133
«البيئة الحاضنة» للمقاومة، عبارة انطلقت افتخاراً لدى أهل الضاحية الجنوبية لبيروت، حين كان المعنى في حرب تموز 2006 هو الاحتضان وتحمّل تداعيات العدوان الإسرائيلي الذي لم يعد مقتصراً في هذه الحرب على الجنوب كخطّ حدودي على التّماس، إنما تمدّد تحديداً إلى الضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت.
و«الإرهاب» عبارة في حرب الفرنسيين ضد ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، تشير إلى فعل الثوار المقاومين الذين يدافعون عن أرضهم وشعبهم من أجل التحرر. أرهب أي أخاف العدو. تغيّر معناها لتحمل البعد السلبي على المستوى الأخلاقي، فباتت تهمة يُحاسب عليها عالمياً حين يطال الفعل الإرهابي المدنيين، وصار التحديد في مجال دقيق وفق المؤسسة التي تقف وراء هذا التحديد، وخصوصاً بعد أن أعلن الرئيس السابق للولايات المتحدة الأميركية جورج بوش الحرب على الإرهاب، لكن من دون تحديد دقيق لمعنى الإرهاب، ومتى يكون الإرهاب مشروعاً ومتى يكون مداناً؟
المفكر الفرنسي اليهودي، الجزائري الأصل، رائد الفلسفة التفكيكية، جاك ديريدا، يقف بنفسه متردداً حول تحديد معنى الإرهاب، حين يكون عليه الرجوع إلى المعنى في المقاومة الفرنسية للاحتلال. لنجد بخلاصة تفرضها العجالة هنا، أن المعنى سياسي بامتياز لا يخرج من نطاق مصالح الأمم، ومن قدرة القوي على الضعيف في تحديد المعنى. فما هو مقاومة للبعض، هو إرهابي في نظر المجتمعات الدولية (ليس هناك مجتمع دولي)* التي تتمثل بسيطرة القوي على الضعيف وليس سيطرة المعنى والدلالة على الفعل ذاته. وما هو إرهاب (التكفيريون وقتلهم للمدنيين واحتلالهم المناطق وسيطرتهم على النفط في منطقتنا) هو مجرد ردّ فعل بالنسبة إلى البعض و«ثورة» ضد النظام للبعض الآخر (مع العلم أن غالبيتهم من المرتزقة من حول العالم)، كما هو للبعض مقاومة.
كلا العبارتين، البيئة الحاضنة والإرهاب، تحوّلتا في معنييهما سياسياً واجتماعياً وثقافياً على المستوى المحلي، وقد طالعتنا أخيراً جامعة الدول العربية هذا الأسبوع (الجمعة في 11 آذار 2016) بتصنيف حزب الله منظمة إرهابية في ختام اجتماعاتها لوزراء الخارجية العرب، بشبه إجماع خرقه لبنان والعراق. ولسنا هنا في إطار البحث السياسي في الأمر، إنما في الدلالة التي ينطوي عليها الخطاب الذي – حين يُصنّف- يستخدم عبارات لا تزال مثار جدل على المستوى العالمي في معانيها ومراميها.
بين المعنى المسبوغ على العبارتين اجتماعياً والمعنى السياسي المحلي والدولي، تأرجحت العبارتان في سياقهما الألسني، وبات من الجدير ملاحظة خلفيات هذا التأرجح والتجاذب، لما يحمل من انعكاسات فعلية على الأرض.
إن معنى عبارة «البيئة الحاضنة» ودلالتها، كان اجتماعياً يخص بقعة جغرافية معينة- وتحديداً الطائفة الشيعية التي صبغتها-، بمحتوى أخلاقي إيجابي، طرأت عليه تحوّلات لم تكن اجتماعية إنما سياسية وانعكست على المواقف السياسية والخطاب السياسي لتُحدث تحوّلاً شبه جذري في المعنى، حيث بات الافتخار اتهاماً، حين تغيّر اللاعب السياسي الذي يدلي بالخطاب.
