محاضرة ألقيت في منتدى تحوّلات في (20 آذار 2015)
عصفت بالعالم نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن تحوّلات جيواستراتيجية كونية كبرى وأحداث مفصلية تركت آثاراً وتداعيات سياسية كارثية على العالم بشكل العام والمشرق والهلال السوري الخصيب بشكل خاص (والمشرق أو الهلال الخصيب أو بلاد ما بين النهرين أو سوراقيا كلها أسماء لمسمّى واحد)، ولما كانت الجغرافية السياسية هي العامل الأكثر تأثيراً في رسم سياسات الدول الاستراتيجية والاقتصادية، وتحديد موقع هذه الدول في الاستراتيجيات الإقليمية والعالمية، ونظراً لموقع الهلال الخصيب الجيواستراتيجي كنقطة التقاء ثلاث قارات وعقدة طرق برية وبحرية وجوية تربط العالم، وكواحدة من أهم مناطق التداخل بين هذه القوى البرية والبحرية والقوى الجوية، والتي تشكل جزءاً حساساً للغاية من منطقة مصير العالم وفق طرح عالم الجيوبوليتيك المارشال الكسندر دو سيفرسكي عن القوى الجوية، عندما قال: «هذه المنطقة العربية هي المعبر الذي يربط قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا، وهي مفتاح الدفاع الجوي عن قارتي أفريقيا وأوروبا».
وهي منطقة مفصلية في الاستراتيجيتين (الأوراسية الروسية) و(الأوراسية الأميركية) اللتين كانتا ولاتزالان محور حركة الصراع الكوني للسيطرة على العالم، ولما كنا نحيا عصر العولمة وثورة الاتصالات والمعلوماتية التي اختصرت الزمن والمسافات وجعلت العالم قرية كونية صغيرة مشرعة الأبواب والنوافذ أمام التدخل الخارجي. ولما كان هذا الزمن هو زمن التكتلات ما فوق القومية والمحاور الإقليمية والدولية المتصارعة لرسم نظام عالمي جديد، مما فرض مفاهيم جديدة للسيادة والأمن (السيادة التساندية – والأمن التعاوني المرتكز على قاعدة توازن المصالح بين الأحلاف بدل الأمن الاستراتيجي القائم على توازن القوى). ولما كان الاقتصاد (الذي بات معولماً أيضاً في عصر العولمة) هو السبب الأساسي للحروب التي عصفت بالعالم منذ القدم حتى الآن، ولما كانت الهلال السوري الخصيب يتجاذبه صراع عالمي على الطاقة منذ بداية القرن الماضي لما يختزنه من خامات إضافة إلى الموقع الجيوسياسي الذي يحسم مَن يسيطر عليه السيطرة على العالم. لذا لا بد لنا ونحن ندرس التحولات الاقتصادية الكونية وأثرها على دول المشرق من أن ندرس أولاً:
أ- ماذا يمثل الهلال الخصيب بالنسبة لأميركا وروسيا كي تختاره أميركا مسرحاً جديداً للصراع؟
ب- ما هي التحولات الجيواستراتيجية العالمية الكبرى وأثرها على الهلال الخصيب؟
ج- ما هي المشاريع الدولية والإقليمية الكبرى التي تتصارع في الهلال الخصيب وعليه، وما هي طرق التعامل معها أو مواجهتها؟
أ- تأثير الجيوبوليتيك على صنّاع القرار عند الدول الكبرى (روسيا وأميركا) وأهمية موقع الهلال الخصيب الجيوسياسي في نظر الجيوبوليتيكيين, وفي استراتيجيتي روسيا وأميركا كي تختاره أميركا مسرحاً جديداً للصراع؟
لا نستطيع أن نفهم أهمية الهلال السوري الخصيب (الذي يقع في وسط وجنوب حافة اليابسة الأوراسية) بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، من دون إلقاء الضوء على المنطلقات الأساسية لعلماء الجيوبوليتيك الأميركيين المؤثرين بشدة في صنع الاستراتيجيات للرؤساء. هنا نذكر ثلاثة من أهم المفكرين الاستراتيجيين كمثال على هذا التأثير: الأول هو العالم الجـغرافي البريطاني الشهير هالفـورد ماكندر في العام 1904 الذي ألف كتابه الشهير «المحيط الجغرافي للتاريخ»، وهو أحد أشهر كتب الجيوبوليتيك في العالم.
وفي هذا الكتاب ظهرت نظرية ماكندر الشهيرة «قلب الأرض» إلى الوجود، وماكندر أول من نبّه إلى أهمية أوراسيا وحافة اليابسة واعتبرها نقطة الارتكاز الجغرافي ومن يسيطر عليها يسيطر على جزيرة العالم ومن يسيطر على جزيرة العالم يسيطر على العالم. ويقصد ماكندر بجزيرة العالم القديم آسيا وأوروبا وأفريقيا. ولقد فهم نابليون أهمية قلب اليابسة قبل ماكندر عندما توجّه إلى روسيا وكذلك تأثر قيصر ألمانيا وليم الثاني وهتلر وموسوليني بأهمية قلب اليابسة للسيطرة على أوروبا والعالم. تصادمت نظرية ماكندر مع المقولات الانطلاقية الإنكليزية القاضـية بالسـيطرة على الطرق البحرية لضمان السيطرة على العالم، ولذلك تأسس التصادم الفكري بين النظريتين على قاعدة أن «القوى التي تسيطر على أوراسيا يمكنها مهاجمة مستعمرات القوة البحرية»، كما اعتقد ماكندر بشدّة. وأوراسيا هي المنطقة الواقعة بين شرق أوروبا في الغرب وآسيا الوسطى والقوقاز في الشرق، والكلمة مشتقة من أوروبـا وآسـيا للدلالة على منطقة التماس بين القارتين. عانـى ماكندر من مركزية أوروبية مفرطة في تحليلاته، ودخلت تقديراته المتواضـعة عن أهمية الجغرافيا العربية ساحــات الانتقـاد لنـظريتـه من أوسـع أبوابهـا. كـما أنّه، وبسبب الاحتياطات الهائلة من النفط والغــاز في الشـرق الأوسط المكتشـفة بعد ماكـندر لم يعــد ممكـناً لأي قـوة عـظمى أن تدّعي أنها كـذلك، من دون أن تضع الشرق الأوسط في إطار بيئتها الأمنية والاستراتيجية.
والثاني نيقولاي سبيكمان الذي بنى نظريته أيضاً على (حافة اليابسة) بالنسبة لأوراسيا (Rime Land) او الهلال الداخلي, حيث اعتبر أنّ مَن يسيطر على حافة اليابسة يسيطر على أوراسيا ومن يسيطر على أوراسيا يسيطر على العالم.
والثالث هو زبغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس الأسبق جيمي كارتر و(أستاذ السياسة الخارجية بجامعة جون هوبكنز – واشنطن) والمستشار غير المعلن والأكثر تأثيراً على باراك أوباما، حيث سلط الضوء في كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى» الذي ألّفه العام 1997 على أهمية منطقة أوراسيا للولايات المتحدة الأميركية، التي تسبق الشرق الأوسط في أهميتها من المنظور الأميركي. تأثر بريجينسكي بما كتبه ماكندر حيث قال: «انتقل علم الجيوبوليتيك من البعد الإقليمي إلى البعد الكوني. مع وجود أهمية استثنائية لمنطقة أوراسيا في المصالح الكونية الأميركية. وأميركا باعتبارها قوة لا تنتمي إلى أوراسيا تمدّد سيطرتها إلى الحواف الثلاث لمنطقة أوراسيا، والعدو المحتمل لأميركا في أي سياق تنافسي دولي مقبل لا بدّ له أن يسيطر على منطقة أوراسيا. وهكذا يتوجّب على أميركا أن تمنع أياً من القوى الكبرى، روسيا أو الصين أو القوى الإقليمية الصاعدة مثل إيران وتركيا، من السيطرة على منطقة أوراسيا».
