Abstract:
This study is about the importance of the natural environment in the narrative epic text. The epic of Gilgamesh is an example, regarding that nature adds to the literary narrative text symbolic and artistic value. The study also deals with the symbols of nature as they occur in the chronological sequence of events in the epic of Gilgamesh.
In addition, the study indicates that the significance given to the natural environment in the epic is a result of man’s awareness to nature in his world.
الملخَّص:
تُحاول هذه الدِّراسة الوقوف على أهميَّة البيئة الطبيعية في النَّص السَّردي الملحمي المتمثل بملحمة جلجامش، باعتبار أن الطبيعة تُضيف إلى النَّص الملحمي رمزيَّة ورؤى فنيَّة. وقد تناولت عناصر رمزيَّة الطبيعة في نص هذه الملحمة كما ورد بتسلسل الأحداث. كما تُبيِّن أن دور الطبيعة في الملحمة ناتِج عن وعي الإنسان لأهميَّة الطبيعة في عالمه.
– جدليَّة الإنسان والبيئة:
تُعد البيئة من أهم العناصر المُلهِمة التي تؤثِّر بالفنَّان منذ القِدم. فهي المُحيط الذي يُعزِّز الإمكانيَّات الفكريَّة والإدراكات الحسيَّة للكاتب، وهي المُلهِم والمُثير التي تزوِّد الإنسان بحوافز وأفكار للتجربة والعمل.
إن علاقة الإنسان ببيئته – المُحيط الخارجي الذي يعيش فيه – تجسيد لفكرة التكامل بين الإنسان والطبيعة. فقد «تكون الطبيعة مُماثِلة في جسم الإنسان وعاداته وغرائزه، فالإنسان نفسه ظاهرة طبيعيَّة من ظواهر هذا الكون الذي خلقه»(1).
تنعكس الطبيعة على الوجود الإنساني كما تنعكس في كافة الأعمال الفنيَّة التي يُنتجها الفكر الإنساني. وفي هذا السِّياق، نشأت مدرسة نقديَّة جديدة هي مدرسة النَّقد البيئي، وذلك لدراسة الأعمال الأدبيَّة من منظور بيئي يُبرز المضمون الذي نتج من ثقافة بيئيَّة ودور عناصر البيئة الطبيعيَّة في الأدب.
– في النقد البيئي: تعريفاً ومنهجاً:
النَّقد البيئي أو الإيكولوجي هو الذي يهتم بدراسة المكان، والبيئة، والطبيعة، والأرض، في النُّصوص الأدبيَّة والثقافيَّة. كما ويُعرَف هذا النقد بعدَّة مفاهيم أخرى، منها: الدِّراسات الثقافيَّة الخضراء (Cultural Green Studies)، والشِّعريَّة البيئيَّة (Ecopoetics)، والنَّقد البيئي الأدبي (Environmental Literary Criticism)، والنَّقد الإيكولوجي (Ecocriticism). ومن المهم للباحث في النَّقد البيئي الأدبي معرفة مفهوم النَّقد البيئي وتحديد القواعد والأسُس المُرتبِطة بالنظريَّة والتطبيق في هذا الحقل.
يهتم النَّقد البيئي، إذاً، بدراسة النُّصوص الأدبيَّة، في ضوء نظريَّة بيئيَّة تبحث عن أثر البيئة أو المكان أو الطبيعة أو الأرض في النَّص الأدبي، وذلك عَبْرَ القراءة والتحليل ودراسة عناصر النَّص من كلمات ورموز ومصطلحات، لتحديد دلالاتها البيئيَّة ورموزها الدَّالة.
وهكذا، يقول دايفيد كارتر "David Carter" في كتابه «النظريَّة الأدبيَّة» أنَّ النَّقد البيئي هو إضافة وجهة نظر لتحليل الأدب من منظور بيئي، إضافة إلى فئات النَّقد الأدبي التي سبقته. وقد تكون النَّظريَّة الأدبيَّة هي الطَّريق إلى ردم الهوَّة بين العلوم الإنسانيَّة والعلوم الدَّقيقة.