ما كان اجتماعياً مثار افتخار، صار في الخطاب السياسي لدى المؤسسة المعادية (14 آذار في هذه الحال)، مثار اتهام، فما كان من الخطاب السياسي المفترض به تمثيل الفئة الاجتماعية الأولى (منبع المقاومة) إلا تبنّي المعنى السلبي والتخلّي عن المعنى الإيجابي المسبوغ اجتماعياً، كردّ فعل على الاتهام، فاستخدم العبارة ذاتها أي البيئة الحاضنة ليلحقها بعبارة أخرى هي الإرهاب، وهنا هو سار في المعنى الألسني مع التيار المعادي له ليعيد التصويب ويستخدم الإرهاب بدل المقاومة. فسارت العبارة عكسياً بدل أن تخرج من «المجتمع» أو «البيئة» إلى الخطاب السياسي، فهي خرجت من الخطاب السياسي إلى المجتمع.
وهنا باتت المعادلة المطروحة المقاومة في وجه الإرهاب. وبتعبير أبسط، إن عبارة «البيئة الحاضنة» انتقلت كما كرة يتم تقاذفها بين «معسكرين» على المستوى السياسي. وقد فرضت المؤسسة السياسية المعنى عبر استخدامه في سياق معيّن لدى الطرفين.
السياسيون من كل الأطراف على الساحة اللبنانية، أعطوا المصطلح – الخطاب دلالته، وهذه الدلالة ليست واحدة إنما اختلفت وفق المؤسسة التي يصدر عنها الخطاب.
لماذا يحمل مصطلح – خطاب- واحد عند طرفين، دلالات مختلفة في البداية؟ وهل نجح توحيد الدلالة في الخطاب السياسي لحزب الله في قلب المعادلة؟
هل انفلت الخطاب حين ضمّ عبارة «البيئة الحاضنة» من العبارة نفسها ليسبغ ما يتبعها؟ فإن كانت العبارة تحمل معنى سلبياً اتهامياً، فهل تساوى اللاحق بالسابق هنا، هل تساوت في هذه الحال مصطلحا «المقاومة» «والإرهاب»؟ وفي أي محيط اجتماعي تساوت أو اختلفت؟
يرى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو أن هناك نظاماً خارج الخطاب يتمثّل في البنية المؤسسية التي ينبثق منها الخطاب وتكون هي تجسيداً لذلك الخطاب(1).
اللجوء إلى فوكو الذي خرج من مفهوم السلطة – الدولة ليرى تمثّلَ السلطة في كل شيء تقريباً (السلطة الدينية مثالاً)، ضمن المجتمع، يعود إلى كون الخطاب الذي نحن إزاءه، هو واحد، إنما الدلالة تختلف. واختلاف الدلالة يعود إلى البنية المؤسسية التي يشير إليها فوكو.
الإشكالية ترتبط بالدلالة التي يحملها الخطاب، وهذه الدلالة تنطلق من بنية بيئية مختلفة:
لدينا من جهة خطاب «البيئة الحاضنة» للمقاومة، وهو خطاب جماعة 14 آذار ويعني بها جماعة معينة تشمل جماعة حزب الله وجمهوره وتعني بالتالي الشيعة.
ومن جهة ثانية، لدينا خطاب «البيئة الحاضنة» للإرهاب، وهو خطاب حزب الله وحلفاؤه، وبالتالي جماعة 8 آذار، وهو يقصد بالإرهاب ما اصطُلح على تسميتهم بـ«التكفيريين»، وبالتالي يعني بهم بيئة «السنة» التي خرجوا منها.
نجد هنا خطاباً وخطاباً مضادّاً، ليس بالوسع عزله عن الواقع la réalité في دلالاته ولا عن نسقه التاريخي في التشكّل، ولا عن أثره السياسي والاجتماعي.
في الوقائع، ولدى الملاحظة الأولية، والتي جاءت اجتماعية، بُنيت الدلالة اجتماعياً لدى أهل الضاحية الجنوبية خلال وبعد حرب تموز 2006 والعدوان الإسرائيلي على لبنان.
وكان اللبنانيون قد اعتادوا على قصف الإسرائيليين لمناطق الجنوب، إنما في هذه الحرب التي جاءت مباشرة وبعد مضي عامين على اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان إثر تظاهرات 14 آذار 2005، توسّع مدى القصف ليشمل بكثافة غير مسبوقة منطقة الضاحية الجنوبية.
