لا تتوسل هذه المقالة تظهير الخصومة المألوفة بين السلطة ونقّادها. ولا قصدُها أيضاً، توصيف ما بين الحاكم والمحكوم من اختصام قيل فيه وحوله مما يصعب حصره، وما تستحيل به الإحاطة.
سوف نقرأ صورة تلك العلاقة الغامضة والملتبسة والرمادية بين السلطة وأخصامها. العلاقة التي تقترب في رمزيتها تلك التي تسود عوالم الجن، حيث كل ما في عوالم كهذه رهن الانسحار والخشية والمفاجأة واللاّشعور وغرابة الأطوار…
لندخل إذن في المعاينة…
ليس في الاجتماع السياسي ما هو أشد إغواءً للجدل من اختبار العلاقة المشوبة بالغموض بين المحكوم والحاكم. فهي علاقة مملوءة بمفارقات شتى. من وجه تقوم على القطيعة، والإقصاء، والتنابذ، ومن وجه ثانٍ على الوصل والاعتراف والتقريب. إنها علاقة واضحة ومحتجبة في آن، وإنها بسيطة ومركبة؛ وهي في غاية السهولة لكنها ممتنعة في الوقت عينه على من يريد أن يدخل عالمها من غير استئذان. ولكي يُسمحَ لك بأن تأخذ مسراكَ في ذلك العالم المكتظِّ بالحَيْرة، فلا مناص لك من الأخذ بسلطان ما، وأن تعدَّ لنفسك ما تستطيع من متاع المخاطرة
سيكون عليك التهيّؤ لخوض المخاطرة، حتى وأنت تتصرف بصفة كونك مراقباً للمشهد. فالمسافة التي خُيّل إليك، أنها ستنأى بك من تشظيّات الاحتدام، ليست إلا مرتبة من مراتب العلاقة، وجزءاً من المساحة غير المتناهية من المشهد الجامع للحاكمين والمحكومين. إنه المشهد نفسه الذي يؤلِّفُ المجتمعَ ويشكِّلُه ويعيدُ إنشاءه. فالمجتمع بحسب الفلسفة السياسية للحداثة، هو آلة ضخمة لإنتاج الرغبات. وأخطر هذه الرغبات على الإطلاق هي الرغبة في الحكم، الرغبة في السلطة، وفي الخضوع لها معاً. المجتمع هو الذي ينتج الرغبة في حب السلطة ذاتها. فإذا كانت هناك سلطة فاعلم أن وراءها راغباً بها. هناك من يحب ويرغب أن يتسلط، وهناك من يحب ويرغب أن يُتسلط عليه. إن هذا التوصيف سيجد مصاديقه الواقعية في السَّيْريّات الصاعدة للمجتمعات الغربية في خلال السبعينيات من القرن العشرين. وسنرى ذلك في ما يبيِّنه المفكر الفرنسي، وأحد أشهر أساتذة الفلسفة في بلاده آنذاك إميل شارتييه Emile Chartier، المعروف باسمه المستعار (آلان Alain). يقول: «كل دبلوماسي يرغب في مشاريعه، وكل مدير شرطة يرغب في النظام، وكل موظف يرغب في توسيع حقه في المراقبة وتعزيز امتيازاته. وبما أنهم كلهم يتواطأون من أجل ذلك، فإنها تتشكل مباشرة دولة حاكمة لها قواعدها، ومناهجها، وتحكم من أجل عظمتها الخاصة. وباختصار – يضيف آلان – أن الاستعمال المبالغ فيه للسلطة هو نتاج طبيعي للسلطة نفسها
Alain: Elements d’une doctrine radicale «3ème édit. Nrf Gallimard 1925 P.124. وهكذا فإن الرغبة في السلطة هي التي تستولد السلطة إيّاها. ذلك على النحو الذي تنجلي فيها الصورة ليظهر لنا أن السلطة تروح تأكل أبناءها بلا رحمة.
