صار من الواضح والجليّ للمنتبه العارف، وللغافل المطنّش، وكذلك للفاهم الذي يؤجّل، أنّ لا إصلاح دينياً بالمعنى المقصود قد حصل أو يحصل في البلاد الناطقة بالعربية، لا بل لم تكن هناك أدنى نية لحصول هذا الإصلاح، على الرغم من وجود بعض الأصوات النافرة هنا وهناك، وعلى الرغم من ظهور بعض المؤسسات التي ادّعت أن مهمتها الإصلاح ولكنها تحوّلت في السياق، وبمشاركة ومباركة رجال الدين والسياسة والثقافة، إلى سلطة شبحية تشارك السلطات الثلاث المأمولة في الدولة المشتهاة صلاحياتها، لا بل وتشرف عليها وتتحكم بها، وتسابقت "الدولة" إلى إرضائها والوقوف على طلباتها، حتى ولو أدى الأمر إلى خلخلة هذه "الدولة" لا بل إلى تحطيمها، إذا دعت الضرورة.
ما نراه اليوم من أداء ثقافي (والدولة هي أداء ثقافي) ليس فشلاً لعملية الإصلاح الديني التي طرحت في نهايات القرن التاسع عشر، كشرطٍ مؤسّسٍ للتقدم والاستمرار، وليس ما نراه اليوم هوعدم وجود هذا الإصلاح أو فعالياته من الأصل، بل ما نراه هو نتائج عملية عكسية للإصلاح، أي إصلاحاً معكوساً ومدعوماً من "دولة" رضيت إضافة ومشاركة ورعاية سلطةموازية لسلطانها، ليست من بنيتها تقنياًومعاكسة لوجودها دستوراً، تجتمع فيها السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) تشاركها السيادة من طرف خفي غير مدستر، أو على الأقل لا يصلح للدسترة، بما يعني أن الذي جرى من إصلاح، ما هو إلا تحديث لغوي في الخطاب التقليدي وأدواته لتعود البنية "الثقافية" للجماهير إلى عقمها على إنتاج مجتمع تنبثق عنه دولة من النوع الحديث الصالح للمنافسة الضرورية للارتقاء.
هذا ما جرى على الأقل وأوصلنا إلى هنا، حتى لوأعفينا العامل الخارجي كمصالح لا تحبّ ولا تكره، من مسؤولية دعمه للحركة المعاكسة للإصلاح الديني وهذا ما ثبت في الكثير من المواقف السياسية والحروب الباردة والساخنة الأخيرة منها، والسابقة في مستهلّ القرن الماضي، وما نلمسه وما نراه الآن، ما هو إلا نتاج قرن ونيّف من ممارسة هذا النوع من "الإصلاح" الذي استخدم كل التقنيات الإعلامية والسياسية والقانونية (وهو يرفضها ويؤثمها)المحدثة في سبيل تحويل الثقافي إلى أيديولوجي محاصراً التفكير في أدنى تجلّ له، وصانعاً مرجعية سلوكية للجماهيرتؤدي إلى الفناء، عبر تأجيج عقد الاضطهاد والشكوى لتبرير العنف ضد الآخر "العدو"، وليس المنافس في أيّ وجه من وجوهه.
ربما كان للمصطلح وترجمته إلى العربية دور غير قليل في سباكة المفهوم داخل الذهنية التي ارتأت حصول هذا الإصلاح، وقرأته وقاربته على أساس أن هناك عطباًحصل في "الديني" (وهي كلمة عمومية جداً) ويجب إصلاحه كي يستمر هذا "الديني" على نقائه المعرفي، وحقيقته "الحقيقية" التي لم يعرف أحد حتى يومنا هذا ماهيتها، فتداول الكلام حول الموضوع خلّف ركاماً مفرداتياً هائلاً، يدور حول المفردة المصطلح، فكلمة ) (reform)لا تعني من الوجهتين اللغوية والتقنية، كلمة إصلاح تماماً بل هي مقاربة ترجماتية لمصطلح حداثي سوف يُعاد تفسيره وتأويله، بفهلوية ثقافية تعتمد التبسيطية المنبرية لشرحه، بما يناسب "خصوصيات" الديني الشعبوي، لصنع مسافة بين المصطلح وترجمته، أي بين لفظه ومعناه، استهلكت هذه المسافة قرناً ونيّفاً لتوسيعها وإبعاد المعنيين عن بعضهما، لنرى الآن ما هو الإصلاح الديني على حقيقته، كما فهمه عتاة الإصلاح ونجوم التنوير، من أبو الهدى الصيادي الحلبي، مروراً بالأفغاني ومحمد عبدو ورشيد رضا، وليس انتهاء بمحمد عابد الجابري، وهشام جعيط وحسن الترابي وراشدالغنوشي، وأترابهم من هذا النسق التفكيري، وجميعهم أصرّوا على فصل التنوير عن النهضة، وممارسته كفقرة مستقلة تسبقوتحضر للنهضة المأمولة والمنقولة عن ارتقاءات مفاهيم عصر الأنوار، بحيث يمكن الحصول على المكانة ذاتها التي حصلت عليها المجتمعاتالتي تبنّت المفاهيم الأنوارية.