سيطرت أميركا منذ الحرب الباردة على ما أسماه بريجينسكي «رؤوس الجسور القارية»، لاحتواء الاتحاد السوفياتي ومنع تمدّده. في هذا السياق كان الهلال السوري الخصيب وما زال رأس الجسر الكبير إلى الجنوب من أوراسيا، وتدخلات أميركا كلها في الشرق الأوسط خلال الحرب الباردة كانت بهدف احتواء وعزل الاتحاد السوفياتي، بما في ذلك الانقلاب الذي وقع على الزعيم الإيراني محمد مصدق وحكومته المنتخبة ديموقراطياً العام 1953 والانقلاب على الوحدة المصرية – السورية العام 1961 ثم حرب العام 1967 وما تلاها لاحقاً من تدخلات بهدف احتواء وريثته روسيا.
ولا يزال حتى الآن التدخل الأميركي في الهلال السوري الخصيب يجري تحت هذه العناوين وآخر مثال على هذا هو جواب الجنرال (ذو النجوم الأربع) مارتن ديمبسي – رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة – على سؤال السناتور بوب كوركر في جلسات الاستماع الأخيرة في الكونغرس الأميركي, حول الأهداف التي يسعى إليها في حملته السورية, بصراحة عسكرية مباشرة: "لا يمكنني أن أجيب على هذا السؤال, بخصوص الأهداف التي نسعى إلى تحقيقها".
"السلام والأمن" عبر الحرب
أعتقد أنه بمقدورنا تحديد ثلاثة أهداف رئيسة مترابطة من بين أهداف واشنطن التراتبية في "المشروع السوري":
1) تمهيد طريق العدوان وصولاً إلى حدود روسيا؛
2) خلق الشروط الكفيلة بإشعال "الحرب العالمية الثالثة"؛
3) الحفاظ على نظام عملة البترودولار.
إذاً: كما كانت منطقة الهلال السوري الخصيب وما زالت تمثل رأس الجسر الكبير إلى الجنوب من أوراسيا، بالنسبة لاستراتيجية أميركا، هي كذلك بالنسبة لروسيا (أكبر دول العالم مساحة بحدود 18 مليون كم2 بعد ضم القرم)، حيت تعتبر أن دول الهامش أو الحافة أو التخوم، هي خطوط الدفاع الأول عنها، ولن تسمح لأحد بالسيطرة عليها. وبالتالي بات الشرق الأوسط برمته أولوية أمنية واستراتيجية ومنطقة مفتاحية بالنسبة للأوراسية الروسية والدفاع عنها ومنع السيطرة الأميركية عليها هي كالدفاع عن موسكو.
وحسب تعبير الكسندر دوغين، زعيم الأوراسيين الجدد في روسيا ومؤلف كتاب "أسس الجيوبوليتيك"، أن المشروع الأوراسي [التكامل بين المحاور البرية بزعامة روسيا] يعتبر العالم العربي أحد أحزمته الثلاثة [الأورو أفريقي] إلى جانب الحزام الأوراسي ومثيله الباسيفيكي والذي عليه يُبنى أمل الحدّ من هيمنة القطب الأميركي، لأن الشرق الأوسط نقطة صدام جيوبوليتيكي مع أميركا وانتصار روسيا فيه يجب أن يكون حتمياً. ويعتبر دوغين أن المشروع الأوراسي في الهلال الخصيب يقف أمامه عائقين:
الأول يخصّ المضمون الإيديولوجي للمشروع العروبي، وهذا أمر متروك – بالنسبة إلى ألكسندر دوغين – للعرب. وهو يدخل في باب المقدور عليه. أما الأمر الثاني والذي يستحيل معه تحقيق المشروع؛ فهو المنطلق الأصولي – الإسلاموي في إقامة دولة الخلافة.
ويعتبر دوغين أن الرئيس بوتين هو مرسل لتحقيق حلم الأوراسية الروسية وإعادة مجد روسيا العظمى. بالإضافة إلى أن العديد من المحللين الجيوبوليتيكيين والجيواستراتيجيين يؤكدون أن «الوحدة الأوراسية»، إن تحققت تشكل حالة مرعبة للأميركيين، لأنها منطقة ارتطام القوى الدولية الكبرى منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية للسيطرة على العالم سياسياً واقتصادياً حتى يومنا هذا.
ب- ما هي التحولات الجيواستراتيجية العالمية الكبرى وأثرها على الهلال السوري الخصيب؟
1ـ سقوط جدار برلين ثم سقوط الاتحاد السوفياتي وتفككه أواخر القرن الماضي مما أدى إلى اختلال التوازن الثنائي الدولي، وفقدان أمتنا وحركات التحرر نصيراً كبيراً في صراعهما الوجودي مع عدونا الغاصب وقوى الاستعمار مما أدّى إلى سقوط نظام الثنائية القطبية الذي حكم العالم بعد الحرب الكونية الثانية وإبان الحرب الباردة، وأخلى الساحة الدولية لأميركا كقوة أحادية تتحكم بالكون بنظام أحادي. جائر.
2ـ بروز أميركا كنظام استعماري أحادي الاستقطاب على أثر سقوط الاتحاد السوفياتي واستلام المحافظين الجدد الحكم فيها بحلمهم الإمبراطوري لحكم العالم، وتوسيع الحلف الأطلسي ليشمل قسماً من دول أوروبا الشرقية سابقاً، مما أدّى إلى تطويق روسيا وعزلها بغية تفكيكها واعتمادهم الليبرالية كنظام اقتصادي حاكم للكون بعد سقوط الشيوعية، واعتبارهم مفتاح بقاء أميركا كإمبراطورية تحكم العالم هو السيطرة على مصادر النفط والطاقة، والتحكم بمساراتها وإبقاء تسعيرها بالدولار فقط، واعتمادهم الحروب الاستباقية كعقيدة جديدة لهذا الفكر الإمبراطوري… ولما كان الهلال السوري الخصيب ودول الخليج تختزن أكثر من 60 % من احتياط العالم من الطاقة، واجه الهلال الخصيب ولا يزال يواجه مع العالم العربي تداعيات هذا الحلم الإمبراطوري الأميركي حروباً واجتياحات وتدمير للدولة والمجتمع والاقتصاد.
3ـ تغيير الإدارة الأميركية أولوياتها في عهدي أوباما الأول والثاني مرات عدة وذلك للتخبّط الأميركي في المنطقة، حيث أصبحت:
أولاً: التصدي لصعود الاقتصاد الصيني الذي تجاوز الاقتصاد الأميركي هذا العام وفق مؤشرات صندوق النقد الدولي، حيث وصل الناتج الاقتصادي للصين هذا العام إلى 17.6 تريليون دولار، بينما تقهقرت الولايات المتحدة الأميركية إلى المركز الثاني بناتج اقتصادي لا يتجاوز 17.4 تريليون دولار، ولهذا قررت أميركا الانسحاب من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى وجنوب آسيا للتصدي للعملاق الصيني المزاحم لها اقتصادياً وسياسياً، واعتمادهم الاخوان المسلمين والتنظيمات التكفيرية كوكيل للمصالح الأميركية الإسرائيلية في المنطقة، ثم بعد فشلهم استنفروا جيش القوى التكفيرية العالمية وكلفوا الخليج العربي بتمويل وتسليح وحشد الإرهابيين بالتنسيق مع تركيا وإسرائيل لتنفيذ حروبها بالوكالة وتدمير الهلال الخصيب وإقامة الشرق الأوسط الإثني الجديد وسايكس بيكو 2 بعد استنفاد أهداف سايكس بيكو 1 لتقسيم المقسّم إلى كيانات عرقية ومذهبية تخدم إذكاء الفتنة السنية الشيعية التي تضرب وحدة المجتمع وتتصدى للتمدد الإيراني الروسي والصيني في المنطقة.