ولأنها كذلك، تسمو السلطة على التصنيف والتحيّز ضمن دائرة العلاقة بين المحكومين والحاكمين. فالعلاقة بحد نفسها سلطة، لأنها نطاق خصيب لظهور القوى. وعلى هذه الدلالة تصبح السلطة هي حاصل فعل اللقاء بين ندّين متوازيين. ولعل استعادة أطروحة هوبز عن السلطة بوصفها الكائن الأسطوري الذي يحاول الاستحواذ على كل شيء، إنما هي استعادة يجري توظيفها عند هذا المعنى للسلطة. ذلك أن هذه الأخيرة ليست هي النظام السياسي القائم فقط، بل هي كل قوة لا يراقبها العقل. إنها – بحسب إعادة التفسير الفلسفي لأطروحة هوبز حول مفهوم اللوفياطان (Leviatnan) – ذات معنى أوسع من ذلك الذي أعطاه له هوبز. لذلك سنرى آلان (Alain) يعرِّف هذا النوع من السلطة على أنه: ليس جميلاً ولا حكيماً. إنه الجمعية. هو المكتب والرئيس. هو الرأي المشترك الذي ليس هو رأي شخص بعينه والذي هو لا شيء. إنه الإحصاء، والنظام، والانضباط. إنه تقليد الكل للكل. إنه روح القيادة والطاعة العقيمة. إنه العلاقة الخارجية التي تحوِّل الناس إلى أشياء. السلطة بهذا المعنى الهوبزي المعدَّل هي الرقيب الأعلى. وباختصار هي كل ما يقمع الفرد ويقهره اجتماعياً، وسياسياً، هي الدولة والجماهير معاً. الجماهير التي تصنع الدولة عن طريق إضفاء طابع القدسية عليها.
(محمد الشيخ – المثقف والسلطة – دراسة في الفكر الفلسفي الفرنسي المعاصر – دار الطليعة 1991 – تقديم سالم يفوت – ص 28)
التقابل سر كل شيء
المسألة إذن، هي في سر التقابل بين رغبتين لا تتم الواحدة منها إلا بالأخرى. ثمة شغف يدفع المحكومين نحو الحاكمين ضمن سَيْريَّة معقّدة، ومتداخلة، ومتناقضة. تارة تنبسط على السمع والطاعة، وطوراً على الرفض والكراهية، وثالثة على تواطؤ مسبوق بوعي المبادئ والغايات. كأن تفترض العلاقة عند لحظة ما من الحراك العام أن يستشعر كل من طرفي التقابل خطر الفناء والاضمحلال.
ما سرّ التقابل ليكون هذا سرّ كل شيء في اللعبة؟
كان ميلان كونديرا يقول وهو يمضي في توصيف الظاهرة البشرية في روايته المعروفة «المزحة»: الإنسان كائن يسعى للوصول إلى نوع من التوازن: «لذلك نراه يوازن ثقل السوء الذي يرهق كاهله بوزن الحقد الذي يحمله…».
ليس يبدو ما هو أبلغ من هذا التوصيف، حتى نخاطر في تمرين جديد من الكلمات حول علاقة المحكومين بالحاكمين. فلسوف يظهر لنا في سياق تلك المخاطرة أن الصلة التي تجمع وتفرِّق قد تشابهت علينا. ولقد بتنا على حيرة في ما إذا كنا سنعرف نقاط الاتصال والانفصال في اللحظات المناسبة. حتى إذا عاينّا أحوال السلطة ونقَّادها، تكشَّف لنا ضربٌ من الشبهة، غالباً ما يفضي الاستغراق فيه إلى الغفلة، فيكون من نتيجة ذلك الفوضى واللاّيقين وصولاً ربما إلى انفجار النظام العام.
وإذاً، سوف يفترض التقابل بين الحاكم والمحكوم توازناً ما. إذ إنه ككل تقابل يقوم في الأصل على ما توجبه علاقة التبادل. فلا مسافة تؤدي إلى القطيعة إلاّ استعمال كل منهما للقوة العمياء التي بين يديه. وعندئذ سوف تنطلق سَيْرية أفعال متقابلة متناظرة لا حدود لها. لكن وظيفة التوازن المفترض هو إرساء منطق اللعبة وقوانينها. ومن قبل أن يبدأ الكلام عن ميزان القوة وآليات النـزاع ومآلاته، ثمة شعور قبلي متبادل يشي باحتياج كل منهما للآخر. والحاجة هنا هي حاجة إيجادية. وهي قبل كل ذلك، وجودية تكوينية. وتتعلق كذلك بالشرعية. إذ لا تشعر السلطة الحاكمة بحضورها وفاعليتها ما لم تكن على يقين من أن ثمة من يشاطرها الحضور ويشاركها فيه، ولو على سبيل المنافسة والمنازعة والاستبدال. الحال نفسه بالنسبة إلى المحكومين ولا سيما منهم جمهور الإنتليجنسيا الماكثة على الطرف الآخر، ترى، وتسمع، وتلاحظ، وتنقد، وتتطلع إلى نبأ سعيد. هذه الشريحة من المحكومين لن تجد نفسها، وبالتالي هويتها ولا تتحقَّق لها شرعيتها، حتى يتراءى لها الخصيم اللدود وجهاً لوجه. كل علاقة بين من يُفترض بهما أن يكوّنا مجتمعاً واحداً مكتملاً هي علاقة شرطية، لا استغناء لأحد عن أحد. حتى ليبدو الأمر كما لو أنه «الاقتران اللامتناهي» بين ضدّين. إلا أنه اقتران محكوم بـ «سيريّات» متصلة من القطيعة والوصل والالتحام. على هذه السيريّات سترسو قواعد اللعبة، وفي كل حال سنرى كيف أن »الاقتران اللامتناهي» سيَلِدُ متناهيات، تتمظهر عموماً على شكل سلوكيات وممارسات، من التنابذ، والتجاذب، والمكر والمنافقة، والكرّ والفرّ، وكذلك على تحرِّيات من المساعي المحمومة للإقصاء المتبادل.
