بدأت تباشير الحداثة العربية في الأدب مع التطلعات الأولى لانتزاع التعبير من أسر المطلق والنظر إليه كفاعلية تاريخية. فالنظر التقليدي إلى التعبير الشعري، يجعله لازمانياً ولا تاريخياً. من هنا الإلحاح على إنقاذ ما يشكل القيم الأساسية من براثن الزمن. هكذا فإن ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم أوجب تجريدها وإدخالها في مستوى الدهر والأبدي وإنقاذها من الزمن التاريخي( ).
والتاريخ إنساني، أما الدّهر فلا دور للإنسان في تكييفه؛ دور الإنسان محصور في الزمن التاريخي.
لذا إن هذه العربية بُنيت على أصل سحري يجعل شبابها خالداً عليها فلا تهرم ولا تموت، لأنها أعدت من الأزل فلكاً دائراً للنيرين الأرضيين: كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومن ثم كانت فيها قوة عجيبة من الاستهواء كأنها أخذة السحر، لا يملك معها البليغ أن يأخذ ويدع( )، فأصبح العربي يسكن لغته، وإنها في لاواعية، الجسد الوالدي، لا الأرض كما كانت الحال لدى شعوب ما بين النهرين القدماء، ولدى بعض الشعراء المعاصرين. لذلك فإن كل تطور يمسّ بما ارتبط بها من أشكال، يشكل صدمة ويثير ردود فعل عنيفة( ).
لأن الإبداع هو رفض التفكير، وهذا الرفض يعني إعادة الاعتبار للإبداعية الإنسانية والنظر إلى الإبداع على أنه فاعلية أساسية. من هنا إن كل عمل إبداعي بالمعنى العميق والحديث هو محاولة بداية، لأن اللغة العربية تؤكد على الترادف بين البدء والإبداع؛ فلو أخذنا مادة بدع من معجم "مقاييس اللغة" لأحمد بن فارس بن زكريا لوجدنا: "الباء والدال والعين أصلان: أحدهما ابتداء( ) الشيء وضعه لا عن مثال، والآخر الانقطاع والكلال. فالأول قولهم أبدعت الشيء قولاً أو فعله، إذا ابتدأته لا عن سابق مثال"( ).
والإبداع انطلاقاً هو نتيجة تعارض وانقطاع بين الواقع القائم وطموح الذات (الفردية والجماعية) إلى واقع غير محقق. لذلك، فإن كل تعبير فني هو حركة توتر بين راهن ومحتمل، بين قديم وجديد. لكن، ما دام العمل الفني حصيلة التفاعل بين المشروع الأساسي للقول (أي طموح المبدع إلى التموضع في شكل تعبيري قابل للاتصال مع بقائه بدءاً) ( ).
وبين المادة التاريخية (اللغة من حيث هي موروث فكري فني) فإنه لا يحقق طموحه إلى البدء من عدم وينتهي إلى إنتاج علاقة جديدة، صيغة جديدة تتجاوز النماذج المألوفة. لأن مشروع المبدع هو التفرد، لكن تحقيق التفرد يبقى نظرية، إذ بمجرد أن يتحقق تنتفي إمكانية التواصل، يخرج من اللغة، ولا بدّ من محاولة التفرد عبر اللغة المشتركة. واللغة قوانين وأصول وتراث ثقافي يحمل موقفاً من الكون ويعكس علاقات إنسانية معيّنة وتصنيفاً للأشياء. لذلك فإن الإبداع معركة داخل ساحة اللغة والموروث، محاولة تتوقف. إنّها عذاب المبدع، لكنها غزاؤه. هي تاريخه الخاص في الإبداع. والمبدع هو البطل المأساوي الذي يسابق هذا القدر. هذه المجابهة هي التي تشكل حركة ونمواً داخل اللغة- الثقافة الجماعية.
لأنّ المجددين هم الذين يهيئون للتراث الاستمرار والحيوية، إلا أولئك الذين يحنطونه بالتكرار والتقليدي فيحكمون عليه بالعقم( ).
