يحتل الاقتصاد والمسائل المتعلقة به أهمية محورية في حياة الانسان والمجتمع، ويقع في رأس أولويات اهتمامات الحكومات والدول على مدى العالم، ذلك أن الشأن الاقتصادي شأنٌ لصيقٌ بحياة الانسان وبنوعية هذه الحياة ومستوياتها المختلفة ويحدد الى حد كبير مسار النمو والتطور الاقتصادي والاجتماعي وانعكاس هذا التطور على الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي وعلى غيرها من المستويات.
بالطبع، مفهوم الاقتصاد واسع وشامل وعميق، وله أبعاد مختلفة ومتنوعة ومتشعبة، وكلها ذات تأثير مباشر على حياة الانسان بتفاصيلها وآفاقها في الحاضر والمستقبل.
ويعتبر النشاط الاقتصادي أساسياً في حركة الانسان، فمن خلاله يسعى الى تأمين متطلبات عيشه التي أصبحت في عصرنا الحاضر متشعبة ومتفرعة، وتتعدى الحاجات الضرورية المادية واشباعها لتأمين استمرار الحياة، الى متطلبات تأمين واشباع الحاجات الروحية والنفسية المتأتية من اقتناء الأشياء المادية التي تضيف الى الانسان بعداً نفسياً هاماً يكون في كثيرٍ من الأحيان حاسماً في تحديد مستويات العيش والرفاهية على مستوى دولةٍ ما.
لذا ومع التطور العلمي والتقني والتكنولوجي، والتقدم الهائل الحاصل في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وبداية القرن الواحد والعشرين، ولاسيما على مستوى تقنيات التواصل بين البشر، وعلى مستوى وسائل المواصلات على أنواعها، وتصاعد فكرة العولمة مع فتح الأسواق العالمية على بعضها البعض، ويُسرانتقال الرساميل والاستثمارات النقالة حول العالم، وسهولة انتقال السلع والبضائع من دول المنشأ الى أسواق الاستهلاك، كل هذا التطور أعطى للاقتصاد ديناميات جديدة محِّركة ومحفِّزة للنمو الاقتصادي وانعكاساته المباشرة على قضايا النمو والتنمية في عالمنا المعاصر.
لذا وكي تسهل قدرتنا على مواكبة كل هذا المتغير على مستوى الاقتصاد العالمي وخصائصه الأساسية، كان لا بد من اعادة قراءة معمقة لهذا الاقتصاد على ضوء قواعد ومحددات واضحة ولا لبس فيها في الفكر القومي الاجتماعي، والتأسيس لرؤى اقتصادية تشكل الأساس النظري للبرامج والخطط الاقتصادية العملية التي من المفترض ان تشكل الاطار الواسع والرحب لمجمل حركتنا الاقتصادية حاضراً ومستقبلاً، سواء على مستوى الدول، أي تحديداً القطاعات الحكومية فيها، وكذلك على مستوى القطاعات الخاصة من مؤسسات وشركات وبنى وحتى أفراداً.
والاتجاه الذي يطبع السنوات الأخيرة على مستوى العالم كله، يتمثل في اعادة الاعتبار الى الدولة باعتبارها الموجِّه والمخَطِّط والقائد والمموِّل للعمليات الاقتصادية الرئيسية، والمقرِّر في تحديد قطاعات الاستثمار والانتاج وفق ما تمليه مصالح هذه الدول والشعوب، ولنا في تداعيات الأزمة المالية العالمية التي ضربت العالم واقتصادياته الكبرى منذ العام 2008 خيرُ دليل على عودة "الدولة" باعتبارها لاعباً اقتصادياً أساسياً وصاحبة الكلمة الفصل في القرارات الاقتصادية الكبرى.
ما هو مفهوم الاقتصاد القومي الاجتماعي؟ ما هي محدداته؟ ما هي اتجاهاته؟ ما هي أولوياته؟
هذه الأسئلة هي بالضبط ما حاولتُ الاجابة عنه في هذا البحث.
2- دور الاقتصاد الحاسم في تطور المجتمع
لم تصل المجتمعات الانسانية الى مستوى التطور الذي وصلت اليه اليوم الا في سياق متصل تطورات متلاحقة تاريخية ارتبطت بنقلات في أنماط المعيشة والحياة وأساليب الانتاج التي تم اعتمادها في تحصيل القوت والغذاء وفي تأمين كل الاحتياجات والمتطلبات النفسية والمادية للبشر.
وهذا التطور الحاصل في كل هذه المجالات ينتج عن حركة تفاعل الانسان بالبيئة التي قادها العقل البشري والتي أدت الى نمو قدراته الذهنية في عقل البيئة والمحيط والأشياء واستخدامها في تأمين حياته ومعيشته وتطوير نوعية هذه الحياة، التي تؤدي نتيجة التراكم المستمر والمتواصل الى تطوير بنية المجتمع وخصائصه وسماته وميزاته الاقتصادية والثقافية والاجتماعية وعلى كل المستويات.