لكن أوباما اكتشف فجأة وبعد فشل القوى التكفيرية في إسقاط النظام السوري وتبدّل الموقف العسكري لمصلحة النظام، أن الفراغ في الشرق الأوسط سرعان ما بدأت تملأه إيران وروسيا، فانقلبت كل حسابات أوباما وقرر أن تكون عودته هذه المرة بالقوة العسكرية لاحتلال المنطقة من بوابة محاربة الإرهاب، فأوعز لـ"داعش" كي تقوم بغزوة الموصل والأنبار (وفق اعترافات الجنرال ويسلي كلارك للـCNN، حيث قال: نحن مَن صنع "داعش")، معتقداً هذه المرة أنه لا سبيل لتحجيم دور روسيا وعزل إيران ومحاصرة الصين إلا من خلال السيطرة على البوابة (الهلال السوري الخصيب)، التي تمثل وفق الاستراتيجيين الروس "مفتاح موسكو"، إذا سقطت الأولى ذهبت الثانية في مهبّ الريح، وأصبحت إيران من دون مخالب ولا أنياب وفقدت عمقها العربي الحيوي، وانتهي محور المقاومة كما سبق ووعد أوباما من فترة، حيث قال: "لن نسمح لإيران بتفريخ منظمات على شاكلة "حزب الله" في المنطقة.
ثانياً: مواجهة العجز التجاري والدين الداخلي للخروج من أزمتها الاقتصادية التي أصابتها العام 2008 ولا تزال من دون حل. وتوصية الكارتيل الصناعي التسليحي في أميركا (المدعوم من المحافظين الجدد)، بأن لا مخرج لأميركا من أزمتها الاقتصادية إلا بحلّين:
الأول الاستعجال بتصدير بترول الرمال والغاز الصخري الأميركي إلى العالم بعد الاكتفاء الذاتي الذي ستحققه أميركا نهاية العام 2016، وهذا إجراء طويل.
والثاني فوري ونتائجه مضمونة، وهو إشعال الحروب في الشرق الأوسط وفق نظرية نشر الفوضى الهدامة. والمصلحة الأميركية منها هي:
– تدمير المنطقة وإنهاكها، – إرباك إيران وإلزامها على التنازل في المفاوضات النووية مع الـ5+1، واستنزافها وقطع مشروع أنابيب الغاز الإيراني إلى ساحل سوريا.
– استنزاف روسيا بمنعها من استغلال غاز المتوسط بعد عقودها الطاقوية مع سوريا.
– محاصرة الصين عبر قطع طريق الحرير الصيني وخط سكك الحديد السريع الذي سيصل شنغهاي بساحل سوريا على المتوسط ، والتي بدأت الصين بإنجازهما لكسر تطويق أميركا لها في مضيق ملقا الذي يمرّ منه 75 % من الطاقة إلى الصين.
– تحريك مصانع الأسلحة، وبالتالي تحريك العجلة الاقتصادية الأميركية وقد انتعش الاقتصاد الأميركي وانخفضت البطالة، بعد حرب "داعش" في المنطقة، حسب الموشرات الاقتصادية الأميركية التي صدرت مؤخراً عن شركات الأسلحة المتعاقدة مع وزارة الدفاع (البنتاغون) وفي الأشهر الثلاثة الأولى لغزوة داعش حيث (زادت أسهم شركة لوكهيد مارتن بنسبة 9.3%، وارتفع سهما شركتي ريتون ونورث ثروب غرامان بنسبة 3.8%، وسهم جنرال دايناميك بـ4.3%) وبات الشرق الأوسط أكبر سوق استهلاكي للأسلحة العام الماضي وهذا العام.
4ـ وصول فلاديمير بوتين رجل المخابرات الروسية إلى سدة الحكم في روسيا العام 2000 بعد مخاض فكري حول سؤال الهوية "مَن نحن؟"، وما هي الأسباب التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي وبروز الأوراسية كعقيدة جيوبولتيكية جديدة تحكم تطلعات وسياسة روسيا الاتحادية المستقبلية، وبعد الارتفاع الكبير في أسعار النفط والغاز الذي ساعد روسيا بالخروج من العجز المالي الكبير (300 مليار دولار) الذي سببته سيطرة المافيا الروسية على الاقتصاد الروسي في عهد يلتسين، حيث استطاع بوتين أن يُخرج روسيا من عجزها المالي ويحقق فائضاً مالياً تجاوز نصف تريليون دولار. قرأ بوتين جيداً أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي سابقاً وتفككه، وقرأ أهمية الغاز المستقبلية، ولأن روسيا هي الدولة الأولى المنتجة للغاز في العالم ولأن بوتين قرأ خطورة غاز نابكو على الاقتصاد الروسي، وخطورة المخططات الأميركية على روسيا من خلال نشر القواعد الأميركية والدروع الصاروخية المواجهة لروسيا في أوروبا ووسط آسيا وتركيا وقف مع الصين، عقبة كأداء في مجلس الأمن بوجه المخططات الأطلسية في سوريا ومنع إسقاطها بحمايتها بثلاثة فيتوات حفاظاً على مصالح روسيا الاستراتيجية في المتوسط وحفاظاً على قاعدة طرطوس (القاعدة الوحيدة المتبقية لروسيا خارج أراضيها بعد القرم) مما جعل سورية أيضاً تصبح في صميم الأمن السياسي والاقتصادي والقومي الروسي.
5ـ تشكيل منظمة شانغهاي للتعاون، أهدافها ودورها بإلزام أميركا لإخراج قواعدها من آسيا قبل نهاية العام 2015 وتشكيل دول البريكس ودورهما بإنهاء نظام الأحادية القطبية وبروز نظام عالمي جديد متعدّد المحاور وموقع الهلال الخصيب كنقطة صدام جيوسياسي لإعادة تشكيل هذا النظام.
6ـ انتصار الثورة الإسلامية في إيران العام 1979، وتغلّبها على الحصار الغربي لها بسبب ملفها النووي وتقدمها التكنولوجي والصناعي والتسليحي مما حولها إلى دولة إقليمية عظمى ودولة محورية في أي ترتيبات سياسية مستقبلية في الهلال الخصيب ووسط آسيا. وتعاظم النفوذ الإيراني في الهلال الخصيب خاصة بعد انسحاب الاحتلال الأميركي من العراق وقرب انسحابه من أفغانستان هذا العام مما أعاد موقع العراق مع المحور المقاوم وبروز دور إيران في جيوبوليتيك الطاقة الصينية والروسية وموقعها الجيواستراتيجي في وسط آسيا ودورها في الهلال الخصيب واليمن كداعم أساسي للمقاومات بوجه المخططات الأميركية والأطلسية والإسرائيلية والإقليمية الإرهابية والتكفيرية.
7ـ سقوط النظام الأحادي الاستقطاب الذي قادته أميركا بعد فشلها الذريع في حل المشكلات السياسية والاقتصادية والبيئية مما أورث العالم وأمتنا كوارث وحروباً لا نزال نواجهها حتى الآن، وبروز حالة اللاقطبية كمقدمة لولادة نظام متعدد الأقطاب بدأ بالظهور، فالإنسانية في وقتنا الحاضر تدخل مرحلة انتقالية من العالم الثنائي القطبين إلى الصيغة العالمية من تعدّد الأقطاب، وشاء موقع الهلال الخصيب الجيواستراتيجي أن يكون هو المكوّن والحاضن لهذه الولادة بعد استعمال روسيا والصين ثلاثة فيتوات متتالية لمنع إقامة منطقة حظر جوي أو استهداف سوريا بقوات أطلسية كما حصل لليبيا، على أثر الحرب الكونية التي تخاض في سوريا وعليها.