ويُشير كارتر Carter إلى أنَّ نظريَّات إدوارد سعيد هي ذات صِلة بدراسة البيئة التي تُعَدّ، في حدِّ ذاتها، بناء ثقافيَّاً(2). من هنا نستنتج أن النَّقد البيئي هو الذي يعمل على إيجاد علاقة مُترابِطة بين النَّص الأدبي والفنِّي من جهة، وبين الطبيعة والأرض والمكان كعناصر بيئيَّة من جهة ثانية، وذلك عَبْرَ قراءة متنوِّعة تتضمَّن الدِّراسة التحليليَّة والتفكيكيَّة والنفسيَّة، والفلسفيَّة، والجماليَّة، والنَّسويَّة وغيرها.
هذا ونجد تعريف «جريغوري جراد» «للنَّقد البيئي» على أنَّه يُعنَى بعلاقة ما هو إنساني بمحيطه على مدى التاريخ الثقافي البشري(3). فهو (أي جراد) يعتبر البيئة ليست قضيَّة علميَّة فقط، إنَّما هي قضيَّة ثقافيَّة أيضاً، فهي تُعنى بواجبات الفرد والجماعة نحو البيئة التي يعيشون فيها، والاهتمام بمواردها وعناصرها المُحيطة بالإنسان. لعلَّ هذا يُسلِّط الضَّوء على ضرورة نشر الوعي البيئي الثقافي ليصبح ضمن ثقافة المجتمع والجماعة، والحدّ من ظاهرة التلوُّث الشَّامِل الذي يشكِّل خطراً مباشراً على الإنسان والطبيعة معاً.
ومنهج النَّقد البيئي جديد/حديث؛ فهو يتطلَّب مُقارَبة الظَّواهر البيئيَّة ودراسة عناصرها في النُّصوص الأدبيَّة بالتركيز على الجانبين معاً: الدَّاخل النصِّي والبنية الخارجيَّة، وذلك للتمكُّن من تحليل وتحديد كيفيَّة استعمال الرُّموز الطبيعيَّة للدلالة على أهميَّة البيئة الخارجيَّة.
تُعتبر البيئة من أهم العناصر المُحيطة التي تؤثر بالفنَّان بشكل أو بآخر، وهي مصدر الإلهام الفنِّي الذي يعزِّز أفكار الكاتب ويمكِّنه من إدراك الأشياء والأحداث. والأدب الملحمي، كأيِّ نوع أدب آخر، هو أدب يتناول الإنسان وتفاعلاته مع محيطه الخارجي الطبيعي والبيئي، ويعكس القِيَم والتقاليد والميراث الثقافي، كما الخصائص الفنيَّة والجماليَّة لزمان ومكان نشوئه/كتابته.
وملحمة جلجامش، هي ملحمة شعريَّة مُرتبِطة ببيئتها الطبيعيَّة «العراق (Ur uk)»، وزمانها وتاريخ إنتاجها «السُّومريِّون».
– الأسطورة معتقد راسِخ:
يهدف هذا البحث إلى دراسة البيئة والطبيعة، وأهميَّة المكان في هذه الملحمة التاريخيَّة في ضوء النَّقد البيئي. فمن خلال هذه الدِّراسة أهدف إلى إلقاء الضَّوء على الترابط التاريخي للعلاقة بين الأدب والطبيعة، فالأدب كما سبقت الإشارة، يعكس بيئته وتاريخه.
تُعرَف الأسطورة بأنها سرد شفاهي يحكي قصَّة الكون الأولى، ونشأته وتاريخه من خلال حكايات عن كائنات تتجاوز العقل الموضوعي، وتخرق التصوُّر العادي، كما أنها أسلوب في التفكير والمعرفة والكشف، ومحاولة للوصول إلى الحقائق، وهي نسق فكري وفلسفي تشتق من التفكير الميتافيزيقي وجودها وأسلوبها(4).
تُعتبر الأسطورة "Myth" تراكماً لنتاج الفكر الإنساني المُبدع في مجال الأدب(5). وترجع الأساطير، في موضوعها وأحداثها وأبطالها، إلى منشأ طبيعي يتصل بعناصر الطبيعة(6)، كأسطورة الطوفان أو الدمار الشامل بالنار السماوية أو الأعاصير(7). وهي ليست نتاج الخيال المجرد، بل ترجمة لأحوال الشعوب عبر التاريخ. الأسطورة، إذاً، تجد تفسيراً لها في الطبيعة، وهي لذلك نظام فكري متكامل، استوعب قلق الإنسان الوجودي، وتوقه الأبدي لكشف الغوامض التي يطرحها محيطه، ليجد مكانه في إيقاعات الطبيعة(8).