في كتابه "نشوء الأمم" ص. 92 تحت عنوان "المجتمع السابق العمران وتطوره" يقول أنطون سعاده :" لا مشاحة في أن المجتمع العمراني، أو مجتمع السلالات العمرانية الأسيورية (الأسيوية الأوروبية)، لم ينشأ منذ البدء مع أول نشوء هذه السلالات الراقية، بل نشأ مع تطور جماعات هذه السلالات الى حين بلوغها الدرجة العمرانية التي هي درجة الزراعة والاقامة في الأرض"، أي أن تطور الجماعات الانسانية الى حين وصولها الدرجة العمرانية ما كان ليحدث لولا تطور متراكم لأنماط انتاج مختلفة وصولاً الى اعتماد نمط الانتاج الزراعي، أي بكلام أخر، الزراعة هي في أساس فكرة الاستقرار في المكان والتفاعل مع البيئة ونشوء العمران ومراكمة أسباب الحضارة الأخرى وما نشأ عنها من تطورات لاحقة في أنماط وأساليب عيش السكان.
نلاحظ اذاً مدى الترابط بين تطور المجتمع الانساني ونمط الانتاج الذي يعتمده هذا المجتمع في الحياة الاقتصادية التي يعيشها، والذي يجسد مستوى التطور العقلي والذهني ودوره وفعاليته في قيادة حركة الفعل الاقتصادي الانتاجي على مستوى المجتمع الانساني. وهذا ان دل على شيئ فانما يدل على رمزية وقيمة الانتاج وأنماطه في تطور المجتمع على الصعد الثقافية والسياسية والاجتماعية المختلفة.
ومرَّ في مكان أخر، قوله"ان الانسان هو الوحيد من بين جميع الكائنات الحية الذي أمكنه ايجاد علاقة تفاعلية مع الطبيعة، وخصوصاً مع بيئته. وما ذلك الا باجابته على مطالب البيئة بنمو الجهاز الذي أعطاه أن يعقل الطبيعة: الدماغ ".
اذاً الانتاج – بالمعنى الاقتصادي- وبما أنه حاصل هذا الاحتكاك بين الانسان والطبيعة والذي ارتقى في مراحل لاحقة من درجة الاحتكاك الى درجة التفاعل الحقيقي هو الذي يقود عملية تطور المجتمع الانساني ورفع مستوى امكاناته في تأمين الاحتياجات والمتطلبات الحياتية، ومدى استجابته لمطالب البيئة وتحدياتها، وهذا هو لب وجوهر علم الاقتصاد الحديث.
ان تتبع الثقافة الانسانية في ارتقائها يبدأ بحفظ الأعصر الثقافية التي رتبها علم الانسان وعلم طبقات الأرض، والعلاقة بين هذه الأعصر الثقافية وأدوات الانتاج وأنماطها واضحة ان لم نقل مترابطة بشكل يصعب الفصل بينها.
ان احتكاك الانسان الأول بالطبيعة أدى الى اكتشاف النار والى تناولها واستعمالها لأغراض متعددة، واستعمال النار هو الخطوة الفاصلة التي عينت للانسان السابق اتجاهه.
يقول سعاده (نفس المصدر- ص. 94) "وأهمية النار العظيمة لحياة الانسان وارتقائه هي في كونها عاملاً اقتصادياً كبير النتيجة حتى في ذلك العهد السحيق. فلا بد أنها خدمت الانسان السابق في صد السباع المفترسة عنه وفي الانارة ليلاً وفي تدفئته وشي لحم فرائسه فجذبته الى حرارتها وضوئها وأوجدت لذة في تجمع قطعانه حولها، وهي لذة مصحوبة بالاطمئنان. واللذة والاطمئنان وتوفير الجهد والتعب هي الضرورات التي يؤدي حصولها الى تولد الاحساسات النفسية الفردية والاجتماعية"… ويكمل :" لا شك في أن النار قوت الرابطة الاجتماعية في الانسان السابق ومهدت له كثيراً اظهار استعداده للارتقاء فساعدت كثيراً على نشوء النطق.. النطق وحده كفل تحويل الاكتشافات والاختبارات التطورية الأولية الى معارف اجتماعية وراثية (اجتماعياً). أعدت النار الانسان السابق لدخول العصر الحجري".
فنجد لاحقاً أن تاريخ الارتقاء البشري غير المكتوب يقسم الى قسمين عامين هما: العصر الحجري والعصر المعدني، وكل من هذين العصرين ينطوي على أجزائه الخاصة، فنرى أن العصر الحجري يشتمل على ثلاثة أجزاء : العصر الحجري القديم (السابق)- العصر الحجري المتوسط (اللاحق) – العصر الحجري الجديد أو المتأخر، ثم يدخل العصر المعدني مبتدئاً بالحقبة النحاسية ثم باسقاط هذه والابتداء بالحقبة البرونزية التي حل محلها أخيراً الحقبة الحديدية التي لا نزال فيها.
لاشك أن الزراعة هي أساس الثقافة العمرانية، حيث أنها جسدت التفاعل بين الانسان والبيئة التي عبر عنها بالاستقرار في الأرض والبيئة، وارتقاء علاقته بها الى درجة التفاعل الايجابي. بيد أن الزراعة مرت أيضاً بمراحل ومراتب تطورية ارتقائية فمن زراعة المعزق الى زراعة المحراث الى زراعة البستان وصولاً الى الانتاج التجاري، أطوار امتدت في الزمن لتشهد على تطور علاقات الانسان ببيئته وأرضه وصولاً الى العصور الحديثة.
