دراسة مقارنة في الفكر الغربي والإسلامي
الأسطورة واحدة الأساطير، وهي لغة ما سطّره الأولون، والأساطير هي الأباطيل، وأحاديث لا نظام لها. ومن هنا يُقال للرجل إذا أخطأ، أسطر فلان اليوم، والإسطار هو الإخطاء.
وأما الأسطورة في اللغات الأوروبية فهي مشتقة من أصل يوناني وتعني الشفهيّة. ومن ثم استعملت في الحكايات التي تروي أفعال الآلهة أو مغامرات الأسلاف البطولية. أو هي حكاية تضطلع فيها الآلهة بدور أو بأدوار رئيسية عدّة.
والذهنية الأسطورية، حسب الباحثين الغربيين، هي سابقة على الذهنية الفلسفية وهي بدورها تسبق الذهنية العلمية المعاصرة. ولا شك في أن الأسطورة لعبت ولا تزال تلعب دوراً مهماً في صياغة الفكر وإدارة الحياة العملية للإنسان، وذلك من خلال الإجابة على أسئلة تتعلق بالكون ما فوق الطبيعة، المجتمع وعالم النفس، ومن هنا وبحسب جيمس هولس يمكن النظر إلى الأسطورة من زوايا مختلفة.
إن الأسطورة تعمل على تزويد فكرة الألوهية بألوان وظلال حيّة، لأنها ترسم للآلهة صورها التي يتخيّلها الناس، وتعطيها حياتها، وصفاتها وألقابها، وتكتب لها سيرتها الذاتية وتاريخ حياتها. وبما أن الخبرة الدينية ليست في أساسها خبرة عقلية، بل انفعالية، فإنها لا تتطلب بطبيعتها البرهان ولا تتطلّع إليه، وإنما تتطلب معادلاً موضوعياً يموضعها في الخارج ويسبغ عليها مشروعية ومعقولية، وذلك من خلال ميثولوجيا تجعل التجربة الدينية مشتركة مع الآخرين ما دامت محافظة على طاقتها الإيحائية العالية. وهنا تعمد الأسطورة إلى استنفاد القوى السحرية للغة، من أجل موضعة خبرة كلائية بالقدسي لا تنفع في توصيلها مفردات اللغة المستمدة من التجربة اليومية.
ولقد شهد الفكر الغربي ظهور تصورات مختلفة حول الأسطورة انطلاقاً من اعتبارين أساسيين. الأول: تاريخية الأفهوم، والثاني: الوسائط والأدوات المعرفية المختلفة لمقاربة الأفهوم.
الأسطورة في النظرة الفلسفية
إن المقاربة الفلسفية لأفهوم الأسطورة تعتمد على اعتبارين أساسيين: أولاً: الاعتبار الأنطولوجي، حيث يرى أصحاب النظر الفلسفي صلة قربى بين الأسطورة والوجود، ويعتبرون حسب قول المؤلف: «إن الأسطورة هي لغة التعبير عن الوجود تعبيراً مجازياً أو رمزياً».
ثانياً: النظرة الشمولية، تعتمد النظرة الفلسفية على التفسير الشامل للكون والحياة وقضاياهما، ومن هنا «فإن الأسطورة يُنظر إليها باعتبارها تجسيداً لهذا البعد الكلياني والشمولي إلى الكون والحياة»، ويُعَدّ أفلاطون (429 ـ 347) ق.م. من روّاد الفلسفة الكلاسيكية اليونانية.
وتشكل محاورات أفلاطون ومساعيه النظرية أولى المساهمات الفلسفية لفهم الإنسان والكون. وقد اشتملت تصوراته على مجموعة هامة من الأساطير اليونانية، بل أفكاره توليفة من العقلائية والعرفان، والمنطق والأسطورة، وهنا تكمن صعوبة فهم النظريات التي يطرحها.
ويؤكد المؤلف أن أفلاطون يستخدم الأسطورة ويوظفها لأغراض فلسفية، سواء أكان يعتقد بمضامينها أم لا. ويظهر بوضوح الاستعانة من الأسطورة في ما أورده من المقاربة لمفهوم الروح قائلاً: «إنها تركيبة من الإنسان والأسد ووحش ذي رؤوس عدّة تلتحم حولها أجساد حيوانات أهلية ووحشية». وفي بيان أقسام الروح ومراتبها التسعة، يقوم بالجهد الفلسفي المعقد نفسه منطلقاً من توظيف الأسطورة وأبعادها العملية في تفسير الحقائق المتصورة.
