبا بقيادة أدولف هتلر في ألمانيا وبنيتو موسوليني في إيطاليا. لذا فقد قاد ستالين، خليفة لينين في قيادة الاتحاد السوفياتي، تحدي تحويل روسيا إلى قوة صناعية بغية التحضير لمواجهة هذه التحديات. وبسبب رفض بريطانيا وفرنسا محاولات ستالين التقرب منهما لمواجهة الخطر النازي، اختار الزعيم السوفياتي عقد اتفاق مع هتلر بغية كسب الوقت للتحضير للحرب الحتمية. وبنتيجة اتفاق مولوتوف ريبنتروب بين روسيا وألمانيا في آب 1939 أعطيت روسيا حق الهيمنة على دول البلطيق بالاضافة إلى بولندة الشرقية وأوكرانيا وروسيا البيضاء، فيما أطلقت يد هتلر في بولندة الغربية وأوروبا بشكل عام. لكن الخلاف مع هتلر كان حتمياً لأن الأخير لم يكن راضياً عن النفوذ السوفياتي في شرق أوروبا، لذا، بعد اجتياحه فرنسا وهولندة وبلجيكا والنروج في ربيع عام 1940، بدأ يستعدّ لاجتياح الاتحاد السوفياتي. في 22 حزيران 1941 بدأت القوات الألمانية هذا الاجتياح الواسع النطاق الذي أدى إلى محاصرة لينينغراد واجتياح أوكرانيا والوصول إلى تخوم القوقاز. والجدير ذكره أن هتلر كان قد تعلم الدرس من نابوليون فلم يكن يهمه اجتياح موسكو لأنه يعرف ان هذا لم يكن لينهي الحرب، لذا حاول توجيه ضربة إلى الخاصرة الرخوة لروسيا في وسط آسيا. هذا ما يفسر توجيهه لجهوده نحو ستالينغراد في خريف وشتاء 1942 – 1943. فهذه المدينة كانت هي المنطلق نحو وسط آسيا. وقد أدى فشل هتلر في هذه المعركة إلى هزيمته في الحرب العالمية الثانية والتي خرج منها الاتحاد السوفياتي قوة عظمى.
خلال الحرب الباردة تواجهت الولايات المتحدة والغرب مع الاتحاد السوفياتي وكتلة الدول الاشتراكية. وقد سعت الولايات المتحدة إلى تطويق السوفيات بسلسلة من الأحلاف العسكرية في الوقت الذي كانت تسعى فيه إلى استهدافهم في شرق أوروبا من ناحية وفي وسط آسيا من ناحية أخرى. في المقابل حاول السوفيات فق الطوق عنهم، خصوصاً عبر نسج علاقات قوية مع الزعيم المصري جمال عبد الناصر والذي مكّنهم من الدخول إلى أفريقيا. وقد شكل انقلاب السياسة المصرية بعد وفاة عبد الناصر ضربة قوية للنفوذ الروسي في الشرق الأوسط. هذا جعل الأميركيين طليقين في توجيه سياسات معادية للروس في بولندة وفي أفغانستان. وقد أدت هاتان الأزمتان إضافة إلى عوامل أخرى إلى إنهاك الاتحاد السوفياتي ثم انهياره في العام 1991 تاركاً الساحة الدولية للأميركيين وحدهم.
رغم انسحاب روسيا من المواجهة مع الولايات المتحدة، إلا أن الأميركيين ومعهم الغرب ظلوا يوجهون سياسات يعتبرها الروس مهددة لأمنهم القومي. فقد أبقى الغربيون على حلف الناتو رغم انتهاء الحرب الباردة ووسعوا عضويته لتشمل دولاً في أوروبا الشرقية قريبة من الأراضي الروسية. كذلك فقد سعوا لمدّ نفوذهم في القوقاز ووسط آسيا، ما جعل روسيا تسعى للتقارب مع الصين وإيران المتضررتين من هذه السياسات. في العام 1999 أصبح فلاديمير بوتين رئيساً للوزراء في روسيا ليتولى الرئاسة في أول العام 2000 خلفاً للرئيس بوريس يلتسين الذي استقال من منصبه لأسباب صحية. وفي عهده، تقرب الروس من الصينيين وأسسوا معهم منظمة شنغهاي للتعاون. وقد عارض بوتين الغزو الأميركي للعراق في العام 2003. وكان الأميركيون قد دعموا انقلابات في كل من أوكرانيا وجورجيا وقرغيزستان بين عامي 2003 و2005. وما لبث الرئيس الأوكراني الموالي للغرب يوتشينكو أن طلب الانضمام إلى حلف الناتو ما أثار حفيظة الروس لما فيه من تهديد لأمنهم القومي. فقاموا بالرد في العام 2008 ووجهوا ضربة عسكرية ضد جورجيا أدت إلى تحييدها في التنافس الأميركي الروسي في القوقاز. كذلك قام الروس بدعم انتخاب حليفهم في أوكرانيا ميخاييل يانوكوفيتش في العام 2010 ما عرقل انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. وقد رد الأميركيون وحلفاؤهم الغربيون في العام 2014 بدعم انقلاب على يانوكوفيتش ما أدى إلى اندلاع أزمة في أوكرانيا، خصوصاً بعد مطالبة أركان النظام الجديد فيها تسريع الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والناتو. فرد الروس بدعم المعارضين للحكم الجديد في شرق البلاد، كما دعموا مطلب الإستقلال الذي تقدمت به جمهورية القرم والتي طالب سكانها بعد ذلك بالانضمام إلى روسيا. وفي محاولة عزلها تقاربت روسيا مع الصين وإيران في إطار منظمة شنغهاي للتعاون. ولمنع الولايات المتحدة من حصر روسيا والصين وإيران في البر الأوراسي قامت موسكو وبكين بالانضمام مع نيو دلهي وجنوب أفريقيا والبرازيل في إطار دول منظمة البريكس. ويلعب تكتل دول البريكس دوراً في مواجهة الهيمنة الأميركية الغربية على العالم. فحقيقة وقوع الهند وجنوب أفريقيا والبرازيل على الطريق الذي سلكه ماجلان قبل خمسة قرون يجعلنا نستنتج ان روسيا والصين، وفي الوقت الذي تواجهان فيه الهيمنة الغربية في أوراسيا فإنهما تقومان بحركة التفاف كبيرة عبر طريق ماجلان على القواعد العسكرية ومناطق النفوذ الأميركية لتقوم بعملية تطويق من ناحية، وفي الوقت نفسه تصلان إلى طرق الملاحة البحرية.