يقول ويدال دلابلاش في كتابه "مبادئ الجغرافيا الانسانية" :" الزراعة كانت أسلوب العيش الوحيد الذي مكن الناس منذ البدء، من أن يحيوا معاً في مكان معين وأن يحشدوا فيه مقومات الحياة". ويزيد "ليس زارعاً الذي يحرق العشب وينثر مكانه بضع حفنات من البذور، ثم يرحل عن المكان، بل الذي يحصد الغلال ويخزنها هو الزارع".
اذاً، مع اعتماد الزراعة نمطاً للعيش، أصبحت الحاجة ملحة لأن يحيا الناس مع بعضهم البعض على أرض واحدة، ويتعاونوا على تأمين مستلزمات عيشهم ومتطلبات حياتهم المختلفة، وليساعدوا بعضهم بعضاً في حرث الأرض وزرعها وحصد الغلال وتخزينها ومن ثم توزيعها أو اجراء عمليات مقايضة أو مبادلة.
يقول سعاده في نفس المصدر (نشوء الأمم ص. 107 ): "لا يمكننا أن ندرس الثقافة ومراتبها وتتبع تطورها الا في سياق التفاعل، أي في تتبع أعمال الانسان على مسرح الطبيعة. والمقياس الذي نقيس به قيمة أية مرتبة ثقافية هو نسبة ما بين حصول أسباب العيش والعمل المبذول في هذا السبيل، لأن كل تطور في الحياة الاجتماعية وأنظمة الاجتماع لا يمكن أن يحدث الا ضمن نطاق هذه العلاقة".
ليخلص الى تقرير حقيقة أساسية مفادها أن النظام الاجتماعي برمته هو دائماً حاصل تفاعل الانسان والطبيعة أي بكلام أخر حاصل التطور في الانتاج كماً ونوعاً وطرائق وأنماط انتاج.
3- المجتمع العمراني
لاشك أن الزراعة هي أساس الثقافة العمرانية، حيث أنها جسدت التفاعل بين الانسان والبيئة التي عبر عنها بالاستقرار في الأرض والبيئة، وارتقاء علاقته بها الى درجة التفاعل الايجابي. بيد أن الزراعة مرت أيضاً بمراحل ومراتب تطورية ارتقائية فمن زراعة المعزق الى زراعة المحراث الى زراعة البستان وصولاً الى الانتاج التجاري، أطوار امتدت في الزمن لتشهد على تطور علاقات الانسان ببيئته وأرضه وصولاً الى العصور الحديثة.
يقول ويدال دلابلاش في كتابه "مبادئ الجغرافيا الانسانية" :" الزراعة كانت أسلوب العيش الوحيد الذي مكن الناس منذ البدء، من أن يحيوا معاً في مكان معين وأن يحشدوا فيه مقومات الحياة". ويزيد "ليس زارعاً الذي يحرق العشب وينثر مكانه بضع حفنات من البذور، ثم يرحل عن المكان، بل الذي يحصد الغلال ويخزنها هو الزارع".
اذاً، مع اعتماد الزراعة نمطاً للعيش، أصبحت الحاجة ملحة لأن يحيا الناس مع بعضهم البعض على أرض واحدة، ويتعاونوا على تأمين مستلزمات عيشهم ومتطلبات حياتهم المختلفة، وليساعدوا بعضهم بعضاً في حرث الأرض وزرعها وحصد الغلال وتخزينها ومن ثم توزيعها أو اجراء عمليات مقايضة أو مبادلة.
يقول سعاده في نفس المصدر (نشوء الأمم ص. 107 ): "لا يمكننا أن ندرس الثقافة ومراتبها وتتبع تطورها الا في سياق التفاعل، أي في تتبع أعمال الانسان على مسرح الطبيعة. والمقياس الذي نقيس به قيمة أية مرتبة ثقافية هو نسبة ما بين حصول أسباب العيش والعمل المبذول في هذا السبيل، لأن كل تطور في الحياة الاجتماعية وأنظمة الاجتماع لا يمكن أن يحدث الا ضمن نطاق هذه العلاقة".
ليخلص الى تقرير حقيقة أساسية مفادها أن النظام الاجتماعي برمته هو دائماً حاصل تفاعل الانسان والطبيعة أي بكلام أخر حاصل التطور في الانتاج كماً ونوعاً وطرائق وأنماط انتاج.
4- محورية الشأن الاقتصادي
التطور الاجتماعي يكون دائماً على نسبة التطور الاقتصادي، هذه حقيقة لا بد من أخذها بعين الاعتبار والبناء عليها، عند مقاربة المسألة الاجتماعية – الاقتصادية وتفرعاتها وأزماتها ومشكلاتها والتحديات التي تطرحها، فالمستوى الاقتصادي يحدد الى حد بعيد الكثير من الوضعيات الاجتماعية على مستوى المجتمع ككل، والتطور الاقتصادي يرتبط الى حد بعيد بأنماط الانتاج المعتمدة في انتاج السلع والخدمات التي تشبع حاجات السكان، هذا يعني أن الحديث عن أنماط الانتاج ليس مسألة هامشية بل هو لب الموضوع الاقتصادي، ومرتكز التطور والنمو الاقتصادي، لا بل أكثر من ذلك، تحدد أنماط الانتاج المعتمدة درجة التطور الثقافي – الاجتماعي لدولة ما، وتحدد الخصائص لأمة ما، أو لمجتمع ما.