نشأ استخدام العبارة أو انتشارها بالمعنى الإيجابي اجتماعياً بمعنى جماعة البقعة الجغرافية وتحديداً الشيعة هم البيئة الحاضنة للمقاومة، وما لذلك من دلالات تعني «أننا من يقاوم العدوان ونتحمّل نتائجه وندفع الثمن عن كلّ لبنان»، ولم ينجح «اتفاق التفاهم» الذي كان قد عقد قبل العدوان بين حزب الله ممثلاً بأمينه العام السيد حسن نصر الله والتيار العوني ممثلاً بالعماد ميشال عون، في توسيع البقعة الجغرافية والطائفية لتشمل الشيعة والمسيحيين معاً (القسم المؤيد منهم)، فبقيت العبارة كون دفع الثمن بالأرواح والممتلكات تركّز في الضاحية الجنوبية محصوراً بهذه البيئة.
بداية، وفي عودة لخمس سنوات قبل «الآن»، نجد أن بعض المصرّحين السياسيين البارزين في جماعة 14 آذار استخدموا مصطلح «البيئة الحاضنة» بمعناه الإيجابي لدى الحديث عن المواضيع التي تهمّهم وتُعتبر من أولياتهم من مثل العدل في ما يخص المحكمة الدولية الخاصة بلبنان والتي أنشئت لمحاكمة من اغتال رفيق الحريري، رئيس الحكومة الأسبق.
إن وقوف تيار المستقبل ومعه جماعة 14 آذار موقف المحمّل لمسؤولية العدوان لحزب الله والمقاومة، استتبعه فيما بعد استخدام سياسي إعلامي للعبارة نفسها إنما في معناها السلبي، بقيت كما هي «البيئة الحاضنة» مرفقة بعبارة المقاومة، إنما بالمعنى السلبي وأحياناً كانت تستبدل مصطلح المقاومة بـ«حزب الله». أما إدراج الحلفاء للمقاومة وحزب الله، فقد بقي في الخطاب السياسي المعارض لهم هامشياً غير أساسيّ، وكثر الحديث إلحاقاً عن دولة في قلب الدولة وسلاح المقاومة والمربع الأمني، وكل ذلك مركّز على جماعة حزب الله وجمهوره في الضاحية الجنوبية لبيروت. ولم ينجح في الأحداث السورية اشتراك أطراف أخرى مع حزب الله في مواجهة التكفيريين (نسور الزوبعة في الحزب السوري القومي الاجتماعي) في توسيع المدى الجغرافي لعبارة «البيئة الحاضنة»، ولهذا خلفية سياسية أخرى نبحث فيها على حدة. إنما باختصار، لها علاقة في رسم الحرب في هذا المشرق على أنها حرب سنية ـ شيعية كما رُسم لها أن تكون بمعزل عن المعطيات الأخرى.
إذاً، كثر استخدام المصطلح من قبل السياسيين والإعلام المؤيد لهم في جماعة 14 آذار، وازداد مع اندلاع الأزمة السورية في عام 2010، ليكثر الاستخدام بشكل مطّرد بعد الإعلان الصريح من قبل حزب الله لمشاركته في الأزمة السورية قتالاً على الأرض، فبات الاتهام مضاعفاً في عبارة البيئة الحاضنة من قِبل المعارضين لتدخل حزب الله في سوريا المتمثلين بجماعة 14 آذار وجمهورها.
بدأت التفجيرات في لبنان، واستهدفت الضاحية الجنوبية، وقبل التفجيرات، حدث إطلاق صاروخ على أطراف الضاحية من منطقة جبلية قريبة، أعلنت جبهة النصرة مسؤوليتها عن إطلاقه، وتوالت التفجيرات، فكان أن بدأنا بسماع خطاب مضاد لخطاب 14 آذار، بدأه السياسيون البارزون في حزب الله مستخدمين الخطاب نفسه بمنحاه الاتهامي نفسه إنما مع إلحاقه بمصطلح الإرهاب، أي «البيئة الحاضنة للإرهاب».
