127
قيل: اعتنوا بماضيكم حتى تحموا حاضركم ومستقبلكم، فمن لا ماضي له لا مستقبل له. والتراث هو هوية الأوطان التي من دونه لا قيمة فعلية لها. والكلمة الأجنبية تربط الوطن بالتراث لفظياً (patriotisme/patrimoine/patrie) وهذا خير دليل على الصلة الحضارية القوية التي تربط الأوطان بماضيها وإرثها ولكن أيضاً بحاضرها ومستقبلها.
كثيرون هم الباحثون الذين انكبّوا على دراسة مسألة التراث قديماً وما زالت الأبحاث ناشطة في موضوعات كهذه في كل العالم وتحديداً في الغرب، الذي يولي للتراث أهمية ما بعدها أهمية لكونه عنوان ثقافة وهوية وفخر واعتزاز قومي هو الأقوى والأهم. وقد أفردت وزارات الثقافة والسياحة وغيرها لأمور التراث شأناً كبيراً، ودُعّمت بأفضل الإمكانيات من أجل الإبقاء على التراث الوطني على تعدّد أنواعه وجوانبه بما فيه الفولكلور والموسيقى والأزياء الخ… وصنّفت المواقع والصروح والأبنية بين أثرية (ما قبل القرن السابع عشر) وتاريخية (ما زاد عمره على 300 سنة) لحمايتها وترميمها وصيانتها بشكل مستدام لتغدو عصيّة على الزمن. والأهم أنه استحدثت القوانين الخاصة من أجل عدم المساس بهذا الإرث الحضاري وأنزلت العقوبات الصارمة بمستوى جريمة بحق كل من تسوّل إليه نفسه المساس بالتراث بأي شكل من أشكال التزوير أو التدمير أو السرقة أو البيع أو الاقتلاع وما الى ذلك من ممارسات جرمية بحق الحضارة. كما وأنشئت المراكز البحثية والعلمية للمحافظة على التراث القديم والذي يمسّ جوانب متعددة من النشاط البشري على مرّ العصور من عمارة وهندسة ونحت ونقش وتزيين ورسم ومخطوطات وفنون تشكيلية وحرفية على أصنافها (خشب، زجاج، خزف، معادن…)، واهتمت الجهات المعنية بترميم التحف والأثريات الى ما هنالك من اهتمام بالآثار المنقولة وغير المنقولة وبالمجموعات الكبيرة التي تحتويها المتاحف العالمية والتي تضمّ أعمالاً فنية لم تقتصر على ما وجد في أرض البلاد الغربية، بل شملت مكتشفات الحضارات المشرقية وغيرها والتي نقلت الى تلك المتاحف. ولا يظنن أحد أن هذه التحف تعرض وحسب، بل إنها تكلّف الدول مليارات الدولارات سنوياً من أجل صيانتها والحفاظ عليها كشواهد على النتاج الإنساني الإبداعي. وثمة من يسأل: لماذا تتكفّل الدول بالحفاظ على تراث غيرها من الحضارات والشعوب؟ وببساطة، نجيب: لأن هذا التراث ملك الإنسانية كلها، عملاً بالمقولة الشهيرة "كل ابتكار هو ملك الإنسانية جمعاء" (Toute invention appartient de droit à l’humanité ( وبهذا يكون التراث والإرث الحضاري أعطيا المكانة التي يستحقانها ويكونان في مأمن من كل يد عابثة. هذا في المبدأ النظري، أما عملياً، فهنا السؤال وهنا الطامة الكبرى ومكمن العلة، فالجواب يأتيك تلقائياً مما تتعرّض له المواقع الأثرية والمعالم التاريخية في المشرق من تدمير وهي الغنية بالشواهد الحضارية التي لا مثيل لها في الكون والفريدة من حيث القيمة الفنية والمادية والتاريخية والتقنية أيضاً، فهي شاهدة على قوة الابتكار والإبداع لدى المشرقيين والتي دعمها الفكر النيّر الذي ابتكروه والذي عمّ إشعاعه العالم، فلو اختصرنا الأمثلة فقط على الأبجدية أو الفلسفة أو الفكر الديني لكفى المشرق فخراً أن يكون قد ارتقى بالإنسانية إلى أعلى درجات السمو والعلم ووضعها في مصاف الألوهية الخالقة! فكيف لا نعتز بذلك ونفتخر، وكل وعاء ينضح بما وضع فيه وإناء المشرق مليء حتى التدفّق والطوفان وبذلك غمر الكرة الأرضية وغطى العالم حضارة في أطرافه الأربعة. ولكن ماذا يحدث لو شحّ هذا الفيض وجفّ الإناء وبارت كل الأوعية الحضارية، ومزّقت الدنان وفسد خمرها؟ ماذا يبقى حينها للمشرق من قيمة، ففاقد الشيء لا يعطيه وإذا فسد الملح فبماذا يملحّ؟ على حدّ قول السيد المسيح، هذا المعلم الأكبر، وليد الشرق ومفكره الأعظم الذي طالما تكلم بالأصالة وبالأصول العريقة التي علم احترامها وبالمقابل نبذ ما هو غير فعّال أي غير أصيل. والملح هذا هو زبد الأمة الحضاري المتدفّق تدفّق الأشعة والنور من شمس المشرق. وللأسف! هذا ما يحصل فعلياً في زمننا التعيس بحيث يفرّغ المشرق من محتواه الحضاري ومن إرثه التاريخي، بل يدمّر علانية وبمنهجية لم يسبق لها مثيل حتى في زمن التتر والمغول وتيمورلنك وهولاكو وأشباههم من الرعاع المجرمين الذين اجتاحوا البلاد الخصبة ليحوّلوها الى بوادٍ وقفار على مثال الأصقاع المكفهرة الرمادية التي قدموا منها، ليحرقوا كل ألوان المشرق وكل وهجه.