ومهما كان مستوى التجريد الذي يتسامى بتلك العلاقة، فسيؤول الاحتكاك إلى كشف سرّ ما. إذ في اللحظة التي تصبح العلاقة ضمن إطار، أي في اللحظة التي تنتقل فيها العلاقة السلطة ونقَّادها إلى حيّز اللعبة سوف تأخذ المضمرات بالظهور. وسواء جرت الوقائع بطريقة الإقصاء العنيف أو بالتمثيل الطوعي، فستنتهي إلى توليد قوانينها وأنماط عملها الخاص. ثم إلى جلاء منطقة ملتبسة يمكث فيها قُطبا الثنائية في مكان يكاد يكون أبدياً.
استئناف التعريف
ما السلطة بوصفها مرآة الحاكم، ما الجمهور الذي يقف على الضفة الأخرى بوصفه مرآة المحكوم؟ وهل ثمة سياق ينتظم التوتر بينهما ليجعل سر العلاقة محمولاً على الإدراك والكشف؟..
ستبدو مهمة الإجابة مثقلة بأعباء يصعب حصرها. ولا سيما أن طرفي التعلق يظهران ككائنين غير مستقلين تماماً عن رباطهما المشترك. بل هما يتظاهران على أرض واحدة، وضمن حقل واحد، لكن على ساحة مشوبة بضباب كثيف. من هذه المساحة وبفعل الحرب الباردة حيناً، الساخنة حيناً آخر، ستنطلق سَيْرية لا منتهى لها من مركبات العشق والكراهية، كأنما قدر قضى برحلة ضاجَّة بالحراك والاعتراك، حتى ليغدو ذلك علة اليقين، ومصدر الأمان للفاعلين في تلك الحروب المفتوحة.
فسيكون من نتيجة ذلك دفع سأم الحاكم، وقتل ضجر المحكوم. فإذا كان مستحيلاً على السيد أن يكون حراً ما دام يحكم بشروط بقائه وسيادته، كذلك سيكون تواضع المحكومين ضرورياً من أجل الإبقاء على الانتظام الاجتماعي كما تقول مدام سافنيني. وربما بسبب من هذه الضرورة من «التوازن الإيجابي» ذهب جان جينيه في «الشرفة» إلى هذه المعادلة: «يتوجب عليك أن تكون لصاً نموذجياً إذا كان عليّ أن أكون قاضياً مثالياً. في حين لو كنت لصاً مزيفاً فإنني أصبح قاضياً مزيفاً…».
إن الدائرة التي تحتوي هذه الجدالية من الرغبات الاستجابية المتبادلة، ضرورية لنشوء، وتدرج، ونمو، وارتقاء منطق اللعبة. سوف تجد السلطة الحاكمة بالمثقف المندرج ضمن مقام طليعي في عالم المحكومين، علة وجودها. كذلك سيجد هذا المثقف بها جدوى حضوره على الخط الآخر الموازي لها. كأن على الثنائي أولاً، أن يرتضي مبدأ القبول بالآخر لكي يتسنى لكل من قطبي الثنائية ممارسة النفي والإقصاء والمخاطرة. عندما ترغب السلطة غزوه، عبر تفكيك أبنيته لأجل إنتاجه من جديد وفقاً لمصالحها سوف يبدأ الوجه الأول للعبة. وفي موازاة هذه الرغبة تتشكل ملامح الضفة الأخرى للفتنة ليتكوّن الوجه الآخر، وتكتمل شروط الالتقاء والتنابذ وعناصرهما الدرامية.