كما تمثِّل الأسطورة وعي الإنسان وإدراكه للعالم المُحيط به وكيفيَّة تعامُله مع هذا المُحيط لمعرفة مدى قدرته على هذا التعامل. وبهذا يصبح العالم في النَّص الملحمي مقياساً لقدرة الإنسان على الوعي والفعل من حيث قدرته على التعامل مع محيطه/عالمه وقهر صِعابه. وهكذا، يمكن القول، إن الملحمة تجسِّد بداية تحدِّي الإنسان للطبيعة، كما ورد في ملحمة جلجامش.
والأسطورة تتضمَّن قصص آلهة تشبه البشر من حيث سِماتهم وصفاتهم ومجتمعهم، وما على الإنسان إلا الطاعة والولاء لهذه الآلهة. وهي تعكس تطوُّر الوعي الإنساني لقدراته المحدودة وعجزه أمام هذا العالم بما فيه من آلهة تأمر وتفعل ما تشاء والإنسان مجرَّد متلقي، كما ورد في ملحمة جلجامش.
والأسطورة، حكاية مقدَّسة تقليديَّة، يلعب أدوارها الآلهة وأنصاف الآلهة، أحداثها وقائع حصلت في الأزمنة الغابرة، فهي مُعتقد راسخ وهي قيم وثقافة الشُّعوب، ممَّا يجعلها ذاكرة الجماعة(9).
وهكذا، يمكننا القول إن الأسطورة ذات طبيعة أدبيَّة خالدة ودلالات تؤكِّد على إمكانيَّة قراءتها من عدَّة زوايا. كما أن الأسطورة تتحدَّى الزَّمان والمكان بحيث أنَّها تتخطَّى جِدار زمانها وثقافتها لتصل إلى العالميَّة (عالميَّة الأدب).
– ملحمة جلجامش: من المشاع إلى الاجتماع:
ازدهرت الثقافة السومريَّة الأكادية في حوض دجلة والفرات، وحول الشواطئ العليا للخليج العربي، منذ مطلع الألف الرَّابع قبل الميلاد(10). ولم تكن أفكار السومريِّين ونظرائهم من العراقيين القدامى عن الخلق والتكوين، أفكاراً بدائيَّة، بل أفكاراً ناضجة بالدرجة التي تتيحها معارف تلك الفترة من بداية الخلق والتكوين(11).
وملحمة جلجامش، موضوع مُداخلتي، في نسختها السومريَّة الأكاديَّة البابليَّة، هي نص أدبي رائع حمل الكثير من تصوُّرات ثقافة تلك المنطقة، الدينيَّة والفكريَّة والفلسفيَّة، ويعود نظمها إلى أكثر من أربعة آلاف سنة(12).
تُعتبر ملحمة جلجامش نصَّاً شعريَّاً سرديَّاً تدور أحداثه حول جلجامش (الملك) ومغامراته المُدهشة والبطوليَّة. كما تروي الملحمة تدخُّل الآلهة بسير الأحداث بطريقة عجيبة وغريبة عن المألوف، ويكون جلجامش هو محور هذه الأحداث على أنواعها. وتمثل الملحمة مرآة حياة وثقافة الإنسان في ذلك الوقت من التاريخ، وبهذا تجسِّد الملحمة بداية الحضارة الإنسانيَّة والانتقال من طور الحياة المُشاع إلى الحياة الاجتماعيَّة والدَّولة، كما ورد في ملحمة جلجامش، التي تؤرِّخ فترة حكم الملك جلجامش لمدينة أوروك، وبنائه الأسوار حولها لتخليد نفسه.
تتألف الملحمة من ثلاثة فصول، سنعمل من خلال عرضنا لها على تحديد عناصر الطبيعة فيها، والأدوار التي اتخذتها، والإيحاءات والرُّموز والمعاني التي حملتها.
أ- الفصل الأول: جلجامش وإنكيدو:
تبدأ أحداث ملحمة جلجامش عندما ضاق الشَّعب ذرعاً بظلم وقسوة جلجامش، متضرِّعين إلى الآلهة طالبين المُساعدة، حيث يبدأ الحدث بتدخُّل الآلهة. وهنا تُظهر الملحمة مجتمعاً إنسانياً يشهد صراع الإنسان مع الآخر، ومجتمعاً للآلهة التي تشبه الإنسان بانفعالاتها وانتقامها ودوافعها. وتسيطر على ملحمة جلجامش فكرة الضَّرورة القدريَّة التي تُسَيِّر الأحداث فيها، لتنهي الحدث باستسلام الملك جلجامش لقدره وقبوله بحتميَّة الموت والفناء.