8ـ حدوث ثورة اقتصادية عظمى في الصين أدهشت العالم في نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن مما أدى إلى انتقال مركز الثقل الاقتصادي وبالتالي السياسي من الغرب إلى الشرق وتحديداً إلى جنوب آسيا وما تركه من أثر كبير في تغيير موازين القوى وأولويات الدول العظمى واستراتيجياتها .. ودفعت الصين إلى الخروج لتأمين مصادر الطاقة من وسط آسيا إلى الشرق الأوسط وافريقيا إضافة إلى إحيائها مشروع طريق الحرير التاريخي الذي يصل سوريا بشنغهاي مروراً بوسط آسيا، والحزام الاقتصادي لطريق الحرير، لخروج الصين من تطويق أميركا لها بسيطرتها على مضيق ملقا باتفاقاتها الأمنية مع أندونيسيا وماليزيا اللتين تتشاطآن هذا المضيق الذي يمر عبره 75 % من النفط إلى المصانع الصينية، مما جعل "إيران والهلال الخصيب كأقصر معبر لطريق الحرير وخط سكك الحديد السريع، وسوريا كبوابة لطريق الحرير إلى أوروبا وكخزان الغاز على ساحل المتوسط"، وجزءاً من الأمن القومي الاستراتيجي الطاقوي والاقتصادي الصيني والتي تلاقت استراتيجيتها "البحار الأربعة" مع استراتيجية "البحار الخمسة" التي أعلنها الرئيس بشار الأسد بعد أن قرر الاتجاه شرقاً واعتبار أن أوروبا لم تعد موجودة على الخارطة سياسياً.
9ـ بروز أخطار الاحتباس الحراري والتغير المناخي بسبب التلوث الذي أحدثته الدول الصناعية بسبب استعمالها المفرط للبترول والفحم الحجري لتحريك عجلة مصانعها وبروز الصراع على الغاز كمادة نظيفة للطاقة (بعد التوصية باستعماله من قبل منظمة الطاقة العالمية التي اعتبرت أن القرن الـ21 هو العصر الذهبي للغاز) ونتيجة ضغوط منظمة الطاقة العالميةعلى الدول الصناعية، لتبني توصيات قمة الأرض في ريودوجنيرو العام 1992 ومؤتمر كيوتو في اليابان العام 1997 بضرورة استعمال الغاز كبديل طاقوي لتخفيف انبعاث ثاني أوكسيد الكربون بنسبة 20 % قبل 2020 والتحذير من كارثة ستحل بالكرة الأرضية إن لم تلتزم الدول الصناعية بهذا الأمر، والتزام أوروبا بهذه المقررات مما جعلها أكبر سوق عالمي ناشئ للغاز. ولما كان استهلاك الغاز العالمي يتضاعف كل عشر سنوات، ولأن أوروبا تعتمد على الغاز الروسي لتلبية ثلث حاجتها من الغاز باتت هي رهن إرادة روسيا الطاقوية التي تضغط بها سياسياً على أوروبا.
وبعد اكتشاف هيئة المسح الجيولوجي الأميركية المخزونات الكبيرة من النفط والغاز في الأراضي السورية ومياهها الإقليمية في المتوسط والتي قدرت بأكثر من 700 تريليون م. م. من الغاز، مما جعل سوريا خزان غاز المتوسط وتشبه السعودية يوم اكتشاف النفط.. وبعد انكشاف موقع سوريا كأقصرعقدة مرور أنابيب الغاز لتحرير أوروبا من احتكار غاز بروم الروسي، ولأن سوريا خزان الغاز للمتوسط وعقدة طرقه إلى أوروبا، ولما كان الرئيس الأسد غير موثوق من قبل أميركا وأزلامها وتركيا ودول الخليج العربي، وبعدما رفض مرور أنبوب غاز (نابوكو) في سوريا والذي يحمل غاز قطر وإسرائيل وينافس حليفته روسيا في سوق أوروبا، واستعاض عنه بأنبوب الغاز الإيراني الذي سيعبر إيران والعراق وسوريا ويكون رافداً لغاز بروم وغير منافس له، وناقل غاز المتوسط مستقبلاً إلى الصين، بدأت الحرب على سوريا لإسقاطها لأنها بموقعها الجيو استراتيجي باتت قطب الرحى وعقدة مواصلات أنابيب الغاز العالمية إضافة إلى أنها عقدة طرق برية وجوية وبحرية ونقطة التقاء ثلاث قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا.
10- رغم أن عصر العولمة وثورة الاتصالات والمعلوماتية التي اختصرت الزمن والمسافات وجعلت العالم قرية كونية مشرعة الأبواب والنوافذ أمام التدخل الخارجي، هي نتاج النيوليبرالية لاستباحة الكون، إلا أن النيوليبرالية سقطت في بداية هذا القرن بسبب الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم العام 2008 وأفقرت أوروبا وأميركا والعالم الرأسمالي، وبددت مدخرات الخليج العربي ولا تزال تداعياتها وتردداتها من دون حل وترخي بظلالها على الاقتصاد العالمي، حيث يشهد الغرب حالياً (أميركا والعديد من الدول الأوروبية) أزمة اقتصادية كبيرة، أصبحت ككرة النار تحرق الجميع، أو ككرة الثلج أيضاً كلما تدحرجت كبرت، ولا ينفك قادة هذه الدول عن توجيه النصائح المكررة والمملة لدول العالم الأخرى في كيفية ترشيد إدارتها وزيادة الرفاهية الاجتماعية وحماية حقوق الإنسان وتعميم الديمقراطية… وينسون أو يتناسون المظاهرات الشعبية في بلدانهم الناجمة عن تراجع معدل النمو الاقتصادي وزيادة حالات التهميش الاجتماعي والفقر. ويبحثون في الكتب والمراجع الاقتصادية علّهم يجدون حلولاً لمشاكلهم، ونسوا أو تناسوا أن هذه المشاكل مرتبطة بطبيعة نظامهم الاقتصادي القائم على الاستغلال والظلم والابتعاد عن الاقتصاد الإنتاجي فتبدو الرأسمالية قاتلة نفسها والرأسماليين معها!!!
فقبل أشهر عدة شهدت أميركا تحركات شعبية واسعة، تعكس الشعور بخيبة الأمل من الطبيعة الظالمة للنظام الرأسمالي، وما يسببه من كوارث اقتصادية واجتماعية، انعكس انتشاراً للبطالة بين صفوف العمال، وازدياداً لنسبة الفقر بين فئات المجتمع الدنيا، مما يظهر مدى تجذر الأزمة المالية التي يعيشها النظام الرأسمالي العالمي بوجه عام، والأميركي بوجه خاص.
وبالنظر إلى أحدث الإحصاءات عن التفاوت الاجتماعي في الولايات المتحدة، تظهر أن عدد ”العمال الفقراء في الولايات المتحدة ازداد بشكل مخيف. ففي العام 2011، كان 47,5 مليون شخص يعيشون في عائلات متوسط دخلها أقل من 200 بالمئة من معدلات الفقر الرسمية، وهذا تقريباً خمس العائلات، وهو معدل مرتفع مقارنة بـ 31 بالمئة عن العام 2010 و28 بالمئة عن العام 2007.