لنرَ كيف بدت الصورة التي نحن في الحقيقة جزء منها:
إننا الآن في جسد اللعبة. في تلك المنطقة المفتونة بإغواءات القوة، حيث كل قوة هي في علاقة مع قوى أخرى، إما لتطيع، وإما لتأمر. هكذا يبيِّن المفكر الفرنسي جيل دولوز ثم يضيف: «إن ما يحدد جسداً هو هذه العلاقة بين القوة المهيمنة والقوى الخاضعة. كل توازن قوى يشكل جسداً كيميائياً، بيولوجياً، اجتماعياً، سياسياً. إن قوتين معيَّنتين غير متساويتين تشكلان جسداً بمجرد دخولهما في علاقة: لذلك، فالجسد هو دائماً ثمرة الصدفة، بالمعنى النيتشوي الخالص. وهو يظهر كأنه الشيء الأكثر «إدهاشاً»، الأكثر إدهاشاً بكثير، في الحقيقة من الوعي والروح. غير أن الصدفة وهي علاقة القوة بالقوة – كما يريد دولوز – هي أيضاً جوهر القوة، لذا لا يجوز التساؤل عن كيفية ولادة جسد حي، لأن كل جسد هو حي بصفته نتاجاً «اعتباطياً» للقوة التي تكونه. الجسد هو ظاهرة متعددة، لكونه مكوناً من تعدد قوى يتعذر تقليله ووحدته بالتالي، هي وحدة ظاهرة متعددة، «وحدة هيمنة» وتسمى القوى العليا أو المهيمنة في جسد معين قوىً فاعلة، أما القوى السفلى أو الخاضعة فهي قوى ارتكاسية. الفاعل والارتكاسي هما بالتحديد الصفتان الأصليتان اللتان تعبران عن علاقة القوة بالقوة. لأن القوى التي تدخل في علاقة لا يكون لها كمية من دون أن يكون لكل منها في الوقت ذاته النوعية التي تقابل الاختلاف الكمي كاختلاف كمي بينها»…
لنقل إن اكتمال وحدة النقيضين (السلطة الفاعلة – المثقف الفعّال) يتوقف على انوجاد قوة كل منهما في حقل الاختبار والمعاينة. بهذا سيكون للسلطة قوة نسميها سلطان السلطة. وللمثقف (المثقف هنا كضمير الجماعة) أيضاً سلطته التي ستنشأ منذ اللحظة الأولى التي يبتدئ فيها بكشف واستباحة ما يتوارى خلف القول المعلن لسلطة الحاكمين. إن هذه السيريّة المنطقية تبدو وكأنها مرسومة على أرض القضاء والقدر. وعلى أي وجه وحال، فمن الواضح – كما يلاحظ عالم الاجتماع الأميركي – جيمس سكوت – أن أي فريق حاكم سوف ينتهي به الأمر إلى جعل نفسه ضعيفاً أمام أي خط خاص من خطوط النقد، فيما هو يحاول أن يبرر مبادئ التفاوت الاجتماعي التي يؤسس عليها مزاعم حقه في السلطة. وبمقدار ما تأتي مبادئ التفاوت لكي تزعم بشكل لا مفر منه، بأن الشريحة الحاكمة تقوم بمهمة اجتماعية ذات قيمة – يعرض أفراد هذه الشرعية أنفسهم للهجوم بسبب إخفاقهم في أداء تلك الوظائف بشكل كاف أو نزيه. إن الأسس التي ينبني عليها الزعم بالحق في الامتيازات أو السلطة، هي التي تخلق الأرضية التي ستقوم عليها الانتقادات الموجهة ناحية فعل السيطرة، وذلك بناء على القواعد التي كانت النخبة هي التي سبق لها أن حددتها.