(دولة زراعية، صناعية، تكنولوجية الى ما هنالك)
ان العامل الاقتصادي يشكل المرتكز الأساس للدورة الاقتصادية الاجتماعية – الحياتية التي تشترك فيها الجماعة البشرية على مدى بيئتها الطبيعية والتي تؤدي الى نشوء الأمة عبر عملية تفاعلية طويلة الأمد – مستمرة في التاريخ .
يقول أنطون سعاده في كتابه "نشوء الأمم" وفي معرض تعريفه للأمة : "الأمة جماعة من البشر تحيا حياة موحدة المصالح، موحدة المصير، موحدة العوامل النفسية – المادية في قطر معين يكسبها تفاعلها معه، في مجرى التطور، خصائص ومزايا تميزها عن غيرها من الجماعات" (6).
نشوء الأمة اذاً لم يتأسس على فراغ، بل هو وليد عملية تفاعلية في اتجاهين أساسيين: الاتجاه الأول- تفاعل الانسان مع البيئة، والاتجاه الثاني- تفاعل الانسان مع الانسان.
الاتجاه الأول له مدلول الانتاج لأن تفاعل الانسان مع البيئة له مضمون اقتصادي في الغالب(خاصةً ونحن نعرف أن 90 % من نشاط الانساني هو ذو طابع اقتصادي) بهدف تأمين الاحتياجات المعيشية المتطورة بمعزل عن شكل هذا التفاعل ان كان مباشراً أو غير مباشر، وهذا الاتجاه التفاعلي مع البيئة يكمن في جوهر فكرة الاستقرار في الأرض وانشاء العمران الذي بدأ تاريخياً مع اعتماد النمط الانتاجي الزراعي.
الاتجاه الثاني (أي تفاعل الانسان مع الانسان ) له مدلول الدورة الاجتماعية الاقتصادية – الحياتية التي تمتد لتشمل كل الجماعات الانسانية على مدى البيئة الطبيعية كلها أي ضمن ما يسميه سعادة "المتحد الأتم" أي البيئة الجغرافية الطبيعية التي تقدم للانسان كل امكانات التطور والارتقاء والتقدم.
وفي مكان أخر يقول سعاده في معرض تعريفه للأمة: "الأمة أساس مادي يقوم عليه بناء روحي" – أي أن الأساس المادي يشكل مرتكزاً للبناء الروحي للأمة، فالاقتصاد والدورة الاقتصادية والانتاج كلها تؤسس لوحدة الحياة، ووحدة الحياة لا تقوم خارج وحدة المصالح الاقتصادية – الحياتية، ووحدة المصالح تؤسس لوحدة المصير، ووحدة المصير تؤسس للشعور بالانتماء، وهذا الشعور يعتبر أساساً في بناء الهوية بمكوناتها الثقافية والاجتماعية .
اذاً العامل الاقتصادي بأبعاده المختلفة من العوامل الأساسية التي تساهم في نشوء الأمة وبنائها وتطورها، لذا فهو مكون اساسي من مكونات الأمة نشوءاً وارتقاءاً.
اذاً، للاقتصاد مدلولان، مدلول الدورة الاجتماعية الاقتصادية التي هي وحدة الحياة الناشئة عن تفاعل الجماعة البشرية مع البيئة الطبيعية، وهذا شأن قومي بمعنى أنه يشمل أبناء البيئة الطبيعية القومية الواحدة بمجرد تشابكهم في الحياة الواحدة على الأرض الواحدة، أياً كان النظام الاجتماعي الاقتصادي فالروابط التي تربط لبنان بالشام وتربط الشام بالأردن، وتربط العراق بالأردن والأردن بفلسطين ولبنان، هذه الروابط هي روابط قائمة بحد ذاتها وتتأسس على التفاعل الحياتي – اليومي الاقتصادي – الاجتماعي عبر حركة السكان والبضائع بين هذه المناطق في البيئة الطبيعية والجغرافية الواحدة، هذه الروابط هي روابط حياتية أوجدتها الحياة نفسها، وتطورت هذه الروابط عبر الزمن لتأخذ أشكالاً مختلفة ومتعددة، ولكنها عبرت دوماً عن حقيقة وحدة الحياة ووحدة المصالح المتأتية عنها.
لا يهم وفق هذا المدلول شكل النظام الاقتصادي أو الاجتماعي المهيمن سواء أكان رأسمالياً أو اشتراكياً أو غيره، هذا المدلول يرتكز على القاعدة القومية للاقتصاد والانتاج والاستهلاك.
أما المدلول الأخر فهو مدلول النظام الاقتصادي أي علاقات الانتاج وأشكال هذه العلاقات ومضامينها وأبعادها.