لأن أجمل الأشياء وأنبل العواطف وأعظم المواقف لا تشكل أثراً فنياً إذا نقلت نقلاً، فالفن هو إبداع علاقة للصورة الحلمية للإنسان لمحاورة العالم. فلنأخذ مثالاً قصيدة أدونيس "صقر قريش" تكمن في ابتداع حالة التداخل بين صقر قريش التاريخي وشاعر عربي في القرن العشرين غارق في هواجس عصره( ).
ونمد الشاعر محمود درويش في قصيدته "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا"( ). فيحمِّل الشاعر هذه الشخصية هواجس شعب ويجعلها شاهداً على ما في عالمه من تناقضات وصدوع وما يبطن هذا كلّه من حنين وأشواق وحسرات، وما يخترق اللحظات من رؤى، لأن اللغة الكشف هي التي تضيء التجربة التاريخية للجماعة، تطرح الأسئلة، تبتكر الرموز وتستشرف المستقبل( ).
وتتبلور الرؤى جلية في آثار جبران، من خلال قراءته غوامض الأمواج في عصره ووعى ذلك "الجوع الغريب، الذي يكاد يكون دينياً" والذي سيكون "الحلقة المتوهجة ما بين إنسان اليوم وسوبرمان الغد"( ).
هذا الإنسان ذو القامة الكونية، المتوهج بالألوهة، إنسان الحلم والسفر والتطلعات، هو كذلك إنسان الإبداع.
الإبداع في نظر جبران هو الذي يشكل مغامرة الإنسان مع المجهول والمدهش والخارق. أهمية هذا التيار الجبراني أنه انبجس وسط الركود والمفاهيم السلفية التي رأت النموذج الأمثل قائماً في الماضي. هكذا كان لا بد للتيار الجبراني من أن يهدّم قدسية النماذح الماضية، لأن الإنسان في رؤيا جبران إنسان إبداع وتنوع لا إنسان تكرار، إنسان حركة لا سكون، ومن هنا كان المجنون هو البطل الجبراني بامتياز.
فالمجنون هو "المختلف"، هو إنسان الخيال الذي يناقض إنسان الذاكرة، هو الفوضى وسط النظام، ويرغم اللغة المتكلسة على الحياة، إنه الاختراع الدائم، لأنه الملل القلق الذي يقتل الصبر والتقليدي، فتكشف رؤياه صورة عالم مدفوع بالشوق، بالعطش إلى الكشف والإبداع. وتخطّي الذات والعناق، وأطياف عالم عربي لانهائي في الروح( ).
صرع اللغة واللالغة( ).
ما طبيعة الصراع بين اللغة واللالغة أو بين الكشف والصمت؟
صراع اللغة واللالغة نجده متلألئاً في فضاء كتابات أنسي الحاج إنها المخاض الذي لا ينتهي، أو بحسب تعبير بول ريكير Paul Riceur "مشروع تدمير للذات"( ). هو صراع متأزم بين الكشف والتمويه، ففي مجموعاته يرسم التجربة الشعرية، فالقصيدة تبدو عذاباً أكثر مما تبدو خلاصاً، وفي مجموعته "ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة".
يبدو هذا الصراع بين اللغة واللالغة عنيف لأنه يقدم بين دافعين متعادلي القوة، وهذا ما شحن شعر أنسي الحاج بالنزق والتمزق والتوتر؛ وكان من نتيجة هذا الصراع ما سميته منذ عشر سنوات، يوم صدور "لن" باللعثمة. هذه "اللعثمة" التي حجبت شعره السابق عن عامة القرّاء الذين اعتادوا الفكرة المقولبة المكبسلة، هي نفسها جعلت له في نظر قرّائه جاذبية خاصة. وعلى حدّ قول فرويد إنّ في الذات دافعين محركين: دافع الحياة، ودافع الموت. ويرى أن كل حياة تسير نحو الموت، حتّى كأن الموت هو هدف الحياة. لكن الحياة لا تتجه نحو الموت بهذا الانقياد السهل. فهي تقاوم الموت بالايروس أو الجنسية.
الجنسية التي هي دافع الحياة، تتمتاز "بالصخب" والنزوع الى الحياة أو الجنسية ليست قوة كامنة في الإنسان كنوع من إرادة الحياة، بل تتجلى في البحث عن الآخر، في الاندفاع نحو الآخر (أي الجنس الآخر)، وفي هذه الحركة أو في الآخر تتفوق الحياة على الموت، لأن الموت هو الوحدة( ).
