انطون سعادة ورواد الإصلاح الديني
"الإسلام في رسالتيه" لسعادة دراسة معمقة ومنهجية معرفية لنشوء الإسلام المحمدي في مرحلتي مكة والمدينة من خلال النص القرآني دراسة قائمة على التحليل المعرفي والاستنتاج العلمي الموثق بالنصوص. ومؤسسة على تاريخ الأديان الموحدة اليهودية والمسيحية والإسلام.
تؤكد الدراسة على مفهوم الإسلام الإبراهيمي كما ورد في القرآن. فالإسلام عنده ليس المحمدي فحسب بل أنه يتضمن الإسلام المسيحي والإسلام العبراني. جوهره التوحيد وعبادة الله وتجنب الشر وفعل الخير وخلود الروح في النعيم السماوي وتحقيق الثواب والعقاب
مفهوم الله في الإسلام برسالتيه لم يتغير والأديان الموحدة تدعو كلها إليه.
الإسلام جاء لهداية العرب إلى التوحيد وصرفهم عن عبادة الأوثان. وتوقع حليفا في المسيحية واليهودية تاريخاً ونصوصاً وسيرة.
وظل المعتقد في المدينة كما كان في مكة رغم أنه ركّز على تأسيس الدولة الدينية. الدولة واسطة لإقامة الدين. لكن حقائق الإيمان ظلت واحدة دين ضد الأوثان. وليس ضد الأديان. تحقق له النصر (إذا جاء نصر الله).
ومع تميز في النظر إلى الناسخ والمنسوخ، فالقرآن وحدة.
الدولة لإقامة الدين. وليس الدين لإقامة الدولة. لكن الدولة الثيوقراطية في الأزمنة الحديثة تجاوزتها التطورات الإنسانية إلى فصل السياسة عن الدين والدين عن السياسة بالنسبة لسعادة.
التبست الهوية القومية بالدين عند جماعة العروة الوثقى فالجنسية عندهم دينية وتميز عبد الرحمن الكواكبي فالدولة عنده تتدبر الدنيا. والدين يتدبر الآخرة.
تطورات الرؤية وتميزها عند الشيخ محمد عبده عن رؤيا الوحدة الإسلامية السياسية عند الأفغاني. لكن سعادة ينظر إلى جماعة العروة الوثقى حزمة واحدة. والفصل بين الشيخين أوجب.
التبست الجنسية (الهوية) بالدين عند الأفغاني.
بينما الشيخ عبده التمس طريق النهضة المعرفية عن طريق إيقاظ العقل وركز الأفغاني على الاقتراب السياسي لحل أزمة التحديات الغربية للإسلام محل الاقتراب المعرفي.
وبرزت! إرهاصات فصل السياسي عن الديني. والديني عن السياسي عند الكواكبي في أم القرى وطبائع الاستبداد.
فالدولة تتدبر الدنيا. والدين يتدبر الآخرة. وليحيى الوطن حراً. وتجلت في فكره مكاشفة فكرية وصراحة علمية واصطلاح تحريضي على يقظة الفكر والمعرفة العلمية في معالجة المسألة القومية.
تأثير البيئة على نشوء الأديان والحضارة والتيارات الفكرية والمعرفية أساسي في فكر سعادة. فالوراثة الحضارية لم تعط أي مساحة في بحوثنا العلمية عن الأديان. المسيحية حضارياً نتاج آرامي. وكذلك الإسلام وقريش هي من العرب المستعربة لا العاربة وهي أصلاً من الأنباط.
ورغم تقارب الإسلام مع اليهودية بالتشريع فإن المسيحية والإسلام من ينابيع روحية واحدة بخلاف اليهودية التي تكمن مرجعيتها في العنصر والإرث وتلفيق الأنساب إن النظر إلى المسيح ومريم في القرآن يناقض ما ذهب إليه اليهود.
ــ إن مكانة المسيح في الإسلام ومفهوم الله الرحمن الرحيم ومحمد النور والحب والحقيقة في التصوف الذي يؤكد على وحدة الأديان والتوحيد العالمي لا العنصري أحل الإرث الروحي محل الإرث المادي. فإذا كان يهوه والميثاق والمعاد لإسرائيل وحدها. فالله (في رؤيا الناصري والنبي العربي) للعالم كله والكون وكل البشر.