أما الفيلسوف الألماني هيغل فيتصل تصوره لمفهوم الأسطورة، باعتبارين هما: المعرفة والدين. ويقول المؤلف: «يعتبر هيغل بخلاف عمانوئيل كانط، أن المعرفة نتيجة جدلية الإنسان والتاريخ. وعليه فإن التاريخ من مكونات المعرفة، وليست المعرفة وليدة الأذهان المختلفة فقط، كما يقول كانط». ويرى هيغل أن الوعي الأسطوري ونمطه من تشكّل الروح وصيرورتها الواقعية. كما يعتبر أن المعرفة هي التحقق الفعلي للروح، إن المنطق الجدلي الذي يقول به هيغل، لا يقول (أ) ليست (أ) فذلك محال. ولكن إن كانت (أ) تتطابق مع حقيقة، إلا إذا كانت قضية بينة بلا معنى، فإن (أ) تملك في ذاتها صيرورة أبعد منها. (أ) هي (أ) ولكن أيضاً أكثر من (أ).
إن الوحي بحسب هيغل هو بمثابة انكشاف الأمر المطلق. والمطلق الذي تارة يتبلور لدى هيغل بشكل العقل، وتارة أخرى بشكل الدين في صيرورة دائمة. ومفهوم تاريخي يحصل التقدم فيه بواسطة الحذف والتجاوز. والصورة الأولى للدين حسب هيغل، هي: «أن الصورة الأولى للدين التي نسمّيها بالسحر هي عبارة عن الأمر الروحي الذي يملك سلطة على الطبيعة، غير أن الأمر الروحي لم يبلغ مرتبة الروح، أي الصورة الكاملة بل لا يزال أمراً جزئياً ومؤقتاً. إن الإنسان، في مرحلة السحر، يرى نفسه مسيطراً على الطبيعة، وإن كانت السلطة، هذه، خيالاً لا محضاً، على أن هذه السلطة، بشكل عام سلطة مباشرة على الطبيعة».
ومن وجهة نظر هيغل، فإن الأسطورة هي حقيقة، لا مفر منها، وهي تعبير عن مرحلة تاريخية وواقعية من الفهم المترابط والمتواصل للحقيقة، ولها صلة بالزمان والمكان ومدى قدرة الإنسان على صور التعاطي مع المفاهيم والاعتبارات المركبة والمعقدة.
وبالنسبة إلى مفهوم الأسطورة، فيُعد إرنست كاسيرر (1874 ـ 1945). من كبار فلاسفة الكانطية الجديدة. لقد أرسى دعائم نظريته حول الأسطورة على علم المعرفة الكانطية. واعتبر أن الذهن البشري يقوم بعقلنة التجارب اليومية. وقد سُمّيت هذه العملية بإعادة التبيين الرمزي، وميّز كاسيرر حسب قول المؤلف بين ثلاثة أنواع من الأنظمة الرمزية:
«أولاً: نظام التبيين الرمزي المعتمد على شرح الوظيفة.
ثانياً: نظام التبيين الرمزي المعتمِد على الشهود وهو الأساس في النظام الشفهي المتعارف عليه.
ثالثاً: نظام التبيين الرمزي المعتمد على عقلانية الأفهوم، وهو الأساس في العلم والمعرفة الحديثة».
وثمة ثلاثة نظم رمزية تعبّر عن ثلاث وظائف مختلفة لدى كاسيرر. وهي: الوظيفة التعبيرية، ففي هذا المستوى ليس هناك فرق بين الرموز والأشياء التي ترمز إليها في الوعي البشري، والعالم الذي تخلقه هذه الرموز هو عالم الأسطورة والدين.
ثم الوظيفة الحدسية: وهي التي تقوم بتمثيل عالم الحياة اليومية وأشكال الإدراك المباشر المحدد لحياة الإنسان المكرورة، ويقوم الرمز بتمثيل خواص الأشياء الثابتة حدسياً.
وأخيراً الوظيفة المفهومية: وهي التي تتصل بالعالم الموضوعي للعلوم، وتكون الرموز فيه تعبيراً عن نسق العلاقات لا غير.
