103
سيأتي يوم قد لا يجد الغرب فيه ذريعة لمعاركه الإعلامية والثقافية مع العرب والمسلمين سوى شعاره المستحدث «الحرب على الإرهاب».
ذلك يشير إلى أن الفكر السّلطوي في الغرب، استنفد أكثر مخزونه المعرفي في سياق إجراءات الهيمنة التي شغلته على امتداد الحقب الكولونيالية المنصرمة.
صورة الشرق كما يراها الغرب ويشتغل عليها هي صورة تكتظّ بمفردات العنف، بينما يعكف جهازه الدعائيّ على قلب هذه الصورة ليجعل من الجغرافيا العربية والإسلامية حقلاً خصيباً لاستنبات ألوان جديدة من المباغتات الفكريّة.
لقد لاحظ عددٌ من الباحثين في فلسفة «الميديا» المعاصرة أن لا شيء أكثر مدعاة لغواية التدخل المتجدّد في المجتمعات العربية والإسلامية من ذريعة الحملة على الإرهاب والقضاء عليه. وقد أفلحت الصناعة الإعلامية الغربية في إنجاز مساحة وازنة من عمليات توظيف ثقافة العنف على مدى عقود متواصلة.
المفارقة التي تظهر عند هؤلاء هي أن الإرهاب لم يعد مجرّد مفردة وافدة من الخارج، بل هي ستغدو مقولة تُسوَّق ويُعاد إنتاجُها بشغفٍ نادر من قِبل النخب المحليّة. ولو كان لنا أن نمضي في استبيان القضية المطروحة، لقلنا إن المشكلة لا تكمن في المبدأ الأخلاقيّ للموقف الذي يدين العنف الأعمى، فهذا من بديهيات الفطرة الإنسانية أنَّى كانت انتماءاتها وهُوياتها القومية والدينية والحضارية، وإنما في سياق الغزو الثقافيّ الشّامل الذي يلعب فيه الإعلام دوراً حاسماً.
المشكلة – كما يقولون – تكمن في السياق الذي تندرج فيه مقولة الإرهاب بوصفها مقولة صنعها العقل الغربي ومهَّد لها أرض المشرق العربي ومغربه. ثم مضى بها إلى حدّ وجدت من يحملها عن ظهر قلب من المثقفين والخطباء والمفكرين. فلو نظرنا قليلاً إلى (شريط الإخبار) من أوله، لَحَقَّ القولُ إن الحرب المفتوحة على الإرهاب، هي حرب الغرب على منتج صنعه الغرب نفسه بإتقان، ليجد له سبيلاً لاستباحة المنطقة وتحويلها إلى ما هو أدنى، إلى مستوطنات تنوء بالحذر والقلق والعنف الأعمى1.
قرأنا للصحافي البريطاني روبرت فيسك مقالاً في صحيفة «إنديبندنت»، حدَّثنا فيه عمّا أسماه «دين الغرب الجديد»، وفيه يتساءل: «لماذا لا يتوقف الغرب عن نشر القنابل وقذائف اليورانيوم المخصب في شعوب الشرق الأوسط، ولماذا لا يتوقف عن إرسال جيوشه لاحتلال أراضي المسلمين، وعن رشوة القادة العرب لسحق شعوبهم». ثم يضيف: «إن العدالة لا تُصنع من المياه المالحة حيث لا يزال قادة الغرب يرغبون في أن يحكموا العالم وهم يخاطرون بأوضاعهم وسمعتهم ومستقبلهم السياسي وحياتهم. وكل ذلك بذريعة تسييل هذا المفهوم الغريب الذي يسمّونه الحرب على الإرهاب، وهو في الحقيقة دينهم الجديد»2…
لسنا نريد من اقتباس هذه الخلاصة من مقالة روبرت فيسك، إلا أن نتبيَّن مبلغ نقد الغرب لنفسه حيال مقولة راحت تحتلّ البيئات الثقافية العربية وتترسّخ في أعماقها. أما دلالة الأمر، فهي تتعدّى البيان الإعلامي ذلك بأن سمي بـ«دين الغرب الجديد» المُثقل بذرائعيته، هو ثقافة مستحدثة آخذة في التحول إلى نظرية معرفة لدى نخب واسعة جداً في عالمنا العربي والإسلامي، ثم لتتحول إلى فِتَنٍ شريدة في طول الأرض العربية وعرضها.