أما في القارة العجوز، فالمفارقة لا تكاد تصدق للوهلة الأولى. أوروبا الغنية مهددة بالفقر والتهميش الاجتماعي. فمع العام الرابع على التوالي، وبعد انطلاق الأزمة المالية العالمية، تظل منطقة اليورو الحلقة الأضعف في الاقتصاد العالمي. وفي ظل هذه الأزمة المستمرة يتعرض الاتحاد النقدي الأوروبي (منطقة اليورو) لصدمة ثلاثية: صدمة مالية، أزمة ديون سيادية، وأزمة للمشروع الأوروبي مهدّداً بعواقب سياسية متعددة…
منظمة العمل الدولية حذرت من وجود أكثر من 26 مليون أوروبي الآن من دون عمل، وهذه الأعداد تتطلب خططاً تنموية واسعة وأموالاً كبيرة لدمجها في سوق العمل والإنتاج. منبّهة إلى المخاطر التي ترتفع مع ارتفاع البطالة الطويلة الأمد وبطالة الشباب على وجه الخصوص، والتي وصلت إلى مستويات حرجة. كما ورد في تقرير أصدرته المنظمة من جنيف بمناسبة افتتاح المؤتمر الإقليمي الأوروبي حول العمالة في أوسلو (8 نيسان 2013)، إن حالة الأيدي العاملة والتشغيل في أوروبا تدهورت منذ تبني الحكومات الأوروبية سياسات التقشف المالية، وأن مليون شخص فقد عمله في دول الاتحاد الأوروبي خلال الأشهر الستة الماضية. وأضافت أن عشرة ملايين شخص إضافي هم الآن من دون عمل مقارنة ببداية الأزمة المالية العام 2008، وأن معدل البطالة في أوروبا بلغ في شباط/ فبراير الماضي 12.7 في المئة، وفي منطقة اليورو، بلغ مستوى تاريخياً بتسجيله 13 في المئة. حيث تعاني منطقة اليورو التي تضم 17 عضواً من الركود الكبير في كل من إسبانيا وبلجيكا واليونان وأيرلندا وإيطاليا وهولندا والبرتغال وسلوفينيا. بينما تعاني منه كذلك خارج منطقة اليورو بريطانيا والدنمارك وجمهورية التشيك.
المشهد الاقتصادي العام الحالي في منطقة اليورو يبدو سوداوياً، حيث وصلت معدلات البطالة في الاتحاد الأوروبي خلال الربع الأخير من العام 2013 إلى رقم قياسي (11.9 في المئة)، أي أن هناك (26) مليون عاطل عن العمل في (27) دولة أوروبية. معدل البطالة في ألمانيا (5.3 في المئة)، في أسبانيا (26,2 في المئة)، في فرنسا (11%) في اليونان (27 في المئة).
والبيانات تشير إلى تراجع في استثمار الشركات، مع هبوط في الاستهلاك الخاص، مما أدى إلى تراجع اقتصاد منطقة اليورو بنسبة (0.6 في المئة) وتراجع للصادرات والواردات بنسبة (0.9 في المئة) وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي في دول منطقة اليورو بالمعدل نفسه. بالمقابل فإن التوقعات المستقبلية الصادرة عن المفوضية الأوروبية ترسم صورةً مُحبَطة أيضاً: في العام 2015 يتوقع أن يكون معدل البطالة أعلى من (25 في المئة) في اليونان واسبانيا… ومن المتوقع أن يستمر الانقسام الاقتصادي والاجتماعي العميق في منطقة اليورو.
ألمانيا اليوم القوة الاقتصادية الأولى في منطقة اليورو، تعاني من تخفيض تصنيفها الائتماني، و(75 في المئة) من الفرنسيين يرفضون التدابير التقشفية… ويقول (مارتن وولف) في ”الفاينانشال تايمز” (حشرجة الموت الصادرة عن النموذج الاقتصادي الفرنسي لا تزال مسموعة، وعلينا أن ننتظر لنرى كيف ستكون النهاية…)، والوضع في بريطانيا ليس أفضل… الواقع أن الفجوة الاقتصادية داخل الاتحاد النقدي الأوروبي من غير الممكن أن تستمر لفترة طويلة كما قال (أبراهام لنكولن) (إن البيت المنقسم على نفسه لا يظل قائماً)، وبالتالي من الصعب جداً أن يستمر الواقع الحالي لمنطقة اليورو.
مقابل هذا الضعف والوهن الاقتصادي الأوروبي، تحاول بعض الإمبراطوريات الأوروبية القديمة الهرمة استعادة بعض من نفوذها الضائع وتحشر نفسها سياسياً في أوضاع الشرق الأوسط مباشرة أو بالوكالة، كفرنسا وبريطانيا… وليس سراً أن جهودها هذه ستكلل بالفشل كسابقاتها… فالأزمات والقضايا الكبرى تحسمها الشعوب… وليس قوى الاستعمار القديم الضعيفة اقتصادياً في أوروبا العجوز… والتي تعيش حالة من التخبط والعجز السياسي …لكن الخطر يكمن في لجوء المسؤولين الدهاة في الغرب، لحل مشاكلهم الاقتصادية على حساب بلدان العالم الثالث، التي اعتاد الغرب أن يمتصّ ثرواتها، ويدمر وجودها البشري. وبذلك يتسع الشرخ القائم بين البلدان المقتدرة والبلدان الضعيفة والمستضعفة، فيزداد الخلل العالمي تفاقماً. وهنا، هنا تحديداً، كان يمكن لبعض البلدان العربية، ولا سيما تلك البالغة الثراء، أن يكون لها دور إيجابي في هذه الأزمة، يفتح للعالم العربي آفاقاً جديدة من الحضور الفعال والاحترام الحق، فيرغم الغرب على تحمل مسؤولياته الجسام إزاء العالم العربي بأسره، بدءاً من فلسطين، وعلى التخلي عن إصراره التاريخي والمزمن على الاستئثار بخيرات الأرض، والاستهتار بشعوبها، إلا أن مواقف معظم المسؤولين العرب، من الأحداث الجارية الآن في العالم العربي، تكشفت مرة أخرى، عن حقائق مخزية، وهي تفاقم انجرار أغلبيتهم كالنعاج، في غباء مفجع، إلى الانخراط في السياسة الغربية الظالمة على كل صعيد، تلك السياسات التي يراد لها أن تفضي بالبلدان العربية كلها، إلى أوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية كارثية ومتفجرة، لن تلبث أن تقود سياسييها إلى حفر قبورهم، وقبور شعوبهم بأيديهم…
وعلى الضفة الأخرى من العالم في الشرق، تلوح فرص ضخمة في إحداث التغيير البعيد المدى، فقد نجح آلاف الملايين من البشر في آسيا في الإفلات من براثن الفقر. والآن تظهر باستمرار أسواق جديدة ومجالات جديدة يستطيع فيها المرء أن يستغلّ فكره وتعليمه ومواهبه، كما بدأت مراكز القوى العالمية في موازنة بعضها بعضاً، على نحو يعمل على تقويض طموحات الهيمنة ويبشّر بنوع مبدع من عدم الاستقرار القائم على التعددية القطبية، حيث يكتسب الناس قدراً أعظم من الحرية في تحديد مصائرهم على الساحة العالمية.
إن النظام الرأسمالي العالمي يدخل مرحلة جديدة، حيث يصبح تحقيق التعاون العالمي أمراً بالغ الصعوبة، فلم يعد بوسع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في ظل ارتفاع مستويات الديون وانخفاض معدلات النمو وارتفاع البطالة وبالتالي انشغالهما بهمومها المحلية، وضع القواعد العالمية الناظمة للكون وتوقع امتثال الآخرين لها. وما أدى إلى تفاقم هذا الاتجاه، أن القوى الصاعدة مثل الصين والهند تقيم وزناً عظيماً للسيادة الوطنية ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وهذا من شأنه أن يجعل هذه البلدان غير راغبة في الامتثال للقواعد الدولية (أو المطالبة بالتزام الآخرين بهذه القواعد)، وبالتالي فهي من غير المرجح أن تستثمر في المؤسسات التعددية، كما فعلت الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
ويرى كثير من الباحثين أن صعود القوة الناشئة، دول البريكس وغيرها، عامل مساهم في إنهاء القطبية الواحدة وبزوغ عالم متعدد الأقطاب مما يؤدي إلى سقوط الهيمنة الأميركية التي بدأت انحدارها منذ انفلاشها ما وراء البحار ونشر قواتها في معظم مناطق العالم بذرائع محاربة الإرهاب، والدفاع عن حقوق الإنسان. فالصين والهند وبعض دول أميركا اللاتينية وإفريقيا اتجهت نحو سياسة الاقتصاد الصناعي والتمدن كما فعل الغرب في القرن التاسع عشر، لكن مع إضافة الثورة التكنولوجية والاقتصاد المعولم.
