تواجه الأمم الحية تحديات تاريخية تضعها أمام استحقاق البقاء أو الفناء، فلا يكون لها مفر من المواجهة إذا قررت الكفاح لإثبات ذاتيتها أو الانكفاء إذا عطلت إرادتها وتركت الأحداث تفرض تداعياتها عليها وتجرجر قراراتها في ردات فعل مرتجلة.
وعادة ما تفرض هذه التحديات متغيرات حاسمة أو ضئيلة، حسب الموضوع الذي تتناوله، لكن التحديات الوطنية أو القومية بطبيعتها خطيرة جداً لأنها تتصل بمستقبلنا ومصيرنا كشعب عانى ويعاني الكثير من التمزق والتفكك حتى انه بات على قارعة التاريخ تتجاذبه عوامل الانحلال والهجرة، ذلك ان أمراضنا وآلامنا ومصيرنا تذكرني بتلك المقولة النبوءة التي قالها يوماً انطون سعاده في احدى كتاباته: "إن آلاماً عظيمة لم يسبق لها مثيل تنتظر كل ذي نفسٍ كبيرة فينا، اذ انه على الواحد منا أن يسير وحيداً فحسب بل عليه أن يشير بلا عزاء ولا أمل ذلك أن حياتنا الاجتماعية فاسدة".
وشكلت المتغيرات التاريخية منذ حوالى الف عام نسقاً تناوبت فرص التقدم والنهوض أو ظروف الإنكفاء او التراجع، فعلى الأقل منذ بدء الفتح العربي تحت راية الإسلام دخل عامل جديد أسهم باختلاط عوامل عدة جعلت هويتنا في حالة تشوش تحتاج لجهد إضافي لتعزيزها وحفظها. فعامل الدين وحجم التدخل الديمغرافي وكثرة الأقوام وفسيفسائها وقومياتها التي جعلتنا كشعب مزيج تجمع "فيه من كل لسن وأمة فلا يفهم الحداث إلا التراجم".
وزادت الإرادات الخارجية من اتفاقيات ووعود تحت صيغة يعد من لا يملك لمن لا يستحق، من وعد بلفور واتفايات سايكس بيكو وسان ريمو ولوزان وسيفر، التي تعاملت مع أمتنا كجثة هامدة لا حياة فيها ولا إرادة لها، حتى غدت الاحداث الخطيرة التي تمر الآن في امتنا وفي عالمنا العربي من مشرقه ومغرب تأكيداً على أن صراعنا هو صراع وجود كما قال الأمين الراحل إنعام رعد ووجودنا هذا مهّدد اليوم كون قوى الشر في العالم قد تمكنّت من تحريك عللنا وامراضنا وجعلتنا نتخبط في مواجهة مصيرنا، اذ اننا نتمزق ونتفتت في قتال داخلي يقضي بمفاعيله ونتائجه على وجودنا كأرض وشعب.
هي صورة قائمة ولا شك غير أنها بعينها: فالعراق يواجه حالة من الاقتتال الداخلي تحركّه الخيوط الاميركية ومن معها من سفاحين ومجرمين وقتلة طمعاً بخيراته وموارده.
والشام تتعرض اليوم لابشع حالات الاقتتال الداخلي تأتيها المصائب والضربات من داخلها ومن أقرب المقربين اليها ومن جيرانها، تحركهم جميعاً قوى الشر المنّظم والمجهز بأحدث وسائل القتل والدمار بفتك في جسد هذا التعب العظيم ليجعل منه طوائف ومذاهب وقبائل تتقاتل لنفي بعضها بعضاً.
الحرب علينا اليوم لا تفاجئ المحلل المدقق وليست صدفة عابرة انما هي نتيجة مخطط رهيب رُسمت خيوطها منذ عشرات السنين بل يمكنني أن أقول منذ مئات السنين وشعبنا لاهٍ عن مصيره لا يعرف ماذا يُخطط له. ولا أعود الى ما قبل العثمانيين بل إنطلاقاً من وجودهم عندنا كمحتّلين ومتحكمين في حياتنا ومصيرنا طوال أربع مائة عام ونيّف وقد زرعوا فينا خلال وجودهم الكثير من الأمراض الاجتماعية فتفرق شعبنا وتمزق واصبحت الانقسامات الطائفية والمذهبية مدار حياتنا والهجرة مخرجنا الوحيد للخلاص من هذا الظلم وهذا التحكم البربري الذي ما ندر وجوده خلال التاريخ:
وجاء الغرب منتصراً على العثمانيين بعد الحرب الكونية الاولى يعمل بأساليب جديدة ومدروسة وضعتها بدقة المخططات الصهيونية انما كان اعتماده ولم يزل على العلل والأمراض الموروثة من العهود العثمانية فتتحول الى طوائف ومذاهب وعائلات إقطاعية تتحكم في مصيره، إذ مهّد لها العثمانيون كل ما تحتاجه لتقسيم أمتنا وفق أهوائها ومصالحها؛ فاذا بسايكس بيكو يجعل منا كيانات طائفية ومذهبية مبنية على التركة العثمانية التي كانت حاصل الاقتتال الداخلي والفساد في الادارة والتحكم من قبل رجال الدين واهل الاقطاع من افراد وعائلات كانوا قد تخرجوا من مدارس الغرب ومستعدون للخضوع الكامل الى خططه ومصالحه.