صعود إيران
أما القوة الآسيوية الثالثة التي صعدت في العقدين الماضيين فقد كانت إيران. ومنذ أيام الأخمينيين كان الإمبراطوريات التي تسيطر على الهضبة الفارسية تنزع للعب دور صلة الوصل بين شرق آسيا وشرق المتوسط، وبالتالي كانت فارس او إيران تزدهر حين تنجح في لعب هذا الدول، فيما كانت تضمر وتتعرّض لأزمات داخلية حين لا تنجح في ذلك. وقد كان هذا هو الحال زمن الأخمينيين والبارثيين والساسانيين، ثم زمن البويهيين والسلاجقة قبل ظهور المغول على الساحة الدولية. وقد وحّد جنكيز خان المغول وانطلق بهم ليسيطر على شمال الصين ووسط آسيا. وقد واصل أبناؤه وأحفاده فتوحاتهم ليسيطروا على معظم البر الأوراسي. وقد أسس هولاكو، حفيد جنكيز خان دولته الخاصة في إيران والتي كانت تابعة للخان الكبير الذي نقل مقره إلى الصين زمن قوبلاي خان. وبدا وكأن حلم جنكيز بالسيطرة على العالم يكاد أن يتحقق لولا نجاح المماليك في مصر في وقف تمدّد المغول غرباً بعد انتصارهم عليهم في معركة عين جالوت في فلسطين في العام 1260. وبات المغول يسيطرون على طرق التجارة البرية بين المحيط الهادئ شرقاً والفرات غرباً. وكان على الجميع بمن فيهم من لم يقع تحت السيطرة المغولية المباشرة أن يتعامل معهم اقتصادياً.
وقد شكلت إيران خلال هذه الفترة جسر عبور للصين المغولية إلى شرق المتوسط، خصوصاً بعد إقامتها لتحالف مع مملكة أرمينيا الصغرى في كيليكيا شمال سوريا. لكن كان هذا التحالف يعاني من منافسة من قبل مغول الشغتاي في وسط آسيا ومغول الجحافل الذهبية في جنوب روسيا، والذين أقاموا تحالفاً اقتصادياً مع مماليك مصر ضد أبناء جلدتهم مغول الصين وإيران. وكانت مصر عقدة التجارة البحرية الموصلة بين البحر الأسود وشرق المتوسط من ناحية، والبحر الأحمر والمحيط الهندي وجنوب شرق آسيا من ناحية أخرى. وكانت بلاد الشام هي نقطة التقاطع بين الطريق البحري هذا والطريق البري الذي تسيطر عليه الصين وإيران من ناحية أخرى، ما يفسر الصراع الطويل المدّ الذي دار بين مماليك مصر وتتار إيران على بلاد الشام والذي استمرّ لقرن من الزمن. وقد كانت نقطة ضعف الطريق البري هي في هشاشة وضع منافذه البحرية. لذا حاول الخان الكبير قوبلاي خان أن يصحح هذا الخلل بمحاولة اجتياح اليابان في العام 1274، ولكنه فشل. وقد أعاد الكرة مرة أخرى من دون طائل. في المقابل، تمكن المماليك في مصر من قطع المنفذ الوحيد لتتار إيران في مرسين بعدما تمكّنوا من تدمير مملكة أرمينيا الصغرى أواخر القرن الثالث عشر والتي كانت حليفة لتتار إيران. وقد وقع تتار إيران ومماليك مصر اتفاقية في العام 1304 شكلت خاتمة الصراعات بينهما. بعد ذلك تراجع وضع المغول في القرن الرابع عشر لينهار كلياً في أواخر هذا القرن.
لقرن من الزمن عاشت فارس في حال من الفوضى حتى العام الذي تمكن فيه الشاه اسماعيل الصفوي من الاستيلاء على تبريز ثم باقي الهضبة الإيرانية ليوجه بعدها أنظاره غرباً بغية الوصول إلى شرق المتوسط عبر شرق الأناضول. لكن حظه العاثر وضعه في مواجهة السلطان العثماني سليم الأول الذي هزمه في معركة تشالديران وانتزع منه تبريز وأذربيجان ومنطقة قزوين عازلاً له عن طريق التجارة البرية في شمال إيران والموصل بين شرق آسيا ووسطها مع شرق المتوسط. ولعقود تلت عاش الصفويون في حال من الشظف حتى صعود نجم الشاه عباس في العام 1580. وفي العام 1599 تمكّن الشاه عباس من الانتصار على الأوزبيك وانتزاع منطقة خراسان منهم. وفي العام 1603 هزم الشاه عباس العثمانيين لينتزع منهم تبريز وأذربيجان وأجزاء من شرق الأناضول ووسط العراق. وقد حاول إقامة تحالف مع الإسبان لينتزعوا بلاد الشام منهم وبالتالي انتزاع تجارة المتوسط من العثمانيين، لكن الاسبان في النهاية لم يتجاوبوا معه وخيبوا آماله في ايصال تجارة البر الأوراسي إلى شرق المتوسط. وبعد الشاه عباس عادت إيران إلى حال العزلة والضعف التي ميزتها خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وصولاً إلى وقوعها تحت النفوذ البريطاني والروسي خلال النصف الأول من القرن العشرين.
