من المعلوم أن ما ألفه القطب الأكبر من الشعر كان محدوداً جدّا بالمقارنة مع العدد الهائل من مؤلفاته المنثورة. وتنحصر أعماله الشعرية في اثنين: "ترجمان الأشواق" والديوان.
وبخلاف كتاب "ترجمان الأشواق" ذي الطابع الغنائيّ، انصب التركيز في الجزء الأكبر من الديوان على تناول مسائل غيبية.
وفي هذا البحث سيتم تناول مزايا شكلية غير مألوفة تشكل انعكاساً أسلوبيّاً لبعض أفكار ابن عربي. والمقصود بذلك ظاهرة القصيدة الأحادية القافية أو الإيطاء المتكرّر على امتداد قصيدة بأكملها.
وبنظمه قصائد من هذا النوع، كسر ابن عربي قواعد النظم التقليدية. ولقد تعمّد ذلك. ومن أجل معرفة الأسباب وراء ذلك، يحلّل هذا البحث قصيدة من هذا النوع لابن عربي ويقارنها بأمثلة أخرى من الأدب العربي ومن الأدب الأوروبي القروسطيّ.
قبل الانتقال إلى تحليل قصيدة الشيخ الأكبر، من المفيد الإشارة إلى أن هذا الملمح الأسلوبي الإيقاعي الذي يشكل انزياحاً بيّناً ظهر قبل ابن عربي ولكنه لم يكن منتشراً، بل اقتصر على بعض الشعراء الذين تجرّأوا وعمدوا إلى الإيطاء في القافية، ومنهم الحلّاج كما سنرى. كما أن هذه الظاهرة الأسلوبية انتقلت إلى الشعر الأوروبي بتأثير من الثقافة العربية الإسلامية. وهذا وحده يستحق بحثاً مفصّلاً ومعمّقاً. نأمل في المستقبل أن يتجشّم عناءه الباحثون نظراً لأهميته.
وقبل الشروع في معالجة القصيدة موضوع البحث، لا بد من مدخل إيقاعي يلقي الضوء على الإيطاء في القافية.
يعني الإيطاء تكرار كلمة الرويّ. واشتقّ من المواطأة بمعنى الموافقة .
ويفيض حسين نصار في استعراض آراء النقاد في الموضوع ليصل إلى خلاصة مفادها أن الإيطاء ليس بالعيب الموسيقي، فلا نشاز فيه على الصوت الموسيقي، بل إنه يحقّق التماثل الصوتي التامّ، وإنما هو عيب في القدرة التعبيرية عند الشاعر .
ولكن الإيطاء عند الشيخ الأكبر ليس عيباً في قدرته التعبيرية بل هو نظر لأمر آخر قد يكون في ما ذهب إليه شكري عيّاد إلقاء للضوء على مقاصد الإيطاء الأخرى. قال: "الشاعر يزيد نغمه خفوتاً بلجوئه المتكرر إلى الإيطاء.. فالإيطاء، إذ يوجّه الذهن إلى تماثل المعنى يصرفه عن تماثل النغم" .
ولعل هذا ما رمى إليه ابن عربي بالإيطاء في قصيدته: صرف الذهن عن تماثل النغم وتوجيهه إلى تماثل المعنى.. فلنذهب إلى مقطوعته:
الله أنزل نوراً يستضــــــــــــــاء بـــــــــــــــــــه على فــــــؤاد نبيًّ ســــــــــــــــــــــــــرّه اللهُ
أتى بــــــــــــــه روحه مــــــــن فوق أرقعة سبع إلى قلبه والســــــــــــــــــامع اللهُ
منه إليه بــــــــــــــــــه كان النزول لــــــــــــــه فليس في الكون إلا الواحد اللهُ
والجسم والعَرَض المشهود فيه ومـا في الغيب مــــــــــا لم تراه ذلك اللهُ
ولا تناقض في مــــــــــــــــا قلته فأنــــــــــــا عين الكثير وعيني الواحــــــد اللهُ
حيث يقول إن المعرفة الربانية حلّت في قلب النبي، وهي معرفة قرآنية عند النبي وقرآنية وعرفانية عند ابن عربي. والقلب بالمفهوم القرآني هو الوعاء الذي يرسل إليه الله قبساته. ولكن ما يلفت هنا هو أن ابن عربي يعتبر أن القلب والسمع والشهادة هي تلك التي لله.. فالسامع الله، والنزول منه وبه وإليه. وكلام الشاعر يعكس رؤية توحيدية لله. ومع ذلك، فإن القصديّة الكامنة في أعمال القطب الأكبر ليست التعبير عن فكرة توحيدية واسعة الانتشار بقدر ما هي نوع من التوتر الخلاق بين هذه الفكرة والثنائية التقليدية بين الله وخلقه.