يفتتح الكاتب الملحمة بوصفه جلجامش «هو الذي رأى كل شيء». ويقدِّم لنا المكان حيث توجد أوروك، مملكة جلجامش (الوركاء اليوم) بأنه، أي المكان، «مدينة». وهذا يعني وجود قوانين «مدنيَّة» على الإنسان التقيُّد بها(13). ويصف جلجامش بـ«موجة طوفان» عاتية تحطم حتى جدران الحجر وذلك للإيحاء بقوته وعنفوانه في تحدِّي الصِّعاب. ويرمز الكاتب إلى حب جلجامش للمغامرة وإصراره على التغلب على الحواجز الطبيعيَّة بقوله:
«إنه هو الذي فتح مجازات الجبال
وحفر الآبار في أعالي الجبال
وعبر المحيط إلى حيث تطلع الشمس»(14)
كما يرمز الكاتب إلى جموح جلجامش للسلطة والطغيان بقوله «… هيئة جسمه مخيفة كالثور الوحشي»(15)
ويصف الكاتب استجابة «أورورو» لدعوة أهالي أوروك للتصدِّي لجلجامش بهذه العبارة:
«وغسلت (أورورو) يديها وأخذت قبضةً من طين
ورمتها في البرية، وفي البرية خلقت (إنكيدو)…»(16)
وترمز البرية إلى الطبيعة العذراء وإلى القوة والحريَّة:
«ومع الظباء يأكل العشب»(17)
يرمز العشب إلى الخصب، الازدهار والحياة.
ويتكرَّر رمز الماء في أربعة سطور متتالية كدلالة لعنصر الحياة والموت وللبيئة الخضراء التي تتمتع بها منطقة العراق.
«يتدافع مع الوحش عند مورد الماء
ويطيب لبه عند ازدحام الحيوان في مورد الماء
(يحدث) أن صيَّاداً قانِصاً التقى به عند مورد الماء
وأبصره يوماً ثانياً وثالثاً عند مسقى الماء»(18)
أما رفض حيوانات الغابة لإنكيدو بعد إغراء البغي له فيرمز إلى قيود الحياة المدنيَّة وما تسبِّبه للإنسان من أسر وتجريد من طاقاته الطبيعية. فنرى إنكيدو بعدما رفضته حيوانات الغابة، مجرَّداً من قوته وخائر القوى. يقول النص:
«… وهَرَبَتْ من قربه حيواناتُ الصَّحراء
ذُعِرَ (إنكيدو) وخارت قواه»(19)
وهذه دلالة للتناقض الرَّمزي بين مفهوم البرية ومفهوم المدينة. يقول إنكيدو:
«أنا الأقوى… أجل أنا سأبدل المصائر…
إن الذي ولد في الصَّحراء هو الأشد والأقوى…»(20)
الصَّحراء بدلالاتها ترمز إلى الحريَّة والعصيان على عكس الوصف الذي جاء به الكاتب للمدينة ذات الأسوار العالية التي تحدها وتحد من حرية سكانها.
أما جلجامش العظيم البأس المُبتهج بالحياة، فيستيقظ من نومه ليقصّ على أمه رؤياه قائلاً لها:
«يا أمي لقد رأيت الليلة الماضية حلماً
…….
فظهرت كواكب السماء
وقد سقط إحداها إليَّ كأنه شهاب السَّماء (آنو)…»(21)
وهذا الحلم كما تفسِّره له أمه يرمز إلى لقائه «إنكيدو» نظيره هو (أي جلجامش)، صاحب قوي، يعين الصديق (عند الضيق)(22).
ب- الفصل الثاني: أسفار جلجامش وإنكيدو:
انتهى الصِّراع الذي قام بين جلجامش وإنكيدو بقيام صداقة حميمة بين البطلين، وقرَّرا القيام برحلة طويلة إلى غابة الأرز في أعالي جبال طوروس(23). يرى القارئ في هذا الفصل «أن بيئة الكاتب هي التي ألهمته رمزيَّة الملحمة والصُّور المستمدَّة من الطبيعة، كالغابة المُمتدَّة مسافة عشرة آلاف ساعة في كل جهة، و(خمبابا) زئيره عباب الطوفان تنبعث من فمه النار، ونَفَسُهُ الموت الزُّؤام…»(24)
يرى القارئ جوَّاً مشحوناً بالتوتر والخوف الناجِم عن استعمال المؤلف رموز الشَّر والخير في الطبيعة. فالماء والشَّجر يرمزان إلى الخير والخصب والعطاء بينما يرمز الوحش «خمبابا» إلى الموت والشَّر.