ويشير المؤلف إلى أن كاسيرر يطرح الأسئلة التالية: هل الأسطورة تنشأ من قدرة الذهن على التخيّل، أم أن جذورها تكمن في المشاهدة الواقعية؟ هل الأسطورة تكشف عن المرحلة البدائية للمعرفة البشرية، وترجع إلى العقل، أم أنها تتعلق بدائرة الانفعالات العاطفية وتنشأ من الإرادة البشرية؟
وحيث يعتبر كاسيرر أن التشكيك في مفهوم ودور الأسطورة حوّلها إلى أمر خرافي وغير واقعي، ويرى كاسيرر أن «الحل يكمن في الثورة الكوبرنيكية. بمعنى أننا بدلاً من أن نعتبر معنى ومحتوى الصور العقلية أموراً خارجية، لا بد من أن نعتبر تلك الصور مقياساً للحقيقة، ونهتم بكشف المعنى الذاتي لها…». وبهذه النظرة فإن الأسطورة، الفن، اللغة، والعلم كلّها تتضمن صوراً بحيث إن كل واحد منها يستطيع أن يخلق عالماً خاصاً به؛ وفي خضم هذه الصور، فإن الروح تتجلّى عبر الحركة الديالكتيكية الراجعة إلى الذات. وعليه، فإن الصور الرمزية الخاصة لا تحاكي الحقيقة فحسب، بل إنها الحقيقة بعينها. لأن كل ظاهرة بإمكانها أن تتحوّل إلى موضوع للمعرفة العقلية عبر تلك الصور وأن تصبح أمراً مفهوماً.
ويقول المؤلف: وبعد أن يؤكد كاسيرر أهمية الاسم في التصور الأسطوري يقول: "من منظور الفكر الأسطوري فإن صورة الشخص أو الشيء مثل اسمه، يساوي الشخص ذاته والشيء ذاته. وهذه النظرة دليل آخر على أن الفكر الأسطوري على صعيد منح العينية للاشياء والأشخاص لا يهتم بنقاط التمايز الموجودة". كما أن الظل يُعتبر جزءاً حقيقياً للشخص ومن هنا يتأثر من الحوادث. وكل مكروه يصيب الظل يتأثر به الشخص أيضاً. وعليه، لا ينبغي أن يوضع الظل تحت الأقدام، لأنه يؤدي إلى إصابة الشخص، صاحب الظل بالمرض، حسب اعتقاد كاسيرر.
الدين في الثقافة الغربية
من البداية والمؤلف يبحث عن أفهوم الدين في الثقافة الغربية، وينبغي أن يؤكد نقطة مفصلية في هذا الموضوع والتي تشكل بدورها ركيزة منهجية في مقاربته للتصور الغربي لموضوعات هي من أصعب القضايا الفكرية التي شغلت المفكرين على مرّ التاريخ. هذه النقطة يقول المؤلف: «هي أن الثقافة الغربية بكل تجلياتها هي ثقافة تاريخية تشكلت في الزمان والمكان، وهي في حالة الصيرورة المستمرة، لا تحكمه ثوابت خارج الزمان والمكان وخارج ما يحتويهما من عناصر ومكونات». وليست الثقافة الغربية ماهية مسبقة، كما هو الحال في الثقافة الإسلامية. وانطلاقاً مما سبق عبّر البعض عن الوعي الغربي بأن الوعي الأوروبي حصيلة حضارة طردية في حين أن الوعي الإسلامي في وضع حضارة مركزية.
إن هذا الاختلاف الجوهري بين الثقافتين سمح للثقافة الغربية النزوع خارج الإطارات المسبقة وعدم التقيّد بالثوابت والمبادئ الصارمة. لقد اتجه الغرب إبان عصر النهضة وبعده نحو تحطيم الإطارات السابقة وبناء إطارات جديدة لا حصر لها ولا عدّ.
كما أن الغرب حسب اعتقاد المؤلف، تحوّل بعد عصر النهضة نحو تحطيم المرآة وإمعان النظر فيها، عبر شظاياها المتناثرة، إلى وجوه العالم المختلفة ومحاولة التأليف بينها لتكوين تصوّر تركيبي ينطلق من الجزئيات والتفاصيل فيجمّلها ويوحّدها وفق مقتضياتها الداخلية لا وفق كليات العقل المفروضة عليها من خارجها.
يعتقد المسيحيون استناداً إلى نصوص في العهد الجديد بقيامة السيد المسيح وأنه حيّ. يقول إنجيل متى: «ولما مضى السبت وطلع فجر الأحد، جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى لزيارة القبر. فقال الملاك للمرأتين: لا تخافا. أنا أعرف أنكما تطلبان يسوع المصلوب ما هو ههنا. لأنه قام، كما قال.