ويمثل البيت الخامس نموذجاً للتكتيك الذي يتبعه ابن عربي في مفاجأة القارئ أو إرباكه، بمزجه عبارة تحمل تناقضاً بتأكيده أن "لا تناقض في ما قلته." ويمتد هذا التكتيك في الأبيات التالية. ففي أحدها يقول:
له اليمين له العينانِ في خبرٍ أتى به منه والآتي هو اللهُ
مقترحاً فهماً أكثر جرأة من المعهود لعينَي الله ويديه. وقد أورد آنفاً أن متلقي رسالة الله هو الله نفسه، معيداً إلى الأذهان فكرة أن الله يصبح بصر المؤمن وسمعه.
وفي بيتين آخرين يقول: ودائماً في سياق التعبير عن وحدانية الله :
فانظره في شجرٍ وانظره في حجرٍ وانظره في كلّ شيء ذلك اللهُ
كل الأسامي له إن كنت تعقلـــــه هو المسمّى بها فكلّهــــــــــــا الله
رابطاً كل شيء بالله، فهو في الشجرة والحجر وكل شيء.. وهو الأسماء كلها والمسمّى معاً. ومثل هذه الرؤية تتّفق مع الموضوع: أسماء الله واسطة وحدانيّته في العالم.
وفي الأبيات الأربعة الأخيرة يقول:
ما ثمّ والله إلا حيرة ظهرت وبي حلفت وإن المقسم اللهُ
لو كان ثمّ وجود ما هـو الله لم ينفرد بالوجود الواحد اللهُ
بل الحدوث لنا وما يتابعـــــه وهذه نِسَب والثـــــــــــابت اللهُ
ينوب عنا وإنّا منه في عدم ونحن نشهد والشــــــــاهد اللهُ
ويؤكد الوحدانية الإلهية وأن المنسوب إلينا هو الوجود (الحدوث) الذي أعطاه لنا الله. ولكن كل هذا طارئ وليس موجوداً إلا في ما يتعلق بشيء آخر. والله وحده دائم. وبهذا المعنى إن الله هو مصدرنا. وحين نشهده، فإنه بالتالي يشهد نفسه
وفي هذا الاستنتاج، يعيدنا ابن عربي إلى موضوع ورد في كتاباته: فكرة أن الله يرى نفسه من خلال العالم الذي خلقه. إن الموضوع المثبوت في أرجاء القصيدة هو أن كلّ شيء مرجعه الله. وما الإيطاء المتكرر في كل أبياتها إلا وسيلة مفيدة لإبراز الفكرة. فالأبيات تتشابه في تكرارها هذه اللازمة: الرجوع الدائم إلى المصدر الإلهي. وفي كل مرة يخوض فيها ابن عربي مجالاً فكرياً جديداً يعيده الشطر الثاني من البيت إلى الله.
وفي هذه المجالات الفكرية تُلاعب القصيدة السلاسل المنطقية من أجل الاستمتاع بها وليس من أجل حلّ التناقضات. وهي أيضاً مهتمة بنقل المعلومات، ولكنها ليست نصّاً تعليمياً.
والوزن الشعري يتطلب صياغة الحجج على نحو دقيق. والرابط بين البيت وما يليه ليس مكشوفاً أو بيّناً بل هو ضمنيّ.. ويترك للقارئ استخدام خياله لفهم القصيدة.
واللجوء إلى الإيطاء هو ما يتيح للحجّة أن تسلك مسارها المتعرّج وهو يؤوب دائماً إلى الله.
الإيطاء التام في الأدب العربي
لم يكن ابن عربي أوّل من كتب قصيدة ذات إيطاء تامّ أو متكرر على امتداد القصيدة كلها. هذه الظاهرة الإيقاعية كانت موجودة على هامش التقليد الشعري وفي قصائد مجهولة وشظايا معزولة من بضعة أسطر. واللافت أن معظم مؤلّفيها من الصوفية والإيطاء في كلمة "الله" أو ما شابهها.
من هذه النصوص قصيدة للمتصوف "ذو النون المصري" ذُكرت في "كتاب اللمع في التصوف" للسرّاج الطوسي :
مــــــــــن لاذ بالله نجــــــــــــــا بالله وسرّه مــــــــــرُّ قضــــــــــاء الله
إن لم تكن نفسي بكف الله فكيف أنقاد لحكــــــــم الله
لله أنفــــــــــــــــاس جـــــــــــرت لله لا حول لي فيها بغير الله
والملاحظ في هذه المقطوعة أنها، بصورة عامة، بسيطة من الناحية البلاغية وبالمقارنة مع مقطوعات ابن عربي ذات الإيطاء المتكرر يبرز، بشكل خاص، غياب البعد الماورائي.