وفي كل مراحل الخطاب، نجد أن النطق به أو لفظه، انحصر في فئتين هم 14 آذار وحزب الله، لكأنه انحصر بين الشيعة والسنة فقط، كجمهور، وبيئة، ومحيط اجتماعي من دون سواهم من مكوّنات لبنان الأخرى على الصعيد الطائفي، من مسيحيين وأرمن ودروز.
فالمعركة الكلامية بين طرفين فقط، والباقون تمّ إقصاؤهم عن المشهد الكلامي وعن القصدية في التدليل.
ففي بيان رسمي في 22 كانون الثاني 2013، أورد تيار المستقبل عبارة «البيئة الحاضنة» لحزب الله، كما يلي: «إن البيئة الحاضنة التي يوفرها حزب الله والسلاح المتفلت من الشرعية والقانون يستجلب الإحساس بالسلطة والنفوذ وبالتالي استباحة المحظورات». ( نقلاً عن الموقع الرسمي لرئيس الحكومة السابق رئيس كتلة المستقبل النيابية فؤاد السنيورة http://www.fuadsiniora.com/diaries/2013/1/22 ).
تصريح لرئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع لصحيفة «اللواء» نقلته عنها صحيفة «النهار» في إصدارها الإلكتروني في عام 2010، حيث ورد: «وضع رئيس الهيئة التنفيذية الدكتور سمير جعجع الاشتباكات الاخيرة بين «حزب الله» وجمعية «المشاريع الخيرية» في إطار «عملية الاستنزاف المبرمجة لرئيس الحكومة سعد الحريري و«للبيئة الحاضنة» للمحكمة الخاصة بلبنان ولمنطق العدالة الذي هو منطق إنساني عام لا دين ولا طائفة ولا مذهب له بل منطق كل الساعين إلى بناء وطن ودولة نهائيين لكل اللبنانيين».
(http://www.naharnet.com/stories/ar/132)
في حين أن جعجع نفسه، صرّح مستخدماً البيئة الحاضنة بدلالة وبمعنى مختلفين، لدى الحديث عن حزب الله، قبل ترشّحه إلى رئاسة الجمهورية، في مقابلة مع «الشرق الأوسط» أجراها الصحافي ثائر عباس، ويقول رداً على سؤال: * هل تعتقد أن حزب الله ومن وراءهم وصلوا إلى قناعة مفادها ضرورة القبول بالدولة؟
– «من وراء الحزب (يقصد حزب الله) لم يصلوا إلى هذه المرحلة لأنهم مستفيدون من وجوده، لكن علينا أن ننقذ الحزب والبيئة الحاضنة له من وضعه الحالي كي يتحول إلى حزب سياسي». (https://mobile.lebanese-forces.com/2014/04/03/samir-geagea-7/)
كتب عماد مرمل، الإعلامي العامل في تلفزيون «المنار» التابع لحزب الله والصحافي في جريدة «السفير» مقالاً في الجريدة، في كانون الثاني 2012، ورد فيه نقلاً عن مصادره، الآتي: «وتابع القيادي العوني مخاطباً الراعي والمطارنة الحاضرين: من «فتح الإسلام» إلى «جند الشام» وغيرهما من التنظيمات الإرهابية… كلها أسماء حركية وفروع مختلفة لأصل واحد هو «تنظيم القاعدة» الذي يعرف الجميع أنه المنبع الفكري والعقائدي لهذه المجموعات، والغريب أن هناك من يريد أن يُحرّم علينا التضامن مع وزير الدفاع والمؤسسة العسكرية بينما يحلّل لنفسه التعاطف مع البيئة الحاضنة للاتجاهات المتطرفة، علماً أن الرئيس سعد الحريري كان أول من أقرّ بوجود «القاعدة» في لبنان». (http://www.assafir.com/Article/262459/Archive
السفير، الجمعة 6 كانون الأول 2012، عنوان المقال «أيّ دلالات لزيارة جعجع إلى السعودية والقوات إلى عرسال؟/ عون والراعي: توجس مشترك من القاعدة وأخواتها»).