إن العود بعد آلاف السنين إلى القتل والصلب والثأر والمحرقة الفلسطينية يناقض مفهوم الله الرحمن الرحيم والمحبة الكونية عند المسيح.
ويقرر سعادة بالحقائق التاريخية والآيات القرآنية تسلسل الإسلام الإبراهيمي من موسى إلى المسيح إلى محمد.
إلا أنه مع انتشار المأساة في فلسطين يؤكد على التالي: ليس من سوري إلا وهو مسلم لرب العالمين فاتقوا الله واتركوا تآويل الحزبيات الدينية العمياء: فقد جمعنا الإسلام منا من أسلم لله بالإنجيل ومنا من أسلم لله بالقرآن ومنا من أسلم لله بالحكمة فليس لنا من عدو يقاتلنا في ديننا وحقنا ووطننا غير اليهود فلنكن أمة واحدة في قضيتنا الواحدة ونظامنا الواحد"
وهكذا فإن كتاب الإسلام في رسالتيه يصحح علاقة الأديان بعضها مع بعض وينطلق من إرث إبراهيم الموحد فالدين ليس قومية أو جنسية إنه إيمان وعقيدة لله فيها القول الفصل أما اقتتالنا على السماء فيفقدنا الأرض.
وهكذا فإن الإسلام في رسالتيه ألقى أضواء كاشفة على علاقة القومية بالدين من جهة وعلاقتها بالعلمانية وعلاقة الأديان فيما بينها في الإطار القومي.
ــ عيسى بن مريم ــ
بالنسبة للإسلام النفخة في الطين هي النفخة في الرحم. الأولى خلقت آدم والثانية خلقت من نطق في المهد صبياً أما معجزة الخلق فهي نفسها معجزة النطق والمعجزات التي أعطيت للمسيح بإذن من الله. اعترف بها القرآن جميعاً.
الحبل بلا دنس إذن من معتقدات القرآن. وسورة مريم التي تجسد ذلك تعود إلى تاريخ مبكر في الإسلام إلى المرحلة المكية. إنه إيمان خالص [جاء ذكر مريم في ثلاث وثلاثين آية وسورة مكية ومدنية كما جاء ذكر المسيح في أحد عشر آية]
كما جاء ذكر المسيح في أحد عشر آية]
لا القتل ولا الصلب يمكن أن يطال المسيح "كلمة الله" ومن روحه ــ من يقتل الجزء له قدرة على قتل الكل. وهذا غير مقبول منطقاً وشرعاً بالنسبة للمسلم.
ورفع الله المسيح وكرمه. وسيعود ممهداً لظهور المهدي الذي ينظف الأرض من الظلم والشرك.
أما كونه مات ورفع. أو رفع وسيموت فيما بعد. قضايا يقتضيها الهيكل البشري. يموت الجسد وتبقى الروح التي تعو إلى بارئها.
هناك فرق مسيحية تخالف المسيحية الأرثوذكسية والخلاف على طبيعة المسيح الواحدة والطبيعتين الذي كان وراء فرق اليعاقبة والناطرة لا يزيد الموضوع الخلافي على الصلب إيضاحاً بين الإسلام المحمدي والمسيحي.
الفداء والصلب جوهر المسيحية. الصلب حدث تاريخياً لكن تفسير ذلك في التصور المحمدي تركز على الرفع لا القتل والصلب
النساء
وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً 156
وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله
وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم
وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه وما لهم به من علم إلا اتباع الظن، وما قتلوه يقينا. 157
بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً 158
إضاءة
الهجرة إلى الحبشة
لماذا كانت الهجرة الأولى إلى الحبشة والثانية إلى يثرب المدينة فالهجرة إلى الحبشة كانت إلى مملكة مسيحية. والثانية إلى مدينة الأوس والخزرج الذين نصروا الإسلام وبايعوا الرسول تحت الشجرة فالأنصارهم الذين حضوا الرسول على الهجرة لا القبائل اليهودية يهود خيبر وبنو قينقاع وبنو النضر وغيرهم.