الدين في فكر القرون الوسطى
لقد ترك القديس أورليوس أغسطينوس (324 ـ 430م) أثراً كبيراً في الفهم الكنسي للدين والأخلاق والسياسة. منطلقاً من التجربة التي عاشها قبل اعتناق المسيحية، تجربة القلق والتمزّق مما أثّر في تكوينه المعرفي والديني، وأصبحت الركيزة الأساسية لديه ما عبر عنه بقوله: «لا تتوجّه نحو الخارج إرجع إلى ذاتك، ففي داخل الإنسان تسكن الحقيقة».
«وأذعن بثلاثية الباطن الذي عبّر عنها بالتثليث الإلهي، وهو: الوعي، العقل، والإرادة، واعتبر الإشراق مصدراً للمعرفة، كما اعتبر العقل المستضاء بالإشراق واسطة في معرفة الله».
أما الدين من منظور القديس توما الأكويني (1225 ـ 1274) ليس إلا جهداً عقلياً وعملياً ينتهي إلى التوحّد مع الله. كما أن السعادة حسب رأيه ليست إلا رؤية عقلية للذات الإلهية. والدين مصدر ثلاثية: الإيمان، الحب، والرجاء. والمحرك الأساس للكون هو الحكمة الإلهية التي تدبّر كل شيء، والعالم الموجود ليس إلا الكمال والخير ولا مجال للشر التلقائي في الكون.
إن القديس توما الأكويني هو الممهد الأساس للعودة إلى عالم المثل الأفلاطوني الذي اعتبره رسل المنبت المناسب للفكر المسيحي، كما اعتبر استبدال أفلاطون والأوغسطينية بأرسطو خطأ في وجهة نظر المسيحية. «وتلك المبادئ التي أرسى دعائمها الأكويني والتي اشتهرت بالتوماوية في ما بعد وشكلت المذهب الرسمي للكنيسة الرومانية وتركت أثراً كبيراً على عموم مدارس اللاهوت الكنسي في الشرق والغرب".
الدين وتفسيراته في الفكر الإسلامي
ثمة اختلافات جوهرية بين الثقافة الغربية والثقافة العربية والإسلامية. أما البعد المركزي للثقافة الأخيرة فكان يتمحور حول النص والأفكار والتصورات، في حين أن الثقافة الغربية تتميز بالبعد التاريخي لناحية النشأة والتطور. ولهذا الاختلاف يقول المؤلف: «بين الثقافتين تداعيات كبيرة على مستوى النظرة إلى العالم، والنظرة إلى الدين، والبنية الذهنية التي تسود في الثقافتين، مضافاً إلى مركزية التوحيد في الفكر العربي والإسلامي والإنسانوية في الفكر الغربي».
ثم إن الاختلاف في المبادئ النظرية والبنية الذهنية والمفردات الثقافية تفسّر الاختلاف في البنيان الاجتماعي في الحضارتين: الحضارة العربية الإسلامية المعتمدة على التراث العربي الإسلامي ونموذج المدينة الإسلامية. والحضارة الغربية التي تبحث عن جذور لها في الهلينية ونموذج المدنية العلمانية.
ويرى المؤلف أن الاختلاف الجوهري الآخر بين الثقافتين الغربية والإسلامية يتجسّد في لغة الدين، حيث إن الغرب بعد توما الأكويني وطرحه نظرية المعرفة الإشراقية، تسود فيه اللاأدرية والإنكار، بدءاً من «شلير ماخر» و«هيغل» ومروراً بكارل بارث ورودلف بولتمان وغابرييل مارسيل، وصولاً إلى الوضعية المنطقية في حلقة فيينا، حيث يصفون القضايا المعرفية الدينية بأنها قضايا من دون معنى.
إن هذه الاختلافات ساهمت في صياغة الخطاب المختلف في الثقافتين: الخطاب الإسلامي النصّي، التراكمي التفسيري والمنسجم في بناء النظرية، والخطاب الغربي التاريخاني، التنظيمي والمترابط بتداعياته المنهجية.