خلال عهد الشاه محمد رضا بهلوي، حاولت إيران لعب دور إقليمي من خلال عضويتها في حلف بغداد، لكن تحت مظلة غربية. لكن كان عليها أن تنتظر الثورة الإسلامية في العام 1979 لتحاول استعادة دورها الإقليمي ولعب دور صلة الوصل بين شرق آسيا وشرق المتوسط. واللافت هنا أن الثورة الإسلامية في إيران تزامنت مع وصول دينغ كسياو بينغ إلى السلطة في الصين وإخراجه لها من عزلتها. ومنذ اليوم الأول للثورة الإسلامية حاولت الولايات المتحدة حصارها عبر وسائل عدة منها تشجيع الرئيس العراقي صدام حسين على شنّ حرب ضدها دامت ثماني سنوات أنهكت إيران والعراق. في مواجهة الحصار عليها، تمكنت إيران من عقد علاقة تحالف مع سورية بقيادة الرئيس حافظ الأسد. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي تقاربت إيران مع الصين وروسيا لمواجهة مساعي الهيمنة الأميركية في العالم.
الولايات المتحدة والألفية الجديدة
مع بزوغ فجر الألفية الجديدة كان على الأميركيين أن يتخذوا قرارات مصيرية لجهة حسم موضوع زعامتهم للعالم من دون منازع. وكما كانت الحرب العالمية الثانية ضرورة لخلق مجالات حيوية للزيادة السكانية وللصناعة الألمانية، فقد شكلت الحرب على الإرهاب ضرورة لكي تتمكن الولايات المتحدة من السيطرة على الشرق الأوسط. وكما اصطنعت ألمانيا في أيلول/سبتمبر 1939 «هجمات بولندية» قام بها جنود ألمان بلباس جنود بولنديين على قرى ألمانية حدودية ذريعة لخوض الحرب، فقد اتخذت الولايات المتحدة من هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 على برجي التجارة في نيويورك ذريعة لاجتياح أفغانستان والعراق. لقد كانت الحرب على أفغانستان في خريف 2001 فرصة لتحدّد الولايات المتحدة المدى الأقصى الذي تطمح للسيطرة عليه في هذا الشرق الأوسط. وكان من شأن الحرب على العراق أن تعطي الولايات المتحدة فرصة إعطاء عمق لهذا الشرق الأوسط إضافة إلى السيطرة على النفط. وكانت الخطوة التالية هي إسقاط النظام في إيران وفي سوريا أو تطويعهما حتى تستكمل السيطرة على الشرق الأوسط. وكانت الانقلابات التي دعمتها في جورجيا وأوكرانيا لحماية أجنحة جبهتها في الشرق الأوسط.
وكان المشروع الأميركي يبغي السيطرة على الشرق الأوسط من المحيط الأطلسي إلى حدود الصين لتحقيق جملة أهداف. فعبر السيطرة على هذه المنطقة الحيوية كان الأميركيون يريدون عزل أوروبا عن أفريقيا، ومنع تقارب محتمل بين أوروبا وروسيا، ومنع روسيا من الوصول إلى الخليج العربي والمحيط. وكانت خريطة المنطقة قد طُرحت للمراجعة وكان غزوا العراق وافغانستان قد تقررا، ولم تكن احداث 11 سبتمبر 2001 إلا الذريعة التي اتخذت لشن هذين الاجتياحين. قبل تلك الأحداث بعام ونيف انسحبت إسرائيل من جنوب لبنان بغية إغلاق آخر جبهة عربية مفتوحة ضدها. كان هدفها من الانسحاب سحب الذريعة التي تبرر وجود المقاومة في إطار التحضير للقرار 1559 الذي صدر بعد أربعة أعوام مطالبا بسحب سورية لقواتها من لبنان.
وكانت فرنسا قد تحوّلت من قوة تحاول مواجهة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط قبل العام 2004 إلى قوة رديفة للولايات المتحدة بعد حزيران 2004. والسبب يعود إلى أن فرنسا حين عارضت الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 كانت تراهن على أن العراق سيصمد لشهور عدة ما سيُحرج الولايات المتحدة ويجعلها تلجأ لفرنسا للخروج من حمام الدم في العراق . إلا أن الأميركيين تمكّنوا من حسم المعركة بسرعة، وبات الرئيس الأميركي جورج بوش يقاطع شيراك ويسعى لعزله دولياً . لكن ما أفاد شيراك كان تصاعد المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأميركي ما جعل بوش يلجأ إلى شيراك بغية توسيع التحالف الدولي لإعطاء الغطاء للاحتلال الأميركي. وقد اقتنعت الولايات المتحدة بأنها يمكن أن تستفيد من فرنسا بإشراكها في مخططاتها في الشرق الأوسط في مقابل إعطائها حصة في سورية ولبنان . وكان شيراك قد دعم وصول بشار الاسد إلى السلطة في العام 2000 ظناً منه أنه باستطاعته فرض وصاية عليه وإقناعه برفع الوصاية السورية عن لبنان. كما ان شيراك كان يسعى لإقناع سورية بفك تحالفها مع إيران . وقد حاولت سورية الرد بفرض التمديد للرئيس اميل لحود لثلاث سنوات وبإفشال جهود الحريري لتأليف حكومة ودعم الرئيس عمر كرامي لتشكيل الحكومة. لكن ما اطلق العنان للحملة على سورية كان اغتيال الحريري في 14 شباط 2005. وقد وصل المشروع الأميركي في المنطقة إلى ذروته في العام 2006 مع العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز من ذلك العام. لكن ما لم يكن في الحسبان هو جاهزية المقاومة الكبيرة لصد العدوان الإسرائيلي وهزيمته.