وتشرح الصحافية منال زعيتر في جريدة «البناء» عن «البيئة الحاضنة» موضحة ما يقصد حزب الله بها، الجمعة 20 كانون الأول 2013، وورد: «لا يتوانى «حزب الله» وأفرقاء «سنة وشيعة ومسيحيون ودروز» مؤيدون ومحسوبون على خط 8 آذار والمقاومة عن تكرار عبارة «الإرهاب وجد بيئته الحاضنة في لبنان»، في توصيف أشعَرَ أهل السنة بأنهم في دائرة الاتهام ربما جراء التباسهم بالبيئة المعنية بالجرم ومن دون إغفال تأثير السجال السياسي والانقسام العامودي بين 8 و14 في جعل هذه العبارة «مادة طائفية» لا تقل خطورة عن الإرهاب والفكر التكفيري».
في أدبيات قوى 8 آذار وتحديداً «حزب الله»، شرح المقصود بـ«البيئة الحاضنة» قد يكون ضرورياً رغم تكرار هذا الشرح كثيراً على لسان قيادات سياسية وحزبية فاعلة، فالتهمة وفقاً لمصادر مطّلعة على أجواء «حزب الله» ليست «موجّهة إلى أهل السنة في لبنان إنّما لمن يتفاعل مع هذا الفكر التكفيري ويؤمّن له البيئة السياسية والاجتماعية المناسبة».
(https://www.onlylebanon.net/news/%D8%AD%D8%B2%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D9%8A%D9%88%D8%B6%D8%AD-%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85%D9%87-%D9%84%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%A6%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A7%D8%B6%D9%86%D8%A9/).
وكتب الدكتور مصطفى علوش، وهو نائب سابق عضو المكتب السياسي في تيار المستقبل، في جريدة «المستقبل» التابعة لهذا التيار، تحت عنوان فرعي «بيئة «حزب الله»»، الآتي: «على هذا الإساس فإن البيئة الحاضنة للإرهاب الذي يمثله «حزب الله» تستند إلى كلّ تلك المعطيات، وتظهر واضحة في التبنّي الكامل للجزء الأعظم من البيئة الشيعية لأعمال هذا الحزب واعتبارها مسوّغة وتستند إلى الحق المطلق مهما ظهر منها من شوائب أو عورات» (جريدة المستقبل، الثلاثاء 11 شباط 2014 – العدد 4945 – صفحة 4، الدكتور مصطفى علوش عضو المكتب السياسي في تيار المستقبل، نائب سابق).
ونقلاً عن المنار، في موقعه الإلكتروني، في 24 تشرين الثاني 2013، رأى مسؤول العلاقات العربية في حزب الله الشيخ حسن عزّ الدين، خلال احتفال تأبيني في بلدة حولا الجنوبية في ذكرى مرور أسبوع على استشهاد أشرف حسين ذياب والرقيب هيثم وصفي أيوب اللذين قضيا في تفجير بئر حسن، أن «هذا التفجير ما كان ليحصل لولا وجود التحريض الطائفي والمذهبي والشحن البغيض والحاقد من البعض في لبنان»، معتبراً «أن البيئة الحاضنة لهذا النهج والسلوك والتفكير الذي لا يحاور ولا يلتقي مع الآخر، باتت تشكل خطراً على أمن لبنان واستقراره».
ممّا تقدّم، نجد انقساماً جذرياً في المعنى وفي دلالة الخطاب نفسه. فالمقاومة لدى جماعة 14 آذار لها معنى سلبي وتحمل دلالة الإرهاب والخروج عن منطق الدولة، فيما هي لدى جماعة حزب الله وجمهوره تحمل دلالة الحق.
وكذلك بالنسبة إلى عبارة الإرهاب، فهي لدى حزب الله وجمهوره، تكفير الآخرين وقتل الأبرياء وتضليل الشباب، فيما هي لمعارضيهم ردّة فعل بسبب المقاومة وتدخّلها في سوريا وبسبب وجود سلاح المقاومة وإقامة دولة في قلب الدولة.
المعنى هنا تحدّده السياسة وهي هنا متمثلة في بنيتين مؤسسيتين متعارضتين لهما جمهورهما الطائفي، وهما السنة والشيعة (لا نقصد هنا التعميم على كلّ السنة وعلى كلّ الشيعة). وهذه السياسة لها سلطتها وأايديولوجيتها وعقيدتها الدينية المختلفة الواحدة عن الأخرى مع أنهما، أي الطائفتان، هما طائفتان مسلمتان، ولهما مرجعياتهما المختلفة أيضاً لجهة العلاقة مع المرجعية الخارجية.