ويرى المؤلف أن الاختلاف في الثقافة والرؤى الدينية والدنيوية نتج عنه نوعان من الإلحاد والإنكار في الثقافتين: ذلك أن الإلحاد نتيجة لازمة لحالة النفس التي استنفدت كل إمكانياتها الدينية، فلم يعد في وسعها بعد أن تؤمن. وإن كان الإلحاد الغربي بنزعته الديناميكية هو ذلك الذي عبّر عنه الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، حين قال «لقد مات الإله»، فإن الإلحاد في ظل الثقافة العربية والإسلامية هو الذي يقول «لقد ماتت فكرة النبوّة والأنبياء». إن المتهمين بإنكار لوازم النبوّة أو المتهمين بالإلحاد في الثقافة العربية والإسلامية، كانوا يطرحون شبهات أو تصدر منهم شطحات تؤدي إلى اتهامهم بالإلحاد. ويقول المؤلف: «ولا نجد تالياً نصوصاً إلحادية فاضحة في الثقافة الإسلامية تاريخياً. وذلك بسبب أن هذه الثقافة ليست ثقافة التمرد على الدين في جذورها".
والاتهام بالإلحاد والزندقة في التاريخ الإسلامي، في كثير من الأحيان له جذور سياسية». ولم يكن للاتهام أساس في واقع الثقافة العربية والإسلامية، حيث كان هناك من أصحاب النفوس الضعيفة من يتخذ الاتهام، الباطل غالباً، بالإلحاد والزندقة سبيلاً للكيد والوقيعة بخصومهم السياسيين.
إن المقاربات الإسلامية للدين والفكر الديني تتمحور حول النص والاجتهادات الإسلامية، غالباً، ومن خلال الأدوات المنهجية والمعرفية المتاحة لها، تدور في فلك استخراج المكنونات المكنوزة في النص.
الدين في المقاربات الفلسفية الإسلامية
الفلسفة ذات طابع وجودي ــــ أنطولوجي، تسعى للكشف عن حقيقة الأشياء، وهي بمجملها عقلانية، نقدية، واستدلالية. في حين أن الفكر الديني، بشكل عام، والفكر الإسلامي، بشكل خاص، مبني على المعطى الديني وهو الوحي (النقل)، والفكر الملتزم ليس باستطاعته مواكبة النقد الحر بلا حدود. وهذه هي الإشكالية في الجمع بين الفكر الفلسفي اللامنتمي، اللاملتزم، التعليلي، البرهاني، والنقدي الحر من ناحية، والفكر الديني المنتمي، الملتزم، التفسيري، التبريري، والعقائدي من ناحية ثانية.
على أن التراث الفكري الإسلامي يقول المؤلف: «استطاع أن يجمع بين الأمرين معاً إلى درجة كبيرة، انطلاقاً من العقلانية التي تتصف بها البنى الفكرية الإسلامية النصية».
إن الفكر العربي الإسلامي يعتمد على العقل بأصوله ومقوماته ومبادئه وأوائله وأساليبه المنطقية. وأما قضية «مركزية الله» أو «مركزية الإنسان فلا علاقة لها بالعقل، بقدر ما لها صلة بالهوى. ولا نستطيع أن نربط الإنسانوية كمذهب بالعقل وأساليبه المنطقية. وانطلاقاً من هذه الرؤية التوليفية بين الوحي والعقل، «تكوّن الفكر الفلسفي الإسلامي، وهذا الفكر قد يكون ملتزماً فيميل إلى ميدان الكلام أكثر من الفلسفة، وقد يكون فلسفياً أكثر من أن يكون كلامياً، ولكن يبقى فكراً فلسفياً إسلامياً مركباً، تشكل المبادئ الإسلامية جزءاً مفصلياً من بنائه التركيبي العام». والتقريبات التالية لمفهوم الدين تتصل بهذا النمط التركيبي العقل ــــ الديني.
لقد كان أبو نصر الفارابي (870 ـــ 950م) مؤسساً لمنهج فلسفي جديد يعتمد على الدمج بين المعطى الديني ـ الوحي، والمنتج بالعقل. كان يرى وحدة الحقيقة ومن هنا اهتم بمسألة التوفيق بين الحكمة (الفلسفة) والشريعة (الدين).
ويشير المؤلف إلى أن الفارابي، يفسر الشريعة (الدين) على ضوء الحكمة ولا يعترف بالثنائية بينهما. والسعادة ترتبط بالفلسفة حسب الفارابي، وذلك باعتبار أن السعادة إنما ننالها متى تصير لنا فنية بضاعة الفلسفة فلزم ضرورة أن تكون الفلسفة هي التي ننال بها السعادة.