حين شارف البطلان مدخل الغابة، بعد أن قطعا مسافة طويلة، ذُهِلا وأبهرهما مشهد المدخل العجيب للغابة ومنظر أشجار الأرز الغريب، فكان علوها اثنتين وسبعين ذراعاً، وعرض المدخل أربعاً وعشرين ذراعاً(25).
بعدها استطاع البطلان أن يجتازا مدخل الغابة فأبصرا الجبال الخضر، وذُهِلا من مشهد غابة الأرز وسحر جمالها(26).
هنا يتناول الكاتب جمال الغابة وسحرها ليرمز إلى الطبيعة الخضراء المعطاء التي تدل على الخصب والسَّلام، على عكس هدف رحلة جلجامش التي تهدف إلى قتل خمبابا وحرَّاس الغابة ليتمكَّنوا من الوصول إليها.
يكرِّر الكاتب كلمة «الغابة» مراراً وتكراراً، وكذلك كلمة «الماء» و«البئر»، كدلالات للخير والازدهار، وتبرز هذه الكلمات بمدلولاتها الحيوية، بالتناقض مع فكرة الموت التي تتمثل بقتل خمبابا والدخول إلى غابة الأرز. واستطاع البطلان الوصول إلى جبل خاص بالآلهة حيث عرش الإلهة «أورنيني» / «عشتار» ووصفاه بأنه جبل تتعالى فيه أشجار الأرز بظلالها الوارفة التي تبعث البهجة والسُّرور(27).
تتحلى الطبيعة بحركيَّة خاصَّة عندما تكون في أوج اخضرارها، وتحكي عن مشاعر الشُّعوب من حيث حاجاتهم إليها. لذا نرى الكاتب، بصفته الرَّاوي والمرآة للمجتمع، يرمز بالطبيعة إلى الحياة، من ماء ونبات وحيوان، والفرح والبهجة التي تُعتبر حاجات نفسيَّة وماديَّة للإنسان.
فالرَّاوي هو المتحدِّث عن شؤون «أوروك» كرمز لثقافة المجتمع في ذلك الوقت، والطبيعة هي المكان الذي يليق بنفسيَّة الإنسان المتألمة، والتي تمنحه الحريَّة والرَّاحة النفسيَّة.
تنتهي مغامرة غابة الأرز بنجاح البطلين وعودتهما إلى أوروك.
ج- الفصل الثالث: موت إنكيدو وسعي جلجامش وراء الخلود:
في الفصل الثالث الذي يتناول موت إنكيدو وسعي جلجامش وراء الخلود، يتناول الرَّاوي كيف أن إنكيدو، بعد مرضه، وإدراكه قرب نهايته، يتمنى لو أنه ما جاء إلى حياة الحضارة، بل ظل في برِّيَّته سعيداً مرتاح البال يرعى مع الظباء والحيوان(28). كما أنه لعن كل من زيَّن له المجيء إلى حياة المدينة.
بعد فترة من المرض مات إنكيدو، وهام جلجامش، حزناً عليه، في البراري والصَّحارى. ثم قرر القيام برحلة البحث عن «أوتو- نبشتم»(29) ليسأله عن سر الخلود.