إن النقد، أو ما نسميه بـ«كشف ما يستتر وراء القول الظاهر»، هو الملمح البدئي لتأليف قدرة مضارعة للقوة الحاكمة. إنه على التعيين، السلاح الذي تلتجئ إليه تلك الشريحة من المحكومين بإزاء سلطة المجتمع السياسي الحاكم. إن سلاح النقد، بما هو مشروع سلطة ضاغطة سيكون له الأثر الحاسم في تشكيل النـزاع اللاحق بين المثقف والسلطة. وبحسب دولوز متمثلاً فيلسوفه فوكو – إن القوى السفلى أي القوى المحكومة – لا تكف عندما تمارس طاعة السلطة الحاكمة، عن أن تكون قوى، متميزة عن تلك التي تأمرها. الطاعة – بهذا المعنى – هي ميزة القوة بما هي قوة. وهي متعلقة بمقدار ما يتعلق فعل الأمر بها: «لا قوة تستسلم لقدرتها الخاصة. وكما أن وجود الإمرة يفترض وجود تنازل، فإن القوة المطلقة لدى الخصم يُفترض ألا تكون مقهورة، مذوَّبة، محلولة. الأمر والطاعة هما شكلا المباراة الاثنان». ضمن هذه الحلبة بالذات تدور دوائر اللعبة، وغالباً ما تتنوع النتائج بتنوع أشكال التصادم، وطبائعه، وشروطه، وقواه التي تحركه، وتبتعثه من جديد. تارة يرث المحكوم السلطة بعدما يقصي سلطانها ويشل فعالياتها فيتحول إذ ذاك هو نفسه إلى سلطة ذات مواصفات وأحوال مختلفة. وطوراً تروح السلطة تلتهمه بعد أن تحتويه، بترهيبها، وترغيبها، فينضوي تحت لوائها، طائعاً لأهوائها، أو داعياً (إيديولوجياً) لقواها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمالية. وثالثاً قد تأخذه نوازعه إلى الاعتراض همساً، علّ يوماً يأتي فيعتلي المثقف نواصي الشوارع والساحات رافعاً صوته للملأ: الآن، الآن قيامتنا، فلتسقط السلطة.
لغة الرحم الحار
كل ما يختلج في حقول التبادل بين السلطة ونقّادها يرمي إلى بسط القوة. فلسوف ينتهي الأمر إلى سلطة لا محالة. وقبل هذا بمسافة تكون أعصاب الحركة قد استجمعت قواها لتودِعَها وعاء الغاية القصوى. إن كل ذلك سوف يجري داخل ما يشبه الرحم الحار. ولو رأينا إلى الصورة لوجدنا أن القوة الإخضاعية (السياسة غالباً وأساساً) تنبري إلى إخضاع الضفة المقابلة لها حتى حين تتعايش وإياها داخل المجال المشترك الذي أسميناه الرحم الحار. وستظل العلاقة متوازية متكافئة في ذلك المجال من دون أن تكون استتباعية كما قد يظن. وفي حين تؤكد القوى الفاعلة الإخضاعية اختلافها، وتجعل من هذا الاختلاف مادة للمتعة، فإن القوى (المُخْضَعَة) حتى وهي في حالة خضوع، تروح تستنبت عوامل القدرة، وتحاصر القوة الفاعلة، وتفرض عليها تحديدات وقيوداً جزئية، على حد تأويل دولوز وفوكو
بديهي أن أحداً سيسأل: إلى أين ستنتهي مخاضات الرحم الحار، ما الذي ستكشفه طبائع السلطة والنخبة ضمن دوائر التناقض والالتحام والتوحد؟
تبين المدرسة التفكيكية الغربية بأن السلطة هي علاقة قوى. بل هي على التخصيص «علاقة سلطة». وإن السلطة ليست شكلاً كشكل الدولة، وليست علاقة بين شكلين كالمعرفة. وإن القوة ليست على الإطلاق، قوة مفردة، بل إن من سماتها الجوهرية أنها ترتبط بقوى أخرى، وإن كانت كل قوة هي أصلاً علاقة، أي سلطة. ليست للقوة أي موضوع آخر، أو ذات أخرى، سوى القوة. لا ينبغي اعتبار هذا التعريف على أنه يتضمن عودة إلى القانون الطبيعي، ذلك أن «الحق يعد شكل تعبير، بينما الطبيعة تعتبر شكل رؤية، والعنف ملازم للقوة أو نتيجة تترتب عنها وليس عنصراً مكوناً لها».
إن الرهان هنا على التصعيد والتوتر. فكلما اتجهت علاقة القوى بين السلطة ونقَّادها نحو التصعيد ظهرت احتمالات الفعالية. وأمكن للاجتماعين الديني والسياسي أن يغادرا موتهما المؤجل.
قيمة التصعيد أنه يفضي إلى افتضاح ما يضمره كل طرف من طرفي الثنائية. وهنا تكمن أيضاً حيوية التوتر داخل ثنائية ما برح طرفاها على تهيؤ دائم لمعاينة الآخر. إما للتماهي معه أو لإقصائه في حالات التصعيد القصوى. وإذاً، ففي جميع مناطق الاتصال، والتماس، والتنافر، والتماهي تتشكل دينامية يمكن أن تسهم بنسبة ما تختزنه من حيوية، في كشف الحقائق المحجوبة، وفي استقراء ما هو كامن ومخفي في ثنايا العمليات المجتمعية.
