الدين والدولة بين الوصل والفصل والمطابقة والمراوحة
يبدو أن ثمة فراغًا عقائديًا واسعًا موجودًا في طول العالم العربي وعرضه دفع شعوبه إلى العودة إلى دفتر الحسابات العقيدية القديمة عموماً والكتب العقيدية الدينية على وجه الخصوص لملئه، بغية توحيد الصفوف وخلق الجبهات القادرة على صدّ المؤامرات الأجنبية العسكرية منها والفكرية!
لن نخوِّض، في بحثنا الحالي، في مسألة تحليل أسباب وظروف ذلك الفراغ العقيدي المخيف حقًا، لكننا نكتفي بأن نسجّل الإشارات الآتية التي تصلح أن تعتمد، هي وغيرها، في بحث خاص في المستقبل:
– سقوط جميع الجبهات العسكرية والسياسية والإعلامية في الحرب مع العدو الصهيوني ممثلًا بدولته الاغتصابية لفلسطين، «إسرائيل». وما نجم عن تلك الهزائم من زعزعة في الثقة وخلخلة أي أمل بقدرة البشر على تحقيق الفوز المبين.
– فشل الأنظمة السياسية في العالم العربي في برامجها الاقتصادية وظهور أفواج واسعة من العاطلين عن العمل والفقراء. والفقر ملّة واحدة.
– انهيار الأنظمة الاشتراكية في العالم بانهيار الاتحاد السوفياتي.
– نجاح التجربة الإيرانية الدينية.
– الأموال الكبيرة التي تصرفها بعض الدول العربية وغيرها على بعض التيارات والمؤسسات الدينية.
– الضعف النسبي للحركات العلمانية في المنطقة العربية، على الصعيد الشعبي.
تلك الأسباب والظروف أفقدت الناس الإيمان بقدرة الأرض وأهلها على الإنقاذ فاتجهت العقول، كما يبدو، نحو السماء وكتب السماء. فصرنا نجد الحركات الأصوليّة يدها الأقوى في طول العالم العربي وعرضه.
نحن نعتقد، أن تلك الحركات ليست سوى ردّ فعلٍ ليس له مقومات للثبات في عصر صارت الجبهات فيه جبهات أمم وليست جبهات أديان والصراع فيه أصبح صراع مصالح قومية وليس صراع مؤمنين ضد كافرين.
هذه الحقيقة العصرية لم تقدر الحركات الأصولية على التنكر لها، لكنها، بالنسبة إليها، مازالت مظهرًا وليست الجوهر. من هنا اعتقادنا بعدم قدرة تلك الحركات على البقاء إلا إذا تحوّلت إلى حركات قومية عصرية من طراز ممتاز وهو الأمر المستحيل في نظرنا.
مع ذلك، مع كل الذي ذكرناه، نرى ان موضوع الدولة الدينية مطروح في هذه الأيام بقوة حتى في المجتمعات التي لا يتمتع أفرادها بتجانس مذهبي مثل مجتمعنا السوري في الهلال الخصيب.
وإذا كان المجتمع المتجانس مذهبيًا، في قطر من الأقطار، لا يضرّه كثيرًا العزف على وتر الدولة الدينية أو حتى إقامتها فإن المجتمع المتعدد المذاهب يقسمه منطق الدولة الدينية شرّ قسمةٍ ويبعثر قواه ويتركه لقمة سائغة للإرادات الأجنبية الاستعمارية الطامعة. والحق يُقال، إن للدولة الدينية منطقًا خاصًا له عجائب سبع نذكرها في ما يأتي:
1 إذا كانت الدولة الدينية حقًا، فإن كل جماعة دينية لها الحق بإقامة دولتها الخاصة بها. وهكذا تكون النتيجة إقامة دولة دينية سنيّة ودولة دينية شيعيّة ودولة دينية درزية ودولة دينية علويّة ودولة دينية مارونية ودولة دينية أرثوذكسية الخ. في المجتمع المتعدد المذاهب. وتكون النتيجة الأخيرة تفتيت المجتمع وزجه في حروب دينية مما يعني انهياره الكلي وانعدامه.
2 ومنطق الدولة الدينية يفيد أيضًا ما يأتي: بما أن لكل جماعة دينية الحق في إقامة دولتها الدينية المستقبليّة. وبما أن اليهود جماعة دينية. إذن يحق لليهود إقامة دولتهم الدينية المستقلة! وهذا معناه أن منطق الدولة الدينية سيقود أصحابه إلى الاعتراف «بدولة إسرائيل»، دولة الاغتصاب الصهيوني لفلسطين والمحتلة جزءاً من جنوب لبنان والجولان!
3 ومن عجائب الدولة الدينية إدّعاء أهلها بأن الدولة لها سيادة على أرضٍ معينة أو قطر محدَّد تزعم أنها تملكه، وأن لا إرادة إلاّ إرادتها فاعلة فيه. في حين أن الدين يقول بأن الملك هو ملك الله وحده وأن لا شريك لإرادته في الدنيا والآخرة.
4 والدولة الدينية، إذا وجدت، يجب أن تكون مثل الدين. فإذا كان الدين للعالمين أو عالميًا، فيجب أن تكون الدولة الدينية عالمية. لذلك فإن كل دعوة لدولة دينية محددة في قطر معين ما هو إلاّ تفصيل للمنطق الديني على غير مبدئه العالمي.
5 إنَّ الدولة الدينية من صنع البشر. فهناك في تاريخ الإسلام المحمدي، على سبيل المثال، دولة الخلفاء الراشدين، وهناك دولة الأمويين، ودولة العبّاسيين، ودولة الفاطميين، ودولة العثمانيين وغيرهم. مع ذلك يدّعي اصحاب الدولة الدينية أن تلك الدول التي قامت ودالتْ (زالت) هي من صنع الله!
6 ثم، الدولة الدينية يريد دعاتها أن يؤسّسوها على الكتب المقدّسة، في حين أن معارف تلك الكتب روحيّة وتهذيبيّة وتشريعها مدني وليس سياسيًّا.
7 والدولة الدينية هي عربيّة عند العرب وغير عربيّة عند غير العرب. لذلك نجدها تنتج خلافًا في حين ان الدين جوهره الوفاق.
من كل ما تقدم نحصّل النتائج الآتية:
– إن تطبيق نظرية الدولة الدينية في مجتمعنا السوري في الهلال السوري الخصيب جريمة يجب منع تنفيذها.
– إن دعاة الدولة الدينية يدعمون من حيث يدرون أو لا يدرون بقاء الدولة الصهيونية «إسرائيل».
– إن رجال الدين في الدولة الدينية مهما بلغوا من «العلوم الدينية» لا يقدرون على السياسة والاقتصاد والاستراتيجيات والتكنولوجيا المتقدمة وشتّى فنون الإرادة والمحاسبة والإحصاء والتخطيط العلمي المستقبلي، وغيرها من متطلبات الدولة الحديثة. لذلك يجب الفصل بين الدين والدولة، ومنع رجال الدين من التدخّل في شؤون السياسة القومية والقضاء القومي اللذين يجهلونهما ولا يقعان في دائرة اختصاصهم.