من مفارقات هذا الفاصل الرمادي الذي تعبره المنطقة، أن «الانتلجنسيا العربية- الإسلامية» لم تستيقظ من غفلتها حتى وهي ترى وتقرأ ظاهرة النقد الذاتي التي يمارسها العقل الغربي لسلوك حكامه. وهذا لو دلَّ على أمر، فعلى مدى الاستباحة التي تضرب أعماق الثقافة السياسية في مجتمعاتنا.
ولنا أن نستقرئ بعض ما في الصورة لنرى الآتي:
لو قيل – وإن من باب التوصيف- إن ما يجري هو احتلال معرفيّ وغزو ثقافيّ، بلغ مراتبه القصوى مع ربيع العرب المدوي، لقيل للقائلين: ما جئتمونا بجديد. والكلام عن الغزو الثقافي ما هو إلا توصيف رتيب لا يقبله عقل ولا يسِّوغُه منطق…
ثم إنك لو جاريت هذا القول، وسلَّمت جدلاً بما فيه، وسألت القائل عما لديه من تقدير للأحوال، أعرَض عن كلّ جواب مقنع، أو هو، في أحسن الأحوال، أتاك بجرعة زائدة من الغموض.
تلك على أي حال «مزية تفكيرية» أَلِفَتْها البيئات العربية على امتداد العهود الكولونيالية المتعاقبة، وهي غالباً ما تطفو على بساط الأحداث خصوصاً في المراحل التي تشهد الانتقال بين زمنين، كما هو حالنا اليوم. حيث زمن المنطقة اليوم، بتحولاتها، وثوراتها وحروبها الأهلية هو زمن الاحتمالات والظنون وانعدام اليقين. وهو بعبارات مقتضبة ذلك الزمن المفتوح على الانفعال والتلقّي والتنازع الأهلي. ولهذا فإن أكثر ما في المشهد الرمادي، سوف يحملنا على ملاحظة أننا نعيش الآن في عصر المجتمعات المفتوحة على ضروب الاستباحة. بل لنقل إننا في طور متجدّد من الغزو المركّب. طور تتضافر فيه رغبات الخارج بقابليات الداخل واستعداداته، ثم ليعود الغرب ليستأنف فوضاه العمياء في بلاد لم تعد بالنسبة إليه سوى حقول اختبار لأفكار وحروب من كل صنف ولون.
مثل هذا التضافر الذي ألمحنا إليه، هو عين ما يرمي إليه «دين الغرب المستحدث». أي أن ينصرف الوعي السياسيّ في البلاد العربية والإسلامية عما هو حقيقي وواقعي إلى ما هو متخيِّل وموهوم. بمعنى محدّد وبيِّن: ألّا يغيب عن إدراك «النخب العربية والإسلامية». حقيقة، أن الغرب لن يُفلح في ممارسة ثقافة التفكيك ما لم يكن من أهل البلاد ومقرِّري ثقافاتها واستراتيجياتها من يشاطره الوظيفة والدور.
مثل هذا التوصيف ليس رأياً ينتظر الوقت ليُحكم عليه بالخطأ والصواب. ذلك بأن ما جرى ويجري في ساحات العرب وميادينهم سحابة الأعوام القليلة المنقضية يجعل من صُوَر التشظي والانتحار الذاتي أمراً مرئياً رأي العين وواقعاً لا تشوب كارثيتَه شائبة.
لكن الغريب في الصورة، أن المعادلة باتت مقلوبة ومضطربة وقلقة إلى درجة أن الشارع بغرائزه ولاعقلانيته هو الذي يقود النخب ويوجهها. حتى أننا لو عاينَّا حاصل الصورة لوجدنا كيف تنبري النخب لتعقلن جنون شوارعها الفالتة من كلّ عقال.