وما معنى "حكم" الله في هذا السياق، الوارد عند "ذو النون" سوى التعبير عمّا يريد الله بكل بساطة. وليس الحكم الوجودي الشامل. إنّ غاية القصيدة، مرة أخرى، هي التأثير في المستمعين. وتركيز اهتمامهم على الله. واللجوء إلى الإيطاء المتكرر هو ربط كل بيت بالموضوع ربطاً صوتيّاً إيقاعيّاً يؤدي هذه الوظيفة الدلاليّة. وتتجلى الوظيفة الدلالية نفسها لهذه الظاهرة الأسلوبية الإيقاعية عند كثير من الصوفية. نذكر منهم على سبيل المثال، لا الحصر، "أبو الحسن محرز بن جعفر" الذي نظم قصيدة من 24 بيتاً يكرر في نهاية كل بيت منها لازمة "فاطلبْني تجدني". وتشترك مع قصائد صوفية لآخرين كـ "ذو النون" في أن الرسالة الأساسية المراد إيصالها هي أن الله يساعد من يطلب منه المساعدة. وفي خلوّها من الأبعاد الماورائيّة الموجودة عند ابن عربي، وفي الوظيفة الدلالية للإيطاء وهي تركيز الانتباه على الله، نقتطف منها هذه الأبيات:
تجدني راحما بـــــــــــرّاً رؤوفــــــا أنا الرحمن فــــاطلبني تجدني
تجدني ماجداً صمداً كريماً كثير البرّ فــــاطلبني تجدني
تجدني مستغيثاً بي مغيثــــــــاً أنـــــــا الجبّار فاطلبني تجدني
إذا اللهفان ناداني كظيماً أقـــلْ لبّيك فاطلبني تجدني
إذا المضطر قال ألا تراني نظرت إليه فاطلبني تجدني
وفي هذا الخط أيضاً تندرج بعض قصائد الصوفي أحمد بن مصطفى العلوي التي تتوسّل الموسيقى لإحداث التأثير الانتشائي المطلوب في المستمعين. يقول :
مريداً بــــــــــادرْ بقلب حاضر لسانٍ ذاكـــرْ بقــــــــولك الله
جاهدْ تشاهدْ كلّ الفوائــــــدْ سرّ الأماجدْ في ذكرك الله
شوس لي بالي حبّ الموالي أهل الكمال عرفوني الله
رَوَّح يا حادي بذكر أسيادي جذبوا فؤادي لحضرة الله
ولا يقتصر في ذكر كلمة الله مكررة في القافية بل يختم بها الشطر الأول من كل بيت كذلك، كما في هذا المثل من هذه القصيدة :
يا رجال غابوا في حضرة الله كالثليج ذابــــــــــــــــــوا والله واللهِ
تراهــــم حيارى في شهود الله تراهــــــــــــــم سكارى والله واللهِ
تراهم نشاوى عند ذكر الله عليهم طلاوة من حضرة الله
إن غنّى المغنّي بجمــــــــــال الله فقامـــــــــــوا للمغني طرباً بالله
في ظاهرة أسلوبية تكرارية إيقاعية غايتها الدلالية التعبير عن محور حياة الصوفي ووسيلته وغايته وكل وجوده وهو الله.
إن قصائد كهذه معدّة للغناء أو للإنشاد وليس للغوص في الغيبيات كما هي الحال عند القطب الأكبر.
وفي الإطار الغنائي الإنشادي نفسه تُفهم بعض أبيات متصوف آخر، من عُمان، هو أبو مسلم البهلاني الذي قال، على سبيل المثال :
الحمد لله حق الحمــــــــــــــــــد لله بمــــــــــــــا يقـــــــــــــوم بحق الحمد لله
الحمد لله إطلاقاً بلا أمــــــــــــــدٍ قبل الوجود وجوب الحمد لله
الحمد لله أهل الحمد في أزل قبل الإضافات منــّا الحمد لله
ولا شك أن ابن عربي كان مطّلعاً على هذه النماذج من القصائد الصوفية ذات الإيطاء المتكرر، ذلك أنها توالت على مدى مئات السنين قبله. ولكن ما يميّز تجربته الإيطائية عن غيرها أنه لقّحها بتجربته الغيبية الخاصة. فهو إذاً استعان بإطار إيقاعي كان موجوداً قبله وأخضعه لأسئلته الغيبية مباشرة.