لم يكن النصر الأميركي في أفغانستان، خصوصاً في العراق، حاسماً. فالنمط الجديد من الحرب اللامتكافئة الذي اعتمدته الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي تعلّمته القوى الأخرى واعتمدته لعرقلة المشروع الأميركي. فإذا بإيران وسوريا تدعمان المقاومة العراقية وتجعلان الاحتلال مكلفاً لواشنطن. وإذا بروسيا تدعم انقلابات مضادة تحاصر الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي في جورجيا وتزيح فيكتور يوشينكو عن السلطة في أوكرانيا. وقد ترافق ذلك مع أزمة اقتصادية في الولايات المتحدة كانت العامل الأبرز في انتخاب باراك أوباما كأول رئيس أسود في التاريخ الأميركي. مع أوباما بات الأميركيون واعين لمحدودية قدرتهم فإذا بهم يضغطون لفرض اتفاق سياسي مع حكومة عراقية موالية لهم تخفف عن كاهل قواتهم حتى يتاح لهم التركيز على شد قبضتهم على أفغانستان. ملامح التوجه الأميركي في المنطقة عبر عنها بالدرجة الأولى التقرير الصادر عن مجلس الأمن القومي الأميركي والذي أسقط الإسلام من دائرة استهدافاته (وهو ما كان قائماً منذ 11 أيلول/سبتمبر 2001)، برغم أنه أبقى على اعتباره لتنظيم القاعدة عدواً تجب مواصلة محاربته. مرة جديدة الولايات المتحدة تستفيد من التاريخ. منذ القرن السادس عشر وحتى أوائل القرن التاسع عشر كانت إيران الشيعية تحتوي الدولة العثمانية السنّية والعكس بالعكس. كانت هذه الفترة هي التي شهدت صعود دور المهيمن على العالم. إذاً لم لا تحتوي تركيا الإسلامية الثورة الإسلامية في إيران في المرحلة المقبلة؟ بالنسبة للولايات المتحدة، فإن دور تركيا في المنطقة سيجعل في مواجهة «إسلام» إيران «إسلاماً» لا يقل عراقة يغرف من إرث الدولة العثمانية، أقوى دولة في العالم حتى أواسط القرن الثامن عشر. وسيكون لتركيا هذه جاذبية كبيرة بين المسلمين السنّة في سوريا، آخر دولة عربية تخرج من تحت مظلة العثمانيين في العام 1918، وهو ما لم تتمكن من تحقيقه السعودية. كما ستكون تركيا القوة الجاذبة للإسلاميين في مصر (الذين يعتبرون أنفسهم أكثر عراقة من إسلاميي السعودية لكن أقل عراقة من إسلاميي تركيا والإسلاميين في السودان. هنا بيت القصيد، فالسودان تحولت مؤخراً إلى القاعدة التي تنطلق منها الصين لتحقيق اختراقات في القارة الأفريقية. وكان الدعم الصيني المبطن للرئيس عمر حسن البشير هو الذي مكّنه حتى الآن من مواجهة الضغوط الغربية. وإذا كانت واشنطن قد فشلت حتى الآن في الإطاحة بالنظام السوداني عبر الحصار الدولي فلم لا تتم الاستعانة بإسلاميي السودان بزعامة حسن الترابي لإقفال الطريق أمام الصين؟
دور تركيا الإسلامية
في تركيا كان حزب العدالة والتنمية الإسلامي قد وصل إلى السلطة في العام 2002 مؤذناً بنهج جديد في السياسة التركية. وقد كان وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو الذي أصبح لاحقاً رئيساً للوزراء، أهم من رسم معالم السياسة الجديدة لتركيا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. وهو يعتبر أن هنالك ثلاث دوائر تشكل عناصر أساسية من عناصر الامن القومي التركي. فهو يعتبر انه في العصر الحالي يجب على تركيا ان تخرج من السياسة التقليدية التي اتبعتها عقب إنشاء الجمهورية بالانكفاء وراء حدودها وأن عليها لعب سياسة خارجية اكثر دينامية . وهو يعتبر ان على تركيا ان تدافع عن وجودها في تراقيا للدفاع عن اسطنبول، وان هذا لا يبدأ بالحدود مع اليونان وبلغاريا بل يمتد إلى الادرياتيكي، وبالتالي فإن على تركيا ان توثق علاقاتها مع البانيا وكوسوفو والبوسنة مع اعتماد البانيا كقاعدة لإطلاق النفوذ التركي في البلقان . كذلك يعتبر أوغلو ان الدفاع عن شرق الأناضول لا يكون بالوقوف على الحدود مع أرمينيا وإيران بل يبدأ بالشواطئ الغربية لبحر قزوين، وبالتالي فإن اذربيجان تشكل قاعدة الانطلاق للتأثير التركي في منطقة القوقاز . كذلك فهو يرى أن الدفع عن شرق الأناضول لا يتوقف عند الحدود مع سورية والعراق بل يتعداه إلى الخط الممتد من كركوك والموصل في شمال العراق وفي شمال سورية. وهو يرى ان الشرق الأوسط يشكل الحديقة الخلفية لتركيا ويدعو بلاده إلى لعب دور في هذه المنطقة . وهو يقر بأن هنالك توافقاً تاماً في كل هذه الأمور مع المصالح الجيوستراتيجية الأميركية. وكانت سورية هي المدخل الذي يمكن لتركيا أن تعود عبره إلى الشرق الأوسط.