سعاده والدين
في خاتمة الفصل السادس من كتاب: نشوء الأمم، يقول سعاده، إن القومية هي الدين الاجتماعي الجديد الذي أصبح أساس الدولة الحديثة. هذا بالضبط قول سعاده:
«عند هذا الحد نقف في استعراضنا نشوء الدولة وتطورها لننتقل إلى درس الأمة والقوميّة لنعرف حقيقة هذا المتحَّد الاجتماعي وأهميته التي أصبحت دين البشرية في العصور الحديثة وغطّت شخصيتها القوية الفعّالة على شخصية الدولة.
السؤال الذي ينشأ الآن هو الآتي: هل يقصد سعاده بالدين الجديد ان يكون بديلًا عن الأديان السماوية؟
الجواب هو النفي. ففي رسائله إلى غسان تويني المنشورة في كتاب «شروح في العقيدة» وفي كتاب «الإسلام في رسالتيه» يحدِّد سعاده الدين بأغراض ثلاثة هي:
1 إحلال الاعتقاد بالله محل عبادة الأصنام.
2 فرض عمل الخير وتجنب الشرّ.
3 تقرير خلود النفس والعقاب والثواب (الحشر).
المعنى الواضح لهذا التهديد للدين هو إخراجه من دائرة الاجتماع والسياسة. الدين في قراءة سعاده له هو صفة الفرد وليس صفة الدولة أو الأمة.
الفكرة عن الدين التي يبدو فيها الدين شأنًا فرديًا خصوصيًا يؤكدها سعاده في رسالته الثانية إلى غسان تويني. يقول سعاده، وهو كان في معرض مناقشة وضع فخري معلوف الذي انقلب كاثوليكيًا متعصِّبًا، ما يأتي:
«فلم يرقْ لي أن تفرض عليّ المواقف والنظريات فرضًا، ولا رأيت الفرصة مناسبة لترك متابعة قضايا نهضتنا القومية الاجتماعية ومسائل حركتنا السياسية والاقتصادية والحقوقية والإدارية وغيرها والخوض في قضايا لاهوتية قررنا أنها من شؤون الوجدان الفردي الخاص التي يجب أن لا تثير وأن لا نسمح بأن تثير قضية اجتماعية سياسية».
ثم يضيف سعاده محدّدًا مبدأً منهجيًا في النظر إلى الأمور، فيقول: «لا يمكننا ونحن نبغي الصحيح أن ننظر إلى الدين بمنظار سياسي ولا إلى السياسة بمنظار ديني. يحسن أن يكون الإنسان مؤمنًا في الدين ولا يحسن أن يكون مؤمنًا في السياسة».
وبالنسبة إلى حريّة الاعتقاد تكون المسألة واضحة كالبلّور عندما يذكر سعاده لغسان تويني مقطعًا من رسالة جوابيّة كان قد أرسلها إلى فخري معلوف أكّد فيها على مبدأ حرية الاعتقاد الديني وحرية التعبير عنها بالكتابة والنشر، يقول سعاده:
«ولا تنسوا أيضًا أن الحزب لم يمنع أحدًا قط إظهار معتقداته الفلسفية من أي نوع كانت في كتاباته، فيمكنكم أن تنشروا أفكاركم واستنتاجاتكم في الخلق والنشر والحشر والحساب وليوافقكم على ذلك من شاء وليخالفكم من شاء».
خلاصة استقرائنا هي في أن سعاده حصر الدين في المسائل الغيبيّة فدائرته هناك ويجب أن تبقى هناك. أما الشؤون الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحقوقية والقضائية للدولة القومية الاجتماعية فهي من اختصاص هذه الدولة لا غيرها. يقول في هذا الصدد:
«ضمنت العقيدة القومية الاجتماعية لجميع أفراد المتَّحد وأعضاء الدولة القومية الاجتماعية حرية الاعتقاد الخارج عن حدّ العقيدة القومية الاجتماعية وحرية الضمير والجهر بالمعتقدات بشرط المحافظة على وحدة الأمة والدولة وعلى النظام الذي تمّم به إرادة الأمة وغرض الدولة، وحرية العمل الاجتماعي لممارسة طقوس المعتقدات المتعلقة بما وراء المادة بشرط ان تلزم هذه الأعمال حدودها ولا يكون غبار على أنها لا تتعدّى تلك الحدود إلى ما هو من شؤون الدولة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحقوقية والقضائية وإلى القول بحرمان أعضاء الدولة وأفراد المجتمع الذين هم من معتقد مخالف من حقوقهم المدنية والسياسية، وإلى محاولة فرض أشكال سياسية خصوصية للدولة وشروط خصوصية لنظامها السياسي».
ويعود سعاده إلى تحديد الدين تحديدًا مقارنًا لتحديده له في كتاب «الإسلام في رسالتيه» فيقول في الرسالة الثانية نفسها لغسان تويني:
«القصد من كل هذا التوسّع أن يرى فخري معلوف أنه يسير ضدّ المبادئ القومية الاجتماعية وضد قواعد دينية مقررة بإثارته خلافًا لا مبرّر له ولا داعي عليه بين العقيدة القومية الاجتماعية التي لم تتعرّض للدين وعقائده والعقائد الدينية غرضها خلود النفس بعد ارتحالها عن هذه الدنيا في مقامين مختلفين: مقام النعيم ومقام الجحيم».
هذا بالنسبة لرأي سعاده في الدين.
سعاده والدولة الدينية
بالنسبة للدولة الدينية عمومًا، نقول، منذ البداية، إن سعاده يعتبرها «أعظم عقبة في سبيل تحقيق وحدتنا القومية». فالمجتمع المتعدد المذاهب كمجتمعنا سيكون مصيره التمزق فالانهيار إذا ما اعتمد مبدأ الدولة الدينية. فلا القومية ولا الدولة القومية تتأسسان على الدين.
بالنسبة للدولة الدينية الإسلامية المحمدية على وجه الخصوص، يحدد سعاده موقفه بقوله، إنها كانت واسطة الدين وليست غايته وإن دورها انتهى بتحقيق الدين، يقول:
«ولما كان قصد رسالة محمد الدين وليس السياسة أو فلسفة الاجتماع التي ترتقي بالعلوم الاجتماعية فلا بدّ من التسليم بأن الدولة هي الواسطة للدين الذي هو الغاية، وإن قيمتها لا يمكن أن تكون، من الوجهة الدينية، اكثر من قيمة واسطة. وبناءً عليه تكون الدولة الشيء الثانوي القابل الزوال عندما لا تبقى حاجة إليه شأن كل آلةٍ أو واسطةٍ أدّت الغرض من وجودها».
وربّ سائلٍ: ما دام سعاده يقرّ بوجود دولة إسلامية محمدية، أليس يعني ذلك إقرارًا منه بوجود دولة إسلامية محمدية، أليس يعني ذلك إقرارًا منه بوجود دستور قرآني لها؟
الجواب هو النفي. ففي كتاب نشوء الأمم يقول سعاده الكلام الآتي الواضح الذي لا جمجمة فيه: «لم يترك محمد دستورًا للدولة، فهو قد أتمّ الدين ولكنه ترك الدولة تهتم بمصيرها».