وانطلق جلجامش في رحلته حتى بلغ مجازات الجبال في السماء(30). وهذه الأعالي التي يصفها الكاتب ترمز إلى عنفوان الطبيعة وتتمثل بجلجامش يسير نحو المجهول ويواجه صيغاً مختلفة من تحدِّيات الطبيعة له. فتارة يرى نفسه سائراً في طريق مسدودة وحيرته تقول له إن جهوده وسعيه لا يصبَّان في المجرى الحقيقي لنهر الحياة، وطوراً يصادف، خلال مغامرته للبحث عن «أوتو- نبشتم»، أشجاراً تحمل الأحجار الكريمة:
«… فوجد الأشجار التي أثمارها العقيق
وتتدلى الأعناب منها ومرآها يسر الناظر
… رأى الشوك والوسج الذي يحمل
الأحجار الكريمة واللؤلؤ البحري…»(31)
وبعد مرور جلجامش بسيدوري (سيدة الحانة)، يلتقي «أور –شنابي» الذي رافقه للقاء «أوتو–نبشتم». يخاطب «أوتو–نبشتم» جلجامش عن الموت قائلاً:
«إن الموت قاسٍ لا يرحم
… وهل تبقى البغضاء في الأرض إلى الأبد؟
وهل يرتفع النهر ويأتي بالطوفان على الدوام؟
والفراشة لا تكاد تخرج من شرنقتها فتبصر وجه الشمس
حتى يحلّ أجلها…»(32)
تأخذ قصَّة الطوفان في جلجامش حيِّزاً كبيراً، ويرمز إلى المياه التي تأتي بالحياة والموت معاً، فيقول الرَّاوي:
«… ثمَّ هدأ البحر وسكنت العاصفة وغيض عباب الطوفان
… ورأيت البشر وقد عادوا جميعاً إلى طين»(33)
الطوفان الذي تتداعى فيه الحياة، ويتحوَّل البشر إلى مجرَّد طين، يمنح الحياة إلى «أوتو–نبشتم» وبذور كل ذي حياة(34). فالماء، عنصر الحياة الأساسي، كما هو عنصر الموت في آن، يمنح الحياة والازدهار تارة، وينزل الخيبة والموت والجفاف تارة أخرى. فالرَّاوي يعكس لنا كقرَّاء، التوتر النفسي، والخوف، والحزن الذي يُعانيه الإنسان على وقع أحداث الطبيعة. فالمطر والرَّعد اللذان أدَّيا إلى الطوفان يحملان رمزيَّة الحياة والبهجة والسُّرور من جهة، والموت والفناء من جهة ثانية.
وتوقف الكاتب أيضاً عند مشهد شروق الشَّمس وغروبها كرمز لمرور الوقت ولشدَّة شقاء جلجامش في رحلة البحث عن الخلود. مع كل شروق وغروب، كان جلجامش يتأمل بالخلود، ويتألم لعدم يقينه بالحصول عليه. فالعلاقة الرَّاسخة بين الطبيعة والمياه تُنتج تكاملاً للحياة يحمل الخير والأمل.
فالطبيعة غنيَّة بالتناقضات من ليل ونهار، شتاء وصيف، شروق وغروب، حياة وقحل، تتمثل فيها قوى الخير والشَّر، والماء والنار، والحريَّة والطغيان.
وتبقى الطبيعة، في أي عمل أدبي، رمزاً للمجتمع. وهي، بعناصرها كافة، ذات طابع أزلي، كما أنها تشكل في جلجامش الحيِّز البيئي الطبيعي لسير الأحداث. لقد اهتمَّ الراوي بتسليط الضَّوء على الطبيعة وعناصر حيويتها عبر رمزيَّة الأشجار والبريَّة والفضاءات المفتوحة إلى الغابات والأنهار، المياه كرمز للخير والنظافة والحياة، رمزيَّة الرِّيح، فهي مُدمِّرة حيناً، وذات دفع إيجابي حيناً آخر. فهي ترمز إلى الحريَّة والفضاءات الواسعة التي لا تحدّها أسوار المدينة.
فرحلة جلجامش في البحث عن الخلود هي رحلة عظيمة، تنتهي بعودته إلى مدينته، راضياً بمصيره كإنسان، ولكنها فعلياً، رحلة نحو الموت، الآتي لا محالة.
كما أن جلجامش أيقن خسارته المؤكَّدة في هذه الرِّحلة، وأنه ليس بوسعه أن يحتفظ بمكانه إلى الأبد، وهذا ما ساعده على تخطي الصِّراع النفسي الذي عانى منه بين الموت والحياة. ويلاحظ القارئ تكرار كلمة «الماء» في جميع مراحل الملحمة وذلك للإيحاء بمدى أهميَّة الماء. فعندما منحت الآلهة «أوتو–نبشتم» سر الخلود، قرَّروا أن يعيش عند «فم الأنهار»(35). هذا ربط واضح بين الحياة والماء، بين الإنسان والأنهار، فلا حياة بدون مياه، وأن المياه هي رمز للوجود بأنهارها ومطرها. وترمز المياه، في عبارة «أوتو–نبشتم» إلى النظافة والجمال:
«خذه يا (أور –شنابي) … ليغسل في الماء أوساخه حتى يصبح نظيفاً كالثلج»(36)
وليس غريباً، أن سر الخلود، كما يقول «أور –شنابي» لجلجامش، هو نبات ينبت في المياه. فهو يمنح الإنسان نشاط الحياة(37).