خلال شتاء العام 2008- 2009 تعرّض قطاع غزة إلى حملة عسكرية إسرائيلية كانت تهدف للقضاء على حركة حماس. كانت إسرائيل قلقة من الدعم الذي تلقاه حركة حماس من إيران ومن حالة المقاومة التي تمثلها هذه الحركة على الساحة الفلسطينية ما يعرقل جهود إسرائيل لفرض شروطها للسلام على الفلسطينيين. وكان الأميركيون يدعمون هذا العدوان الإسرائيلي على غزة، لأنهم كانوا يعتبرون أن الدعم الذي كانت تلقاه حركة حماس من إيران كان يشكل اختراقاً إيرانياً جدياً للجبهة التي كانت الولايات المتحدة تحاول إقامتها عبر منع تسلل روسيا او الصين عبر إيران إلى البحر المتوسط. فبالنسبة للجيوستراتيجيا الأميركية لم يكن من المسموح لآسيا الممثلة بالصين وروسيا أن تصلا إلى البحر المتوسط أو المياه الدافئة. وكانت إيران قد حققت اختراقات مهمة على الصعيد الاستراتيجي عبر ثلاثة محاور جعلتها تطل على البحرين المتوسط والأحمر. فعلاقتها مع سورية وحزب الله قد جعلتها تطلّ منذ الثمانينات على البحر المتوسط. وعلاقتها مع حماس وسيطرة الأخيرة على قطاع غزة قد جعلا إيران تدعم موقعها على المتوسط وتدق إسفيناً بين إسرائيل ومصر. بالإضافة إلى ذلك فإن تمرد الحوثيين على الرئيس علي عبد الله صالح في اليمن وعدم قدرة السلطات اليمنية والمملكة العربية السعودية على قمع هذا الحراك قد جعلا الولايات المتحدة تقلق على نفوذها في البحر المتوسط والأحمر. فمن هناك كان بإمكان إيران ومن ورائها الصين أن تدعما علاقتهما بالسودان وان تنطلقا إلى عمق القارة الأفريقية.
كانت مصر مبارك قلقة من هذا التمدد الإيراني بمقدار قلق الولايات المتحدة. وخلال ثلاثين عاماً من حكم حسني مبارك منذ العام 1981 وحتى العام 2011. ففي خلال هذه الفترة تقلص النفوذ المصري إلى حده الأدنى في المشرق العربي، وخلال التسعينيات فقدت مصر عنصراً آخر من عناصر أمنها بعد اندلاع الحرب الاهلية في الصومال ما هدد امن القرن الأفريقي الذي يعتبر أحد عناصر الأمن المصري. وقد تبع ذلك تهديد منابع النيل بعد المجازر التي حدثت في رواندا وبروندي على ضفاف بحيرة فيكتوريا ما أفقد الهوتو، حلفاء المصريين والفرنسيين نفوذهم لحساب التوتسي، حلفاء الأميركيين والإسرائيليين. وقد تلا ذلك احتلال اريتريا لجزيرة حنيش الكبرى اليمنية بإيعاز من إسرائيل ما شكل تهديداً آخر لأمن البحر الأحمر. أضيف ذلك إلى الحصار الذي ضرب على ليبيا خلال التسعينيات ما شكل تهديداً لامتداد الأمن القومي غرباً باتجاه شمال أفريقيا.
في التاسع من يناير 2011 أجري الاستفتاء على انفصال جنوب السودان، وقد تمّ التوصيت بغالبية ساحقة على هذا القرار. لقد أتى القرار بضغط من الولايات المتحدة بغية تقليص الدور المصري والفصل بين شمال أفريقيا والبلدان الواقعة جنوب الصحراء الكبرى. وكانت الخطوة التالية هي فصل دارفور الغني بالنفط عن السودان على أن تليه منطقة شرق السودان والتي تشكل امتداداً للمنطقة الجنوبية الشرقية من مصر. لقد شكل هذا التطور حدثاً خطيراً، خصوصاً أنه ترافق مع عزم الدول المشاطئة للنيل على المطالبة بحصة أكبر من مياهه من دون الرجوع إلى مصر أو السودان. ترافق هذا التآكل في الأمن القومي المصري مع تراجع خطير في مستوى المعيشة لمعظم المصريين نتيجة السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي قادها الفريق المقرّب من جمال مبارك، نجل الرئيس المصري. هذه العوامل اجتمعت لتؤدي إلى الانفجار الذي حدث في الخامس والعشرين من كانون الثاني 2011. وقد أدت الإطاحة بالرئيس التونسي زين العابدين بن علي في 14 كانون الثاني إلى تشجيع الشباب المصريين على المثابرة على تنظيم أنفسهم للنزول إلى الشارع ومن ثم الإصرار على ازاحة الرئيس حسني مبارك عن الحكم. لقد شكلت الثورة المصرية حدثاً غير متوقع من قبل معظم المراقبين وقد أُخذت الولايات المتحدة على حين غرة وجعلتها ترتبك وتحس بالقلق لأسابيع. كان على الولايات المتحدة ان تتحرك سريعاً لئلا تخرج مصر عن طوعها عبر القيام بخطوات عدة لاحتواء موجة الاحتجاجات. ففي الحادي عشر من شباط أجبر المجلس العسكري المصري نائب الرئيس عمر سليمان على قراءة بيان يعلن فيه تخلّي الرئيس حسني مبارك عن الحكم، وهو الأمر الذي فاجأ مبارك نفسه. بعد ذلك تسلّم المجلس العسكري الحكم وبدأ بالتنسيق مع جماعة الإخوان المسلمين والجماعات السلفية لإعادة الإمساك بالشارع المصري. وقد دخلت المملكة العربية السعودية على الخط عبر تمويل جماعة الإخوان المسلمين والحركات السلفية بمبالغ طائلة. وكان على الولايات المتحدة أن تتحرّك سريعاً على المستوى الإقليمي لكي لا يمتد "الحريق المصري" إلى غيره من الدول الموالية لها. فقد كانت الاحتجاجات قد بدأت تندلع في المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان ومملكة البحرين والأردن ما بات يهدد النفوذ الأميركي في كل منطقة الشرق الأوسط. لذا فقد سارعت الولايات المتحدة إلى استراتيجية إشعال حرائق حول الحريق لاحتوائه عبر تشجيع "الثورات" في النطاقات التي تشكل امتداداً للأمن القومي المصري وهي ليبيا واليمن وسورية. ففي اليوم نفسه الذي تمت الإطاحة فيه بمبارك بدأت الاحتجاجات في اليمن للمطالبة برحيل الرئيس اليمني علي عبد الله صالح. وبعد ثلاثة ايام بدأت الاحتجاجات في ليبيا والتي تبعها تدخل حلف شمال الأطلسي في الأحداث الليبية. وبعدها بأيام قليلة بدأت الاحتجاجات في سورية انطلاقاً من درعا. وكان البارز في هذا الموضوع الدور الذي لعبته قناة الجزيرة القطرية في "دعم هذه الثورات". والمعروف أن القناة واقعة تحت نفوذ جماعة الإخوان المسلمين، خصوصاً أن أبرز وجوهها ومدرائها بعد العام 2003 معروفون بانتمائهم إلى هذه الجماعة.