لقد أوجد أنطون سعاده مفهوماً جديداً للاقتصاد والتنمية بعد أن فشل النظام الرأسمالي في حل مشاكل المجتمع لا بل أدى الى تشنجات ومشاكل جديدة بهذا المعنى، وهذا المفهوم الجديد الذي أرساه يرتكز على الغاء التناقض (بعد الثورة الصناعية وادخال الآلة) بين جماعية الانتاج وفردية الرأسمال. فالنظام الرأسمالي هو نظام الهدر بامتياز بمعنى ان الطاقة تهدر لمصلحة قلة، ولا يستفيد منها المجموع. على هذا الأساس، وصّف سعاده الثورة الصناعية في نشوء الأمم، واعتبر أنها وضعت الاقتصاد على أساس جديد ولكنه سيئ لأنها اتجهت نحو اقتصاد الجماعة باعتبار الآلة تستقطب مجموعة كبيرة من العمال لم يكن الاقتصاد الحرفي السابق يستقطبهم بينما المستفيد من هذا الاقتصاد الجماعي هم أفراد قلة، فحصل التناقض الأساسي بطبيعة النظام الرأسمالي بعد تصنيفه.
وبهذا المعنى، اعتبر سعاده أن الاقتصاد الرأسمالي يخضع لمصالح الدول الكبرى التي تملك الصناعات الأكبر والرساميل الأكبر لذلك اتجه هذا الاقتصاد الى نمط من الطفيلية والانتهازية المعرقلة للانماء والتنمية على المستوى الوطني والقومي.
يعني يتجه الاقتصاد الرأسمالي وما بعد الرأسمالي في عصر ما يسمى العولمة وفتح الأسواق الى ابقاء الدول النامية أو المتخلفة في حلقة سوقه ويمنع التصنيع الثقيل فيها ويمنع التقدم الصناعي فيها ويبقيها كسوق استيراد للسلع الصناعية التي ينتجها.
لذا لا بد أن ترتكز التنمية الصحيحة على بناء اقتصاد وطني أي اقتصاد قومي، وهذا يقضي بالتحرر من شبكة العلاقات الرأسمالية الدولية التي ترتبط بالنظام الرأسمالي المحلي، واقامة شبكة انتاجية – اقتصادية على كامل البيئة الطبيعية – الجغرافية تحقق المناعة الاقتصادية الحقيقية والاكتفاء الذاتي ويتم ربطها لاحقاً وعلى قاعدة المصالح القومية وتأمينها بشبكة علاقات اقتصادية على المستوى الاقليمي وبعدها الدولي.
5- ما هو البديل الذي تقدمه الرؤية القومية الاجتماعية في الشأن الاقتصادي
في المحاضرة الثامنة من كتاب "المحاضرات العشر" نص واضح لسعاده جاء فيه: "ان الانتاج المشترك هو حق عام لا حق خاص، والرأسمال الذي هو ضمان استمرار الانتاج وزيادته هو، بالتالي، ملك قومي عام مبدئياً وان كان الأفراد يقومون على تصريف شؤونه بصفة مؤتمنين عليه وعلى تسخيره للانتاج" ، وفي مكان أخر:" ما من عمل أو انتاج في المجتمع الا وهو عمل أو انتاج مشترك أو تعاوني" .
لقد أرسى سعاده القاعدة – الأساس بأن المجتمع هو المالك الأساس للانتاج ولوسائله ولأدواته واستطراداً لحاصل الانتاج الذي هو رأس المال، وهذا نقض للمفهوم الرأسمالي من جذوره الذي يعتبر الانتاج حقاً خاصاً. اذاً، القاعدة هي أن الرأسمال ملك قومي عام مبدئياً، يجوز للمجتمع أن يجعل الأفراد يتصرفون به بالقيمومة في مرحلة ولكن القاعدة تبقى بأنه ملك عام بمعنى أن تصرف الأفراد في كل العلاقات الرأسمالية حتى المحدودة منها هي استثناء للقاعدة يمكن الغاؤه في أية لحظة، يعني تأكيد على اجتماعية الرأسمال وقوميته، ورفض لفرديته.
ويضيف في توصيف مأزق الرأسمالية والنظرة الفردية الاقتصادية: " من هذه الناحية نحن نسير نحو نظام جديد لا نهرب فيه من الآلة بل نتقدم اليها، لا نعد الآلة مصيبة للبشرية و لا مستعبدة للناس بل نعمة للبشرية ومحررة للناس. ولكن بعض الناس الذين استعملوا الآلة الحديثة رأوا أن يستعبدوا الناس الذين لم يكن لهم ما يمكنهم من الحيازة على الآلات الضخمة الحديثة. ان سوء الحالة الاقتصادية ليس من الآلة بل من النظام السيئ تنميه النظرة الفردية اللامسؤولة عن المصير القومي في استخدام الآلة الحديثة". ويؤكد:" نهضتنا تريد أن تضع حداً لهذا الاستعباد ولأصحاب الرساميل الفردية الذين يستعبدون بواسطتها الناس".