وليس بالغريب أن تناقضات الحياة وسخريتها، تجعل جلجامش الذي تعب من عنائه الطويل، في أسفاره والصعوبات التي تكبدها للوصول إلى نبات الخلود، يخسر النبات خلال محاولته النزول إلى ماء بئر ليغتسل، فشمَّت الحيَّة شذى (نفس) النبات واختطفتها(38).
فالنبات، سر الخلود، يعيش في أعماق المياه. وجلجامش خلال وروده المياه، اختطفت الحيَّة النبات. وهذا ما سبّب لجلجامش خيبة وحزناً كبيرين.
فالنبات المسروق أصبح كالسَّحابة البعيدة بين دموع جلجامش، والوجود والخلود أصبحا أبعد ما يكون وأوسع من متناوله. فعالم الطبيعة هو عالم مُطلق، إنَّه عالم مُرتبط بالوجود، حيث عناصر المياه والأشجار ترمزان للمصاعب التي يواجهها الإنسان في سبيل الحياة. كما أعطى الرَّاوي للرِّيح التي ساعدت جلجامش وإنكيدو في التغلب على «خمبابا»، دوراً إيجابياً، في حين أن العمل الذي قاما به، «قتل خمبابا»، كان عنيفاً وسلبياً.
تلعب الرِّيح دوراً مهماً في جلجامش، ولكن المياه تبقى العنصر المُهَيْمِن المُناسِب للعطاء والخير.
إن الملحمة تنتزع من جلجامش أمل الخلود الذي يطفئ الأمل في روحه وقلبه. أما السَّفينة، فهي رمز المصير المتأرجح بين أمواج القدر، الذي تعصف فيه الرِّياح. فسفينة الحياة، لا محالة، متجهة إلى الظلام والفناء. لكن «أوتو–نبشتم» الذي مُنِحَ الأبديَّة، لم يحتفظ بحيويَّة الشَّباب، بل بدا كهلاً مُستلقياً على فراشه، بلا حياة ولا حيويَّة(39).
ففي نهاية الملحمة، نجد جلجامش «الملك» الذي كان بعيداً عن هموم مجتمعه ومنغمساً في نزعاته الشَّخصيَّة والماديَّة، تحول إلى إنسان حكيم وحزين مُستسلماً للقدر، وذلك نتيجة الدرس الذي تعلمه من الطبيعة. الطبيعة هي مَنْ يُلهِم الإنسان الإيمان والاستمرار. فأخذت الملحمة تعطي جلجامش أهميَّة خاصَّة، تتعلق بالعذاب وصلابة الإرادة وشدَّة المعاناة، المرتبطة جميعها بمصير الشَّر وليس الآلهة. ولكن جلجامش، في النهاية، يتمسَّك بأمل الخلود، عبر أعماله وسيرته الحسنة مع أهل أوروك، يهبه الحياة والخصب بعد الموت.
هكذا، تبقى ملحمة جلجامش، أثراً أدبيَّاً تاريخيَّاً، يحمل قيمتين أساسيَّتين: الأولى تاريخيَّة، كونه يعود إلى أربعة آلاف سنة، والثانية أدبيَّة ثقافية لأنه يعكس ثقافة شعوب المنطقة وارتباطها بالمحيط الطبيعي في العراق، وقد أثرت الملحمة تأثيراً كبيراً في الأدب الكلاسيكي العالمي، خاصَّة اليوناني منه.
خلاصة:
تُعتبر ملحمة جلجامش من أقدم الملاحم وأكثرها أهميَّة، وتتميَّز بسرد أحداث يتداخل فيها الإنسان والآلهة، ويستعمل، غالباً، فيها التكرار لتأكيد أهميَّة الأحداث. ويتمّ سرد الأحداث مطوَّلاً بحيث أنَّ حركيَّة الحدث تتطلَّب السَّرد المُتدرِّج المُطوَّل. إنَّها ملحمة دراميَّة بامتياز، تتركَّز أحداثها حول بطل واحد، يتميَّز عن باقي البشر، فثلثاه من عنصر إلهي (من ناحية الأم)، والثلث الآخر من البشر (من جهة الأب). فالبطل جلجامش يخوض الصِّعاب والمُغامرات ليحصل على الخلود، وعندما يستحيل ذلك، يعود إلى مدينته أوروك خاضِعاً لقانون الحياة والموت (الذي هو نهاية كل إنسان على هذه الأرض).