إنّما هذه السلطة والأيديولوجيا بسياستها على الأرض وبارتباطاتها الخارجية، تفرض عند كلٍّ من الطرفين المدلول على الدال، على البيئة الاجتماعية المتمثّلة ليس فقط بالمنضوين حزبياً تحت جناحهما إنما أيضاً بجمهورهما العام.
السلطة وجمهورها
هل للعبارة المستخدمة بما حملته من دلالات، أو هل للخطاب سلطته على جمهوره وناسه؟ فالخطاب كما أشرنا يخرج من بنى مؤسساتية، هي هنا ليست معرفية إنما سياسية، لها قنواتها الإعلامية. ولهذه البنى المؤسساتية سلطتها على جمهورها وتتعدى أيضاً جمهورها لتطال الجمهور المعارض.
فبعد أن كان خطاب البيئة الحاضنة للمقاومة ذا معنى إيجابي لدى جمهور المقاومة، تغيّرت دلالته بفعل الخطاب السياسي للطرف المعارض للمقاومة وحزب الله، أي جماعة 14 آذار، التي صاغت دلالته بطريقة مضادة محوّلة إياها إلى المعنى السلبي، فحصل انكفاء عن استخدام المصطلح اجتماعياً بدلالته الإيجابية، وهنا كان للخطاب سلطته على جمهوره تأييداً له وعلى الوسائل الإعلامية الموالية للبنى المؤسساتية التي خرجت بالخطاب من جهة، ومن جهة ثانية كان له السلطة عبر الأثر الذي أحدثه، فحصل انكفاء عن استخدام الخطاب اجتماعياً لما حمله من دلالة ذات معنى سلبي.
هذا الانكفاء، تحقق له الانقلاب في الفعل الخطابي إثر بروز ردة فعل تمثّلت باستخدام الاتهام ذاته أي الخطاب ذاته للدلالة على فعل الإرهاب التكفيري التفجيري القاتل للأبرياء، والأبرياء هنا هم المدنيون لا المسلحون ولا عناصر حزب الله، إنما جمهور حزب الله، وبيئته «الضاحية الجنوبية» لبيروت. فبات خطاب «البيئة الحاضنة للإرهاب» هو ردّ الفعل على خطاب الطرف الأول وقلب للمعادلة، أو أنه صوغ سياسيّ لمعادلة جديدة، هي ببساطة التالية:
تقولون اتهاماً البيئة الحاضنة للمقاومة ونقول اتهاماً البيئة الحاضنة للإرهاب، وهنا تنتقل المعركة الكلامية لتصبح بين مصطلحي المقاومة والإرهاب، وبالتالي طرح إشكالية تتجاوز خطابياً الفعل ورد الفعل، إلى معادلة المقاومة والإرهاب.
فهل المقاومة تساوي الإرهاب؟
ويقول فوكو: «دراسة الخطاب في علاقته بالممارسة السياسية، النظر، ليس في التغيير الذي حدث في وعي الناس، وطريقة إدراكهم للأشياء، بل على أساس أن الممارسة السياسية حوّلت شروط ظهور الخطابات أو حوّلت طريقة وجود الخطاب».(2)
الخطاب تصويريّ مرمّز، التأويل فيه خاضع للسلطة، وهي هنا سلطة البنية السياسية الناطقة بالخطاب والمكرّرة له، تليها الوسائل الإعلامية التي تخطت النقل (التصريحات) إلى التبنّي.
الصورة والرمز، خلفيتا الخطاب، لا علاقة لهما بالفعل البلاغي للمصطلح، إنما بالسلطة السياسية ومن ثم بالبيئة المقصودة به. إن الأثر لا يمكن دراسته تاريخياً بعجالة الآن، كما أنه من الجهة التاريخية لا يزال ساري المفعول وغير منفصل عن «المؤلف» (البنى المؤسساتية خلف الخطاب) وعن خلفيات الخطاب.