لقد اتَّسعت مساحات الفقر، وازداد عدد العاطلين عن العمل في العالم، ويعيش قرابة المليار إنسان -بمن فيهم أكثر من 80% من سكان جمهورية الكونغو ومدغشقر وليبيريا وبوروندي- تحت خط الفقر، في حين تبلغ ثروات أكبر خمسين ثريًّا في العالم حوالي 1.5 تريليون دولار، ويقول كوشيك باسو – كبير نواب رئيس البنك الدولي وكبير خبرائه الاقتصاديين: إذا افترضنا أن هذه الثروة تدر عائداً يبلغ 8% سنوياً، فإن الدخل السنوي لهؤلاء الخمسين يقرب من إجمالي دخل أكثر من مليار إنسان يعيشون تحت خط الفقر.
إن الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بالنظام الرأسمالي في أوروبا وأميركا، جعلت الكثير من المفكرين في الغرب يرون أن النظام الرأسمالي انتهى دوره التاريخي، وصار عبئاً ثقيلاً يجثم على الإنسانية. والاستنجاد بالدول الغنية ذات الاقتصاد القوي ـ كالصين ـ يهدف إلى ترميم النظام الرأسمالي المتهاوي، وهذا قد يؤجل انهياره، ولكنه لن يمنع نهايته المحتومة، وما شعار ”احتلوا وول ستريت…” الذي يرفعه الفقراء في الدول الرأسمالية، إلا تعبير واضح يجسد المدى الذي بلغته أزمة النيوليبرالية.
خلاصات وتحديات
نستخلص من هذا البحث الخلاصات التالية:
أولاً: إن صيرورة العالم أمست تحكمها تكتلات ما فوق القومية (اقتصادياً وسياسياً) في ظل الصراع الكوني على زعامة هذا القرن وإرساء نظام التعددية القطبية. هذه التكتلات ما فوق القومية لا تلغي القوميات بل تضع الأمم التي قسمها الاستعمار قسرياً أمام تحدي إعادة وحدتها كي تأخذ دورها في تكتل كهذا كي يكون لها وزن فاعل فيه. وهذه المرحلة الصفرية الفاصلة بين سقوط الأحادية القطبية وبروز نظام عالمي جديد قيد التشكل هي اللحظة المناسبة التي يجب على الأمم التقاطها لإعادة وحدتها.
ثانياً: إن التكتلات ما فوق القومية فرضت مفاهيم جديدة للسيادة والأمن (كالسيادة التساندية – والأمن التعاوني المرتكز على قاعدة توازن المصالح بين الأحلاف بدلاً من الأمن الاستراتيجي القائم على توازن القوى). وبالتالي تصبح خيارات الدول ومصالحها الاقتصادية والسياسية "التي تقع في منطقة التصادم (Crash Zone) بين المحاور المتصارعة "ملزمة أن تكون منسقة مع أحد المحاور التي تؤمن مصالحها. فإذا كانت روسيا في حربها مع أميركا أقامت تحالفاً مع الصين وشكلت معها محور شنغهاي للأمن والتعاون ودول البريكس. وإذا كانت إيران في صراعها مع أميركا استندت إلى تحالفاتها مع روسيا والصين لحمايتها في مجلس الأمن ولكسر الحصار الظالم عليها. فالدول الصغرى أمام خيار من اثتين، إما أن تصطف في أحد المحاور التي تلتقي مصالحها معها أو تأتي التسويات على حسابها.
ثالثا: إن النظام الرأسمالي الإمبريالي قد سقط وانتهى دوره التاريخي، وصار عبئاً ثقيلاً يجثم على الإنسانية. وبالتالي حدة الهيمنة الأميركية قد خفّت ولم تعد قادرة أن تملي قراراتها المطاعة على الدول الأخرى. وهي في تراجع كبير بدءاً من خليج الباسيفيك إلى وسط آسيا إلى الشرق الأوسط وحتى أوكرانيا. وهذه فرصة وتحدٍّ لدول الهلال الخصيب كي تنفض عنها تبعات معاهدة سايكس بيكو (التي أسقطها الغرب بسعيه لتفتيتها إثنياً وطاقوياً)، بحيث لا يكون البديل عن إسقاط مشروع التقسيم الاثني في سوريا والعراق هي العودة إلى سايكس بيكو بل إلى رسم استراتيجية جديدة تعيد وحدتها واستعادة أقاليمها المسلوبة.
رابعاً: إن الحرب التي تخاض في منطقتنا هي حرب طاقوية اقتصادية جيوسياسية بامتياز، وبالتالي كل ما يُحكى عن ربيع عربي وثورة تغييرية سقط وتبخّر لمصلحة القوى التكفيرية ومشغليها أميركا وإسرائيل واليعاربة. وبانت غاياتهم بتدمير الهلال الخصيب (سوريا والعراق)، بحيث لا يستطيع النهوض ومحو آثارهما. والجغرافية السياسية للهلال الخصيب وموارده الطاقوية قد جعلته معبراً أساسياً لأنابيب الطاقة التي تتحكم باقتصاد العالم. ووضعته في موقع القلب بالنسبة للعالم، وباتت السيطرة عليه أو استمالته (لأي محور) تحسم معركة القرن الـ21. وبالتالي في ظل الحرب الطاقوية والجيوسياسية التي تخاض فيه وعليه وتداخل الملفات الإقليمية والدولية فيه هو ملزم أن يأخذ موقفاً من أحد المحورين يتلاءم مع مصالحه الاقتصادية ويعيد وحدته أو يتفتت مجدداً، لأن مشاريع التقسيم لا تزال مطروحة بقوة في المنطقة عبر تكريس واقع الأقليات كمقدمة لفرض واقع تقسيمي بعد التصفيات المذهبية التي ارتكبتها داعش بحق الأقليات (الأيزيدية والآشورية والمسيحية) لتصل بها إلى الهجرة واللا عودة، وكل ذلك تمّ تحت أعين الغرب.
خامساً: أفرزت حرب الطاقة ومساراتها التي تخاض في الهلال الخصيب وعليه سقوط النظام العربي الذي كان أصلاً وليد الاستعمار بعد استنفاد مهمته، وسقوط الأنظمة الكيانية وسقوط الإسلام السياسي بشقيه الأخواني والتكفيري بعد أن أصبح عبئاً على مشغليه (رغم محاولة أميركا إعادة إحيائه عبر الحلف السعودي القطري التركي الجديد)، وسقوط العروبة الوهمية بمؤسساتها القائمة التي حوّلت جامعة الدول العربية إلى حصان طروادة بيد الأميركي والأطلسي لضرب سوريا وتدميرها، وسقوط النظام القومي العربي الذي فشل في تحقيق نظام الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وضرب الفساد والمفسدين وصيانة وحدة المجتمع، وتطوير النظام الشمولي لمنع استغلال القوى الخارجية لهذه الثغرات والنفاذ منها لضرب خيارات شعوب المنطقة القومية والسياسية المحقة المقاومة لأميركا والأطلسي وإسرائيل، وسقوط منظومة الأمن القومي العربي، وبالتالي بات الهلال الخصيب بغياب المشروع القومي مكشوفاً يواجه ثلاثة مشاريع مذهبية إقليمية مدعومة دولياً تتصارع فيه وعليه وهي:
أـ المشروع اليهودي الإسرائيلي المتلاقي مع مشاريع خليجية وهابية اخوانية مشابهة (كالرباعي الخليجي، السعودية – قطر – الإمارات – الكويت)، والمدعوم أميركيا لتدمير المنطقة عبر الفوضى الهدامة، وإنشاء شرق أوسط جديد اثني وعرقي يفتت المفتت ويطلق الحرب السنية الشيعية ليبرر وجودها كدولة عنصرية يهودية، مما يربك مشاريع محور المقاومة ويؤدي لتصفية القضية الفلسطينية وإراحة الكيان الغاصب إسرائيل.