لم يعن الإصلاح الديني بالمعنى الأنواري إلا شيئاً واحداً، هو فصل الدين عن الدولة، وهنا تماماً كانت العقدة التي استهلكت حوالي قرن ونيف من محاولات الحصول على مجتمع تنبثق منه دولة. هذه المحاولات كانت لتذليل، أو القفز فوق، أو حتى التحايل، للوصول إلى تنوير يحضّر لنهضة، أو بداية وخطة طريق للإصلاح الديني، وذلك عبر محاورة الديني لنفسه فقط،حيث تقلّص معنى الإصلاح إلى معناه الحرفي، ليتحّول إلى شرح كلمات، أسست عليها أيديولوجيا تستطيع جمع الحداثي مع التراثي بطريقة شكلانية وتلفيقية أيضاً، بالاعتماد على منبرية تحميسية ترعيبية، تعتمد العودة إلى الأصول بمعناها الحرفي، ليصبح الإصلاح هو التخلص من "الشوائب" وإتاحة الفرصة لتجريب الأيديولوجيا النقية، التي تم الابتعاد عنها بسبب الآخر العدو، في وعد قطعي بالوصول إلى أنموذج يعادل إذا لم يكن أقوى من الأنموذج الناتج عن عصر الأنوار، حيث وصلت هذه العملية في تمظهراتها وأشكالها كافةإلى الإرهاب والعنف، وأيضاً بتمظهراته وأشكالهكافة، (على اعتبار أن الإرهاب تعريفاً هو كل تصرف غير دستوري)، على الأقل، خصوصاً مع رعاية "الدولة" له.
بالعودة إلى البدايات المؤسّسة للتفكير الذي سعى وقتئذ إلى تدبّر حالة الارتباك والتخلف المعرفيتين في مستهل القرن التاسع عشر، ومن ثم القرن العشرين، وذلك بالمقارنة مع ما وصلت إليه المجتمعات الأنوارية من شبع ومنعة، قرأ النهضويون الناطقون بالعربية موضوعة الإصلاح الديني من الوجهة المعرفية الشكّاكة على أنه فصل الدين عن الدولة، معترفين أن هذا الإصلاح وهذا الفصل، ما هو إلا جزء من عملية معرفية كبرى، تتناول كافةصنوف الثقافة المولدة للمجتمع بمعناه الأنواري، بحيث يصلون إلى هذا المجتمع بما يتناسب مع الموجودات الثقافية المحلية، عبر تفعيلها في التطبيقات المعرفية المعاصرة من دولة وأحزاب وفعاليات إنتاجية الخ، كتكنولوجيات محايدة لا غنى عنها للعيش المعاصر، حيث انطلق هذا النوع من التفكير من قاعدة عدم الاكتمال المعرفي، معتبرين أن العملية المعرفية المنتجة هي حركة لا تتوقف عن التجريب والتحصيل، في سبيل الارتقاء الضامن الوحيد للبقاء، بينما ذهب "التنويريون" إلى قراءة هذا الإصلاح عبر إعادة إحياء التراث منطلقين من قاعدة الاكتمال المعرفي، معتبرين أن هذا الإصلاح ما هو إلا إعادة الاعتبار إلى الولاية الشرعية كوجه ثقافي أعلى، يتضمّن كل علم ومعرفة بدلالة إمكانية تسخير كل تكنولوجيا محدثة لخدمته (وهي دلالة خطيرة عملياً)، مؤثمين مبدأ فصل الدين عن الدولة وصولاًإلى تكفيره واستباحة المعتقدين به، طارقين أبواب السلطات الراعية لهم (أو ما سُمّي مجازاً دولة)بالشكوى منهم حيناً وإنذاراً بالتنحي عن الولاية أحياناً، وهذا ما فهم تماماً وفقط من شعار "التنويريين"، الذي يقول بأن نأخذ من الغرب ما يناسبنا ونترك ما لا يناسبنا، قاصدين بالأخذ التكنولوجيات المشخصة من آلات وأدوات ووسائل تفيد في ممارسة السطوة، مؤثمين ما يمكن تركه ومن ثم ما يجب تركه، حيث بدا هذا الشعار نفسه موارباً وفهلوياً ولم يستطع ملء الفراغ المعرفي إلا بالعنف، كحل تراثي كمّيّمتوالد من ممارسة الاكتمال المعرفي كحقيقةثابتة سابقة لكل شيء.