مصلحة الأمة تعلو على مصلحة الأفراد
تستباح الأوطان، تستباح الذاكرة، يستباح التراث، تستباح الحضارة وكل أرث أصبح مهدّداً بالزوال، إذ تترصّده عيون الهمجيين التتريين الجدد الذين يتحيّنون الفرصة لتهديمه وإزالته من الوجود والقضاء على كل أثر له ومحو ذاكرته من التاريخ! هذا هو وضع تراثنا اليوم، وحسرتاه! وإن الذي يعتقد أن ما يحصل في البلاد المجاورة من تعدّ على الحضارة، هو بعيد عنه ولا يعنيه، فهو مخطئ جداً، لأن الإرث الحضاري جسم متكامل الوجود في الزمان والمكان، وهذا الإرث الثقافي متصل الأطراف إذ لا تكتمل معالمه إلا من حيث تعلّقه بالجغرافيا والتاريخ الكليين، الخاصين بمنطقة حضارية معيّنة، والمرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمحيطها، فالمعابد مثلاً لم تشيّد في منطقة بمعزل عن غيرها من المعابد الشبيهة لها، ومدلولها الرمزي واحد وهي غير منفصلة عند معابد أخرى في منطقة مجاورة، فكلها تشكّل وحدة ثقافية تدلّ على مرحلة حضارية وتاريخية محدّدة كالقول إنها معابد فينيقية أو يونانية أو رومانية تنتمي الى نفس السوية الأثرية أو المرحلة الزمنية وتتشابه من حيث هدف وجودها في تلك الفترة، وفي أي مكان وجدت فيه في هذا المشرق الفسيح. وينسحب الأمر كذلك على الكنائس فكلها تدل على العصر المسيحي وكذلك على الجوامع وكلها تدلّ على العصر الإسلامي وعلى المدارس وكلها تدل على العصر العربي وهكذا… ولا يمكن فصلها عن بعضها أو كسر التسلسل الزمني للفكر الذي أنتجها وكانت وليدته. وهذا التطور المطرد عبر العصور والتراكم الثقافي يبنى بالضرورة على ما سبقه ولا يمكن فصل الحقبات والقفز فوقها، وإلا تهدّم الصرح بكامله وانتفى معنى التاريخ الصحيح لهذه الشواهد التي أتتنا من نتاج وإبداع الأجداد أينما حلوا في هذا المشرق الواسع. وهكذا هي مسيرة الحضارة لدى الشعوب الحضارية كافة، أي تلك المنتجة للفكر الحضاري الشامل وتتصدّر لائحتها شعوبُ المشرق العريق في القدم، ذي الإرث الثقافي الذي لم يضاهه إرث في العالم والذي شعّ في الكون نوراً وحقاً وجمالاً وأخلاقاً وعلوماً وخيراً.
الإرث الحضاري جامع الأمة وموحّدها
وإذا كانت الذاكرة تُحفظ على صعيد الأفراد ويستميت هؤلاء في امتلاك وصيانة ما ورثوه عن آبائهم، فما بالكم على صعيد الأوطان! أيّهما أولى بالمعروف، الذاكرة الفردية أم الذاكرة الجماعية، تلك التي تجعل من الوطن قيمة كبرى لا تعلو فوقها قيمة ومظلة تظلل أبناءه كلهم سواسية تحت سقف الحق والعدالة والمساواة؟ إن كل شيء مرتهن بالذاكرة الجماعية التي هي مصدر القوة للجماعات وعنوان المصير المشترك، وهذا ما يوثّق اللحمة بين أفراد المجتمع ويجعلهم يتشاركون تاريخهم على قدم وساق، وإلا كيف تفسّر الاحتفالات الجماعية والأعياد الفولكلورية التي ما زالت ناشطة في الدول العالمية اليوم لولا تلك الذاكرة الجماعية المحافظ عليها بكل الجوارح والعواطف والمشاعر الوطنية والقومية الجامعة؟ أتعجّب من امرئ يحتفظ بألبوم صوره بقدسية ما بعدها قدسية، ولا يأبه لمعلم تراثي يتهدّم وكأن الأمر لا يعنيه! بطبيعة الحال، إن أمراً كهذا لا يعني الجهلة، هؤلاء الذين يفعّلون المصلحة الذاتية والمنفعة الشخصية على مصلحة الوطن، أما العقلاء فمساكين العقلاء كم يتعذبون لخراب الوطن ورؤية تراثهم يهدّم أمام ناظريهم وينهار وهم عاجزون عن حمايته وعليهم تحمّل غباوة الأميين فوق ذلك، وكم يصحّ قول الشاعر المتنبي في هذا السياق:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ
وكم يتنعّم المتنعّمون اليوم، هؤلاء الغافلون عن المصير المشؤوم الذي ينتظر الوطن وعن اليد التي تعيث به خراباً وفساداً من كل نوع ولون، والتي لن ترحم لا البشر ولا الحجر ولا الكتب ولا الذاكرة حتى الشفوية منها تلك المحمّلة بالمآثر والأمثال والحكم والحكايا الشعبية المهذِّبة للروح، فكلها الى زوال إذا ما بقيت الآذان مقفلة والعيون حائرة بأمرها، لا تستكين لمكان محدّد المعالم، فلا هوية تعرفها ولا انتماء تعرفه، فكيف تستكين؟ وكيف تفقه هذه الذاكرة القومية الجامعة التي تُمحى بهمجية لم يُعرف لها مثيل في كل التاريخ؟ الى متى أنتم غافلون؟ الى متى أنتم متعامون؟ ثمة ساذجون يتكلون لربما على الأونيسكو وعلى المعاهدات الدولية لحماية التراث العالمي والمواقع المصنّفة أثرية وتراثية، بئس ما أنتم ظانون! فهذه جمعيات باتت موجودة فقط لتهديم التراث وليس لشيء آخر غير التهديم، وقد أثبتت المآسي التي شهدها لبنان من تدمير تراثه وإرثه الأثري خلال سنين طوال، عدم فعالية منظّمات وجمعيات عالمية، غربية، استعمارية كهذه، تدميرية الأهداف بالقول وبالفعل أيضاً! وما من لائم يلومنا، وإلا لماذا لا تقوم الدنيا ولا تقعد إثر ما يحصل اليوم من جرائم ممنهجة متعمّدة ضد الإرث الحضاري المشرقي الذي هو إرث العالم بأجمعه؟ مَن منا سمع صرخة عالمية واحدة عما حصل لمعلولا، أمّ اللغات المشرقية الآرامية والسريانية؟ مَن منا رأى تظاهرة استنكارية واحدة أقلّه في بلاد الشرق قبل الغرب؟ لا أحد ولا شيء، الكلّ يتفرّج، لذا فالكلّ مشارك في الجريمة! ويسكت الغرب الحضاري مدعي الديموقراطية وحقوق الانسان والحيوان والبيئة والتراث ويصمّ الآذان ويتجاهل عمداً، ولسان حاله يقول: فليذهب المشرق الى الجحيم! في المقابل، فليتجرّأ أحدكم ويرمي وردة ولا أقول حجراً على جدار أو أي جزء من معلم أوروبي، وانظروا ماذا يحصل له على الفور من توقيف واستجواب واستنكار، ليس فقط على يد السلطات، بل ويشنّع به كمجرم في الوسائل الإعلامية ويفضح علناً ويُطرد! أما بلادنا بكلّيتها والتي تدمّر بمعالمها كلها وكل هذا الترويع الحاصل لشعوبنا، فما من سائل ولا من مجيب، تدميرنا حلال ومشرّع أما هم فخط أحمر!
يتبادر إلى ذهن العاقل سؤال محيّر: لماذا دائماً وأبداً تترافق الاجتياحات والغزوات والحروب والأزمات مع تدمير المعالم الحضارية والتراثية ولا نسمع عن هجمة ضد البارات والحانات والمواخير والاستديوهات التي تنتج الدعايات والأفلام والكليبات التي أدخلت البارات وكل أصناف التردّي الأخلاقي لدرجة الدعارة الى بيوتنا في ساعات المساء الباكر حين تجتمع العائلة على العشاء أو للسهر؟ ولماذا لا تستهدف مراكز الكيف واللهو والمراكز التجارية ذات الماركات العالمية كالـ"مولات" ومطاعم الوجبات السريعة وكل ما هو شركات أجنبية تستثمر على أرضنا؟ لماذا المواقع التراثية والأثرية والمعالم الحضارية هي وحدها التي تستهدف؟ لماذا يستهدف العلماء والمبتكرون والأعلام والمثقفون ولا تستهدف مغنية دعارة أو غانية واحدة أو عارضة مفاتن طولاً وعرضاً؟ فهل هذا لغز أم أن المسألة واضحة وضوح الشمس في وضح النهار؟ إنها عملية تدمير ممنهج للحضارة، أما عدا ذلك من وسائل الاستهلاك المؤذية فهي مباحة وحلال وعلى عينك يا تاجر! أجيبونا، ماذا تنتج وسائل إعلامنا غير الـ"جعدنة" ومضيعة الوقت من خلال الترّهات وفلتات اللسان والنميمة والتلاسن والمسبّات العلنية والسلوك المشين والسخرية من قبل الذين يظهرون على شاشاتها، باسم العفوية والـreal show الضارب أطنابه اليوم؟ لماذا تصرف هذه الشاشات المليارات من الدولارات لترينا كيفية عيش "أكاديمية" هيهات منها أصوات مرتادي الكونسرفتوار الوطني وغيره من معاهد الموسيقى الراقية! يروّجون لبرامج كهذه بحجّة البحث عن وريث لوديع الصافي كما يدّعون لكي يجملوا ممارساتهم المشينة بحق الفن الراقي وتراث الأجداد، وهل في دكاكين كهذه سيوجد رديف لهذا المارد أم من الأصالة يخرج العمالقة؟ هل في برامج غربية مستوردة كهذه ومدفوع بدلها المليارات لحقوق بثّها تنبت الأصول؟ لماذا تنفق هذه المؤسسات الإعلامية الملايين، ألترينا أعضاء هذه "الأكاديمية" نائمين لساعات طوال، نقعد نتفرّج عليهم في الأسرّة كالبلهاء؟ ولم لا تخصّص بالمقابل ولو حصّة واحدة لأمسية شعرية أو حوارية أدبية أو ثقافية بدل برامج التوقّعات والتنجيم والتدجيل من قبل عملاء مأجورين من الغرب لترويج الخرافات والقلق والماورائيات؟ وبحجّة ماذا؟ عدم وجود مشاهدين وعدم إقبال الناس على البرامج الثقافية! كيف لا يوجد إقبال وهذه الآلآف المؤلفة من الطلاب في المدارس والجامعات، ماذا تدرس غير العلم والثقافة؟ أفلا تستحق من شاشاتكم المستغربة بعض الاهتمام والتوعية والدراية والدعم لمناهجها الدراسية؟ أفلا رحمتم طلابنا وشبيبتنا ولو خلال العام الدراسي، من أصوات النشاز والزعيق ومن موضة السيقان الضاربة يمنة ويسرة، تخبط خبط عشواء بـ"لبيط" ما بعده "لبيط" في تقليد رقص لا يمتّ لتراثنا الفولكلوري بشيء؟ اخجلوا قليلاً من هذا التقليد فأحسن المقلدين هم القرود والفعل الفرنسي singer يدلّ على ذلك جيداً!