أما ابن سينا (980 ـ 1037م) فيعتبر فيلسوفاً عبقرياً. والتقسيم الثلاثي للوجود إلى الممكن والواجب والممتنع، وما له من صلة بمبحثي الوجود والماهية يُعتبر من إبداعات ابن سينا الفلسفية.
ويرى المؤلف أن ابن سينا يؤمن بمراتب العقل ويرى العقل القدسي أعلى مراتب العقل الإنساني. وينقل عنه قوله بخصوص العقل المستفاد: «أما العقل المستفاد فهو العقل بالفعل من حيث هو كمال… فحينئذ يجوز أن يتصل بالعقل الفعّال تمام الاتصال… فجائز إذن أن يقع الإنسان بنفسه الحدس وأن ينعقد في ذهنه القياس بلا معلم، وهذا مما يتفاوت بالكم والكيف، أما في الكم فلأن بعض الناس يكون أكثر عدد حدس للحدود الوسطى، وأما في الكيف فلأن بعض الناس أسرع زمان حدس، ولأن هذا التفاوت ليس منحصراً في حدّ، بل يقبل الزيادة والنقصان دائماً».
ويؤكد ابن سينا ضرورة الوحي عند طريق مراتب العقل، لا سيما العقل المستفاد، ويعتبر أن الصلة بين العقل المستفاد والعقل الفعّال، تؤدي إلى البصيرة النبوية.
إن ابن سينا يكشف عن النظرة الكونية الكلامية التي تحكم رؤيته إلى الدين ودوره في الحياة الإنسانية.
أما أبو الوليد بن رشد (1126 ـ 1198م) فيُعد أحد أقطاب الفكر الفلسفي الإسلامي والداعي إلى التوفيق بين الحكمة والشريعة. ويؤكد أن الحكمة والشريعة طريقتان للوصول إلى الحقيقة، من دون وجود تعارض واقعي بينهما. وذلك انطلاقاً من أن «الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له». ومن منظور المؤلف فإن ابن رشد يرى الدين مهماً للفلسفة والفكر ومرجعاً لصياغة التصور عن الكون والحياة في الجانبين النظري والعملي معاً.
الأسطورة في الثقافة الإسلامية
يجب أن نميّز منذ البداية بين معنيين للأسطورة؛ الأول: بمعنى الخرافات والأكاذيب كما فسّرها العديد من الكتاب، والثاني: بمعنى عقلية التصرف في الأشياء والأشخاص والأحداث اختزالاً وتضخيماً ومبالغة وتعظيماً، ولا شك في أن الأسطورة بالمعنى الأول، قد حاربها القرآن وتبرأ منها.
إن الأسطورة حسب رأي المؤلف، هي بمثابة البنية المعرفية للإنسان كإنسان، بغض النظر عن دينه وانتماءاته الثقافية والعرقية والجغرافية. على أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي له تاريخ، وبالتالي وعي وحضارة، فإن ضريبة كل ذلك أن الإنسان أيضاً الكائن الوحيد القادر على إعطاء التاريخ صورة مخالفة للصورة التي انوجد عليها التاريخ في واقع الحال، وذلك مثل إعطاء أحداث معينة أو أشخاص معينين صورة فيها الكثير من الاختزال والتضخيم، وذلك حسب الغرض المراد، وبهدف التركيز على نقطة هنا أو التقليل من شأن نقطة هناك، أو بث عاطفة في حادثة وقتل الحياة في حادثة هناك، وهكذا حسب اعتقاد الكاتب السعودي تركي الحمد.
هذا البعد الأسطوري هو للإنسان، وليس الإنسان المسلم استثناءً من هذه الخصوصية البشرية. ولكن يحتاج البحث عن كشف جوانب الأسطورة في الثقافة والتاريخ الإسلاميين. بهذا المعنى، يقول المؤلف: «إلى دراسات جادة وعميقة وموسعة. ولسنا في صدد البحث عنها غير أننا نتعرض إلى بعض جوانب الموضوع بما ينسجم مع موضوعنا. فنتطرق أولاً إلى الحديث عن الأسطورة في النصوص الإسلامية، وثانياً إلى الحديث عن الأسطورة في الثقافة الشعبية للمسلمين، وهما موضوعان متصلان ومنفصلان عن بعض في آن واحد».
* الدين والأسطورة
ـ محمد مصطفوي
ـ الانتشار العربي ـ بيروت 2014