في أخذ ما يناسبنا وترك ما "لا" يناسبنا كشعار، تلتبس الأيديولوجيا بالثقافة، كما يلتبس العلم بالمعرفة، ليصبح ما يناسبنا وما لايناسبنا عرضة للأخذ والرد والتمويه والفهلوة والتأجيل والاتهام وحتى القصاص، مما خلق رويداً وتراكمياً ما يمكن تسميته بصراع الهويات، الذي سبق هينتغتون بعقود طويلة، وأصبح على الثقافة أن تمرّ عبر فيلتر الأيديولوجيا، حتى تصبح صالحة للاستهلاك "البشري"، وصار من الملزم استئذان الأيديولوجيا في أي شأن ثقافي إبداعياً كان أم اتباعي، وربما كان المصري علي عبد الرازق الأزهري هو من مشاهيرضحايا هذا الاستئذان، الذي سُمّي مجازاً وبشكل فضفاض حقوقياً (رقابة)، وهي عملية قاسرة تخضع الإبداع استنسابياً وتأويلياً، وتقوده لينسقف تحت مصالح الأيديولوجيا في محاولة لإدراج الأيديولوجيا نفسها، عنوةً واستثنائياً كسلطة دستورية عليا، أو ما فوق دستورية، حتى لو أدى ذلك، إلى نسف المفاهيم المؤسسة للمجتمع الذي يزمع إرساء دولة.
في صراع الهويات في موضوعة الإصلاح الديني، مبحث ضخم، قد لا تستوعبه عجالتنا هذه، ولكن لا بد من الإشارة هنا، إلى استحضار ثقافة الفتنة كجزء أساسي من الموجودات الثقافية، التي عوّل عليها "التنويريون"، حيث افترضت الأيديولوجيا توحيد صنوف الدينيكافةكغاية استراتيجية، وهدف أسمى، مدمّرة في طريقها أشكال التنوعكافة، على الرغم من اعترافها أنّ في "نيتها" المحافظة عليه ورعايته، ولكن نتائج هذا النوع التفكيري بالإصلاح، أثبت وعلى مدى عقود قدرته التدميرية، على إلغاء الآخر، المتجاوز لسقوف (الرقابة)حكماً وحتماً وسلفاً، كما أثبت مأزقيته الثقافية (الحقوقية تحديداً) في تلبية استحقاقات تأسيس دولة واعدة بالشبع والمنعة، من دون اللجوء إلى العنف غير المدستر، أي غير المعتمِد على شرائع حقوق الإنسان المعتمدة في الدول، ومن هنا يبدو التنكيل بالأزهري علي عبد الرازق (صاحب كتاب الإسلام وأصول الحكم) لطيفاً وناعماً ومقبولاً مع بدايات التفكير التنويري بالإصلاح، ليتحوّل بعد التوغل في "وعي" هذا التفكير الإصلاحيإلى ما هو أدهى، في حالات مثل نجيب محفوظ وفرج فودةوغيرهم كثيرون، ومع ارتقاء هذا "الوعي" أصبح هذا التنكيل بينياً، أي داخل الجماعات المفكّرة بالإصلاح نفسها، ومن ثم تحوّل ليصبح جماعياً عبر حرب هويات (غزو تحديداً) بغطاء من "دساتير" استنسابية تحتكر الفوضى بالعنف، باسم الدفاع عن هذا الوعي النوعي، والذي يناسبنا!