ولكن، على من تقرع الأجراس والكل عبيد الغرب وفرنسا تحديداً بالمرصاد؟ فهي التي تخطط منهاج حياتنا وما نشاهد وما لا نشاهد، ماذا نقرأ وماذا لا يجب أن نقرأ أو نكتب! الكل مرهون لقراراتها وهل قراراتها لمصلحتنا وتتناغم مع ميراثنا الحضاري وتخدم إرثنا الأخلاقي والفكري؟ بالطبع لا! ونحن ما زلنا نرزح تحت استعمارها مرهونين لما تفصّله لنا فنلبسه، ضاربين بعرض الحائط توصيات جبران خليل جبران بأنه ويل لأمة تلبس مما لا تنسج وتأكل مما لا تزرع…! ويتعاون مع فرنسا علينا الغرب كله، فلا يرى فينا إلا أسواقاً استهلاكية لبضاعته، لا يرانا إلا أشباه أوطان، فنحن باعتباره عالم ثالث ولا نستحق أي ثقافة شخصية أو هوية خاصة تكون مصدر اعتزازنا وفخرنا وتعزّز ثقتنا بأنفسنا وبالتالي تمنحنا حريتنا. بالنسبة للغرب، نحن مجرّد مستهلكين لفساد ما ينتج، فيصدّر لنا الدرجات الثالثة أو الأخيرة، سيان، من إنتاجه الصناعي وكل ما هو فاسد مما يسميه أخلاقاً وذلك باسم التحرّر والتمرّد على النظام والمسامحة على كل الممارسات حتى الأقبح أخلاقياً، وذلك رأفة بالمشاعر التي يجب أن يطلق لها العنان حتى لا تُكبت فيزعل علم النفس الفرويدي…! ويأتينا هذا اليقين من الإحصاءات العالمية التي يسوّقها الغرب عن أوطاننا، بحيث صنّف لبنان في المرتبة الأخيرة ثقافياً، فشعبه لا يقرأ، ولكن بالمقابل، صنّف بين الدول الأولى من حيث سياحة اللذة والمتعة ومن حيث عدد البارات والـ"نايت كلوبات" العديدة والناشطة جداً فيه والتي يرتادها الأجانب بسعادة وزهو كبيرين. فتخيّلوا أين أصبح بلد الأبجدية في الترتيب العالمي! فنعم التصنيف والمصنفين! فإلى من يبحث بعد عن لبنان الثقافة ونور الشرق، نطمئنه: لقد انتخب لبنان من بين الدول الأول في ميدان الجعدنة والإسفاف! مسكين يا وطني!
لقد قيل فرنسياً: "فتش عن المرأة"، ونقول: "فتّش عن فرنسا" التي تفرض على لبنان سياسة المزرعة والتآكل من الداخل من خلال ضرب هويته وانتمائه الحضاري وتجريده من كل إرث تاريخي مشرّف، وهذا النموذج يعمّم اليوم على الشرق الأوسط برمّته، ففرنسا تعرف جيداً خطر قول الشاعر أحمد شوقي على مصالحها الاستعمارية في بلادنا:
دم الثوار تعرفه فرنسا وتعرف أنه نور وحق
كما وتعرفه جيداً هذا الـ"شوقي" العظيم الذي قال:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
نعم هذا الـ"شوقي" الذي صدح بجارة الوادي في عرين الكرامة والشهامة والعزّة والثقافة والتراث زحلة، يوم كانت زحلة عاصمة الحق والخير والجمال، وإلا لما كان تغنى بها وخلّدها عبر هذه السنين كلها.
وتبقى الأصالة ما بقي أصيلون
وبعد، هل فعلاً ضاع الإرث الحضاري؟ ونقول لا! لم يضع ولن يضيع أبداً مهما حاولوا، فالفكر الذي ابتدعه السيد المسيح، المعلم الأكبر، ما زال يعمّ الغرب بأكمله ويسطع بنوره في كل أرجاء الدنيا وهو وليد المشرق، ونحتفل كل عام بمولد يسوع عليه السلام، والعالم كله معنا يدين لهذا الفكر بأروع ما أنتجه العقل خلال مراحل التاريخ كافة، فهل يتخلّى العالم عن فكر جليل كهذا؟ وإن تخلّى، بماذا يستبدله؟ وإذا فسد الملح بماذا يملّح، على حد قول يسوع المسيح؟ وإذا كان العالم يحتفل كله بميلاد السيد المعلم، سيد المشرق العظيم، فهو أكبر دليل على أن تراثنا الفكري المشرقي لن يزول ما دمنا متمسّكين به، والحضارات تقاس بفكرها وليس بشيء آخر.