احتجاجات سورية
في أوائل شهر شباط اندلعت الاحتجاجات في مدينة درعا ضد النظام في سورية. لقد دفعت الأحداث في مصر بالولايات المتحدة إلى إعادة ترتيب الأوراق في المنطقة بما يحدّ من الضرر الذي يمكن أن يلحق بمصالحها الاستراتيجية في المنطقة. في مقابل المواقف الدولية الأميركية والأوروبية والإقليمية التركية والسعودية التي لعبت دوراً في دعم الاحتجاجات التي انطلقت ضد الرئيس بشار الأسد فإن عدداً من القوى الإقليمية والدولية قد أعلنت صراحة وقوفها معه. ولقد كانت إيران القوة الأولى التي دعمت الرئيس بشار الأسد سياسياً بشكل مطلق. فلقد أثبت التحالف مع دمشق منذ أيام الرئيس حافظ الأسد أنه رصيد كبير لإيران في المنطقة. وقد أعلنت وزارة الخارجية الإيرانية أن الأحداث في سورية "تأتي في إطار مؤامرة غربية لزعزعة حكومة تؤيد المقاومة ضد إسرائيل" . وقد أعربت طهران عن معارضتها أي تدخل خارجي في الشؤون السورية. وقد اعترض المسؤولون الإيرانيون على الاتهامات الغربية التي تتهم إيران بمساعدة أجهزة الأمن السورية على قمع التظاهرات . كما تجلى هذا الأمر في الموقف الداعم للأسد الذي اتخذه حزب الله على لسان أمينه العام السيد حسن نصر الله ، لأن خسارة الدعم السوري تعني قصم ظهر المقاومة الإسلامية التي ستضحي محاصرة من البر بعدما تم فرض حصار بحري على لبنان من قبل القوى الغربية عقب العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 2006.
كذلك الأمر فقد كان قلب النظام الذي نادى به قسم كبير من المتظاهرين في سورية يعني أن تخسر روسيا حليفاً مهماً لها في الشرق الأوسط. لقد شكلت العلاقة مع سورية لبنة اساسية في الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط منذ ما قبل عهد الرئيس حافظ الاسد. وقد اتاحت لها هذه العلاقة قاعدة راسخة على ضفاف شرق المتوسط؛ وهو ما كانت تطمح اليه منذ ايام بطرس الأكبر. وكانت روسيا قد أعلنت عن استيائها من "الخديعة" التي تعرضت لها على يد الناتو في ما يتعلق بإصدار قرار دولي بحجة حماية المدنيين من العقيد معمر القذافي ليتحول هذا القرار إلى ذريعة للتدخل العسكري لفرض وصاية غربية على ليبيا ما شكل ضربة لروسيا ومصالحها الحيوية في ما يتعلق بإطلالتها على غرب المتوسط عبر طرابلس الغرب. وبالتالي فهي أعلنت بقوة عزمها على معارضة أي قرار دولي يصدر بحق سورية، وهي نجحت حتى الآن في عرقلة صدور أي قرار في هذا الشأن. كما اعلنت لوفود من المعارضة السورية زارت موسكو عن معارضتها أي تدخل دولي وأي زعزعة للنظام، ودعت أعضاء الوفود المعارضة إلى التحاور مع النظام.
وتبقى الصين الداعم الثالث لسورية وللرئيس بشار الاسد. وحتى الآن كانت مواقف الصين معارضة لاتخاذ أي موقف دولي يمكن أن يصدر بحق النظام السوري. فللصين اعتباراتها وهي تملك تجربة واسعة في الصراعات الدولية. وتاريخياً كانت الصين تنزع إلى الانعزال والتقوقع داخل حدودها "لأنه ما من شيء إلا وكانت تملكه" و"هي لم تكن بحاجة لشيء من الخارج". لقد كان التجار العرب والفرس هم مَن ذهب إلى الصين منذ ما قبل الميلاد للاتجار معها ولم تكن الصين هي التي خرجت إلى العالم باستثناء مرتين. المرة الأولى كانت حين وقعت تحت سيطرة المغول. فكان المغول ورغبتهم بالاتجار مع العالم هي التي دفعتهم إلى إخراج الصين من عزلتها. وكانت إمكانات الصين الهائلة هي التي ساعدت المغول على اجتياح آسيا بغية تأمين طريق التجارة من الصين وحتى وسط أوروبا. لقد كان أول توحيد للقارة الأوراسية قد تمّ على يد المغول انطلاقاً من الصين. وقد ادى ضمور التجارة إلى تفكك الامبراطورية المغولية وانفراط عقدها إلى دويلات عدة ضعيفة بعد قرن ونصف القرن من تأسيسها. بعد انهيار الحكم المغولي في الصين سيطرت أسرة مينغ على السلطة بعد تمرد قادته ضد آخر حاكم مغولي. وقد ارسل الامبراطور زو دي بأسطول طاف ارجاء العالم في العام 1422 ليعود بعدها إلى الصين. وبناء لأوامر الامبراطور تم تفكيك الاسطول "لانه ليس هنالك في العالم ما تحتاجه الصين". وعادت الصين إلى عزلتها . هذه العزلة هي التي أدت بالقوى الغربية إلى الالتفاف على أقوى قوة في آسيا محولة إياها في القرن التاسع عشر إلى رجل آسيا المريض. وفي العصر الحديث لم تعد الصين تملك رفاهية اتخاذ قرار بالانعزال عن العالم، فبنيتها الصناعية تحتم عليها الحصول على النفط، كما تحتم عليها إيجاد أسواق لتصريف منتجاتها. واسقاط النظام في سورية يعني محاصرة إيران تمهيداً لإسقاط النظام فيها. وهذا يعني بالتالي إغلاق الشرق الأوسط في وجه الصين. وفي ظل محاصرة الصين بحرياً عبر اليابان وكوريا الجنوبية، وتايوان ودول جنوب شرق آسيا فإن خروج الصين إلى البحار بات صعباً من دون رضى أميركي. ولا يمكن لاي قوة تطمح إلى دور عالمي أن تقبل بأن تكون طرق مواصلاتها تحت رحمة قوة اخرى، خصوصا أنها قوة منافسة لها.