إنما بالوسع الاستدلال عبرهما إلى واقع الانقسام الحاد في المعنى لكلمة «مقاومة» ولكلمة «إرهاب». وإن كانت مقاربة سطحية للعبارتين تقود بأي كان إلى وضع المقاومة في المعنى الحقوقي الإيجابي والإرهاب في المعنى الحقوقي السلبي (وهنا المقاربة أخلاقية حقوقية لها علاقة بالقانون الدولي).
إن كلمة إرهاب بحدّ ذاتها كان لها في المقاومة الفرنسية ضد ألمانيا هتلر أو ألمانيا النازية معنى إيجابي، فالإرهاب هو إرهاب العدو المحتلّ ومقاومته، في حين أن الكلمة ذاتها باتت اليوم معرّفة عالمياً على أنها فعل سيئ يؤذي الآخرين ويسبّب تهديدهم وقتلهم وإلغاءهم وإقصاءهم.
فهل نحن اليوم على صعيد دلالات الكلمة، نذهب بالمقاومة إلى المعنى السلبي الترهيبي للأبرياء أي المدنيون؟ هل نذهب بكلمة المقاومة لنعني بها إقامة دولة في قلب دولة أو السيطرة بالسلاح على قرار الدولة؟
وهل سيحمل الإرهاب في دلالته معنى إرهاب المقاومة المسيطرة على قرار الدولة؟ (تبرير الإرهاب بالقول إنه رد فعل وليس فعلاً).
وإلى أيّ مدى تظهر دلالات الخطاب السياسي الانقسام الحاد في المجتمع، وانحسار المعركة بين سنة وشيعة كما هو مقرّر لها في مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي أعلنت عنه وزيرة الخارجية السابقة غونداليزا رايس من بيروت بعد حرب تموز 2006 مباشرة؟
إلى أي مدى ستقود «تبيئة» المعنى والدلالة للخطاب السياسي اجتماعياً إلى مزيد من الانقسام الاجتماعي على الأرض؟
إن عبارة «البيئة الحاضنة» وقعت خطابياً في الصراع السياسي بين 8 و14 آذار، وكما يقول فوكو إن «الخطاب ينقل السلطة وينتجها ويقويها، ولكنه أيضاً يفجّرها، يجعلها هزيلة، ويسمح بإلغائها» (3).
يبقى أنه من الناحية الاجتماعية، الخطاب السياسي ذو الخلفية السلطوية على جمهوره، أجرى التحوّل في المعنى من الإيجابي إلى السلبي. ولكن هذا التحوّل لم يأتِ قطعياً، إذ بقيت بعض الاستخدامات للمصطلح بمعناه الإيجابي، ولكنه من دون أدنى شك، يقودنا في التحليل- وربما نكون على خطأ- إلى البحث في العبارة اللاحقة للمصطلح، أكانت «المقاومة» أو «الإرهاب».
لا تزال قوة الخطاب محصورة في إطارها، بمعنى أن جمهور 8 آذار، يتبنى خطاب سلطته، وكذلك جمهور 14 آذار، وبالتالي، إن التحول الفعلي يكون اجتماعياً، حين تتمكّن سلطة من اختراق جمهور غير جمهورها، أو الجمهور المعارض لها.
إن لجوء جماعة 8 آذار إلى قلب المعادلة عبر استخدام المصطلح نفسه بمعناه السلبي إنما للتدليل على الإرهاب بدل المقاومة يُعتبر ردّ فعل ذكياً خطابياً، لأنه سار مع تيار وجهة الخطاب بالمعنى السلبي ولكنه استبدل المقاومة بالإرهاب.
الخطورة، وبالعودة إلى فوكو، وما ذكر عن إمكانية الخطاب من تفجير السلطة وجعلها هزيلة، أن ينقلب السحر على الساحر، فتُحال المساءلة في دلالة المعنى إلى «المقاومة» نفسها، وربما تساوى ب«الإرهاب» على المدى الطويل، فينقلب السحر على الساحر.
وما شبه الإجماع الذي شهدناه في جامعة الدول العربية إلا مثالاً، حيث حوّل فعل المقاومة إلى فعل إرهابي.