ولم تتمكن قوى الوعي من مفكرين ومثقفين كانوا قد ظهروا في مصر هرباً من اضطهاد الاتراك أو اللذين تمكنوا من الوصول الى أوروبا والاميركيين امثال جبران ونعيمة والريحاني وغيرهم وغيرهم من مواجهة الاستعمار الغربي الجديد الذي تمكّن من خلق وتربية مدرسة فكرية وسياسية فاقدة الثقة بنفسها وبوطنها مستسلمة لمخططات الغرب واهدافه في تحقيق مصالحه والهيمنة على موارد هذه المنطقة وكانت رائحة الذهب الأسود "البترول" بدأت تفوح وكانت اميركا قد تنبهت لهذه المتغيرات الخطيرة بعد زوال الهيمنة العثمانية وعقدت شركاتها منذ ذلك الوقت الاتفاقات البترولية وتكرست بين روزفلت وعبد العزيز؛ وتبعتها الشركات الأوروبية تتنازع على ما تبقى من مناطق بترولية فكانت الامارات وكانت الكويت وأصبح منذ ذلك الحين يتحكم الذهب الأسود في مصير هذه المنطقة ووراء كل هذا العقل الصهيوني المبني على الاجرام الذي كان اسلوبه الوحيد لتحقيق احلامه المريضة والسيطرة على منطقتنا من خلال قواه الاقتصادية وتحكمه في القرار الاوروبي والاميركي هادفاً الى بناء دولته في عقر دارنا وغايتها الهيمنة الكاملة على المشرق العربي برمته جاعلة منه دويلات هزيلة تعيش فيها البيّد طوائف ومذاهب وتجّار مرتزقة لا هم لهم إلا تكديس الثروات والخضوع الكامل لاسيادهم الجدد.
وكما تكونّت فكرة الانقاذ والمواجهة المدروسة في عقل أحد أبناء هذه الأمة ووضع لها الخطة البديلة لهذا الموروثت العظيم والفاشل فتنبهت هذه العقول المجرمة من صهاينة ومستعمرين ومواطنين وسياسيين اصابهم مرض الخضوع للمخططات المجرمة الطامعة بارضنا وخيراتنا وعملت على قتله بالطريقة التي أصبحت معروفة عند كل واعٍ من امتنا المعذبة.
والآن اذ نعود بعد هذا العرض الرابع الى واقعنا اليوم نجد أننا أمام مرحلة خطيرة جداً وهي تصعيد الخطط الجهنمية بأحدث وسائل العصر من اساليب الدمار والفتك والاقتتال الداخلي وتحريك الغرائز والموروث من حروب الطوائف والمذاهب لتأتي على وجودنا وكانت أولى تجاربها في لبنان فتحول الناس الى ذئاب كاسرة مهمتها القتل والدمار من ضمن تنظيمات دربتها واهلتها اسرائيل لتكون نموذجاً حاضراً للاقتداء به ونقله الى دول المنطقة المحيطة بلبنان فأن الادوات ذاتها والخطوط نفسها والمنظمات المجرمة المبنية على الامراض الموروثة حاضرة للعمل في العراق ثم في الشام: ستنقلها قوى الاجرام التي تمرست في لبنان وتتحكم بها وفق اساليب عصرية جديدة من الدمار والقتل والفتك بنسيج الحياة وتبديد الوجود فيما وسائل الاختراعات الحديثة التي رأيناها سابقاً في لبنان وبعده بدأت تنتقل الى العراق واليوم تحط رحالها في الشام لعلها تحقق مبتغاها التاريخي بالسيطرة الكاملة على الارض والانسان للتحكم بمصيرنا وتحويلنا الى شعب بلا أمل ولا إرادة فنصبح كحجارة تحركها الخيوط المجرمة لتنفيذ خطط القتل والدمار والاقتتال المذهبي والديني وبهذا يعود الانسان وفق خططها الى حالة من الاستسلام وفقدان الأمل والوسائل المتوفرة في هذا العصر كفيلة بتحقيق هذه الخطط الاجرامية التي وضعتها العقول المريضة التي تحلم بالسيطرة على الكون!
بهذه الصور الحقيقية اردت ان اتوجه الى شعبنا لمناسبة ما يسمى الاستقلال لهذا العام، وهو اليوم يعاني المأساة الشكسبيرية الشهيرة "نكون أو لا نكون".
أن وعينا وحده لما يجري عندنا اليوم في لبنان والشام والعراق والأردن وفلسطين يمكن أن ينقذنا من مخطط السيطرة الكاملة على مقدراتنا وما الظلم اللاحق بنا إلا الظلم الآتي من ذوي القربى ماضياً وحاضراً ومستقبلاً . وظلم ذوي القربي أشد فظاعة على المرء من وقع الحسام المهنّد.
الاستقلال.. “نكون أو لا نكون”
139
المقالة السابقة