وبالتالي فقد بات خروج الصين إلى العالم يمر عبر الشرق الأوسط، تماماً كما حصل مع المغول قبل ثمانية قرون بعدما سيطروا على الصين. فعبر الشرق الأوسط يمكن الوصول إلى أفريقيا، وهي المنطقة التي تحاول الصين الانفتاح عليها لغناها بالموارد الطبيعية. وهذا يفسر سر العلاقة الطيبة مع السودان الذي بات البوابة الصينية إلى أفريقيا. والجدير ذكره ان امبراطور الصين المغولي قوبلاي خان كان أول من حاول إخراج الصين إلى البحار الواسعة إلا أنه اصطدم بعقبة اليابان التي تغطي معظم السواحل الصينية وتحصرها في البحر الأصفر مانعة إياها من الخروج إلى المحيط الهادئ. وفي العصر الحالي فإن اليابان لا تزال تلعب هذا الدور. وبالتالي فإن الشرق الأوسط يجب أن يبقى مفتوحاً أمام الصين لذا فإن على إيران ان تصمد في مواجهة الضغوط الغربية، كما أن على سورية أن تصمد في مواجهة محاولات فرض الوصاية الغربية عليها. وقد ادى وصول الأميركيين إلى حدود الصين الغربية بعد اجتياح افغانستان في العام 2002 إلى اثارة مشكلة الاقليات المسلمة في منطقة غرب الصين ما يعطي مثلاً إضافياً على أهمية الا يكون الشرق الأوسط تحت السيطرة الكاملة للولايات المتحدة لانه من هذا الشرق الأوسط يمكن للأميركيين الانطلاق لمد نفوذهم داخل المناطق الغربية للصين ذات الغالبية المسلمة. وهذا يعطي استقلال سورية عن الغرب أهمية مضاعفة للصين. وهذا ما يفسر اعلان وزارة الخارجية الصينية أن "سورية دولة مهمة جداً في الشرق الأوسط ويجب أن تبقى مستقرة وأن حل المشكلات فيها يجب أن يبقى داخلياً وألا يحصل تدخل خارجي في الشؤون الداخلية السورية يؤدي إلى تعقيد الأمور" .
خاتمة
خلاصة الموضوع أن الأزمة التي نشهدها حالياً في منطقة الشرق الأوسط ناجمة عن تحولات في موازين القوى العالمية التي تؤذن بتحول النظام الدولي إلى نظام متعدد الأقطاب سيشهد للمرة الأولى منذ مئتي عام نهاية الهيمنة الغربية المطلقة على المقدرات العالمية. ويخشى الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة من صعود قوة أوراسية تتمثل هذه المرة في الصين وروسيا اللتين أسستا منظمة شنغهاي للتعاون، والتي قد تشهد قريباً انضمام إيران بشكل كامل لعضوية هذه المنظمة. ولأن هذه المنظمة ستسيطر على قلب أوراسيا، وتمتلك إمكانيات اقتصادية وبشرية هائلة، فإن الولايات المتحدة تحاول الحدّ من إمكانياتها عبر منعها من الوصول بحرية إلى طرق الملاحة البحرية. هذا ما يفسر السياسات التي تتبعها الولايات المتحدة في شرق آسيا عبر التحالف مع اليابان وكوريا الجنوبية والدول المشاطئة لجنوب بحر الصين ضد الصين، وهذا ما يفسر الأزمة الأوكرانية بين روسيا والغرب، كما ان هذا ما يفسر الأحداث في منطقة الشرق الأوسط والتي تأخذ شكل حروب غير متوازنة أو حروب بالوكالة تقودها جماعات تصنف على أنها إرهابية.
لكن التكتلات التي نشأت في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين أخذت تفرض نفسها على الساحة، من منظمة شنغهاي للتعاون بزعامة الصين وروسيا وقريباً إيران، إلى منظمة دول البريكس بعضوية روسيا وإيران ومعها الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا. ويأتي هذا في ظل انتقال مركز الثقل الاقتصادي إلى المحيط الهندي لأول مرة منذ القرن السادس عشر مع محاولات القوى الآنفة الذكر النفاذ إلى طرق المواصلات البحرية وتحويلها بعيداً عن الهيمنة الأميركية. ومع تراجع الثقل الأقتصادي تدريجياً لأوروبا والولايات المتحدة فإن هذا يمكن أن يسرّع عملية الانتقال هذه. لكن تبقى المشكلة في الهيمنة الأميركية على طرق المواصلات هذه عبر سيطرتها على منطقتي المتوسط والشرق الأوسط بنسبة ثمانين بالمئة. لكن ما قد يكسر هذه الهيمنة هو الصعود المرتقب لمصر بدور مستقل سيكون حكماً على حساب المصالح الأميركية. فلقد شكلت الهيمنة الأميركية على مصر منذ عهد الرئيس أنور السادات قاعدة النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، وإن خروج مصر من تحت هذه الهيمنة في ظل تقاربها مع روسيا سيؤدي إلى اضعاف الهيمنة الأميركية على الشرق الأوسط وعلى طرق المواصلات البحرية وخصوصاً في المحيط الهندي ويعطي زخماً للتكتلات المعارضة للهيمنة الأميركية.
المراجع:
Zeine Zeine, TheStruggle for Arab Independence (Beirut: Khayat, 1960).