كثيرون هم الباحثون الذين انكبّوا على دراسة مسألة التراث قديماً وما زالت الأبحاث ناشطة في موضوعات كهذه في كل العالم وتحديداً في الغرب، الذي يولي للتراث أهمية ما بعدها أهمية لكونه عنوان ثقافة وهوية وفخر واعتزاز قومي هو الأقوى والأهم. وقد أفردت وزارات الثقافة والسياحة وغيرها لأمور التراث شأناً كبيراً، ودُعّمت بأفضل الإمكانيات من أجل الإبقاء على التراث الوطني على تعدّد أنواعه وجوانبه بما فيه الفولكلور والموسيقى والأزياء الخ… وصنّفت المواقع والصروح والأبنية بين أثرية (ما قبل القرن السابع عشر) وتاريخية (ما زاد عمره على 300 سنة) لحمايتها وترميمها وصيانتها بشكل مستدام لتغدو عصيّة على الزمن. والأهم أنه استحدثت القوانين الخاصة من أجل عدم المساس بهذا الإرث الحضاري وأنزلت العقوبات الصارمة بمستوى جريمة بحق كل من تسوّل إليه نفسه المساس بالتراث بأي شكل من أشكال التزوير أو التدمير أو السرقة أو البيع أو الاقتلاع وما الى ذلك من ممارسات جرمية بحق الحضارة. كما وأنشئت المراكز البحثية والعلمية للمحافظة على التراث القديم والذي يمسّ جوانب متعددة من النشاط البشري على مرّ العصور من عمارة وهندسة ونحت ونقش وتزيين ورسم ومخطوطات وفنون تشكيلية وحرفية على أصنافها (خشب، زجاج، خزف، معادن…)، واهتمت الجهات المعنية بترميم التحف والأثريات الى ما هنالك من اهتمام بالآثار المنقولة وغير المنقولة وبالمجموعات الكبيرة التي تحتويها المتاحف العالمية والتي تضمّ أعمالاً فنية لم تقتصر على ما وجد في أرض البلاد الغربية، بل شملت مكتشفات الحضارات المشرقية وغيرها والتي نقلت الى تلك المتاحف. ولا يظنن أحد أن هذه التحف تعرض وحسب، بل إنها تكلّف الدول مليارات الدولارات سنوياً من أجل صيانتها والحفاظ عليها كشواهد على النتاج الإنساني الإبداعي. وثمة من يسأل: لماذا تتكفّل الدول بالحفاظ على تراث غيرها من الحضارات والشعوب؟ وببساطة، نجيب: لأن هذا التراث ملك الإنسانية كلها، عملاً بالمقولة الشهيرة "كل ابتكار هو ملك الإنسانية جمعاء" (Toute invention appartient de droit à l’humanité ( وبهذا يكون التراث والإرث الحضاري أعطيا المكانة التي يستحقانها ويكونان في مأمن من كل يد عابثة. هذا في المبدأ النظري، أما عملياً، فهنا السؤال وهنا الطامة الكبرى ومكمن العلة، فالجواب يأتيك تلقائياً مما تتعرّض له المواقع الأثرية والمعالم التاريخية في المشرق من تدمير وهي الغنية بالشواهد الحضارية التي لا مثيل لها في الكون والفريدة من حيث القيمة الفنية والمادية والتاريخية والتقنية أيضاً، فهي شاهدة على قوة الابتكار والإبداع لدى المشرقيين والتي دعمها الفكر النيّر الذي ابتكروه والذي عمّ إشعاعه العالم، فلو اختصرنا الأمثلة فقط على الأبجدية أو الفلسفة أو الفكر الديني لكفى المشرق فخراً أن يكون قد ارتقى بالإنسانية إلى أعلى درجات السمو والعلم ووضعها في مصاف الألوهية الخالقة! فكيف لا نعتز بذلك ونفتخر، وكل وعاء ينضح بما وضع فيه وإناء المشرق مليء حتى التدفّق والطوفان وبذلك غمر الكرة الأرضية وغطى العالم حضارة في أطرافه الأربعة. ولكن ماذا يحدث لو شحّ هذا الفيض وجفّ الإناء وبارت كل الأوعية الحضارية، ومزّقت الدنان وفسد خمرها؟ ماذا يبقى حينها للمشرق من قيمة، ففاقد الشيء لا يعطيه وإذا فسد الملح فبماذا يملحّ؟ على حدّ قول السيد المسيح، هذا المعلم الأكبر، وليد الشرق ومفكره الأعظم الذي طالما تكلم بالأصالة وبالأصول العريقة التي علم احترامها وبالمقابل نبذ ما هو غير فعّال أي غير أصيل. والملح هذا هو زبد الأمة الحضاري المتدفّق تدفّق الأشعة والنور من شمس المشرق. وللأسف! هذا ما يحصل فعلياً في زمننا التعيس بحيث يفرّغ المشرق من محتواه الحضاري ومن إرثه التاريخي، بل يدمّر علانية وبمنهجية لم يسبق لها مثيل حتى في زمن التتر والمغول وتيمورلنك وهولاكو وأشباههم من الرعاع المجرمين الذين اجتاحوا البلاد الخصبة ليحوّلوها الى بوادٍ وقفار على مثال الأصقاع المكفهرة الرمادية التي قدموا منها، ليحرقوا كل ألوان المشرق وكل وهجه.