اذاً، النظرة القيمية في طرح المسائل أساسية لأنها المرتكز لمعالجة أي شأن، بما فيه المسائل الاقتصادية الاجتماعية. وبالتالي، فالنظرة الأخلاقية التي تقود العملية الانتاجية – الاقتصادية هي المعيار الذي يتم الحكم على أساسه بصلاح الاجراءات وصدقيتها ومدى شمولها بالخير العام أوسع شرائح ممكنة في المجتمع القومي، وعندما تتأسس "العملية الاقتصادية" على هذا الأساس الأخلاقي الانساني، تصبح الآلة نعمة وخيراً وراحةً وتحريراً للعمال، وعلى العكس، اذا كان العقل الفردي الأناني هو الذي يحكم الآلة، عندها تتحول وبالاً وشراً واستعباداً للبشرية.
اذاً، اعتبر سعاده أن تملك بعض الناس للآلة الحديثة كان طريقهم لمحاولة استعباد الذين لا يملكون هذه الآلة.
أي أن الملكية الفردية المطلقة، والغير خاضعة لضوابط المصلحة العامة تؤدي الى استغلال واستعباد وخلل في توزيع الموارد والثروات والى انتفاء المساواة والعدالة الاجتماعية، وهذا يؤدي الى اختلالات بنيوية سياسية واجتماعية خطيرة.
وما ينطبق على العلاقات داخل المجتمع الواحد ينطبق الى درجة كبيرة على واقع العلاقات بين الدول والأمم، ولعل واقع العالم المعاصر في العقد الأول من الألفية الثالثة، هو واقع مأساوي بكل المقاييس، حيث النظرة الفردية اللا أخلاقية واللا انسانية أدت الى اختلالات كبيرة تهدد بمآسي وكوارث وحروب وأحقاد وصراعات لا متناهية لن يكون فيها منتصر وستكون عنوان النهاية لهذا العالم الحزين والموبوء.
وما عالم العولمة "البعيد عن الانسانية" وطبيعة العلاقات التي تقوده الا الدليل الدامغ على عمق المخاطر التي تتهدد السلام والأمن والاستقرار على المستوى العالمي الكبير.
في مرحلة سابقة، تمت التعمية على هذه الحقائق المتصلة بحياة الناس ومصالح حياتهم العليا، وتم التطبيل والتزمير لظاهرات "فتح الأسواق"، و "العولمة" و "تحرير التجارة العالمية" و"تحرير الاستثمارات"، ورفع شعار تحول العالم الى "قرية كونية واحدة"، ولكن، غاب عن بال كل هؤلاء السؤال الأساسي: هل تقدم موقع الانسان ومكانته وسط كل هذه الظاهرات؟ هل احترم الانسان كقيمة؟ هل تأمنت مصالح الأوساط الشعبية في بلدانها وأوطانها ومجتمعاتها؟ هل تحققت العدالة النسبية في توزيع الموارد الطبيعية والاقتصادية على مستوى كل الشعوب والأمم؟ هل راعت كل هذه العلاقات الجديدة الناشئة معايير المساواة والحق الانساني في الاستفادة المتوازنة من البيئة وما تقدمه من امكانيات؟ هل تقدم مفهوم "التنمية المستدامة"؟ هذا الشعار الذي يتم حمله اليوم والسعي الى تسويقه دون الأخذ بعين الاعتبار الشروط الحقيقية التي تؤدي الى تحقيقه؟
ما هي هذه القرية الكونية الموعودة؟ وهل تطبق فيها أخلاقيات "القرية الصغيرة" في التعاون والانتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك بما يحفظ حقوق كل سكان هذه القرية؟ انها أسئلة جدية تطرح في ظل واقع يكشف عن خلل أساسي كبير أدى الى أزمات حقيقية والى تصدع بنيان اقتصادات وطنية في كل القارات، والى أزمة مالية عالمية نشهد تداعياها الخطيرة، والى تراجع للنمو الاقتصادي العالمي، والى احتكارات كبيرة، والى قبض قلة من الدول على خيرات المسكونة والعالم وعلى ثرواته الطبيعية والاستراتيجية، والى تفشي ظاهرة الفقر والبطالة في الاقتصادات الضعيفة والنامية وحتى في الدول القوية صناعياً وانتاجياً.
ان مفهوم "الشركة العابرة للقوميات" يحمل في طياته مضمون الظلم وانتفاء العدالة وعدم المساواة، وخلل في موازين القوى الاقتصادية وغيرها، وكل هذه الاستثمارات العالمية التي تحط رحالها في أصقاع الأرض ليست مقطوعة الجذور القومية، فالعائدات الاستثمارية تعود غالباً الى القاعدة الاستثمارية الأصلية، فيما لا يصيب الأطراف أو الأماكن التي تقيم هذه الاستثمارات فيها مكانياً الا الفقر والنهب المنظم والسرقة الموصوفة خارج أية ضوابط في القانون المحلي أو الدولي أو الأممي أو حتى الانساني!
هذه الاستثمارات "النقالة" تنهب الأمم والشعوب وتزيد الهوة السحيقة بين الأمم والشعوب، فيما المستفيد الحقيقي هو قلة من محتكرين وقلة من جشعين مستغلين في المراكز والأطراف، وهذا واقع وجب تغييره.
