حين كنت أشاهد الأستاذ مسعود البرزاني، رئيس إقليم كردستان العراقي، وهو يتحدث من واشنطن عن حتمية قيام دولة "كردستان المستقلة" حضرت في ذهني المقارنة الفوريّة بين هذا الخطاب المطابق للمشروع الإستعماري الصهيوني وبين تجربتيّ فيصل الأوّل وتجربة البطل القومي السوري الشهيد يوسف العظمة. تعززت قناعتي بأن الأستاذ البرزاني لم يستفد شيئاً من دروس التاريخ الحديث…الحديث جداً، أي التاريخ الراهن. التاريخ الآن، الذي نعيشه.
مرة جديدة، ينخدع من دَرّج الإستعمار الغربي على تسميتهم بـ"زعماء الأقليات في الشرق" بطروحات الغزاة المتوحشين، فيتعطل عقلهم ويستسلمون لغرائزهم فينقادون بشكل أعمى خلف مشاريع الغزاة المتوحشين ظناً منهم أنهم يستفيدون من اللحظة التاريخية للعبة الأمم ليحققوا انفصال "أقلياتهم" عن أوطانهم الأم فينكبون أوطانهم ويقودون أتباعهم إلى المسلخ الذي يُعده لهم الغزاة الوحوش. هكذا يتخيل لهؤلاء "الزعماء" أن في وسعهم الدخول في لعبة الأمم الجهنمية وتحقيق الانتصارات من خلالها والخروج منها سالمين.
وللتذكير، لا بد من الإشارة إلى أن مصطلح "الأقليات" هو فبركة من دوائر الاستعمار الأوروبية لا تستند إلى أي حقيقة مجتمعية علمية ناهيك عن كونها غير موجودة أساساً في قاموس تاريخنا الحضاري الغني جداً بالتنوع الثقافي والإثني. مصطلح أطلقه الاستعمار الغربي تحديداً لتمزيق مجتمعنا وتبرير التدخل في بلادنا والفتك بها. هذه هي حقيقة التاريخ الماضي والحاضر المستعمر.
ففي كل مرة زيّن هذا الاستعمار اللعين لمكون ما من مكونات مجتمعنا الغني بتنوعه الثقافي أن هذا المكون سيفوز بمكاسب إن هو انخرط في المشروع الاستعماري كان المصير بائساً، واستخدم الاستعمار هذا المكون كوقودٍ لتدمير بلادنا وكذب بالطبع على من يصدق الوعود. فالتقسيمات لم تشكل يوماً استقراراً وآمناً بل مآسي وحروب وخراب.
ماهي تجربة فيصل الأول؟
في السادس من شباط 1919، حضر فيصل على رأس وفدٍ سوري إلى مؤتمر الصلح الشهير المنعقد في مبنى وزارة الخارجية الفرنسية في باريس ظناً منه أن المبدأ رقم 12 من "مبادىء الرئيس ويلسون" والقائل بوجود تسهيل حصول الشعوب على استقلالها بعد انهيار السلطنة العثمانية. كان فيصل يظن أن الرئيس ويلسون الذي كان حاضراً في تلك الجلسة من مؤتمر الصلح سيتجاوب فوراً مع الطلب السوري ويضطر الفرنسيون والإنكليز على التسليم باستقلال سوريا. وإذا بالمفاجأة تقع، فيرد ويلسون على فيصل بقوله:"ياحضرة الأمير هل تقصد من طلبكم أنكم ترغبون في أن تنتدبكم دولة واحدة أم مجموعة من الدول!!!… ذُهل فيصل وصُفعت آماله وأحلامه وأدرك أن الوعود الصادرة عن الدول، ومنها المبادىء الجميلة للرئيس ويلسون، لا تُلزم إلا من ينخدع بها ويُصدقها. فكان ما كان وأتى الجنرال غورو وحطم فكرة الدولة السورية الناشئة.
أما تجربة البطل يوسف العظمة فهي أول من يُفترض بها أن تُلهم البرزاني وغير البرزاني. إن رمزنا القومي العظيم يوسف العظمة الذي استشهد من أجل استقلال سوريا وحريتها وحقها في تقرير مصيرها كان من الإثنية الكردية. ولو سُئل معظم السوريين، أبناء سوريا الطبيعية، هل يعلمون أن يوسف العظمة كان من الإثنية الكردية لوجدنا بأنهم لا يعرفون ذلك لأن هذا النوع من التصنيفات ليس من عاداتنا ولا من ثقافتنا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى كبير منظريّ القومية العربية ساطع الحصري الذي هو من الأثنية الكردية أيضاً، فيوسف العظمة، الذي كان يتقن اللغة الكردية إتقاناً كاملاً، لم يكن يفكر بالمنطق الأقلّوي الذي يريد له الاستعمار أن يحبس نفسه فيه. ويوم ميسلون العظيم هو الأساس في انطلاق الثورة على الاستعمار الفرنسي في العام 1925، فحتى هذا التاريخ يردد الأحرار الهتاف الشهير:
قُمْ من القبر لقد علمتنا يا صلاح الدين طرد الأجنبي
لم يفكر صلاح الدين تفكيراً أقلّوياً يوم قاد الملحمة الكبرى وطرد الغزاة الوحوش من بلادنا. ولم يقل أهل بلادنا يوماً أن صلاح الدين ليس رمزاً كبيراً لهم لمجرد أنه من الإثنية الكردية. ، فلا والله، لا الأستاذ البرزاني ولا غيره يحق له، أو يستطيع، أن يقطع العلاقة الوطنية والقومية التي تربطنا لا بصلاح الدين ولا بيوسف العظمة أو أن يمنعنا من أن ننشد:
ما خطونا خطوةً إلا ذكرنا ميسلونا وسمعنا من فلسطين نداء اسكندرونا
إن من أولى مواصفات القائد أن يتعلم الوطنية وأن يحفظ دروس التاريخ لا أن يقع في المطبات التاريخية ذاتها التي وقع بها غيره فيجلب لوطنه وأهله المآسي ويجعل من مؤيديه وقوداً في لعبة الأمم الجهنمية. من لا يتعلم من دروس التاريخ يؤذي نفسه ويؤذي من يلحق به.
الأستاذ البرزاني يكره العرب، وربما كان من حقه أن يكرههم. لكنه في السلوك، ياللمفارقة، يقتدي بالأعراب بدلاً من أن يقتدي بيوسف العظمة أو ساطع الحصري أو صلاح الدين.