فالإسلام هذا الدين الجديد في أرض الجزيرة والمسيحية التي انتشرت قبله في العالم من مشكاة واحدة في عبارة النجاشي بعد استماعه إلى سورة قرآنية (كهيعص)
حاول وفد قريش الوثنية الوقيعة بين المهاجرين والنجاشي بلغوا (83) شخصاً فيهم الرجال والنساء ما عدا الأولاد الذين ولدوا في الهجرة. ليرد المهاجرين إلى قريش الوثنية لكن النجاشي اقتنع بأن الإسلام يقول في المسيح عيسى بن مريم شيئاً عظيماً وحين استدعى النجاشي جعفر بن أبي طالب وسأله ماذا تقولون في عيسى بن مريم أجابه ما يقوله نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول فرد النجاشي وفد قريش خاسئاً خاسراً وحمى المهاجرين ودينهم الذي شع هو والمسيحية من مشكاة واحدة. لذلك نفهم كيف يصلي الرسول العربي على النجاشي ويترحم عليه عندما بلغ وفاته.
***
إضاءة
صحيفة المدينة
"كتاب الرسول بين المهاجرين والأنصار وموادعة يهود"
وكتب رسول الله كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم، واشترط عليهم:
بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس وإن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوقع إلا نفسه وأهل بيته.
ومثل يهود بني عوف: يهود بني النجار، ويهود بني الحارث ويهود بني ساعدة ويهود بني جشم ويهود بني الأوس ويهود بني ثعلبة.
وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة فلليهود النفقة في الحروب كما لهم المغنم إذا قاتلوا مع المسلمين.
السيرة النبوية لابن هشام جــ (1 ــ ج) دار الكنوز الأدبية (لا تاريخ) صفحة 501 ــ 505
وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم. وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم.
علينا هنا أن نتفحص مفهوم المؤمن ومفهوم المسلم، ومفهوم المشرك أنه من آمن بالله واليوم الآخر.
وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر. أن ينصر محدثا ولا يؤويه. وأنه من نصره أو من أواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة (ص 503)
استخلاص
ــ العقل هو هبة الله للإنسان، والعلم هو هبة العقل
ــ والوحي هو هبة الله للأنبياء والخلق
ــ والله لا يعطل هباته إلا إذا كفر الإنسان بهباة الله وأجملها الإيمان.
ــ والعقل والعلم يعززان ما يعلمنا إياه الإيمان من وحدة الرسالة ووحدة الكون ووحدة الوحي التي تجلت في الأديان التوحيدية لا سيما المسيحية والإسلام. "كلنا مسلم لرب العالمين…" والقرآن الكريم الذي يعبر عن كمال هذه الرسالة، إنما يتوجه إلى الإنسان في عشرات الآيات المضيئة إلى التفكر والتدبر والعقل ليرى الإنسان ضوء الله الذي يتجسد في الوحي والعقل على حد سواء.
إنما جاء الوحي ليؤكد على أهمية الإنسان والحرية والعقل في مسيرة الإنسان التاريخية إلى الله مطلق الحق والخير والجمال والعزوف عن طريق الشيطان والشر.
وقد سجلت حضاراتنا منذ فجر التاريخ على أرض سورية والعروبة إنجازات رائعة للإيمان كما للعقل والعلم فبلادنا هي مهد الأديان التوحيدية جمعاء وإنجازاتها الحضارية في المعرفة والعلم وثمار العقل هي أساس ما توصلت إليه البشرية من رقي وتقدم.
