أسئلة محيرة تغزو العقل في هذا الزمن الجلي بتحدياته ووقائعه وتفاصيله المريبة، ولكنها أسئلة من النوع الوجودي بالنظر لمنسوب القلق الشامل والعميق الذي يسكن في أعماق العقل والشعور الانساني!!
عالمٌ متغيرٌ هائجٌ قلقٌ تتسارع فيه الأحداث وتتعاظم المخاطر ذات الطبيعة التدميرية "الالغائية" لمعالم الحضارة والعقل في بلادنا والعالم، فيُخيّلُ الىينا كأننا نعيش في عالمٍ مجنونٍ بكل تفاصيله، ومجرياته، وكأن الزمن عاد بنا الى عصور الظلام السحيقة، الى عصور حجرية موغلة في القدم، وكأن مداميك بناء الحضارة الانسانية تم هدمها، لتبدأ الانسانية من "الصفر" بلا ذاكرة، بلا تاريخ، بلا تدوين، بلا مضامين، بلا جوهر، بلا منظومة "قيمية" تم بناؤها عبر التاريخ قديمه وحديثه…
إن إعمال العقل في ما يشهده عالمنا اليوم بات حاجة ملحة لتلمس الطريق للخلاص من مستنقعات الجهل الآسن، والمدّمر لكل شيء، بهدف استعادة الذاكرة وتنشيط العقل، وتثبيت منهج العلم والأخلاق في قراءة الواقع والمستجدات والأحداث واستنباط الحلول للمشكلات العميقة التي يعاني منها انساننا اليوم…
لا شك في أن الأزمة – في الأصل – هي أزمة مناهج، وطرق تفكير، وأزمة في النظرة الأصلية الى الوجود بما فيه "الشق الانساني" وفي جانب منها أزمة "أخلاق"، أو أزمة فهم للمنظومة القيمية التي يجب أن تقود مسيرة الانسانية…
ثمة أسئلة كثيرة تزدحم في العقل والوجدان وتفرض البحث السريع والمنهجي عن اجابات!!
عالمنا يعيش زمن "انهيار منظومات قيم" تم بناؤها عبر قرون طويلة قدمت فيها الانسانية بشعوبها ومجتمعاتها تضحيات هائلة بهدف ترقية الحياة بمستوياتها وجوانبها المختلفة…
نعيش اليوم خطراً وجودياً لا يتهدد مجتمعاً بعينه، بل يتهدد الانسانية جمعاء، وهذا ليس مبالغة بل حقيقة وواقع نعيشه كل يوم…
فالترابط والتواصل وتشابك العلاقات بين الأمم والشعوب، تحول المخاطر الى عالمية…
الخطر الداهم اليوم هو خطر التكفير والارهاب والعنصرية، ولعل بلادنا ومنطقتنا تعيش بلاء هذه الظاهرات وقسوتها في واقع حياتي جهنمي بات يضغط على العقل والروح والإنسان لاجتراح الحلول وتلمس طرق المواجهة…
نماذج الارهاب والعنصرية والتكفير تزدحم بها ساحاتنا، من كيان عنصري صهيوني استيطاني إحلالي يمثل آخر قلاع العنصرية في القرن الحادي والعشرين، الى استشراء ظاهرات التكفير والتطرف الاجرامي التي تلبس لبوس "الدين"، والتي تجسد "داعش" آخر ظاهراتها المتحولة والتي أصبحت تمثل كابوساً جاثماً على صدور مجتمعات بأكمله، ومجتمعنا في الصدارة…
هذه الظاهرات لم تولد من فراغ، بل هي وليدة منهج في التفكير موغل في القدم، يرتكز على مفاهيم الالغاء والاختصار والالحاق ورفض الآخر المختلف، فالداعشية هي – في الأصل – منهج في التفكير لا يمكن مواجهته الا بمنهج "تفكير" نقيض له، يقوم على إعادة إحياء واستنهاض "الفكر التنويري" ليشكل القاعدة والمرتكز لتعميق مفاهيم التواصل والانفتاح والتفاعل الانساني الحضاري الايجابي والقبول بالآخر، وتعميق مفاهيم الحوار والعقل، والإضاءة على إيجابيات هذا المنهج في مقاربة الأزمات والمشكلات والقضايا التي تواجه مجتمعاتنا والإنسانية جمعاء…
الداعشية ليست تنظيماً بعينه، وإن تجلت اليوم في "دولة" متوحشة تسيطر على مساحات غير قليلة من الأرض فهي موغلة في حمل مفاهيم غريبة عجيبة وتنتمي الى عصور حجرية موغلة في القدم، وهي الى ذلك طريقة تفكير تحكم عالمنا وفي أعلى مستويات القرار فيه، من أوروبا والغرب الى أميركا، من مجتمعات الشمال الى مجتمعات الجنوب، وهي طريقة تفكير يتم تعميمها وتجذيرها في عقول أجيال على وقع شعارات "صراع الحضارات" التي ستكلف البشرية خسائر فادحة…
نحن أمام "تحديات كبرى" اليوم، المسألة في جوهرها ثقافية بنيوية، لا يمكن مواجهتها جذرياً الا بثقافة جديدة ديمقراطية حقيقية انسانية حضارية دينية – بمعنى من المعاني – أي تحرير الدين وإطلاق رسالاته لتخدم الإنسانية، لا لتكون قاعدة تدميرية له..
بالطبع، المسألة وجودية بامتياز، وأخطارها الداهمة تتطلب الى جانب الثقافة على المستوى الطويل الأمد، تتطلب استراتيجيات وآليات على المديين القصير والمتوسط، فالخطر داهم، ولا إمكانية للتراجع أو التخاذل، فهل نكون على مستوى التحدي؟؟؟
الداعشية منهج تفكير
103
المقالة السابقة