لذلك فإن دولة محمد لم تكن دولة بالمعنى السياسي الدستوري الدقيق، وإنما بمعنى بسيط هو معنى القوة القادرة. وسعاده يكمل وجهة النظر هذه في المصدر نفسه عندما يقول: «إن الفضل في إيجاد الاتجاه السياسي الدنيوي في الدولة الإسلامية يعود إلى الدولة الإسلامية السورية الأموية».
ويقول قامت الدولة الأوليّة على مبدأ القوة الفيزيائية والدولة التاريخية كان أساسها الملك والدين بالإضافة إلى القوة الفيزيائية وأما الدولة الحديثة فتقوم على مبدأي القومية والديمقراطية المتجانسين.
نخلص مما تقدم إلى القول بأن سعاده يرفض إقامة دولة دينية لأن وظيفتها انتهت ولم يبقَ لها سوى القيمة المتخفية للدرس ومعرفة تطور الاجتماع البشري ولأن تطبيقها في زماننا معناه الانقسام فالموت الاجتماعي. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، لأن الدولة، بمعناها العصري، تعدَّت وجود خليقة أو أمير على رأسها مع حاشية، إلى أن غدت مؤسسات اختصاصية في شتّى العلوم والفنون، بالإضافة إلى صيرورتها ديمقراطية.
سعاده والدولة القومية الاجتماعية
ما هو تصوّر سعاده للدولة العصرية؟
إن نظرية سعاده في الدولة العصرية نقع عليها في مبادئ الحزب وعلى وجه التحديد في المبادئ الإصلاحية الخمسة والتي تشكل المادة الثالثة من دستور الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أسّسه وهي:
1 مبدأ «فصل الدين عن الدولة» وجوهره فكرة دنيوية الدولة القومية الاجتماعية، أي ان مركزها الإنسان وليس الله. والإنسان عند سعاده هو الإنسان – المجتمع القومي أو الأمة.
2 مبدأ «منع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين» وجوهره اعتماد علمي السياسة والقضاء لمصلحة الأمة.
3 مبدأ «إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب» الذي جوهره المساواة بين المواطنين والمواطنات. وهو علاقته بعلم الحقوق.
4 مبدأ «إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج وصيانة مصلحة الأمة والدولة». وجوهره العدل الاجتماعي – الاقتصادي. وعلاقته بعلم الاقتصاد وعلم الإحصاء
5 مبدأ «إعداد جيشٍ قويّ يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن» وجوهره الأمن القومي والسلام الاجتماعي وصوْن السيادة القومية. وهو له علاقة بعلم الستراتيجيا والدفاع.
يطرأ الآن السؤال الآتي: هل دولة سعاده دولة علمانية؟ نجيب على هذا السؤال بقولنا، إن سعاده لم يستخدم مصطلح العلمانية لوصف دولته. مع ذلك، ولما كان هذا المصطلح قد أصبح له رواج في أيامنا، فإننا نقول، إنه إذا جاز استخدام هذا المصطلح فإنه يمكن القول بأن دولة سعاده هي دولة عَلْمانية (بفتح العين) وعِلْمانية (بكسر العين). هي عَلْمانية (بفتح العين) لأنها دولة دنيويّة في هذا العالم ومنه وليست في السماء. وهي عِلْمانية (بكسر العين) لأنها تستفيد من العلوم بأنواعها لمصلحة الأمة.
أجل، إن دولة سعاده القومية الاجتماعية، علمانيّة بمعنيين هما غير متناقضين نعني معنى العالم أو الدنيا ومعنى العلم أو الاختصاص. من هنا علمانية دولة سعاده أغنى وأشمل من علمانية الذين يقولون بفصل الدين عن الدولة فقط.
من المفيد، بعد أن تكلمنا، عن نسبة الدين إلى السياسة أن نشير إلى فكرة الدكتور وجيه كوثراني حول هذه المسألة. الدكتور كوثراني وضع الفكرة الآتية:
«إن الدين مستقل عن الدولة ويجب أن يكون كذلك ولكنه غير منفصل عن العمل السياسي في المجتمع. إن السياسة جزء من حقه وواجبه معًا. ولا يمكن للدين بما يختزنه من قيم وأخلاقيات سلوكية عبر النصّ والوعي الجماعي والمقامات الروحية ان يتخلّى عن دوره المرشد والواعظ والإصلاحي والثوري»
واضح ان الدكتور كوثراني يرفض الفصل بين السياسي والديني «فإن ذلك ليس لمصلحة الشعب ولا الأمة ولا المجتمع إنها لمصلحة ديكتاتورية الدولة وحدها». وهو يتساءل حول مصطلح العلمانية الذي يقضي بالفصل بين الديني والسياسي، فيقول:
«هل المقصود بالفصل هنا «الفصل» بالمعنى السياسي اي فصل الدين عن العمل السياسي وذلك في صيغة فصل بين المجتمع والدولة؟ حيث يعزل «الدين» في المجتمع ويصبح «السياسي» حكرًا على «العلمانية» في الدولة والعمل السياسي معًا. فيحظر مثلًا على «العالم الديني» العمل في السياسة ويمنع التعبير السياسي لمظهر دين او موقف ديني وذلك بحجة هذا التقسيم المفتعل للأدوار.
ويضيف: «إذا كان الأمر كذلك فالمسألة تدعو لإعادة النظر في المفهوم والمصطلح. فالمصطلح بهذا المعنى هو تمثل لتجربة تاريخية أوروبية، أي لوضعية جزئية في الزمان والمكان لم يثبت نجاحها».
ويقول أيضًا: «الدولة تحتاج إلى أن تنفصل عن العصبيات الطائفية لا عن الأديان بما هي مثل ودعوات عدالة ومساواة وحرية ومحبة. الدولة أحوج ما تكون للاستدلال بهذه القيم والاسترشاد بها».
إن الدكتور كوثراني يقول بدمج المهمات السياسية والدينية فتصبح مكافحة الظلم والاستبداد مهمة سياسية وواجباً دينياً في الإسلام ومقاتلة مغتصب الأرض واجبًا جهاديًا ورفض الذل والخنوع والاستطانة من موجبات عبادة الله الواحد لأن فيها شركًا من وجهة النظر الدينية. وهو يعتقد أن هذه الأمور هي أمور سياسية داخلة في صلب الدين.
والدكتور كوثراني ضد العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة التي في رأيه «تستلهم الأيديولوجيات الوضعية في التاريخ العالمي الحديث من ليبرالية وقومية وماركسية» لأنها ألغت ما يسميه «التوازن» بين المجتمع والدولة. فالدولة العلمانية طاغية ومستبدة في مذهبه.
ملاحظاتنا على أفكار الدكتور كوثراني هي:
1 أنه يخطئ عندما يعتبر الدين مرادفًا أو محايثًا للمجتمع وذلك عندما يرسم أن فصل الدين عن الدولة معناه فصل المجتمع عن الدولة كأنما المجتمع لا يقدر أن يوازن الدولة ويحدّ من سلطتها ويكبح جموحها ويمنع استبدادها إلا إذا كان مجتمعًا دينيًا. العلمانية في نظره تقوي سلطة الدولة وتجعل السياسة حكرًا عليها.