في الفلسفة السياسية الحديثة، الأوروبية على التخصيص، منحت الاجتهادات مقولة النخبة والسلطة أبعاداً أكثر عمقاً. مع فوكو مثلاً، بدأت مغامرة جديدة. مغامرة سوف لن تقتصر على التساؤل حول وضعية المثقف بل بداية الإعلان عن وفاته. يميز فوكو بين المثقف «الكوني» والمثقف «المتخصص»، فالمثقف الكوني يعتبر نفسه مالك الحقيقة والعدالة: «أن يكون المرء مثقفاً، معناه أن يكون ضمير الجميع وممثل الكل». أما اليوم فالمثقف المتخصص مثقف في حدود معينة، في نقط دقيقة ومجالات محدودة. إنه لا يكون مثقفاً إلا في مجالات اختصاصية، في ظروف عمله وشروط حياته.
إن موت المثقف التقليدي – بحسب فوكو – هو انهيار لنظرية التمثل: «إن ما اكتشفه المثقفون منذ الرجَّة الحديثة، هو أن الجماهير لم تعد تحتاج إليهم لمعرفة واقعها. إنها تعرف ذلك تماماً وبوضوح وبشكل أحسن منهم، وتقوله بشكل أحسن، لكن يوجد نظام من السلطة يسد ويمنع ويقلل من قيمة هذا الخطاب وهذه المعرفة. سلطة لا توجد فقط في الأوامر العليا للرقابة ولكن تتجذر بعمق ودقة في كل شبكة المجتمع. والمثقفون أنفسهم يشكلون جزءاً من نظام السلطة هذا، وفكرتهم القائلة بكونهم أدوات «الوعي» والخطاب تشكل أيضاً جزءاً من هذا النظام. لم يصبح دور المثقف إذاً هو أخذ مكان «أمامي وجانبي» لكي يقول الحقيقة الصامتة للمجتمع، ولكن قبل ذلك أن يصارع ضد أشكال السلطة في المكان الذي يشكل فيه موضوعها وأدواتها في الوقت نفسه: في نظام «المعرفة»، في نظام «الحقيقة»، في نظام الوعي والخطاب.
تراجيديا القطع والوصل
على رغم كل أطروحات الحداثة التي اجتهدت لتعيين سياقات معرفية في جداليات النخبة والسلطة تبقى هذه الثنائية مفتوحة على الاجتهادات نظراً لخصوصيتها الشديدة الحساسية.
وغالباً ما تظهر صورة الإشكالية بطريقة في غاية المرونة والتبدل الدائم. وعلى نار خفيفة، يقوم الوصل بين النخبة الناقدة والسلطة. حتى إذا اشتدَّ الغليان، انفك الوصل لتنفجر الثنائية، في إطار سيرية لولبية تراكمية تتدخل فيها مجمل بناءات المجتمع، حيث يمتزج السياسي بالثقافي، الاجتماعي بالاقتصادي، مع ما تزخر فيه تلك البناءات من مؤثرات في الوجدان العام. في الوعي وفي اللاوعي…
غير أن الثنائية لا تلبث بعد انفجارها، حتى تستعيد رتقها على خط آخر، يختلف عن الذي سبقه، ثم ينهض سياق تبنى عليه، ثنائية جديدة محكومة هي الأخرى، «بقوانين» الوصل والقطع والانفجار، حين أن ما يربط ثنائية «النخبة/ السلطة» هو القانون نفسه. وفي كل الأحيان بدا أن ثمة منطقاً داخلياً يقوم على ما يشبه التناقض في إطار الوحدة. أي وحدة قسرية تنظم العلاقة وتحافظ على ذلك الزواج الدهري بينهما. إنها ثنائية الولاء والاعتراض، التماهي والاختلاف، الانتماء واللاانتماء، التصالح والكراهية. وكل هذا يتجلى في السياسة والاجتماع مثلما يتجلى في الأدب والفن وصنوف الإبداع كافة.
كما لو أن الحالين (حال النخبة وحال السلطة) محكومتان بنسبة علاقة. تعيشان تناقضاً دائرياً يتجدد باستمرار، من دون أن يؤدي الطلاق الجزئي إلى انفصال نهائي. على نحو يبقي العلاقة ضمن دائرة إلزامية من التعايش. لكنه تعايش على أرض الوجوب والضرورة. فالسلطة تستولد المثقف. والمثقف يستولد السلطة، وفق آليات التحول الاجتماعي والصراع المستديم. إن ذلك ما يستحيل تصوره على أساس من سياق واضح وآلي. وإنما وفق سيرورة عمياء يلفُّها الضباب من كل جانب، بحيث لا يفقه المثقف الناقد مآل السلطة ولا السلطة مآل هذا الأخير. إلا إذا انكشف بعد حين، الحصاد الأليم المكتظ بالمفاجأة.