مصلحة الأمة تعلو على مصلحة الأفراد
تستباح الأوطان، تستباح الذاكرة، يستباح التراث، تستباح الحضارة وكل أرث أصبح مهدّداً بالزوال، إذ تترصّده عيون الهمجيين التتريين الجدد الذين يتحيّنون الفرصة لتهديمه وإزالته من الوجود والقضاء على كل أثر له ومحو ذاكرته من التاريخ! هذا هو وضع تراثنا اليوم، وحسرتاه! وإن الذي يعتقد أن ما يحصل في البلاد المجاورة من تعدّ على الحضارة، هو بعيد عنه ولا يعنيه، فهو مخطئ جداً، لأن الإرث الحضاري جسم متكامل الوجود في الزمان والمكان، وهذا الإرث الثقافي متصل الأطراف إذ لا تكتمل معالمه إلا من حيث تعلّقه بالجغرافيا والتاريخ الكليين، الخاصين بمنطقة حضارية معيّنة، والمرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمحيطها، فالمعابد مثلاً لم تشيّد في منطقة بمعزل عن غيرها من المعابد الشبيهة لها، ومدلولها الرمزي واحد وهي غير منفصلة عند معابد أخرى في منطقة مجاورة، فكلها تشكّل وحدة ثقافية تدلّ على مرحلة حضارية وتاريخية محدّدة كالقول إنها معابد فينيقية أو يونانية أو رومانية تنتمي الى نفس السوية الأثرية أو المرحلة الزمنية وتتشابه من حيث هدف وجودها في تلك الفترة، وفي أي مكان وجدت فيه في هذا المشرق الفسيح. وينسحب الأمر كذلك على الكنائس فكلها تدل على العصر المسيحي وكذلك على الجوامع وكلها تدلّ على العصر الإسلامي وعلى المدارس وكلها تدل على العصر العربي وهكذا… ولا يمكن فصلها عن بعضها أو كسر التسلسل الزمني للفكر الذي أنتجها وكانت وليدته. وهذا التطور المطرد عبر العصور والتراكم الثقافي يبنى بالضرورة على ما سبقه ولا يمكن فصل الحقبات والقفز فوقها، وإلا تهدّم الصرح بكامله وانتفى معنى التاريخ الصحيح لهذه الشواهد التي أتتنا من نتاج وإبداع الأجداد أينما حلوا في هذا المشرق الواسع. وهكذا هي مسيرة الحضارة لدى الشعوب الحضارية كافة، أي تلك المنتجة للفكر الحضاري الشامل وتتصدّر لائحتها شعوبُ المشرق العريق في القدم، ذي الإرث الثقافي الذي لم يضاهه إرث في العالم والذي شعّ في الكون نوراً وحقاً وجمالاً وأخلاقاً وعلوماً وخيراً.
الإرث الحضاري جامع الأمة وموحّدها
وإذا كانت الذاكرة تُحفظ على صعيد الأفراد ويستميت هؤلاء في امتلاك وصيانة ما ورثوه عن آبائهم، فما بالكم على صعيد الأوطان! أيّهما أولى بالمعروف، الذاكرة الفردية أم الذاكرة الجماعية، تلك التي تجعل من الوطن قيمة كبرى لا تعلو فوقها قيمة ومظلة تظلل أبناءه كلهم سواسية تحت سقف الحق والعدالة والمساواة؟ إن كل شيء مرتهن بالذاكرة الجماعية التي هي مصدر القوة للجماعات وعنوان المصير المشترك، وهذا ما يوثّق اللحمة بين أفراد المجتمع ويجعلهم يتشاركون تاريخهم على قدم وساق، وإلا كيف تفسّر الاحتفالات الجماعية والأعياد الفولكلورية التي ما زالت ناشطة في الدول العالمية اليوم لولا تلك الذاكرة الجماعية المحافظ عليها بكل الجوارح والعواطف والمشاعر الوطنية والقومية الجامعة؟ أتعجّب من امرئ يحتفظ بألبوم صوره بقدسية ما بعدها قدسية، ولا يأبه لمعلم تراثي يتهدّم وكأن الأمر لا يعنيه! بطبيعة الحال، إن أمراً كهذا لا يعني الجهلة، هؤلاء الذين يفعّلون المصلحة الذاتية والمنفعة الشخصية على مصلحة الوطن، أما العقلاء فمساكين العقلاء كم يتعذبون لخراب الوطن ورؤية تراثهم يهدّم أمام ناظريهم وينهار وهم عاجزون عن حمايته وعليهم تحمّل غباوة الأميين فوق ذلك، وكم يصحّ قول الشاعر المتنبي في هذا السياق:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ
وكم يتنعّم المتنعّمون اليوم، هؤلاء الغافلون عن المصير المشؤوم الذي ينتظر الوطن وعن اليد التي تعيث به خراباً وفساداً من كل نوع ولون، والتي لن ترحم لا البشر ولا الحجر ولا الكتب ولا الذاكرة حتى الشفوية منها تلك المحمّلة بالمآثر والأمثال والحكم والحكايا الشعبية المهذِّبة للروح، فكلها الى زوال إذا ما بقيت الآذان مقفلة والعيون حائرة بأمرها، لا تستكين لمكان محدّد المعالم، فلا هوية تعرفها ولا انتماء تعرفه، فكيف تستكين؟ وكيف تفقه هذه الذاكرة القومية الجامعة التي تُمحى بهمجية لم يُعرف لها مثيل في كل التاريخ؟ الى متى أنتم غافلون؟ الى متى أنتم متعامون؟ ثمة ساذجون يتكلون لربما على الأونيسكو وعلى المعاهدات الدولية لحماية التراث العالمي والمواقع المصنّفة أثرية وتراثية، بئس ما أنتم ظانون! فهذه جمعيات باتت موجودة فقط لتهديم التراث وليس لشيء آخر غير التهديم، وقد أثبتت المآسي التي شهدها لبنان من تدمير تراثه وإرثه الأثري خلال سنين طوال، عدم فعالية منظّمات وجمعيات عالمية، غربية، استعمارية كهذه، تدميرية الأهداف بالقول وبالفعل أيضاً! وما من لائم يلومنا، وإلا لماذا لا تقوم الدنيا ولا تقعد إثر ما يحصل اليوم من جرائم ممنهجة متعمّدة ضد الإرث الحضاري المشرقي الذي هو إرث العالم بأجمعه؟ مَن منا سمع صرخة عالمية واحدة عما حصل لمعلولا، أمّ اللغات المشرقية الآرامية والسريانية؟ مَن منا رأى تظاهرة استنكارية واحدة أقلّه في بلاد الشرق قبل الغرب؟ لا أحد ولا شيء، الكلّ يتفرّج، لذا فالكلّ مشارك في الجريمة! ويسكت الغرب الحضاري مدعي الديموقراطية وحقوق الانسان والحيوان والبيئة والتراث ويصمّ الآذان ويتجاهل عمداً، ولسان حاله يقول: فليذهب المشرق الى الجحيم! في المقابل، فليتجرّأ أحدكم ويرمي وردة ولا أقول حجراً على جدار أو أي جزء من معلم أوروبي، وانظروا ماذا يحصل له على الفور من توقيف واستجواب واستنكار، ليس فقط على يد السلطات، بل ويشنّع به كمجرم في الوسائل الإعلامية ويفضح علناً ويُطرد! أما بلادنا بكلّيتها والتي تدمّر بمعالمها كلها وكل هذا الترويع الحاصل لشعوبنا، فما من سائل ولا من مجيب، تدميرنا حلال ومشرّع أما هم فخط أحمر!
يتبادر إلى ذهن العاقل سؤال محيّر: لماذا دائماً وأبداً تترافق الاجتياحات والغزوات والحروب والأزمات مع تدمير المعالم الحضارية والتراثية ولا نسمع عن هجمة ضد البارات والحانات والمواخير والاستديوهات التي تنتج الدعايات والأفلام والكليبات التي أدخلت البارات وكل أصناف التردّي الأخلاقي لدرجة الدعارة الى بيوتنا في ساعات المساء الباكر حين تجتمع العائلة على العشاء أو للسهر؟ ولماذا لا تستهدف مراكز الكيف واللهو والمراكز التجارية ذات الماركات العالمية كالـ"مولات" ومطاعم الوجبات السريعة وكل ما هو شركات أجنبية تستثمر على أرضنا؟ لماذا المواقع التراثية والأثرية والمعالم الحضارية هي وحدها التي تستهدف؟ لماذا يستهدف العلماء والمبتكرون والأعلام والمثقفون ولا تستهدف مغنية دعارة أو غانية واحدة أو عارضة مفاتن طولاً وعرضاً؟ فهل هذا لغز أم أن المسألة واضحة وضوح الشمس في وضح النهار؟ إنها عملية تدمير ممنهج للحضارة، أما عدا ذلك من وسائل الاستهلاك المؤذية فهي مباحة وحلال وعلى عينك يا تاجر! أجيبونا، ماذا تنتج وسائل إعلامنا غير الـ"جعدنة" ومضيعة الوقت من خلال الترّهات وفلتات اللسان والنميمة والتلاسن والمسبّات العلنية والسلوك المشين والسخرية من قبل الذين يظهرون على شاشاتها، باسم العفوية والـreal show الضارب أطنابه اليوم؟ لماذا تصرف هذه الشاشات المليارات من الدولارات لترينا كيفية عيش "أكاديمية" هيهات منها أصوات مرتادي الكونسرفتوار الوطني وغيره من معاهد الموسيقى الراقية! يروّجون لبرامج كهذه بحجّة البحث عن وريث لوديع الصافي كما يدّعون لكي يجملوا ممارساتهم المشينة بحق الفن الراقي وتراث الأجداد، وهل في دكاكين كهذه سيوجد رديف لهذا المارد أم من الأصالة يخرج العمالقة؟ هل في برامج غربية مستوردة كهذه ومدفوع بدلها المليارات لحقوق بثّها تنبت الأصول؟ لماذا تنفق هذه المؤسسات الإعلامية الملايين، ألترينا أعضاء هذه "الأكاديمية" نائمين لساعات طوال، نقعد نتفرّج عليهم في الأسرّة كالبلهاء؟ ولم لا تخصّص بالمقابل ولو حصّة واحدة لأمسية شعرية أو حوارية أدبية أو ثقافية بدل برامج التوقّعات والتنجيم والتدجيل من قبل عملاء مأجورين من الغرب لترويج الخرافات والقلق والماورائيات؟ وبحجّة ماذا؟ عدم وجود مشاهدين وعدم إقبال الناس على البرامج الثقافية! كيف لا يوجد إقبال وهذه الآلآف المؤلفة من الطلاب في المدارس والجامعات، ماذا تدرس غير العلم والثقافة؟ أفلا تستحق من شاشاتكم المستغربة بعض الاهتمام والتوعية والدراية والدعم لمناهجها الدراسية؟ أفلا رحمتم طلابنا وشبيبتنا ولو خلال العام الدراسي، من أصوات النشاز والزعيق ومن موضة السيقان الضاربة يمنة ويسرة، تخبط خبط عشواء بـ"لبيط" ما بعده "لبيط" في تقليد رقص لا يمتّ لتراثنا الفولكلوري بشيء؟ اخجلوا قليلاً من هذا التقليد فأحسن المقلدين هم القرود والفعل الفرنسي singer يدلّ على ذلك جيداً!