نحن نرى أن المجتمع القومي (الأمة) هو الضامن لأن تتقيد الدولة بالمصلحة العامة وهي الضابط لسلوكها فيكون عدلًا.
2 ويخطئ الدكتور كوثراني عندما يرى السياسة في صميم الدين. إن الجهاد الديني غير الجهاد السياسي. هذه الحقيقة تتضح عندما ننتقل من العموميات إلى التحديدات. فنذكر أن الجهاد السياسي هو جهاد سياسي وطني أي لهدف تحرير وطن أو أجزاء وطن محتلة أو مغتصبة، أو هو جهاد قومي اجتماعي وفكرة الوطن وفكرة القومية ليستا دينيتين. الجهاد الديني يكون في سبيل الله وضد المشركين. فإذا كان بعض رجال الدين جاهد ويجاهد في سبيل تحرير جنوب لبنان وفلسطين فذلك ليس من صميم الدين بل من فضل المدارس الوطنية والقومية على رجال الدين.
3 ويخطئ الدكتور كوثراني عندما يعتبر أن شرور الدول الحديثة في كونها علمانية، والعلمانية هي أم الشرور. الدولة الظالمة هي كذلك لأنها دولة رأسمالية أو دكتاتورية مضطهدة للشعب أو ما شابه. الدولة القومية الاجتماعية العلمانية ليست ظالمة وليست شريرة لأن غايتها مصلحة الأمة والوطن وفوق كل مصلحة.
نبدأ بالقول إن المراوحة تمثّلت في كتاب والكتاب الذي نحن بصدد قراءته ونقده هو كتاب «الدولة في الإسلام» الصادر عن دار ثابت في القاهرة في حزيران من العام 1980. مؤلف الكتاب كاتب من مصر معروف اسمه خالد محمد خالد. وعندما قلت إنه كاتب معروف قصدت أنه معروف بإنتاجه الأدبي الغزير فقد بلغ مجموع إنتاجه من الكتب سبعة وثلاثين مؤلفًا والكتاب الذي بين أيدينا المختص بدرس «الدولة في الإسلام».
نذكر من أشهر مؤلفات هذا الكاتب الواسع الإنتاج الكتب التالية التي لاقت شهرة خاصة في أوقاتها لجهة أسلوبها السهل ولجهة الجرأة الفكرية لصاحبها نسبة لما هو سائد في الأوساط المصرية في زمان صدورها:
كتاب من هنا… نبدأ.
كتاب مواطن لا رعايا.
كتاب الديمقراطية أبدأ.
كتاب الدين للشعب.
كتاب هذا.. أو الطوفان.
كتاب لكي لا تحرثوا في البحر.
كتاب الله والحرية.
كتاب الله، والحرية.
كتاب معًا على الطريق، محمد والمسيح.
كتاب إنه الإنسان. وكتب أخرى
وتجدر الملاحظة أن الفكرة المركزية لهذه المؤلفات التي ذكرناها هي فكرة الإنسان (او الشعب) واعتباره غاية وكل ما عداه وسيلة لخدمته.
ضد الدولة الدينية: الإسلام دين فقط: في كتابه الأول على سبيل المثال، كتاب «من هنا… نبدأ» الذي صدر في عام 1950، نجد صاحبه السيد خالد محمد خالد يصفه بالكلام الذي نقع عليه في مطلع كتابه «الدولة في الإسلام» يقول:
وكان ينتظم أربعة فصول، كان ثالثها بعنوان «قومية الحكم». وفي هذا الفصل ذهبت أقرر أن الإسلام دين لا دولة، «وليس في حاجة إلى أن يكون دولة… وأن الدين علامات تضيء لنا الطريق إلى الله وليس قوة سياسية تتحكم في الناس، وتأخذهم بالقوة إلى سوء السبيل. ما على الدين إلا البلاغ وليس من حقه أن يقود بالعصا من يريد لهم الهدى وحسن ثواب».
ويضيف فيقول: «وقلت: إن الدين حين يتحول إلى حكومة فإن الحكومة الدينية تتحول إلى عبء لا يطاق وذهبت أعدد يومئذ ما أسميته: «غرائز الحكومة الدينية».
ثم يخلص «غرائز الحكومة الدينية: فيذكر منها:
1 الغموض المطلق، إذ هي تعتمد في قيامها على سلطة غامضة، لا يعرف مأتاها، ولا يدرك مداها وصلة الناس بها يجب أن تقوم على الطاعة العمياء والتسليم الكلي والتفويض المطلق.
2 من خصائصها… أنها لا تثق بالذكاء الإنساني ولا تأنس له ولا تمنحه فرصة التعبير عن ذاته لأنها تخافه وتخشاه.
3 وهي لا تقنع الناس بضرورة قيامها وبقائها، تهيب بجانب الضعف فيهام فتلقي في روعهم أن رواد الخير والحرية والفكر والصلاح ليسوا سوى أعداء لله ولرسوله يحاولون نفي الدين عن المجتمع بنفي السلطة التي تمثله وتصونه.
4 والغرور المقدس من شر غرائز الحكومة الدينية، ولهذا لا تقبل النصيحة ولا التوجيه. بل ولا مجرد لفت النظر فضلًا عن المعارضة والنقد.
5 والوحدانية المطلقة أعتى غرائزها، وهي تحفزها إلى مكافحة الرأي مهما يكن حكيمًا وقتل المعارضة مهما تكن مخلصة نافعة.
6 والجمود الذي تتسم به يجعلها تضيق بكل جديد لأن صورة الدين في ذهنها مرتبطة بكل ما هو جامد وقديم.
7 والقسوة المتوحشة هي سيدة غرائزها وأكثرها عتوًا ونفوذًا وأنها لتجز عنقك وتهرق دمك وهي تصيح من فرط نشوتها: واها لريح الجنة».
ويصف السيد خالد حالته النفسية عندما كتب ما كتب في ذلك الزمان يقول: «ولم أكن يومئذ أخدع نفسي ولا أزيف اقتناعي، فليس ذلك والحمد لله من طبيعتي، إنما كنت مقتنعًا بما اكتب مؤمنًا بصوابه ويذكر السيد خالد أسباب رفضه «الحكومة الدينية» في إنتاجه الأدبي فيعدد منها ما يأتي:
السبب الأول يتألف من شقين هما: تعميمه تعميمًا خاطئًا (لا علميًا) لصورة «الحكومة الدينية المسيحية» لتشمل «الحكام السياسيين الإسلاميين».
وتسميته الأشياء بغير أسمائها وذلك عندما خلط بين فكرة «الحكام السياسيين الإسلاميين» وفكرة «الحكومة الدينية الإسلامية».
والكاتب يشرح كل ذلك على النحو الآتي، فيقول: «… فقد كنت في قمة التأثير ببشاعة وجرائم الحكومة الدينية المسيحية، ثم عكست الصورة في غير حق على الحكام السياسيين في الإسلام واعتبرتهم حكومة دينية إسلامية…».