ونحن نلج في العقد الثاني من الألفية الثالثة، نجد أنفسنا في بلادنا أمام ثلاث حالات اقتصادية واقعية:
1- سيطرة "الرأسمالية الدولية المتوحشة" على مجتمعنا.
2- سيطرة الاقطاع القديم الجديد على حيازاتنا الزراعية.
3- سيطرة أصحاب الرساميل الفردية، ورموز سلطة المال على كل القطاعات الانتاجية في الدولة.
القومية الاجتماعية اذاً – في المسألة الاقتصادية – هي تطبيق الاجتماعية على الاقتصاد. الاجتماعية في شمولها والاجتماعية في انبثاقها من القاعدة القومية. لذا فان الخط الاقتصادي العام تم رسمه في النظرة الاستراتيجية القومية الاجتماعية، أما الأنماط الانتاجية، والعلاقات المتفرعة عنها، وأنماط الملكية وغيرها، دور القطاع العام، دور القطاع الخاص، الخصخصة، التأميم، الشراكة بين القطاعين الخاص والعام، كلها مسائل تخضع لظروف التطور الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع أو الدولة المعنية، وهذه الظروف والبيئة الاقتصادية المصاحبة هي التي تملي اجراءات اقتصادية معينة كالتأميم أو الخصخصة أو غيرها من المسائل الاجرائية أو التوجهات العملية، وقد أثبتت تطورات السنوات القليلة الماضية،وخاصةً في أعقاب الأزمة المالية العالمية، والاجراءات التي اتخذتها حكومات ودول مختلفة في هذا العالم، أنه لا شيئ مطلق في الاقتصاد، كما في كل مناحي حياة المجتمعات الانسانية، وكل القضايا تصبح نسبية على اطلاقها، وتتم مقاربتها وفق الظروف والبيئة والواقع. وما الاجراءات الحمائية التي اتخذتها دول ترفع لواء "الحرية الاقتصادية" و "الرأسمالية" و "الاقتصاد الحر" ( كشراء حصص في مصارف وبنوك ، أو تأميم شركات خاصة، أو دخول الدولة شريكاً في الانتاج، وغيرها …)الا دليل على أن القاعدة الأساس تتجسد في مقولة " أن مصلحة الأمة أو المجتمع هي الأساس"، أما التطبيقات والآليات فتخضع دائماً للنسبية، فزمن النظريات الاقتصادية المعلبة قد ولى الى غير رجعة.
أما الحقيقة الثانية المهمة تكمن في ارتباط الاقتصاد بمصالح الأمم وبمرحلة التطور القومي وهذا أكدته كل التجارب الاقتصادية من أقصى اليسار الى أقصى اليمين، وكل هذه التجارب كان معيار نجاحها مدى ملاءمتها أو مساكنتها أو تجانسها مع الواقع القومي.
الخلاصة، ان المناهج الاقتصادية خاضعة دائماً للتبديل والتعديل حسب مصلحة المجتمع في كل مرحلة من مراحل تطوره الاقتصادي الاجتماعي شرط أن ترتكز هذه المناهج العملية على القواعد الأساسية التي هي اجتماعية مطلقة منافية للفردية بأشكالها المختلفة.
6- اقتصاد المعرفة: مقاربة قومية اجتماعية
ثمة اقرار ان المعرفة بوجوهها المختلفة والمتعددة هي مفتاح القوة في مواجهة التحديات التي تعرض في الواقع الحياتي – الاجتماعي بأبعاده السياسية والثقافية والاقتصادية وعلى كل المستويات.
فمن يمتلك المعرفة والعلوم والتقنيات يستطيع أن يفرض معادلات جديدة في الواقع القومي والانساني العام، فالمعرفة تؤسس وتضيف قدرات وامكانات هائلة، اذا أحسن توظيفها، واستعمالها، ستؤدي حتماً الى مزيد من الخير العام والرفاهية والبحبوحة والازدهار على كل المستويات.
لأنطون سعاده قول مأثور :"المجتمع معرفة والمعرفة قوة" ، وهو يعبر تعبيراً صارخاً على اهمية امتلاك المعرفة والعلم وامتلاك أدوات المعرفة وعلومها وتقنياتها في معارك الحياة وعلى دروبها الوعرة والصعبة.
فمن يمتلك تقنيات زمانه هو الذي يفرض سيطرته، على الزمان والمكان، ويطبع العصر بطابعه وميزته، ويفرض قيمه ومفاهيمه ومثله العليا، وهذه المعادلة هي التي قادت البشرية منذ عصورها الأولى، وهي ما تزال تحكم عالمنا المعاصر.
بيد أن الاشكالية التي تفرض ذاتها في هذا المضمار تتمثل في الربط الدقيق والضروري بين الذهنية التي تحمل هذا "الكنز المعرفي" والمثل والقيم التي تقود هذه الذهنية، فالمعرفة الملتصقة بمنظومة القيم التي تؤمن بالانسان باعتباره قيمة اجتماعية، والتي تؤمن بالمجتمع باعتباره الحقيقة الانسانية الكبرى، هي المعرفة التي تغني المجتمع والانسان وتدفع به الى معارج دروب الترقي والنهوض والتنمية الحقيقية، والازدهار ونشر العدالة الاجتماعية والحقوقية، والعدل الاقتصادي – الاجتماعي الانساني الذي يشكل المرتكز لاستقرار المجتمع القومي، ولارساء قواعد راسخة من التعاون وتضافر الجهود الانسانية على مستوى العالم.