Michael Province, The Great Syrian Revolt, and the Rise of Arab Nationalism (Austin: University of Texas Press, 2005), 17.
Alfred Thayer Mahan, The Influence of Sea Power Upon History: 1660 – 1783, (Boston: Brown and Company, 1918), P iii.
Halford Mackinder: The Geographical Pivot of History, the geographical journal, vol 170, no 4, december 1904, 298 – 300
Nicholas Spykman, America’s Strategy in World Politics-The United States and the Balance of Power, (New Brunswick, Transaction Publishers, 2008) 59
Zbegnew Brzezinski, The Grand Chessboard, American Primacy and its Geostrategic Imperatives XIV.
William T. Rowe, China’s Last Empire: the Great Qing, (Cambridge: Harvard University Press,2009), 172.
Chi Kwan Mark, China and the world since 1945, (London: Routledge, 2011), , 96.
Alfred K. Ho, China’s Reforms and Reformers, (Westport: Praeger, 2004), 81.
Chi Kwan Mark, 97.
Alfred K. Ho, 82.
Website of Shanghai Cooperation Organization at
http://www.sectsco.org/EN123/brief.asp accessed on 23 – 2 – 2015.
Website of Shanghai Cooperation Organization at
http://www.sectsco.org/EN123/AntiTerrorism.asp accessed on 23 – 2 – 2015
Norling, Nicklas and Niklas Swanström. “The Shanghai Cooperation Organization, Trade, and the Roles of Iran, India and Pakistan.” Central Asian Survey Volume 26. Issue 3 (2007): 429-444 (429-432).
Robert D. Kaplan, Asia’ Cauldron: The South China Sea and the End of a Stable Pacific, (New York: Random House, 2014)
“Xínjiang protesters to be punished ‘with utmost severity”, TIBETAN review AUGUST 2009, 28.
UN Chief urges respect for right to protest, others follow suit, TIBETAN REVIEW AUGUST 2009, 26.
China accuses US of adding to regional tensions, The Guardian, February 9 – 2014, at
http://www.theguardian.com/world/2014/feb/09/china-accuses-us-south-china-sea accessed on April 7, 2015.
US accused of inciting South China Sea tensions, RT, August 11, 2014, at http://rt.com/usa/179512-asean-kerry-wang-tensions/ accessed on April 7, 2015.
Saibal Dasgupta, US commander accuses China of creating artificial landmass in South China Sea, The Times of India, April 3, 2015. At http://timesofindia.indiatimes.com/world/china/US-commander-accuses-China-of-creating-artificial-landmass-in-South-China-Sea/articleshow/46790380.cms accessed on April 7, 2015.
R. Van Bergen, The Story of Russia, (New York: American Book Company, 1905), 160.
R. Van Bergen, 183.
Simon Dixon, Catherine the Great, (Harper Collins Ebooks, 2009), 288.
General Count Philip de Segur, HISTORY OF THE EXPEDITION TO RUSSIA, UNDERTAKEN BY THE EMPEROR NAPOLEON in the year 1812, (London: TREUTTEL AND WURTZ, TREUTTEL, JUN. AND RICHTER, 1825), Book I Chap I.
Marie Platt Parmele, A Short History of Russia, (New York: CHARLES SCRIBNER’S SONS, 1907), Chap XXI.
A. F. Pollard, A Short History of the Great War, (London: Methuen & Co Ltd, 1919), Chap I.
Leon Trotsky, From October to Brest-Litovsk, at Project Guttenburg.org
Adolf Hitler, Mein Kampf.
Gerhad L. Weinberg, A World At Arms: A Global History of World War II, (New York: Cambridge University Press, 1995), 35 – 37.
Gerhard L. Weiberg, Chap 3 – 4.
Weinberg, 421.
Weinberg, 600 – 622.
Steven A. Cook, The Struggle for Egypt: From Nasser to Tahrir Square, (Oxford: Oxford University Press, 2012), 132.
See Robert Lacey, Inside the Kingdom: Clerics, Modernists, Terrorists, and the Struggle for Saudi Arabia, (London: Penguin Books, 2009), 63 – 68.
Vladislav M. Zubok, A Failed Empire: The Soviet Union in the Cold War from Stalin to Gorbachev, (Chapel Hill: The University of North Carolina Press, 2007), 304.
Charles J. Shields, Vladimir Putin, (New York: Chelsea House Publishers,2007), 50 – 59.
roxann prazniak, Siena on the Silk Roads: Ambrogio Lorenzetti and the Mongol Global Century, 1250–1350,J ournal of World History, Vol. 21, No. 2 © 2010 by University of Hawai‘i Press P 177.
Spuler, The Mongol Period. (New York: markus Weiner Pub, 1994)
23.
Ibid, 26-27.
See See The Travels of Marco Polo the Venetian, edited by Thomas Wright, Chap XLIV.
Bertold SPuller, 35 – 37.
David Blow, Shah Abbas, the Ruthless King Who Became an Iranian Legend, (London: I.B. Tauris, 2009), 47.
Ibid, 75 – 84
Ibid, 103.
Vincent Nouzille, Dans le Secret Des Presidents, (Paris: Fayard, 2010), 395-408.
Vincent Nouzille, 409-419.
Vincent Nouzille, 444-449.
Vincent Nouzille, 450-451.
أحمد داوود أوغلو، العمق الاستراتيجي، موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، ترجمة محمد ثلجي وطارق عبد الجليل، الدوحة: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2010، ص.ص. 75-81.
أحمد داود أوغلو، العمق الاستراتيجي، ص.ص. 146-150
أحمد داود أوغلو، العمق الاستراتيجي، ص.ص. 150-155
أحمد داود أوغلو، العمق الاستراتيجي، ص.ص. 155-158.
السفير 13 نيسان 2011.
السفير 10 حزيران 2011
السفير 15 حزيران 2011
السفير 26 ايار 2011
Gavin Menzies, 1421, The Year China Discovered the World, London: Bantam Press, 2003.
السفير 13 ايار 2011