ويذكرنا بما كان قاله عن المشابهة بين «الحكومات الدينية المسيحية» و»الحكومات الدينية الإسلامية» وهذا بعض ما ذكره:
«ففي الحكومات الدينية المسيحية ابتكرت وسائل التعذيب التي لا تخطر للشيطان نفسه ببال، فكان الخازوق ووتد التشهير، وصلم الإذن، وتمزيق الجسد، ومحاكم التفتيش وحرق العلماء بالنار وهم أحياء!!».
وفي الحكومات الدينية الإسلامية حدثت أهوال مروعة حتى أن حاكمًا دينيًا واحدًا، هو الحجاج، ابد البقية الكريمة الصالحة من صحابة رسول الله، حتى قاله عنه «عمر بن عبد العزيز»: «لو جاءت كل أمة بخطاياها، وجئنا نحن بني أميّة بالحجاج وحده لرجحناهم…!!».
وتكون النتيجة أن السبب الأول الذي ظهر أن الكاتب قد أراده من شقين انتهى إلى الصورة الآتية: « وكان الخطأ الأول مضاهاتي الحكومات الدينية الكنسية بحكم الإسلام». وهذا معناه أن الكاتب يعتبر خطأه الجوهري كان ماثلًا في تعميمه تعميمًا خاطئًا لصورة «الحكومة الدينية المسيحية» لتشمل «الحكومة الدينية الإسلامية». عن طريق إنشائه مشابهة بينهما من الأمثلة التاريخية.
أما السبب الثاني فهو يجعله في قوله هذا: «تعميم نتائج ما اقترفه الجهاز السري باسم الإسلام». ويقصد بذلك «التنظيم السري للإخوان المسلمين» والجرائم المتكررة التي اقترفها ومن بينها الاغتيالات السياسية لهدف فرض الدعوة الإسلامية.
هذه الممارسات الشاذة للإخوان المسلمين جعلته يقتنع ان الحكومة الدينية الإسلامية لن تكون خيرًا من أصحاب الدعوة إليها. وهو في ذل يقول القول الجريء الصريح الآتي: «وقلت في نفسي، إذا كان هذا مسلك المتدينين وهم بعيدون عن الحكم فكيف يكون مسلكهم حين يحكمون؟؟».
ويرد الكاتب خطأيه المذكورين إلى «خطأ في المنهج ذاته».
الإسلام دين ودولة! الحجة التاريخية: بعد كل هذا الشرح الذي يضعه الكاتب أمام القارئ واصفًا به حاله عندما كان غير معتقد بالحكومة الدينية «مسيحية» أم «إسلامية» يتقدم ليضع أمام القارئ شرحًا مستفيضًا حول كيفية وصوله إلى اقتناع جديد جوهره الإسلام «دين ودولة».
يبدأ السيد خالد بما يمكن تسميته الحجة من التاريخ. أهم إفادة لهذه الحجة ذكره بأن العرب قبل الإسلام عرفوا تجربة الحكم. هذا قوله: «فقبل مجيء الإسلام بقرون، كان هناك عرب لهم حكومات هم الذين أنشأوها وحضارة هم الذين صنعوها».
وبالرغم من اعتماده اعتمادًا قويًا على هذه الحجة التاريخية ظهر في استفاضته بالكلام عن تاريخ العرب قبل الإسلام، إلا أنه يقول هو نفسه: «إنه على فرض انتفاء هذا الأمر فلن يسلب الإسلام حقه ولا مقدرته على تأسيس دولة».
بعد هذه الخطوة الابتدائية الافتتاحية يصدر الكاتب القرارات الفكرية الآتية:
1 المجتمع المسلم في المدينة كان له دولة يقودها رسول الله صلعم.
2 كان رسول الله صلعم يدرك ان بناء «دولة الإسلام» واستمرارها جزء من مهمته كنبي ورسول». بل أكثر من ذلك يرى الكاتب أن كل الأنبياء والمرسلين خلفاء وحكام.
3 الإسلام لا يمكن أن يحقق ذاته إلا بإرساء قواعد الدولة.
4 الإسلام يطمح إلى «حكومة عالمية».
قبل التوغل في قراءتنا قدمًا لا بد ان نتوقف قليلًا لإبداء الملاحظات الآتية حول افتتاحية الكتاب وحول القرارات الفكرية المشار إليها:
بالنسبة للكلام البدئي الذي يشدد فيه على الحضارة السياسية للعرب قبل الإسلام المحمدي نحب فقط أن نتركه مع هذه المسألة ليجد حلًا لها نعني مسألة وصف القرآن الكريم والمؤرخين الإسلاميين لعصور ما قبل الإسلام المحمدي بأنها عصور الجاهلية.
أما بالنسبة لقراراته الفكرية فإننا نتتبعها قرارًا قرارًا فنذكر الملاحظات الآتية:
1 القرآن الكريم الذي هو المرجع الأول والأساسي لا يصف في أي موضع منه أن المجتمع المسلم كان له دولة في المدينة المنورة يقودها رسول الله. بل إننا نجد القرآن الكريم واصفًا المجتمع المسلم في المدينة المنورة بالقول إنهم كانوا يشكلون حزبًا اسمه «حزب الله» نذكر من «سورة المائدة» ما يأتي:
«ومن قول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون».
أهمية هذه الآية أهميتان هما: أنها تحدد تحديدًا واضحًا جماعة المسلمين (وهم من المدينة المنوّرة) ورسول الله على رأسهم بأنهم حزب وليسوا دولة. ثم هي فيها درس للذين يتجففون من مجرد استخدام كلمة «حزب» يعلمهم أن الله سبحانه وتعالى قد استخدمها في كتابه العزيز.
2 قول الكاتب بأن بناء «دولة الإسلام» جزء من مهمة محمد صلعم باعتباره نبيًا ورسولًا لا نجد له سندًا من المصحف الشريف. فلو عددنا كل الأسماء والصفات التي وردت في القرآن الكريم المتعلقة بمحمد لما وقعنا على أي اسم وصفة تدل على انه رئيس دولة أو أمير مؤمنين أو رئيس حكومة او ما شابه ذلك. هذا من جهة. من جهة أخرى لو جئنا بكل أدوات التحليل الفقهي واللغوي لما استطعنا أن نستنبط من تعبير «النبي» أو تعبير «الرسول» أو من كليهما معًا معنى يمكن أن يفيد بناء دولة للإسلام.
فمعنى «النبي» مرتبط بمعنى «النبوة» ومعنى «الرسول» مرتبط بمعنى حامل «الرسالة» والمعنيان لا يمتان للسياسة أو الدولة بصلة. ثم قول الكاتب إن كل الأنبياء والمرسلين كانوا حكامًا هو أيضًا قول متهافت من وجهة الإسناد فالكتاب لا يستعمل في ما اشتمل عليه على ذكر دولة إبراهيم الخليل أو عن إبراهيم الخليل رئيسًا لدولة دينية. كذلك بالنسبة لإسماعيل وأيوب (صاحب الصبر الأكبر). بل إننا نجد أمثلة كثيرة في الكتاب عن أقوام (وليس عن دول) تجبر أهلها أو الأقوياء في أهلهم مثل قوم لوط وعاد وثمود وغيرهم كان مصيرهم الهلاك بغضب الله. أليس جديرًا بالملاحظة أن القرآن الكريم لم يشمل على مثل واحد لدولة دينية صالحة حتى يقاس بها في عصور الإسلام المحمدي؟
3 قول الكاتب إن الإسلام لا يحقق ذاته إلا بالدولة هو قول آخر لا نجد شبيهًا له في الكتاب عمومًا ولا في تعريف الإسلام على نحو تحديدي. في القرآن الكريم عرف الإسلام بانه دين فقط في قوله تعالى: «ورضيت لكم الإسلام دينًا». ولم يرد ما يفيد بأن الإسلام دين ودولة.