والبشرية كما أضاء الكتاب الكريم هي بحاجة للإيمان والوحي كما هي بحاجة للعقل كلاهما يتمم الآخر ويكمله لذلك فالإنسانية في تقدمها اكتشفت في أعلى أوجها وصعودها إلى الكواكب أن الإنسان لا يصل إليها إلا بسلطان العلم والعقل والمكتشفات العلمية قادت جل العلماء إلى الإيمان كما قادت المؤمنين بدء من آيات الله لبينات إلى إدراك أهمية المعرفة والعلم والعقل في الكتاب الكريم وانتهاء بصفحات الكون واكتشافات العلم. وما أبعدنا نحن وأبعد تاريخنا ومنجزات فكرنا وحضارتنا عن مقولات الإلحاد المادي. من أراد أن يعبد المادة فليعبدها فنحن لا نعبد غير الله. ومن أراد أن يصنم العلم ويجعله هبل الحياة الحديثة كما في الثورة الفرنسية التي أسست عبادة العلم فنحن لا نخلط عبادتنا ولا نلبسها بمثل هذه الضلالات.
قادة الثورة الفرنسية أرادوا أن يتخلصوا من سطوة الكنيسة فأسسوا عبادة العلم لكنهم ما عتموا أن اكتشفوا خطأهم عندما انحسرت هذه السلطة وعادوا إلى الإيمان وأعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر.
ألم ينحن نابليون أمام القيصر ليتوجه إمبراطوراً ويبارك زواجه؟! والماركسية في مؤسساتها الشيوعية أيضاً عادت للسلطة الدينية وأعطت مساحة واضحة لحرية المعتقد وإن ظل الجدل قائماً على المستوى الفلسفي.
أما نحن… فالعقل عندنا لا يناقض الإيمان والإيمان لا يناقض العقل والعلم.
وقد تبين المفكرون من خلال التجارب التاريخية فشل العلمانية الإلحادية كما تبينوا الاستفادة من هبات الله في العقل والعلم والوحي.
لذلك أقول إن العلمانية عندنا هي علم + إيمان ومن يذهب إلى غير ذلك إنما يضل سواء السبيل.
والله الذي أفادنا بالإيمان والوحي يتمم علينا النعمة بالحرية. إن أهمية الإنسان والعقل في بناء كون أفضل يجعل مسيرة البشرية سبيلاً إلى الخير والرشاد والحق لا إلى الظلام والنار إن العلمانية هي هذه علمانية مؤمنة وإيمان يقدر قيم الحضارة والعلم.
إضاءة
ــ الله واحد والوحي واحد والعالم واحد
ــ لا حقيقة بلا شريعة ولا شريعة بلا حقيقة
ــ الأديان للإنسان وليس الإنسان للأديان.
ــ أن حياة الإنسان ومصالحه العليا جاءت الأديان لتحقق العدالة والسعادة للبشر.
(هناك قواسم مشتركة بنيوية بين المسيحية والإسلام
ــ المفهوم القرآني للإسلام وحقائق الجغرافيا والتاريخ والمواريث الحضارية.
ــ الإسلام في رسالتيه المحمدية والمسيحية لسعادة يتفق مع المفهوم القرآني للإسلام.
ــ الدولة من صنع الإنسان أما الدين فمن وحي الله
ــ العدالة والحق هي مقاصد الرحمة والغفران الإلهيين.
ــ الإسلام والمسيحية ينبثقان من نبع واحد وهذا مفهوم قرآني.
كانت القدس قبلة الاسلام الأولى وظل المسلمون يديرون وجوههم اليها في صلاتهم لثمانية عشر شهراً وحين قويت شوكة الاسلام انتقلت القبلة إلى مكة فالقواسم المشتركة بين المسيحية والاسلام عقائدياً عديدة بينما انحصرت مع اليهودية في بعض جوانب التشريع.
ويعلمنا الأزرقي في تاريخه:
عندما تمت السيطرة على مكة للرسول العربي أرسل علي بن ابي طالب إلى الكعبة وأمره أن يمحو كل الصور الموجودة على جدرانها إلا صورة ابراهيم الخليل وصورة مريم وهي تحمل المسيح الطفل في حضنها .
فابراهيم أبو التوحيد الذي جاء الرسول العربي لتأسيسه من جديد في الجزيرة العربية والعالم ومريم سيدة الحبل بلا دنس أم المسيح كلمة الله كما جاء في الكتاب الكريم.
الدين والدولة في مرآة النهضة
85
المقالة السابقة