وسيتبين أن المفاجأة طور آخر من التوتر والهدوء واللاّيقين، يظل المثقف الناقد على طوره: إما ولائياً للسلطة وإما عدائياً حيالها، وتظل السلطة إما نافية له وإما حاوية، علاقة لا نهاية لها، تتراوح بين الحميمية والاختصام. ما دام المجتمع على درجة معينة من الحيوية والتوتر. ويدوم المشهد على شكل لعبة درامية بانورامية: الأعين شاخصة حيناً، وحيناً جاحظة. تتناوب الجزر والمد، الدفاع والهجوم، الانكفاء والتحفز. عين الناقد على السلطة، وعين السلطة على الناقد. سيكون بينهما اجتماع حذر، اضطراري، بين الـ «مع» والـ «ضد» ويتبدى المشهد كما لو أنه شريعة محتومة لتاريخ ينبغي أن يستكمل لحظاته وأحقابه. يشعر المثقفون معه، مثل السلطة، كأنهم يقتلون الضجر وهم يمارسون لعبة المناوشة، التي عادة ما تراوح بين السخرية والمأساة.
وحالئذ يتبين أن لا جدوى من كل المساءلات الرومانسية التي تريد أن ترفع الوئام بين المثقف والسلطة إلى مقام التقديس. بينما المشهد يتواصل بعناد لتكتمل لعبة الشقاء الممتع. وحتى لا يحل السأم مطارح الأشقياء.
لا مجال إذاً لإبطال مفاهيم اللعبة. فالمسألة تكف عن كونها مسألة أخلاقية تنهض على حسن النيات. ذلك أن الانطواء على الأخلاق. لتأويل مسألية المثقف والسلطة، هو في خلاصته، كما يرى كاستورياريس المفكر اليوناني، ليس إلا حلاً زائفاً مستنسخاً من تجربة التوتاليتارية. ليست هناك أخلاق تقف عند حدود الحياة الفردية. فبمجرد أن توضع المسألة الاجتماعية والسياسية، فإن الأخلاق تصبح متصلة بالسياسة.
سوف تبدو العلاقة بهذا المعنى، مأزقية. ولا سيما بالنسبة إلى المثقف الخارج من دوائر السلطة وعليها. غير أنه يجب على المثقف في حال كهذه، أن يتعود على القبول بمأزقه، كما يصرح برنارد هنري ليفي. أن يقبل المأزق كما لو أنه قدر لا مناص من تحديه ومواجهته. كأن يكون التحدي والمواجهة قناعة ذهنية في الابتداء قبل أن يتحول إلى فاعلية ضمن سيرورة تدريجية من النقد إلى الممانعة، فالانفجار.
في وجوب تشاؤم الفكر
وربما على المثقف أيضاً، كشرط أساس للتحدي، أن يوافق إدغار موران حين صرح سنة 1962: «أن دور المثقف اليوم هو أن يعلن أنه لا يوجد نبأ سعيد». ويضيف: «ألا يتوقع من السلطة، حتى لو لأنعمت عليه بما لديها من الديمقراطية، مستقبلاً مضيئاً. ولسوف يبدو التشاؤم نقطة الابتداء في سبل النبأ السعيد. على الأخص بالنسبة إلى أولئك الذين ابتلوا بمحنة نقد الظواهر وتفكيكها. ذلك أن الوجود «السعيد» كما يقول سارتر ينبت على الضفة الأخرى من اليأس.
إن المثقف، وهو يقف أمام الجدار المخيف الذي ترفعه السلطة في وجه المستقبل، لا يسعه إلا إطلاق أشرعة الشك نحو مداها الأخير. والشك هو عين التشاؤم. وبها يحرز المثقف واحداً من أخطر أبعاده التي يفتقدها أثناء علاقته المأزقية بالسلطة. لكن أن يبتدئ المثقف بيقين أن معرفته ستبقى حتماً أسيرة هوى السلطة واستلابيتها، ومقيدة بإيديولوجيتها، ما لم تتعد هذين الهوى والاستلاب وذلك القيد.