من ناحية أخرى، هل غياب الدولة الإسلامية الآن في البلاد العربية يعتبره الكاتب غيابًا للإسلام لجهة تحقيقه ذاته؟ ثم ما حكم الكاتب على المسلمين المحمديين في البلاد العربية وغيرها في هذه الأيام ما داموا لم يؤسسوا دولًا إسلامية؟
4 القول بـ «الحكومة العالمية» للإسلام هو أيضًا قول لا يثبته الكتاب. فالقرآن الكريم يذكر بوضوح أن الدين للعالمين ولكنه لا يذكر ان الدين والدولة هما للعالمين.
نتقدم الآن إلى مرحلة جديدة من مراحل تفكير الكاتب فماذا نجد؟ نجد أن الكتاب يقول في ما يقول أن «القرآن مملوء بالآيات التي تدعو المسلمين إلى حكم الله». فما هو حكم الله؟
يعترف الكاتب فيذكر الكلام الآتي:
«ونحن حين نطالع آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول الخاصة بقيام الدولة في الإسلام، لا نلتقي بآية ولا بحديث يقول: «يا أيها الذين آمنوا أقيموا دولة أو اتخذوا منكم إمامًا وحاكمًا». لكن لما لا نلتقي بآيات سياسية في القرآن الكريم؟ لا يجيب الكاتب بقوله إنها حكمة الله على عباده فهو سبحانه وتعالى، يريدهم مؤمنين به أخلاقيين متفقين ولا يريدهم سياسيين متنازعين على الحكم والحكومة. جواب الكاتب جاء بالشكل الآتي يقول:
«تمامًا كما لا نلتقي بآية تقول أو بحديث يقول يا أيها الذين آمنوا تنشقوا الهواء».
فالكاتب يعتبر أن الحاجة للدولة كالحاجة للهواء، كلاهما بديهيان بالنسبة إليه، فلا يتطلبان آمرًا أو دعوة!
واضح أن موقف الكاتب هنا موقف متهالك فالقرآن اهتم حتى بوصف ما يتعلق بنظافة الجسد التي هي مسألة بديهية بالمعنى الذي أورده فالنظافة الجسدية حاجة لا يستغني عنها حتى الحيوان. فكيف لا يأتي القرآن على ذكر الدولة وهي من أخطر المسائل الإنسانية وأهمها وأكثرها تأثيرًا في حياة الأفراد والجماعات؟
لا بد أن لله حكمة في ذلك. لكننا مهما اختلفنا في إدراك حكمة الله تظل حقيقة أكيدة هي: ان الله لم يأت في كتابه العزيز على ذكر الدولة. وعدم ذكر الدولة في القرآن الكريم لم يكن سهوًا، إذ حاشا أن يسهو الله. بل جاء عمدًا إذ اكد الله سبحانه وتعالى أن الإسلام دين فقط في قوله: «ورضيت لكم الإسلام دينا» ولم يقل رضيت لكم الإسلام دينًا ودولة.
الحجج القرآنية: غير أن الكاتب يظل ماضيًا في تفكيره. فهو يريد هذه المرة أن يشتق الحكومة الدينية «الإسلامية» (البديهية) من بعض ألفاظ الكتاب. هو يقول، إن القرآن مملوء بالآيات التي تدعو المسلمين إلى حكم الله. أين ذلك؟ وكيف ذلك؟
يذكر الكاتب أن الفعل «حكم» جاءت مشتقاته في القرآن بمعنى «الحكومة» التي تقضي وتفصل وتقود. ويقول إن لفظ «الحكم» بمعنى «القضاء والفصل» وبمعنى «الحكومة» ورد ذكره في القرآن ستا وسبعين مرة ويكتفي بإيراد بعض الآيات.
أما الآيات التي يستشهد بها فهي:
1 قوله تعالى: «إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله». ويشرح الكاتب هذه الآية الكريمة على النحو الآتي. يقول: «فالقرآن لم ينزل على قلب الرسول ليتعبد به المؤمنون بل وليكون أولًا منهجًا للحكم يحكم به الرسول أمته المسلمة بما أراه الله أي بما رسم له القرآن من سبيل وما قنّن فيه من قانون».
غير أن ما غفل عنه الكاتب هو أن الله سبحانه وتعالى قد أرى رسوله محمد (صلعم) دين الإسلام فالحكم بين الناس معناه الفصل بين الناس وفقًا لمبادئ الدين الإسلامي المناقبية السامية ووفقًا لقوانين الإسلام التي هي قوانين مدنية. حجتنا في ذلك تتألف من شقين هما:
– أولًا: أن تعبير «الناس» تعبير عمومي فليس يفيد معنى الدولة بل هو لعموميته يفيد معنى جماعة الناس أو المجتمع المدني الذي يؤلفونه.
– ثانيًا: إن القوانين التي يشير إليها الكاتب الموجودة في القرآن الكريم ليست قوانين سياسية.
2 وقوله تعالى: «فاحكم بينهم بما أنزل الله وان احكم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم». هنا أيضًا يتوقف معنى الآية الكريمة على عبارة «ما أنزل الله». فنحن نرى أن «ما أنزل الله» هو المبادئ الدينية الأخلاقية السامية والقوانين اللاسياسية التي تحدد علاقات الأفراد بعضهم ببعض وليس علاقة الأفراد بالدولة أو الدولة بالأفراد.
3 وقوله تعالى: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإن حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل».
ماذا يرى السيد خالد في هذه الآية؟ إنه يوسع مدلول لفظة «الأمانات» حتى يشمل معنى الحكومة وذلك لكي يستنبط من المعاني الأخلاقية الأصلية للآية وجهًا سياسيًا، يقول: «والأمانات هنا تعني الودائع التي يستودعها بعضنا بعضًا فحسب، بل تعني، أولًا، مسؤولية الحكم التي هي أمانة ائتمن الله عليه الحاكمين».
ولا يكتفي الكاتب بالتفسير السياسي العمومي للفظة «الأمانات» بل يمضي إلى الطرف الأقصى في التأويل السياسي بلا ضابط هناك لفكرة الرغائبي فيدخل فكرة الحكم الشعبي وفكرة الدولة في اول ما تعنيه الآية الكريمة. هو يقول بالحرف الواحد: و «أداؤها يعني العدل في تنفيذها والقيام بها كما يعني إشراك الشعب في هذه المسؤولية بكل الوسائل التي تجعل مشاركته في الحكم مشاركة فعالة وحقيقية». ويضيف: «والحكم بما أنزل الله وبما شرع لعباده، وبناء الدولة التي تلتزم هذا النهج كان من بين وظائف الرسول عليه السلام».