ولكن ماذا يجري في المقلب الاجتماعي؟ يبدو أن البيئة الاجتماعية سارعت قبل البنية المؤسساتية إلى الرجوع بمعنى الإرهاب إلى جذوره الأساسية، أي فعل إرهاب العدو، وأخرجته – وإن عبر التحدي أحياناً أو عبر السخرية من قرار جامعة الدول العربية- من سياقه المؤسساتي، وأعادته إلى الحضن الاجتماعي، عبر الافتخار بعبارة إرهاب حين تكون إرهاباً للعدو، ومقاومة العدو وعدم الاستسلام للعدو.
البيئة الاجتماعية التي تبدو أحياناً خارج اللعبة في الخطاب السياسي، تلقفت القرار بافتخار، على أساس تحميل العبارة (الإرهاب هنا) معنى المقاومة. فهل تسير البنية السياسية خلف تبيئة المعنى بدلالات مختلفة، أم تعمل على خطاب مضاد بعبارات أخرى؟ وإلى أي مدى يتبع الخطاب السياسي البيئة الاجتماعية في إعطائها المعنى والدلالة للعبارات؟ وأيّها السلطة الهزيلة التي ستتفجّر فيها عبارة الإرهاب؟ أهي السلطات في المجتمعات العربية التي – في غالبيتها- لا يصدر عنها خطاب سياسيّ يتلاءم مع بيئاتها الاجتماعية؟ لقد صمتت الجزائر وكذلك تونس في ختام اجتماعاتهما لوزراء الخارجية العرب في حين أن شعبيهما لم يصمت ووقف متضامناً مع الحركة المقاومة ضد كيان العدو الإسرائيلي وضد التكفيريين. هل يأتي التصنيف هذا من قِبل جامعة دول عربية باتت تتلقى التهاني من المسؤولين الإسرائيليين علناً، كدلالة على هزالتها وعدم تعبيرها عن نبض الشارع في غالبيته الذي يرفض الطعن بالقضية الأساس، لا بل بأمّ القضايا المصيرية، وهي الحق بمقاومة الاحتلال والعدوان والدفاع عن الذات؟ أم هل نجحت المجتمعات الدولية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها وعبر قنواتها الإعلامية الموجّهة والمضبوطة للتعبير عن مصالحها، في قلب المعنى وجعل المقاومة إرهاباً؟
هل تنجح المجتمعات العربية الآن في فرض الدلالة للمعنى بغضّ النظر عن البنيات المؤسساتية السياسية القائمة وقلب المعادلة المفروضة علينا؟
من دون أدنى شك، نحن اليوم مثل الأمس، بحاجة ماسّة إلى الوعي لدقة المرحلة، ولخطورة المعاني والعبارات التي نستخدم، فهل نكون مجتمعات حيّة تفرض بنفسها الدلالات على العبارات وتُخضع البنيات السياسية على أتباعها بمعناها؟
المراجع:
(1) فوكو، ميشيل، «نظام الخطاب»، ترجمة محمد سبيلا
(2) Foucault,Michel, Reponse a une question-In Esprit, n371,1968.p.p. 864
(3) Foucault,Michel, La Volonte de Savoir- ed.Gallimard, 1976.-p.133
* على الهامش هنا، يقرّ متبجّحاً جون بولتون، السفير السابق للولايات المتحدة الأميركية في الأمم المتحدة ونائب وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد خلال ولاية الرئيس الأميركي جورج بوش الأولى، في مقابلة أجرتها معه صحيفة نيو يورك تايمز في 13 نيسان 2005، ووردت في كتاب صدر عن دار فايار الفرنسي لحديث بين نعوم تشومسكي ودافيد بارسوميان عنوانه «سكرة القوة» (أو نشوة القوة)، L’ivresse de la force، ص 240. يقول بولتون: «لا يوجد شيء اسمه الأمم المتحدة، هناك مجتمع دولي بوسعه وفق الظروف أن يتم توجيهُه من خلال السلطة الوحيدة الحقيقية الباقية في العالم- الولايات المتحدة – حين يكون ذلك من مصلحتنا وحين نتمكن من إقناع الآخرين بالانضمام إلينا (تأييدنا)» (ترجمة شخصية).
المواقع اللكترونية المذكورة ضمن المقالة:
* ماجستير في علوم الإعلام والتواصل