لم يسفر الحوار بين الأيديولوجي والثقافي حول مسألة الإصلاح الديني، عن أيةنتيجة إيجابية منذ بدئه حتى الآن، وها نحن بعد قرن ونيّف نعيد ونكرر ملفوظات المناظرة الدينية بين محمد عبدو وفرح أنطون أياً كان رأينا فيها، مرة أخرى، وها هو الأكاديمي السعودي عبد العزيز التويجري، والصحافي اللبناني محمد علي فرحات، يكرران الخطابين نفسيهما على صفحات جريدة الحياة السعودية (14 ـ يناير ـ 2015)، حيث يبدو خطاب الأستاذ التويجري الأيديولوجي عصابياً تهويمياًوشكلانياًلا يفهم منه شيء، في حين يظهرخطاب الأستاذ فرحات هادئاً واضحاً معاصراًوثقافياً، وهذا ما يظهر استعصاء معرفياً على مدى سنوات طوال، وركوداً ثقافياً معطلاً يمنع الجمهرات البشرية الناطقة بالعربية من الارتقاء قيد أنملة، باتجاه أهداف أو غايات حددها العصر، واختارها الجميع بملء توقهم لحياة آدمية مكللة بالشبع والمنعة. هذا الاستعصاء هو لبّ المشكلة، وهو لبّ التيه الثقافي الذي نعيشه، ولبّ العبث الذي يذري الجهد أدراج الرياح، هو الخديعة بعينها، والعقم بذاته، أن تحاور أحداً وقصدك أن لا تحاوره، أن تعترف بالعطب ومن ثم تهيكل عطبك الخاص (الخصوصي الهوياتي)وتهرع إلى معالجته بخصوصيتك الاستثنائية!، هذه الازدواجية الفريدة وهذا الفصام، يقود إلى ادّعاء الموافقة على ضرورة الإصلاح الديني، ومن ثم تغريق المسألة وأطرافها في تفاصيل لا تنتهي، متوّجاً الكوارث بابتسامة التجريب المتروّية، حيث تنتصر النظرية على التطبيق، وبكاءات عقد الاضطهاد المنتجة للعنصرية، في أضيق نماذجها، فكان أن تُرك السؤال معلقاً، وتمّ الالتفاف عليه تحت شعار "التنوير"، حيث تمّ تشكيل فسيفساء جديدة لهذا النوع من التنوير، لا يبتعد فيه حسن البنا، عن الأفغاني ومحمد عبدو ورشيد رضا، ولا يبتعد سيد قطب عن محمد بن عبد الوهاب سابقاً، ولا أيمن الظواهري لاحقاً، ولما تزل هذه اللوحة الفسيفسائية، تتشكّل وتتوسّع وتمور بجدل داخلي حول إصلاح الدين، وليس الإصلاح الديني في حال من الأحوال، وهذا ما صنع تلك الهوة الباهظة ثقافياً بين عالمين ثقافيين متنافرين، أحدهما يتبنى المنافسة والآخر يتبنى العداء.
جوهر السؤال في الإصلاح الديني، يتركز في كيفية المواءمة بين المبدأ الحقوقي فصل الدين عن الدولة وسيطرة الديني (وليس الدين) على الثقافة الحقوقية، التي تجهض انبثاق أية دولة بالمعنى الحديث، الحجة الأكثر إلحاحاً التي اتفق عليها طرفا الجدال، ولكنها هي نفسها صارت عنواناً للمفترق الذي افترقا عنده، وشقّ كل طرف طريقه ليصبحا على عداوة، بدلاً من أن يكونا على جدل، مولدين في عز احتدامهما هذا "الدولة" المواربة ثقافياً، التي قامت بتوزيع الترغيب والترهيب بالتساوي بينهما، فهي من جهة الجهاز التكنولوجي للإدارة، ومحتكرة العنف الثورجي كإمارة (أو ولاية) من جهة ثانية، حيث توقفت الثقافة الحقوقية عن الإنتاج عند الحجاج بن يوسف الثقفي ولما تبارحه حتى يومنا هذا، وبقي سؤال المواءمة وئيداً أيضاً، وسار مفهوم الإصلاح الدينيعند " التنويريين الجدد" ليتحول إلى "مفهوم" تجديد الخطاب الديني، مواءمةً مع ثورة الاتصالات وتسخيراً لتكنولوجيات تبادل المعلومات الذي وفرته، وسيق بالنهضويين إلى ساحات التكفير والقصاص، برعاية خاصة من الثقافة الصحراوية المتضمنة حكماً في الديني، الذي يتضمن الغزو كفعالية أساسية، تعبيراً عن حيوية هذا الديني كما جاء في التراث الحامل للأحلام المشتهاة، ليتحول الإصلاح الديني نفسه إلى أبحاث متناقضة في التراث تفضي إلى جدلية داخلية تصبّ في عملية إحيائه (تحديثه)، إن كانب تجميله عبر "مفهوم" تجديد الخطاب الديني، أوإن كان عن طريق فرضه فرضاً، بقوة المعلومات الحقوقية على مسؤولية الخالق(!)، حيث تتجلى شفاهية الثقافة وزئبقيتهاوعنفها، فهي لا تعني أو تقصد شيئاًمعيناً، وتعنيوتقصد كل شيء في آنٍ معاً.