4 قوله تعالى: «والله يحكم لا معقب لحكمه». أليس يفيد أن الله هو الحاكم وحده لا شريك له من عباده وليس كما أراد الكاتب في اتجاهه التسييسي لآيات الكتاب؟
ومثل الآية هذه نجد آيات أخرى لها المدلول نفسه يستشهد بها الكاتب لكن لخلاف الغموض الذي نزلت من أجله. نذكر منها ما يأتي: «ذلكم حكم الله يحكم بينكم» و «إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه» و «إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون».
5 ثم هناك آيات لم يذكرها الكاتب ويحسن ذكرها كلها تؤكد ان الله هو الذي استوى على العرش منذ الخلق فلا يستوي عليه سواه وإلا كان مشركًا: «إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدير الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم ربكم فاعبدوه فلا تذكرون
6 وهناك آيات تفيد أن الله مالك السموات والأرض فكيف يجوز القول بالدولة بعد ذلك والدولة من مفاهيمها الأساسية مفهوم السيادة على الأرض وملكية الوطن: «لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير».
خلاصة ملاحظتنا أن الكاتب اقترف في تفسيره أغلوطتين هما:
أغلوطة الخلط بين الحكم الأخلاقي والحكم بمعناه السياسي عندما اعتبر الحكم الأخلاقي حكمًا سياسيًا وحكومة ودولة.
ثم أغلوطة نسبة الحكم إلى البشر في حين الحكم كله بيد الله. فالله سبحانه وتعالى عند المؤمنين إيمانًا كاملًا. هو الحاكم في كل شؤون الدنيا والآخرة فلا شريك له في شاردة او واردة وفي كل امر كبيرٍ أو صغير وفي كل ناحية من نواحي الحياة لذلك طلب ان يتوكل عليه المتوكلون.
الدول من صنع البشر ونزاعاتهم: مع كل ذلك، نحن لا ننفي وجود دولة دينية إسلامية ولكننا نقول إنها دولة وجدت في التاريخ كانت ومن صنع البشر وليست من صنع القرآن. فهناك حقائق تاريخية ثابتة تفيد عن دولة الخلفاء الراشدين ودولة لبني أميّة ودولة لبني العباس ودولة فاطمية ودولة لبني عثمان، لكن كل تلك الدول هي من صنع البشر المسلمين ونزاعاتهم وليست من صنع نصوص الكتاب الذي لا نجد فيه آية تشير إلى الدولة كما اعترف السيد خالد محمد خالد نفسه.
وهنا الأغلوطة العظيمة وهي أن السيد خالد محمد خالد يخلط بين دولة البشر والقرآن فلا يميز بينهما بالحق.
أجل، لقد قامت دول إسلامية كثيرة وكان معظمها نتيجة صراع الجماعات الإسلامية ولم تكن تطبيقًا لنظرية قرآنية في الدولة. ولو كانت في القرآن نظرية في الدولة لما كان ثمة داع للصراع على السلطة السياسية هل تكون لبني أمية أم لعلي بين أبي طالب مثلًا وللعرب أم للفرس، مثلًا آخر.
يمكن للسيد خالد محمد خالد كما يمكن لغيره مثل جماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي وحزب الله وغيرهم أن يستخرج من القرآن الكريم ما شاءت له رغباته السياسية الدنيوية، يمكن أن يرى في لفظ «الشورى» معنى «الديمقراطية البرلمانية». ويمكن لغيره أن يرى فيه اتحادًا اشتراكيًا أو مؤتمرًا إسلاميًا أو دولة دينية عالمية يحكمها خليفة من إندونيسيا أو الباكستان أو بنغلادش أو أحد مسلمي الاتحاد السوفياتي وله مجلس من عدد من المسلمين من أقطار الدنيا الواسعة.
كل هذه الاختلافات في تفسير لفظ «الشورى»، التي نقع عليها في زماننا سببها الأصلي محاولات تسييس نصوص القرآن التي هي نصوص مبادئ وقوانين مدنية أخلاقية. كل تلك الاختلافات لا تبدل في حقيقة الآية البيّنة الكريمة التالية شيئًا وهذا نصّها:
«وما عند الله خير وابقى للذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون… والذين استجابوا لربهم واقاموا الصلاة، وأمرهم شورى بينهم، ومما رزقناهم ينفقون».
لفظ «الشورى» في هذه الآية الكريمة يفيد معنى المشاركة في الرأي بالمعنى العمومي الأخلاقي وليس بالمعنى السياسي التحديدي. وهذا المعنى للفظ «الشورى» توجه الذهن إليه الألفاظ التي تقدمت اللفظ وهي كلها الفاظ ذات معانٍ دينية أو أخلاقية – مسلكية لا تمت إلى السياسة والحكومة والدولة بصلة. منها ألفاظ الإثم والفواحش والغضب والمغفرة وإقامة الصلاة.
حقائق تاريخية: من الوجهة التاريخية الواقعية يمكننا ذكر الحقائق الآتية:
1 أن الرسول محمد (صلعم) لم يعلن نفسه أميرًا للمؤمنين في حياته كما أن القرآن الكريم لم يصفه مثل هذا الوصف، وأكثر من ذلك نحن لا نجد بين أركان الإسلام الخمسة التي هي ركن الشهادة وركن الصلاة وركن الصوم وركن الزكاة وركن الحج اي ركن سياسي، حتى أن ركن الشهادة الذي هو أهم الأركان لا نجد فيه ما يفيد: أن أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول اله وان محمدًا رئيس الإسلام، بل نجد النص الآتي: «أشهد أن لا إله إلا اله وأشهد أن محمدًا رسول الله».
2 خلافة أبي بكر لم تكن نتيجة تلاوة أو تطبيق نصوص قرآنية بل جاءت بناءً على مبايعة عمر بن الخطاب وتصميم عمر بن الخطاب على البيعة وبعد ذلك الموافقة من بقية جمهور الصحابة.
وبالنسبة لخلافة عمر يقول الطبري في الجزء الأول من تاريخه : إن أبا بكر كتب العهد لعمر لكن بعد استشارة كبار الصحابة وموافقتهم. أما بالنسبة لعثمان بن عفان فلم تكن بيعته من الستة الذين اختارهم عمر لترشيح الخليفة واختياره.
معنى ذلك ان الخلافة كانت تتم بقرارات بشرية وليست بنصوص دولة دينية موجودة في القرآن. والقرارات البشرية كانت قرارات عدد قليل جدًا من الأفراد هم الأفراد الذين عرفوا بـ «الصحابة» وليس من صحابة «في هذا الزمان».
بعد قتل الخليفة عثمان بن عفان، انفجر الصراع السياسي بين بني أمية وبين علي بن أبي طالب واتخذ صورة عنيفة دموية في معركة صفين التي انتهت بقصة التحكيم والمناورة الأموية التي نفذها عمرو بن العاص ممثل معاوية مع أبي موسى الأشعري ممثل علي بن أبي طالب.
