أذكر منذ سنوات عديدة دعتني صديقتي إلى بيت أهلها القريب في ساحة العباسيين في دمشق في استراحة قصيرة بين سلسلة مقابلات صحافية كنا نقوم بها.
لدى دخولي إلى بيت أهلها وجدت صليباً كبيراً معلقاً في صدر الصالة وعندها عرفت أن صديقتي مسيحية استقبلتني والدتها وعمتها ووالدها كما لو أنني جارتهم في المنزل المقابل وأعدّت القهوة مع أنواع من الحلويات الشهية كانت جدتي تحذرني من أن أتناول طعاماً عند أشخاص لا أعرفهم، خصوصاً إذا كانوا من ديانات أخرى ولكنني أعتقد أنها لم تكن على صواب في هذه النقطة. نحن في حقيقتنا إقصائيون ولكننا نتغنى بالتعايش. كل منا صنع سوراً حول ذاته وعاش في "غيتو" خاص. واعتبرنا كل ما هو مختلف عنّا الأقل مستوى والأقل جدارة بالثقة، وربما هذا الذي جعلنا دوماً نتعامل مع بعض بحذر من خلال انتمائنا الديني بدلاً من انتمائنا الإنساني. هذا الإنسان يشاطرني سوريتي بغض النظر عن انتمائه أو معتقده، فهذا أمر يقع خارج دائرة اهتمامي.
وعندما كنت في كنيسة مار جرجس في وادي العيون، كان هناك حفل عمادة لمجموعة من الأطفال. كان الأهل يحتفلون بفرح وفخر كبيرين ووزعوا الملبس والشوكولا على جميع الحاضرين ومنهم فريقنا الحصافي من دون أن يسألنا أهالي الأطفال عن ديانتنا التي عرفوها حتماً من خلال حجاب بعض المحرّرات.. وأخذ الأب المسؤول عن الدير يشرح لنا عن أجزاء الدير واصطحبنا إلى الكنيسة القديمة ليشرح لنا أن المسيحيين الأوائل كانوا يبتنون كنائسهم تحت الأرض في زمن الاضطهاد الروماني. وعند اقترابي من إحدى الأيقونات المعلقة، وجدت أنها من إبداع فنان من مدينة دمشق في داريا!
في سورية قبل قرون عديدة كانت توجد هذه الألفة والمحبة التي تدفع رجلاً مسلماً من داريا ليصنع كراسي الكنيسة وخشبياتها وإطارات لوحاتها! يقول المفكر السوري فراس السواح في كتابه "دين الإنسان" إن الرعشة البدائية التي تعتري الإنسان في دور العبادة مهما اختلف توجّه الإنسان ومهما كان المكان مسجداً او كنيسة او مكاناً آخر، وهذا ما أجده دوماً لدى دخولي مسجداً او مروري بكنيسة ورؤية أنوار المكان الهادئ المحاط غالباً بحديقة والذي يتمتع بنظام وسكينة ما دفعني يوماً لأطرق باب دير لأقول للراهب الذي فتح لي: أبونا لا أعرف لمَ طرقت الباب، لكنني وجدت في نفسي رغبة كبيرة لأفعل، فقال لي: لأنك تبحثين عن الله بغض النظر عن ديانتك، فهذه الأمور مجرد قشور، وتبقى الحقيقة الكبرى هو أننا جميعاً في قلب الله.
أذكر منذ سنوات عدة عندما زرت كنيسة صيدنايا مع بعض الصديقات أخرجت صديقتي مها من حقيبتها سجادة الصلاة وسألت الراهبة عن القبلة فدلّتها عليها وسط استغرابنا ودهشتنا، فقالت الراهبة، بكل بساطة: "أليس هذا بيت الرب؟ ألسنا ابناء الرب؟ فلتصلِّ كما اعتادت أن تخاطب الرب. ليست الطريقة هي المهمة وإنما ما انتوت في داخلها ان تفعل".
البعد الاجتماعي للعقائد
127
المقالة السابقة