في النظر إلى المواءمة العتيدة، لا بدّ من النظر في التطبيقات الواقعية لمنتجات التفكير، إلى تلك السلوكيات التي ينتهجها، والسلوكات التي يمارسها البشر تعبيراً عن تأثير الثقافة بهم كحيوية حركية تقود إلى الخير الأعلى، فهي في رأي وأعين "التنويريين" مهما كانت اتجاهاتهم، ما هي إلا عودة إلى النقاء الأول، حيث (تجلّت) الحيوية بأبهى صورها، وأعلى أمجادها رفعة بما يتجاوز الواقع المعاصر، إلى واقع مشتهى تفيد التكنولوجيات المسخرة في إحلاله، عبر استعادة حيويته واقعياً، كما وردت تراثياً، وحسب تعبير هشام جعيط (الفتح بوصفه المشروع الأساسي للمجتمع الحربي الإسلامي)، حيث يلتبس معنيا الغزو والفتح اصطلاحياً وهذا بحدّ ذاته ليس مهماً، مقابل جعل الغزو أو الفتح ركناً تأسيسياً في الديني ونقله إلى الدين كركن أساسي منه، بحيث يختلط التاريخاني بالعبادي، لتتمطط حالة التأسي إلى مالانهاية.ففي هذه اللحظة الثقافية أُدمج "التنويريون" والأصوليون في كتلة واحدة، مثلإدماجهم الدين بالديني، بعد تفويت التنويريين فرصة التفكير في فك الارتباط بين الدين الرسالة، ودين الغزو، كأحد مواضيع المواءمة، تحت حجة انشغالهم بالتنوير، الذي أنتج ما أنتج خلال رحلة العودة الى النقاء الأول، ليصبح التنوير نفسه مشروطاً بالأصولية ومنتجاً لها، وهذا ما مارسته وعلى الأقل، مؤسسة الأزهر كمؤسسة نموذجية للتفكير، الشواهد أكثر من أن تُحصى، إذ يكفي أن نذكر طه حسين أو رواية "أولاد حارتنا" لنعرف بما يكفي، عن مسيرة الإصلاح الديني، كأحد الشروطالمعترف بها لحصول النهضة.
ركّزت جلّ الدراسات والمباحث، في استقصاءاتها التراثية على الفتحومجرياته، لكون الانتصارات تلبي ما في النفوس من توق للفخر والاعتزاز، ولكنها ومن جهة أخرى ولدت وأوجدت تنظيراً حقوقياً بديلاً للدولة المشتهاة، ليتحول الفتح أو الغزوإلى تكنولوجيا، فيتحول تطبيقهاإلى فكرة مركزية من دون البحث في مصادرها وأصولها وانتروبوليجياتها، وحتى موقعها من الدين والديني، فهي في أصولها الثقافية تمتد إلى أعماق الصحراء، حيث كان الغزو فعالية أساسية (كما عبّر الأستاذ جعيط) اقتصادية وهوياتية واصطفائية، فالغزو كممارسة، لم يكن له سبب سوى حيوية الجماعة، الذي ينتج بالإضافة إلى الغنائم وتقاسمها، مهابة هذه الجماعة ورفعتها في ظل البداوة الرملية، وانتقاله كفعالية وممارسة إلى الأداء الديني كان طبيعياً آنذاك، ليس لأنه تطبيق رئيس للثقافة السائدة فقط، بل لأن سلوكيات هاتيك الأيام، تقتضي التوسع بالغزو كلما ازدادت الحيوية، هكذا كانت قوانين العالم القديم وأخلاقياته، أما بعد انطلاقة عصر الأنوار وثوراته أصبح (للغزو) معنىً آخر، بحضور المجتمع والدولة الحديثين والحداثيين، اللذين صنعا حيويةً فائقة أراد الناطقون بالعربية، الحصول على مثلها ولكنهم اشترطوا أن لا يمارسوا استحقاقاتها، وادّعوا أن لديهم ما هو أحسن منها، معاكسين في ذلك مفهوم الإصلاح الديني، مع أنهم قبلوا به ووافقوا عليه شفاهية، ولكنهم فسّروه على هواهم، ليحصلوا على نتائج مختلفة تماماً عن الأنموذج المشتهى المنافس على المصالح، حتى ولو انتصروا في غزواتهم كافة.