أما في ما يتعلق باللغة والأسلوب، حسب ما يلمس القارئ في ترجمة ملحمة جلجامش لطه باقر من أصلها القديم، فهي تتميَّز بالبساطة واعتمادها اللغة البلاغيَّة الغنيَّة بالتشبيهات والاستعارات، كما تعتمد الأسلوب الوصفي الدَّقيق، سواء من جهة الوصف الخارجي (كما ورد في وصف البطل الجسدي)، أو الوصف الدَّاخلي (كما ورد في وصف حالة الخوف والأحلام التي يراها إنكيدو وجلجامش).
وتبقى ملحمة جلجامش الملحمة التاريخيَّة الأولى وحافِظة تراث بلاد ما بين النَّهرين، مُستلهِمة أحداثها من ثقافة هذه المنطقة، وطبيعتها التي هي مصدر الإلهام الفنِّي للكاتب. وبهذه الملحمة، استخدم الكاتب أسلوباً خياليَّاً وبنى عليه الواقع في عمل فنِّي درامي مُتكامِل الحلقات.
الهوامش
( ) رياض، عبد الفتاح، «التكوين في الفنون التشكيلية»، دار النهضة العربية، الطبعة الأولى، مصر، القاهرة، 1986.
(2) كارتر، ديفيد، «النظرية الأدبية»، ترجمة د. باسل المسالمة، دار التكوين، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى، 2010.
(3) جراد، جورج، «النقد البيئي»، ترجمة عزيز صبحي جابر، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، الطبعة الأولى، 2009.
)4FirasSawah,”First Mind Adventure”, A Study in Myth, Syria, The Land of Two Rivers “Ard Al-Rafidayn”, ed. 11. Damascus, 1976.
)5( Philip Freund, “Myths of Creation”, W. H. Allen, London, 1964. Quoted inFirasSawah,”First Mind Adventure”.
)6( G. S. Kirk, “Greek Myths”, Pelican Book, 1977.
)7(FirasSawah,”First Mind Adventure”.
)8) Ibid.
)9(Ibid.
)10(Ibid.
)11(Ibid.
(12) باقر، طه، «ملحمة جلجامش»، ط 1.
(13) باقر، طه، «ملحمة جلجامش»، الطبعة الرابعة، الوراق، 2017.
(14) المصدر السابق.
(15)المصدر السابق.
(16) إحدى الآلهات الخالقات.
(17)باقر، طه، «ملحمة جلجامش»، الطبعة الرابعة، الوراق، 2017.
(18) المصدر السابق.
(19) المصدر السابق.
(20) المصدر السابق.
(21) أم جلجامش، الآلهة «ننسون».
(22) باقر، طه، «ملحمة جلجامش»، الطبعة الرابعة، الوراق، 2017.
(23) يختلف النُّقاد حول المكان الذي قَصَدَهُ البطلان في مغامرتهما، فمنهم مَنْ يقول إنَّهما قَصَدَا غابة الأرز في جبال لبنان، ومنهم مَنْ يقول إنَّهما قَصَدَا الأمانوس في شمال سورية، ومنهم مَنْ يقول إنَّهما قَصَدَا جبال طوروس، الملأى بغابات الأرز، فاقتضى التنويه.
(24) باقر، طه، «ملحمة جلجامش»، الطبعة الرابعة، الوراق، 2017.
(25) المصدر السابق.
(26) المصدر السابق.
(27) المصدر السابق.
(28) المصدر السابق.
(29) اسم بطل الطوفان البابلي الذي يحتمل أن يكون اسمه يعني بالبابلية: «الذي أدرك الحياة».
(30) باقر، طه، «ملحمة جلجامش»، الطبعة الرابعة، الوراق، 2017.
(31) المصدر السابق.
(32) المصدر السابق.
(33) المصدر السابق.
(34) المصدر السابق.
(35) المصدر السابق.
(36) المصدر السابق.
(37) المصدر السابق.
(38) المصدر السابق.
(39) المصدر السابق.