ب ـ المشروع العثماني الاخواني التركي المتحالف مع الرباعي الخليجي بتوجيه ودعم أميركي أطلسي ويلتقي بأهدافه مع المشروع الأول عبر إطالة أمد الحرب في سوريا والعراق، وتدمير الهلال الخصيب وإطلاق نموذجه العثماني الاخواني كخيار إسلامي معتدل بديل عن داعش والتكفيريين في المنطقة، وضرب المشاريع الإيرانية الروسية الصينية واستنزافها في الهلال الخصيب كي تكون هي البديل عنه في مرور طريق الحرير وخط سكك الحديد الصيني السريع إلى المتوسط، وأنابيب النفط الإيرانية إلى أوروبا.
ج ـ المشروع الإيراني المقاوم للمشروعين (أ) و(ب) بتحالفاته الممتدة من لبنان المقاومة إلى سوريا إلى العراق إلى اليمن وحتى إلى محور شانغهاي للتعاون. يخوض هذا المحور معركته ضد أميركا في الهلال الخصيب من موقع الدفاع، وفق تحالف سياسي اقتصادي استراتيجي متين مع روسيا والصين. وقد حقق تقدماً وانتصارات (بفضل صمود سوريا بجيشها وشعبها وقياداتها ودعم المقاومة لها)، بوجه المشروع الأميركي المربك والمتراجع والمنهزم. يربط هذا المشروع المقاوم أمن المنطقة واستقرارها بخروج القوات الأجنبية منها، ويسعى لإقامة التفاهمات مع دول المنطقة لضرب الحالة التكفيرية التقسيمية فيها، ويقدّم مشروعه المقاوم المنفتح القابل للآخر المواجه لقوى الاستكبار العالمية أميركا والأطلسي وإسرائيل.
أقام هذا المحور (بدعم واحتضان روسي صيني) نموذج المقاومات الشعبية الداعمة للجيوش (كردّ على حرب أميركا على المجتمعات وتفجيرها من الداخل بالحروب بالوكالة، والحرب الناعمة). أثبتت هذه المقاومات فعاليتها وجدواها في ضرب القوى التكفيرية وتقويض المشروع الصهيوأميركي التركي الخليجي في الهلال الخصيب، من لبنان (حزب الله) إلى سوريا (قوات الدفاع الوطني) إلى العراق (قوات الحشد الشعبي). هذه المقاومات مع جيوش هذه الدول شكلت محور مقاومة من لبنان إلى سوريا فالعراق إلى اليمن إلى طهران. يطرح هذا المحور صيغة توحيدية بوجه المشاريع التقسيمية لأنها تؤمن مصالحه بضرب الحالة التكفيرية، وإقامة خطوط أنابيب غاز تتكامل مع مشاريع غاز بروم الروسية والسيطرة على غاز المتوسط وإبعاد أميركا والأطلسي عنه، وإنشاء طرق الحرير والحزام الاقتصادي لطريق الحرير الصينية، وإقامة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب وضرب الغطرسة الأميركية في المنطقة. لكن ايديولوجية إيران المذهبية وتزايد قوتها العسكرية وتقدمها التكنولوجي ومشروعها النووي السلمي أخاف دول الخليج وعرب أميركا (الدول السنية) وعمل الأميركي على إذكاء هذا الخوف تحت عنوان مقاومة تشييع المنطقة خدمة لمصالحه.
إن هذا المحور، (ومن موقع المنخرط به والحريص على انتصاره) يعاني من تسويق أيديولوجيته، لان إيران رأس الحربة فيه لم تعد قادرة على تسويق خطابها الديني المقاوم (رغم فعله الكبير بتعبئة جماهير المقاومة وقتالها في الموقع المقاوم المحقّ لتثبيت حق الأمة في الحياة العزيزة الكريمة). فلا تسويق مشروع مقاومة الاستكبار والظلم العالمي، ولا حمل راية فلسطين والدعم الكبير للمقاومة الفلسطينية والدفاع المحق عن قضيتها المحقة ورفع الظلم والاحتلال عنها، ولا رفع راية الصحوة الإسلامية، طمأنت الشريك السني الآخر وأطفأت الفتنة المشتعلة في الهلال الخصيب التي ضربت النسيج الاجتماعي فيه مهددة بتفتيته. وبالتالي باتت إيران بحاجة إلى تحديث خطابها السياسي في الهلال الخصيب لتنفيس الحالة المذهبية المربكة لها وللمحور.
لقد خاضت أوروبا منذ القدم حروباً مذهبية أحدثت فيها دماراً رهيباً وأفقدتها نصف سكانها، ولم تستطع النهوض إلا بعد معاهدة وستفاليا التي مهّدت للثورة الفرنسية وانتقلت بعدها أوروبا إلى العقد المدني بفصل الدين عن الدولة وإقامة الدولة المدنية الديمقراطية القوية العادلة. كل حروب الغرب للسيطرة على منطقتنا استغلت الفتنة المذهبية، لكن غاياتها كانت اقتصادية بامتياز، فتنة 1860 كانت غايتها ضرب صناعة الحرير في لبنان ودمشق بعد إصابة دودة الحرير في فرنسا والصين بمرض أنهى مواسمهما العام 1858 فدفعنا ثمنها حروباً طائفية ودماراً وتقسيماً. الحرب العالمية الأولى كان سببها ضرب خط سكك الحديد الذي يربط برلين بالموصل عبر تركيا بعد اكتشاف نفط الموصل، وتقسيم تركة الرجل المريض، والسيطرة على بترول العرب، وزرع الكيان الغاصب في فلسطين. نحنا دفعنا ثمنها تقسيماً جغرافياً وحروباً أهلية ونكبات لا نزال نرزح تحتها حتى الآن. الحرب التي تخاض في سوريا والعراق الآن هي حرب السيطرة على غاز المنطقة ومساراته وإبقاء تسعير الطاقة بعملة البترو دولار، وهي أيضاً اقتصادية بامتياز. وقودها حروب مذهبية وفتن ودمار هائل يقدر بمئات المليارات من الدولارات، وضرب وحدة المجتمع كآخر حلقات المؤامرات علينا.
لقد بات حلف المقاومة بحاجة إلى عقيدة جديدة وخطاب جديد، يجمع ولا يفرّق ويلغي استغلال الغرب للطائفية للنفاذ عبرها إلينا بمخططاته التدميرية. صرّح الرئيس بوتين مراراً أن الحرب على سورية غايتها ضرب النظام العلماني الوحيد في الشرق الأوسط. وبالتالي دعمه لسوريا إحدى غاياته إبقاء نموذج النظام المدني ووأد الحالة التكفيرية قبل الوصول إلى موسكو إضافة إلى مصالحه في المنطقة. واستراتيجيته جمع الدول لا تمزيقها. فهو أقام رابطة الدول المستقلة حول بحر قزوين، ومن ثم أسس الاتحاد الجمركي، والآن أطلق الاتحاد الأوراسي، هذا إضافة إلى منظمة شنغهاي للتعاون والأمن، وهذا يشير إلى أن مصلحته توحيد الدول وليس التفتيت المذهبي لها.