ولكن ابن عربي لم يكن في ذلك الأول.. فهناك من سبقه إلى اختبار الأغوار الغيبية الروحية بمثل هذا المستوى من العمق والابتكار. ففي إحدى مقطوعات الحلّاج، نجد تطويراً أو تنامياً لسلسلة قصيرة من الاستنتاجات والبراهين بدلاً من استخدام كل بيت للعودة إلى النقطة الرئيسية وإبراز أهميتها يقول :
رأيت ربـــــــــــــــــــي بعين قلبي فقلت: لا شك أنت، أنتَ
فليس للأين منك أيـــــــــــن وليس أيـــــــــــــــــــن بحيث أنتَ
أنتَ الذي حزت كل أين فحيث لا أيــــــــــــــــــن ثمّ أنتَ
وليس للوهم منك وهـــــمٌ فيعلم الوهمُ أيـــــــــــــــــــن أنتَ
ففي البيت الأول يطالعنا غموض وتجاوز اعتماداً على الطريقة التي يُؤَوَّل بها وتنتهي المقطوعة بسؤال مفتوح. وهي تدور حول التفاعل بين كلمتي "أين" و"أنت" تفاعلاً محكم البناء. والإيطاء هنا لم يستخدم لربط القصيدة فقط، بل للتعبير عن هاجس الشاعر في البحث وسبر أغوار تجربته الصوفية. وعند هذه النقطة، يبدو الحلاج أقرب إلى شعر ابن عربي. ولا ريب في أن الأخير اطلع على القصيدة الحلاجية. ففي الفتوحات المكية، يقول :
رأيت ربي بعين ربّي فقلت: ربي! فقال: أنتَ!
وتلتقي قصيدة الحلاج مع قصيدة ابن عربي في بنيتها القائمة على التناقض، وتوسّلها الإيطاء تعبيراً عن هاجس ملحّ. ولكن ابن عربي يرفع الفكرة إلى مستوى أعلى واصلاً بها إلى مدى فكري أبعد وأكثر تطوراً.
وفي الخلاصة ورد في كثير من شعراء الصوفية قصائد ذات إيطاء متكرر. والغاية منه كانت ذكر الله لأغراض عباديّة. ولكن الإيطاء استُخدم عند شعراء صوفية آخرين لغرض مختلف هو الوصول بالمفارقات في التجربة الصوفية إلى مدى بعيد ومتطور.
وهذه هي حال ابن عربي الذي استكشف خطوطاً فكرية متعرجة مختلفة. وبدت الدلالات الجدلية في قصيدته متجهة نحو أفق أبعد من القصيدة، بينما كانت كلمة القافية الوحيدة المتكررة (الله) تبقيها ضمن حدودها في آن معاً.
وبهذا المعنى تلتقي مع قصيدة قادمة من مقلب جغرافي آخر، في أوروبا، حيث برزت ظاهرة شعرية قريبة جداً من التجربة الشعرية العربية الإسلامية التي تستخدم الإيطاء المتكرر. وهذه الظاهرة عُرفت باسم قصيدة "السستينا" التي ابتكرها الفرنسي أرنو دانيال" Arnaut Daniel. ولقد أُعجب "دانتي" به وبهذا النمط من التأليف الشعري. وكلا الرجلين تأثّر بالثقافة الإسلامية وفق اعتقاد كثير من الباحثين.
وعند هذا الحد، ينتهي بحثنا طارحاً أفقاً بحثياً هو مسألة الاتصال أو التأثير الذي مارسته القصيدة العربية الإسلامية ذات الإيطاء المتكرر في "أرنو" و"دانتي". والقيود الرسمية والتأثيرات الاجتماعية والثقافية المتشابهة التي ظهرت عند هؤلاء الشعراء في الجهتين المتقابلتين من البحر المتوسط.
المصادر والمراجع
1- ديوان الشيخ الأكبر، محيي الدين بن عربي، راجعه وقدم له محمد قجّة، دار الشرق العربي، بيروت، د.ت.
2- محيي الدين بن عربي، الفتوحات المكيّة، تحقيق عثمان يحيى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1983، الجزء الثامن.
3- أبو نصر السراج الطوسي، اللمع، حققه عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور، دار الكتب الحديثة بمصر ومكتبة المثنى ببغداد، 1960.
4- أبو القاسم السهميّ الجرجانيّ، تاريخ جرجان، حققه محمد عبد المعيد خان، عالم الكتب، بيروت، 1987.
5- ديوان أحمد بن مصطفى العلوي، المطبعة العلوية بمستغانم، ط4، د.ت.
6- ديوان أبو مسلم البهلاني، وزارة التراث القومي والثقافة، مسقط، 1980.
7- كامل مصطفى الشيبي، شرح ديوان الحلاج، منشورات الجمل، بغداد – بيروت، ط2، 2012.
8- Etudes sur Bertrand de Born, sa vie, ses œuvres et son siècle, Richard de Boysson, SLATKIN Reprints, Genève, 1973.