لذا، فان "المعرفة" هي اللبنة التي تتأسس عليها ليس فقط حركة الاقتصاد، بل كل حركة المجتمع بكليته وهي الأساس للتطور والتنمية في مجالاتها المختلفة.
أردت في هذا البحث حول "اقتصاد المعرفة" أن أنطلق من مقولة أساسية ارتكز عليها سعاده كرافعة وقاطرة للنهضة القومية الاجتماعية ككل، وهي مقولة "ان العقل هو الشرع الأعلى في المجتمع"، وكل اشكاليات الواقع الاجتماعي تقارب على قاعدة هذا العقل، الذي وجد ليعقل، ليفكر، ليفعل، وكل منظومة المعرفة "الانسانية" هي نتاج هذا الفعل "العقلي"، وهي ثمرة هذا "العقل" وما قدمه من اجابات منذ القدم.
و"الاقتصاد" ليس حالة خاصة أو شاذة بهذا المعنى، فكل حركة ونشاط الانسان الاقتصادية يعقلها العقل ويطورها العقل، ويهذبها العقل، وينميها العقل، ويصوغها العقل. والمعرفة – بهذا المعنى – هي نتاج هذا العقل وحاصل تفاعله مع البيئة المحيطة بالمعنى الاجتماعي وبالمعنى الطبيعي – الجغرافي.
فالمعرفة وثيقة الصلة بالاقتصاد، لأن الاقتصاد نفسه وثيق الصلة بالمجتمع الانساني القومي، وهو يحتل مرتبة عالية في منظومة الفكر القومي الاجتماعي، وهو –في معنى من المعاني – يدخل في أساس نشوء الأمة والمجتمع القومي، فالتفاعل بين الانسان والانسان، والتفاعل بين الانسان والبيئة، عاملان أساسيان في نشوء الأمة ذاتها، وفي كلتا الحالتين "التفاعل" له طابع اقتصادي غالب، فالنشاط الانساني التفاعلي بين الجماعات داخل البيئة الجغرافية الواحدة مسببه اقتصادي – حياتي – معيشي، وكذا احتكاك الانسان ببيئته، وارتقاء هذا الاحتكاك الى مرتبة التفاعل بالعقل، أي بعقل الأشياء والظاهرات هو ذو طابع انتاجي – اقتصادي غالب، وبالتالي، المعرفة الانسانية الناتجة عن فعل "العقل " هي التي قادت وتقود مسيرة النمو والتنمية والترقي الاقتصادي – الاجتماعي للجماعات الانسانية التي سكنت الأرض وتفاعلت معها وتبنت فكرة الاستقرار في المكان، وأسست للعمران بمظاهره المختلفة، وصولاً الى تكوين "الهوية القومية الاجتماعية " الانسانية المتلونة بتلاوين التفاعلات التي أسست لتبلورها وصيرورتها.
لذا، عندما نقارب موضوع "اقتصاد المعرفة" – فنحن لا نتحدث عن تغير في المفهوم والتعريف، أي تعريف "الاقتصاد" ومفهومه، بل المقصود هو التغير في القيمة وحجم الدور الذي تلعبه "المعرفة" بوجوهها المختلفة في العملية الاقتصادية بمراحلها المختلفة، لدرجة تحولت "المعرفة" – بهذا المعنى – من عنصر مساعد في التطور الاقتصادي – الانتاجي الى عنصر أساسي من عناصر الانتاج.
وهنا، يبرز دور التطور التقني – العلمي والتكنولوجي وعلاقته بالمعرفة والمعلومات التي يتم توظيفها في الحركة الاقتصادية من مرحلة الانتاج الى مراحل الاستهلاك.
خاتمة
العقل اذاً هو البداية، فالعقل المتفاعل مع المحيط، هو مصدر المعرفة، والمعرفة المعبر عنها بمجموعة المعارف والمعلومات والعلوم والآليات والتقنيات والأدوات والوسائل هي التي تعطي الانسان – العقل القوة الأساسية، وهذه المعرفة هي تقود وترافق الاقتصاد من مرحلة الانتاج، انتاج الثروة والحصول عليها من مصادرها الأولى الى مرحلة الاستهلاك الجماهيري الأخير.
المراجع
1- كتاب "نشوء الأمم" – أنطون سعاده
2- التاريخ الاقتصادي للبلدان الأجنبية (عصر الرأسمالية). بوليانسكي – موسكو، 1961.
3- التنمية والتخطيط الاقتصادي – دار النهضة العربية، بيروت 1972.
4- مبادئ الجغرافيا الانسانية" ويدال دلابلاش.
5- محاولة في ايضاح قواعد "الاقتصاد القومي الاجتماعي"- انعام رعد.
6- " المحاضرات العشر" – أنطون سعاده.