3 منذ تأسيس الدولة الأموية حتى يومنا ظلت الدولة الدينية الإسلامية دولًا من صنع البشر وصراعاتهم السياسية الدنيوية. وإننا لا نجد في كل وثائق التاريخ الإسلامي أية محاولة للاستناد إلى آيات القرآن الكريم لإقامة سلطة سياسية او لفض نزاع سياسي. كل الاعتماد كان يكون إما على القوة أو على أحاديث تنسب للرسول او على كليهما.
حتى ظهرت حركة الإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي وحزب الله وكتاب السيد خالد محمد خالد فرأينا العجائب في تفسير القرآن بغير حساب إلا للسياسة والألقاب فويل لمن لا يهاب حكم الله وويل لمن أناب عن الله عبدًا من تراب وعن آياته في الدين كلامًا يسيسها جاهل أو مشرك أو غافل او مغرض في بيان أو خطاب أو كتاب.
اعتراف جديد: نعود إلى التذكير باعتراف السيد خالد محمد خالد بأن القرآن الكريم لا يشتمل على نصوص تدعو الذين آمنوا إلى إقامة دولة لنشير إلى اعتراف جديد، هذا هو:
«صحيح أن القرآن «دستور» لم يضعه الشعب ولكنه دستور رضيه الشعب وآمن به واقترع عليه واستشهد في سبيله.
واضح ان الكاتب يستخدم مصطلح «دستور» استخدامًا أدبيًا عموميًا وليس استخدامًا علميًا تحديديًا. فهو يقصد الكتاب الذي يشتمل على عقيدة وقوانين. لكنه يغفل أن القوانين الواردة في الكتاب ليست قوانين سياسية كما كنا ذكرنا. لذلك فـ «الدستور» هنا ليس دستور دولة بل دستور مبادئ عقيدة دينية وقوانين سلوك مدنية لا أكثر ولا أقل.
المسألة الثانية التي تستحق النظر هي في قول الكاتب أن القرآن الكريم لم يضعه الشعب وهذا يعني أن الإرادة التي انبثق عنها القرآن الكريم ليست إرادة شعبية أو إنسانية. هي كما يروي لنا علماء الدين إرادة إلهية. لذلك نسأل: «إذا كان القرآن من إرادة الله سبحانه وتعالى فهل يظل من معنى لكلام الكاتب عن «رضى الشعب» و»اقتراع الشعب عليه»! ثم أي شعب يقصد الكاتب؟ أهو شعب الجزيرة العربية الإسلامية أم شعوب العالم كله؟
في موضع آخر يقول الكاتب إن «الأمة في الإسلام هي مصدر السلطات» فكيف يوفق بين هذا القول وحقيقة أن الله مصدر كل شيء؟
ثم هل كلام الكاتب عن الأمة وكونها مصدر السلطات له سند في القرآن الكريم؟ هذا من الناحية الوثائقية. أما من الناحية التاريخية فإن وقائع التاريخ تعرّفنا على أن الخلفاء الراشدين كانوا بقرار صحابة الرسول ولم يصبحوا خلفاء نتيجة النزاع الحربي والخديعة السياسية وأولادهم صاروا خلفاء بالوراثة والخلفاء العباسيون صاروا خلفاء بالنزاع الدموي والوراثة أيضًا. فأين الكلام عن الأمة مصدرًا للسلطات في كل ذلك التاريخ. ومما يقوله الكاتب ما يأتي: «ومن الظواهر الصادقة أنه كلما كانت الأمة عالية في مستواها الحضاري، كان اختيارها لحكامها صائبًا وسديدًا».
فهل يقصد الكاتب أن يقول إن المستوى الحضاري وليس القرآن هو معيار الاختيار الصائب السديد للحكام؟
أما عن الدولة الإسلامية فهذا بعض ما يصفها به: «فالدولة المسلمة مأمورة من ربها، ومدعوة من دستورها إلى أن تقيم تعايشًا سلميًا بينها وبين كل دولة لا تقدم إليها الأذى ولا تحوطها بالمؤامرات».
أسئلة: أين نجد في القرآن نصوصًا تشتمل على أوامر من الله سبحانه وتعالى موجهة للدولة الإسلامية؟
هل الدولة الإسلامية هي دولة بين الدول أم هي دولة عالمية؟
وهل دولة الكاتب الإسلامية تقبل التعايش مع دول ظالمة لشعوبها ما دامت تلك الدول لا تتآمر على الدولة الإسلامية؟
ثم هناك الآيات التي يستشهد بها الكاتب والمتعلقة بالقتال مثال: «الذين آمنوا، وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله. أولئك هم الفائزون».
«فليقاتل على سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا».
«إن الله اشترى المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعدًا عليه حقًا في التوارة والإنجيل والقرآن. ومن أوفى بعهده من الله».
«إن الله يحب الذي يقاتلون في سبيله صفهم كأنهم بنيان مرصوص».
نلاحظ في كل هذه الآيات أن القتال المطلوب لم يكن في سبيل الدولة بل في سبيل الله وليس قتالًا سياسيًا بين دولة ودولة على حدود من الأرض أو على منافع اقتصادية. ومن قوله تعالى:
«وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلوكم كافة» الذي معناه أن القتال هو صراع ديني عقائدي بين المسلمين المؤمنين بإله واحد وبين المشركين بالله أحدًا وليس القتال بين دولة ودولة.
نخلص من قراءتنا النقدية لكتاب السيد خالد محمد خالد إلى النتيجة الآتية:
إن الكتاب لم يستطع أن يستخرج من القرآن الكريم دولة إسلامية.
ثم، إذا كانت الدولة الإسلامية لا تحتاج إلى سند من القرآن الكريم لأنها – كما قال – بديهية كالهواء فلماذا كل ذلك العناء الذي تجشمه السيد خالد محمد خالد لاستنباطها بمنطق رغبات ليس فيه علم ولا استواء؟
خالد محمد خالد يظهر أنه غيّر رأيه بطريقة إرادية. غير أن هناك من تعرض لعقوبة قاسية لأنه قال بأن الإسلام دين وليس بدولة وأن محمدًا كان رسولًا لا ملكًا ولا أميرًا. وأبرز مثل على ذلك ما حلّ بالشيخ علي عبد الرازق. وهذه قصته باختصار شديد:
كان الشيخ القاضي علي عبد الرازق من علماء الجامع الأزهر في مصر وقاضيًا من قضاة المحاكم الشرعية. غير أنه، وبالرغم من ذلك، دفع ثمنًا غاليًا جدًا بسبب فكرته التي ضمنها كتابه: الإسلام وأصول الحكم: بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام والثمن الغالي شمل فيما شمل حرق كتابه وطرده من وظيفته والتشهير باسمه في مصر. أما فكرة الكتاب فتمثّلت في قوله إن محمدًا لم يكن إلا رسولًا ذا بلاغ مبين أو بشيرًا أو نذيرًا وليس ملكًا أو مسيطرًا أو وكيلًا. ومن الآيات التي استشهد بها: «قلْ لست عليكم بوكيل…» و «… إن عليك إلا البلاغ» و «فذكّر إنما أنت مذكّر لست عليهم بمسيطر». وهذه الآيات مكيّة. الأولى من سورة الإسراء والثانية من سورة الشورى والثالثة من سورة الغاشية. وهناك آيات أخرى ذكرها.