إن فقه الذات الناقدة يدخل في أصل فقه ذات السلطة. ومن هذا المقام ينبغي أن يستهل المثقف حل إشكالية الصلة المعقدة مع السلطة التي تجتاحه وتحتويه. المثقف في ما هو ناقد اجتماعي صارم في شكه. والسلطة في ما هي مالكة للزمن السياسي الاجتماعي والثقافي، وفي ما هي قابضة على مجتمع قهر وقمع، حتى إذا شاء ذلك السلطوي الكامن في كهفه تعيين ماهيته وهويته فتح الباب لحل الإشكال. فالبديهي أن يعرف ماذا يريد ومن أين يبدأ. ثم أن يفقه مبدأ السلطة ووظيفتها الأصلية.
(الفأرة والزنبق): تتعدد الأحوال التي تمارس فيها السلطة سلطانها على المثقف داخل المجتمع، وهذا التعدد سيولد الحيرة التي هي في أصل الإشكالية بين الطرفين. فقد تتمدد السلطة وتتوسع وتنتشر لتخترق نسيج الحياة التي يعيشها نقّادها والمعترضون عليها. الأمر الذي يحول المجتمع برمته إلى سلطة قامعة قابضة ومتوغلة في هذا النسيج. يصبح المجتمع هو السلطة الكلية بعينه. وسياسة المجتمع المأخوذة من السلطة السياسية السائدة هي مجرد سياسة استلاب واستبداد. وبهذا المعنى فالمجتمع هو دائماً قهر وقمع. إنه دائماً أعمى، فهو ينتج بصفة دائمة ومستمرة الحرب والعبودية والشعوذة بطبيعته الخاصة. إن الإنسانية تجد نفسها دائماً في الفرد في حين تجد البربرية نفسها في المجتمع كما تقول سياسة شارتييه، التي تضيف «أن على الفرد أن يفكر دائماً ضد المجتمع».
مصدر حيرة المثقف، سواء بصفته شخصية جماعية أو فردية، يعود إلى أنه يواجه سلطة ذات شخصية رمادية، متعددة الجنسيات والأشكال والأطوار. فعلاقات السلطة عموماً، علاقات يطبعها الانتشار والمحلية وفي الوقت نفسه عدم الاستقرار. إنها لا تصدر عن نقطة مركزية أو عن بؤرة مستقطبة تكون بؤرة سيادة، بل تنتقل بين نقط عدة. تذهب من نقطة إلى أخرى. لا تقتصر على الانطلاق من نقطة ما، للوصول إلى نقطة ثانية في الفراغ في اتجاه خط مستقيم، بل هي علاقات ترسم انحناءات والتواءات وانعطافات وتحويمات مغيِّرة دوماً اتجاهها. كما تبدي باستمرار مقاومة. إنها علاقة شبكية تتواجد وتتزامن بين قوى لا حصر لها، وأمكنة لا إحصاء لعددها.
والسلطة تتصف بطبيعة زئبقية، فهي لزجة متحركة في الظلام والعتمة، وغالباً في المناطق الرمادية. وهنا مبعث إضافي من مباعث الحيرة لالتقاط صورة محددة واضحة لها. وبحسب فوكو «فالسلطة لا ترى ولا تتكلم، فهي فأرة لا ترى بوضوح إلا في متاهات الممرات الأرضية وداخل حجرها المتعدد النوافذ: إنها تمارس نفسها كسلطة، انطلاقاً من نقط لا حصر لها. تمارس نفسها في خفاء. ولكونها بالذات لا تتكلم ولا ترى نفسها فإنها تسمح بالرؤية وتبعث على الكلام».
ولأنها كذلك فهي تمنح المثقف العارف بأمرها من دون أن تدرك، «فسحة» لكي يدرك ماهيته وهويته ويصوغ بيان العلاقة بها. فالعارف والمعروف – كما يريد مارتن هايدغر – لا يتواجدان منفصلين من بعضهما البعض. بل إنهما في وحدة. والعلم هو هذا النهر نفسه الذي بحفْرِهِ لسريره يشكل ضفتيه، ويجمعهما الواحدة إلى الأخرى بأصالة أكثر مما يفعل الجسر…».
وإذا كان المعروف يدخل تحت سلطة العارف دخولاً ما – كما يقول الغزالي – فإن ما يعرفه العارف عما وراء قناع التنكر، هو مبتدأ السياق الذي سيجعل من معرفته بعد هنيهة أرضاً فسيحة للحراثة. مع أننا لسنا على يقين من أن الثوابت الجديدة فيها، لن تكون أكثر من حالات متحولة أو صورة أخرى عن الذتي سبقت.