ولكن، على من تقرع الأجراس والكل عبيد الغرب وفرنسا تحديداً بالمرصاد؟ فهي التي تخطط منهاج حياتنا وما نشاهد وما لا نشاهد، ماذا نقرأ وماذا لا يجب أن نقرأ أو نكتب! الكل مرهون لقراراتها وهل قراراتها لمصلحتنا وتتناغم مع ميراثنا الحضاري وتخدم إرثنا الأخلاقي والفكري؟ بالطبع لا! ونحن ما زلنا نرزح تحت استعمارها مرهونين لما تفصّله لنا فنلبسه، ضاربين بعرض الحائط توصيات جبران خليل جبران بأنه ويل لأمة تلبس مما لا تنسج وتأكل مما لا تزرع…! ويتعاون مع فرنسا علينا الغرب كله، فلا يرى فينا إلا أسواقاً استهلاكية لبضاعته، لا يرانا إلا أشباه أوطان، فنحن باعتباره عالم ثالث ولا نستحق أي ثقافة شخصية أو هوية خاصة تكون مصدر اعتزازنا وفخرنا وتعزّز ثقتنا بأنفسنا وبالتالي تمنحنا حريتنا. بالنسبة للغرب، نحن مجرّد مستهلكين لفساد ما ينتج، فيصدّر لنا الدرجات الثالثة أو الأخيرة، سيان، من إنتاجه الصناعي وكل ما هو فاسد مما يسميه أخلاقاً وذلك باسم التحرّر والتمرّد على النظام والمسامحة على كل الممارسات حتى الأقبح أخلاقياً، وذلك رأفة بالمشاعر التي يجب أن يطلق لها العنان حتى لا تُكبت فيزعل علم النفس الفرويدي…! ويأتينا هذا اليقين من الإحصاءات العالمية التي يسوّقها الغرب عن أوطاننا، بحيث صنّف لبنان في المرتبة الأخيرة ثقافياً، فشعبه لا يقرأ، ولكن بالمقابل، صنّف بين الدول الأولى من حيث سياحة اللذة والمتعة ومن حيث عدد البارات والـ"نايت كلوبات" العديدة والناشطة جداً فيه والتي يرتادها الأجانب بسعادة وزهو كبيرين. فتخيّلوا أين أصبح بلد الأبجدية في الترتيب العالمي! فنعم التصنيف والمصنفين! فإلى من يبحث بعد عن لبنان الثقافة ونور الشرق، نطمئنه: لقد انتخب لبنان من بين الدول الأول في ميدان الجعدنة والإسفاف! مسكين يا وطني!
لقد قيل فرنسياً: "فتش عن المرأة"، ونقول: "فتّش عن فرنسا" التي تفرض على لبنان سياسة المزرعة والتآكل من الداخل من خلال ضرب هويته وانتمائه الحضاري وتجريده من كل إرث تاريخي مشرّف، وهذا النموذج يعمّم اليوم على الشرق الأوسط برمّته، ففرنسا تعرف جيداً خطر قول الشاعر أحمد شوقي على مصالحها الاستعمارية في بلادنا:
دم الثوار تعرفه فرنسا وتعرف أنه نور وحق
كما وتعرفه جيداً هذا الـ"شوقي" العظيم الذي قال:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
نعم هذا الـ"شوقي" الذي صدح بجارة الوادي في عرين الكرامة والشهامة والعزّة والثقافة والتراث زحلة، يوم كانت زحلة عاصمة الحق والخير والجمال، وإلا لما كان تغنى بها وخلّدها عبر هذه السنين كلها.
وتبقى الأصالة ما بقي أصيلون
وبعد، هل فعلاً ضاع الإرث الحضاري؟ ونقول لا! لم يضع ولن يضيع أبداً مهما حاولوا، فالفكر الذي ابتدعه السيد المسيح، المعلم الأكبر، ما زال يعمّ الغرب بأكمله ويسطع بنوره في كل أرجاء الدنيا وهو وليد المشرق، ونحتفل كل عام بمولد يسوع عليه السلام، والعالم كله معنا يدين لهذا الفكر بأروع ما أنتجه العقل خلال مراحل التاريخ كافة، فهل يتخلّى العالم عن فكر جليل كهذا؟ وإن تخلّى، بماذا يستبدله؟ وإذا فسد الملح بماذا يملّح، على حد قول يسوع المسيح؟ وإذا كان العالم يحتفل كله بميلاد السيد المعلم، سيد المشرق العظيم، فهو أكبر دليل على أن تراثنا الفكري المشرقي لن يزول ما دمنا متمسّكين به، والحضارات تقاس بفكرها وليس بشيء آخر.
أستاذة الفنون والآثار في الجامعة اللبنانية