كانت مركزية الفتح (الغزو) في المنتجات الثقافية ولما تزل، تستحق النظر من الوجهة الثقافية المؤسسة للمجتمع وسلوكه، وإعادة فتح ملفه بتحليله وإعادة تركيبه، تشكّل حلقة مفصلية من موضوعة الإصلاح الديني، فالمسألة متعلقة تماماً بالعصور الحاملة للارتقاءات البشرية، والتي تجبّ ما قبلها من سلوكيات ناتجة عن ثقافة ماضية، عبرفصل الدين عن الديني (التاريخاني)، والتراثي عن الفلكلوري، ودين الرسالة عن (دينَي) الغزو أو الفتح، وهو ما فهمه النهضويون وفكروا به، وتحملوا عنت "التنويريين" واضطهادهم، في سبيل مواءمة معرفية قادرة على الولوج في عمليات تأسيس المستقبل.
لم تفلح المحاورات والمناظرات بين النهضويين و"التنويريين"، في الوصول إلى نقطة تفاهم أو خطة عمل، أو على إنتاج مفاهيم قادرة على الولوج إلى العملية المعرفية التأسيسية، وبقيت هذه المناظرات كحوار طرشان (مناظرات محمد عبده وفرح أنطون مثالاً)، احتكم إلى القوة بعد فترة جد وجيزة (الكواكبي، قاسم أمين، طه حسين، علي عبد الرازق، أبو خليل القباني، وغيرهم كثر)، حيث بدا محمد عبدهفي مناظراته ليبرالياً متطرفاً بالنسبة لمن أتوا بعده، فهو لم ينكّل بفرح أنطون على الأقل، ولكن مناظراتهم نفسها لم تكن قادرة على الجدل، وعلى تحديد نقاط المواءمة التي يجب العمل عليها، فبديا متنافرين متعاكسين لا بل متعصبين، لا تجمعهما مصلحة، ولا تقرب بينهمااستراتيجيا، وكأنهما يحكيان في موضوعين من حقلين معرفيين مختلفين تماماً، فواحد يريد البشر في خدمة الديني، والآخر يعاكسه يريد للديني أن يكون في خدمة البشرية، بناءً على اتفاقهما على ضرورة النهضة، ليعودا إلى الدوران في حلقةٍ مفرغة، تبتلعنا دواماتها المتكررة، عبر تكنولوجيات الإعلام ووسائل الاتصال المسخرة لخدمة الديني، برعاية ثقافة الصحراء الرملية المدججة بالبترودولار، ليترمّد أي حوار، حتى لو كان حوار طرشان.
واليوم، ومع كل هذه "الحيوية" الثقافية التي تجتاحنا، لما نزل نخطو خلفاً من تأسيس المجتمع والدولة، فلم نزل تحت الصفر المعرفي الذي يؤهلنا لذلك، فحروبنا الداخلية، ولهيب هوياتنا المستعر، وعلاقتنا بالعلم والمعرفة، ومستوى احترامنا لقيم تأسيس النهوض (كاحترام الحق بالحياة أو العمل والحق بالاختلاف التنافسي الخ).وعلى الرغم من كل الدروس المكلفة التي تكبّدتها وتتكبّدها منطقتنا، أصبح من غير المجدي الدفع بمبدأ فصل الدين عن الدولة، على الرغم من أنه الحل الوحيد لهذا المأزق الإنساني، فقد أكلت نار الديني هشيمالمعرفة، وما هي إلا دورة عنف أعمى، قد تطول وقد تقصر، ريثما يتم الإفراج عن الرهينة الكبرى ـ العقل ـ.