الصين تعاني من اثنية الايغور الانفصالية المسلمة في إقليم شيانجنغ المتحدرة من أصول تركية وتتكلم لغتها. بعد أحداث سوريا تحرك الانفصاليون الايغور في الصين ووقعت صدامات قمعتها السلطة بالقوة وهي تدعم النظام السوري لإنهاء الحالة التكفيرية فبل الانتقال إليها. مصلحة الصين في توحيد الدول واستقرارها حول طريق الحرير والحزام الاقتصادي وليس تفتيتها لأنها تعطل مشاريعها في وسط آسيا وشرقها، ولها مساهمات كبيرة بمليارات الدولارات لإرساء الاستقرار والتنمية في منطقة منغوليا وآسيا الوسطى. وما طرح مشروع الحزام الاقتصادي لطريق الحرير ودعوة العرب لمؤتمرات عقدت في شنغهاي للاطلاع والمساهمة في هذا المشروع إلا تأكيد على حرص الصين على استقرار الشرق الأوسط وانخراطه في المشاريع الاقتصادية الكبرى المزمع قيامها والتي تحقق المنفعة المشتركة والازدهار، إضافة إلى شراء الطاقة منه.
سوريا والمنطقة أمام مخاض كبير، سترسم نتائج الحرب فيها خرائط وتوازنات جديدة قد تحكم المنطقة لفترة طويلة. أميركا تتراجع وتعيد اتصالاتها مع الأسد كشريك أساسي في الحل وضرب الإرهاب. وأزلامها في المنطقة يتساقطون ويحاولون تبديل خططهم لحجز مكان لهم في الترتيبات المقبلة للمنطقة والاستعجال لركوب قطار الحل الذي يبدو أن عقاربه باتت تضبط على إيقاع المفاوضات الإيرانية مع الـ5+1 التي أراها ستصل إلى اتفاق سيطلق يد إيران في المنطقة أكثر، وسيكون هذا الاتفاق كما وصفه (جورج فريدمان كإعصار سياسي سيصيب الشرق الأوسط من أفغانستان إلى ساحل المتوسط). سوريا هي لب التسوية، والروسي والصيني هما الشريك الفعلي فيها وفي عقود الغاز وعقود الاستثمار. العمليات العسكرية في العراق وسوريا تسابق تسوية النووي لرسم خرائط النفوذ وتقويض داعش، ولمنع الأميركي من استثمار عودة انتشاره في المنطقة كضرورة ملحّة لضرب داعش. تركيا رغم تهويلها باستمرار الضغط على سوريا سترضخ إلى منطق التسوية لأن بوتين أغراها باتفاقات غازية ونووية لانخرطها بالأوراسية الروسية اقتصادياً تعويضاً لها عن خسارتها بموت (مشروع غازنابكو)، وتقوّي أوراقها لتكون جسراً بين روسيا والسوق الأوروبية المشتركة. محور المقاومة منتصر والمتوسط أصبح بحيرة روسية والشرق الأوسط سيكون منطقة نفوذه فلماذا لا يطرح على هذا المحور ضرورة دفن سايكس بيكو الميت سريرياً والعودة إلى وحدة سوريا الطبيعية، ومصلحتُه أن تتوحّد؟
إن ضرب الحالة التكفيرية لا يكون فقط بسحقها عسكرياً وبضرب ينابيعها الفكرية وتجفيف مصادر تمويلها فقط، بل بفكر مدني جامع موحّد كفكر سعاده الذي نادى بفصل الدين عن الدولة وإلغاء الحواجز بين مختلف المذاهب والطوائف وإقامة الدولة المدنية العصرية الحرة القوية العادلة التي تحقق المواطنة والمساواة بين كل مكوّنات المجتمع وتساهم في صيانة وحدته، وتطمئن الأقليات في سوريا والعراق ولبنان التي تعيش هاجس الخوف جراء التصفيات على الهوية. وإقامة الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج مكان الاقتصاد الريعي الذي أثبت عقمه، وتحقيق العدالة الاجتماعية وضرب الاحتكار وإعادة إنماء الريف الزراعي بتحقيق الإنماء المتوازن وضرب الفساد والمفسدين.
هناك عمل حثيث على تنفيذ خرائط جديدة للشرق الأوسط في دوائر القرار الأميركية والأطلسية على أساس إثني مذهبي تبدأ من العراق وسوريا إلى كل العالم العربي، الرئيس أوباما لا يتكلم عن دول المنطقة بل عن (المجموعات الطائفية في المنطقة كالأقلية السنية في العراق والأكثرية السنية في سوريا التي يعتبرهما مهمّشتين، وبدون إعطائهما تمثيلهما السياسي بدولة مستقلة لن يستقيم الوضع في الشرق الأوسط "مقابلة أوباما مع توماس فريدمان"). وبغياب المشروع القومي والعربي ، بات ملحاً جداً طرح مشروع وحدة الهلال السوري الخصيب كردّ على سقوط سايكس بيكو، وكخطة استراتيجية تتناقض مع المشروع الصهيوأميركي التفتيتي، وتحاكي وتلاقي مصالح روسيا والصين في الشرق الأوسط. وكردّ على الفراغ وغياب المشروع العربي يطرح المثقفون السوريون والعرب وكل النخب والعامة، في هذه الفترة وحدة الجبهة الشمالية الشرقية المقاومة من لبنان إلى العراق، ويطرحون "المشرقية" أي وحدة بلاد المشرق العربي أو وحدة بلاد الشام، او السوق المشرقي الاقتصادي المشترك أو وحدة الهلال السوري الخصيب كمشروع نضالي استراتيجي وجيوسياسي يتلاقى ويتكامل مع مصالح روسيا والصين وإيران. (وهذه كلها تسميات ترمز لوحدة الأمة السورية التي نادى وعمل واستشهد من أجلها أنطون سعاده). وفي زمن تمزق المقاومة البطلة حدود سايكس بيكو وتحوّل لبنان من خاصرة رخوة ضعيفة للشام إلى درع قوي ناصر لها في حرب الوجود التي تخوضها. يبرز فكر سعاده الوحدوي الجذري المقاوم كمنقذ وحيد لحال الأمة من الموت المحتم، وكعلاج ناجع لإعادة وحدة الأمة والمجتمع ومنع تفتيتهما.
فكما عملت سكك الحديد في بداية تأسيس أميركا كشرايين الدماء الاقتصادية التي ضخت ضرورة وحدة الولايات المتحدة الأميركية. ستكون لطريق الحرير وخط سكك الحديد السريع الذي يصل الصين بسوريا، وخطوط الغاز التي تصل غاز إيران إلى الساحل السوري على المتوسط، وغاز المتوسط إلى الصين عبر سوريا والعراق وإيران وباكستان بعد انتهاء الحرب في سوريا واستغلال غاز الساحل السوري (الذي يُعتبر من أكبر حقول الغاز في العالم) سيكون لتلك المشاريع الأثر البالغ في تسريع وحدة الهلال الخصيب كضرورة وحاجة سياسية واقتصادية واستراتيجية لمحور المقاومة، إلى جانب كونها ضرورة قومية اجتماعية وجغرافية من الجانب العقدي لفكرنا. لقد عاد الزعيم سعادة يتقدّمنا ويقودنا بفكره الذي لا يزال يمثل راهنية وحيدة للحل، فهل يقدم تلامذته على طرح مشروعه القومي الوحدوي بقراءة جديدة تحاكي روح العصر وتدرس التحولات الكبرى التي عصفت بالمنطقة وتعيد توحيد المجتمع والأمة بعد الجراح البالغة التي أصابتها جراء الحرب.
المراجع:
1- هالفـورد ماكندر «المحيط الجغرافي للتاريخ».
2- زبيغنيو بريجنسكي «لعبة الشطرنج الكبرى».
3- الكسندر دوغين «أسس الجيوبوليتيكا – مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي».
4- الجيوبوليتيكي الروسي ألكسندر دوغين يردّ على خلافة داعش والإسلاميين.
5- روبرت فيسك مقال في الاندبندنت في 10-10-2014.