والتحرك نحو الآخر يعني التواصل ومن ثم اللغة. لأن الوحدة تعني الموت وبالتالي الصمت أو اللالغة. وقد بدا واضحاً منذ قصائد أنسي الحاج الأولى او مشكلته الكبرى هو في التواصل، في الوصول إلى الآخر. لكن كان واضحاً أن هذا التواصل يبقى كحلم، كأمل واهٍ، ربما شبه مستحيل، وأنّه محكوم على الشاعر بالوحدة وباللغة العاجزة التي لا تصل، أي بالموت. يقول بول ريكير Paul Riceur، شارحاً فرويد: "ينشط الدافع الجنسي حيثما كان دافع الموت ناشطاً" وهذا ما يجعل شعر أنسي الحاج السابق مشرحاً لصداع الموت والحياة، من هنا كانت اللوعة التي تظهر الشاعر متأرجحاً مشدوداً أبداً بين حافتين، لا يهبط من قبضة الصمت واليأس فيسكن، ولا يصل الآخر فتنتصر بذلك الحياة. يقول أنسي في "لن":
"أرخيتني يا قشة البحر الوحيدة، لم ترخيني…" ( )
وكان من أثر هذه اللوعة، هذا الصراع بين اللغة واللالغة، أن كلّاً من الدافعين لجأ إلى حيل غريبة معذبة، هذا وجدناه يراوح بين الاستبطان الذاتي واستنطاق الرواسب اللاواعية، وبين استقصاء إمكانات النفي والهدم على الصعيد التعبيري خاصة. ما يفسّر لغته الشعرية التي كانت حتى المجموعة الأخيرة عارية عن المحسنات الجمالية. وفي حمى مقاومة دافع الموت الصامت يترك نفسه في ما يشبه الكتابة الاتوماتيكية أو الهذيان- لتيار الكلمات ذات التوالد الذاتي، فتبدو القصيدة أشبه ببركان (من حيث مسار الحركة لا من حيث درجة القوة)، لكن ما إن بدأت الحمم في الانطلاق حتى بوغتت وأوقفت، في المرحلة الأولى من الانفجار، لكنها احتفظت مع ذلك بالزخم الذي ينصرف فلم يتباطأ أو يبرد. فخلقت نوعاً من حسرة اللاوصول المعذب( ).
هذا ما يجعل لعبارة أنسي الحاج في آثاره السابقة تلك البنية الخاصة، فهي دوماً بداية، مشروع، مد مقاطع، يحرم القارئ نشوة المعني في الشوط حتى النهاية. ففي قوله: "تنزاح أغصاني لأكون شعلتك المهجورة ههنا اشعلت الموكب الميت… استحم على ذروتي وحافياً تضمين بسري. ساحر يورق في الماء، ساحر يستجوب الحرية، ساحر يذهل الحنين، ساحر يمر… أسير فيك، أسير فيك… أنا الجلوس اتلفظ أفكار الدوار… من الحيل التي لجأ إليها دافع الحياة في صراعه مع دافع الموت، محاولة التسرب من طبقات أكثر إغراقاً في الجنسية.
هكذا رأيناه يرجع في بعض صوره إلى البدائية، إلى الزمن ما قبل الإنساني فيقول في "ماضي الأيام الآتية": "أتودد إليك في أشكال زواحف خالصة النية/ ولا أريد منك غير الإحساس بحبي/ وأنا أعانق جميع ما فيك من أوبئة". هذا يذكر بمغامرة "مالدورو للوتريامون وإن كان أنسي الحاج لم يبلغ ما بلغه لوتريامون من نقل حلمه الحيواني إلى ساحة الواقع، بل بقي في مجال المقارنة والتشبيه.
وكما يلجأ دافع الحياة إلى الحيلة والمداورة، يلجأ دافع الموت إلى مثل ذلك وإن كان صامتاً سلبياً، وإذا كانت الحركة في اتجاه المرأة هي الحياة فإن الموت يعرف أن يسكن المرأة. ألم تكن المرأة بديلاً للموت أو قرينة له في آثار كبار المبدعين: عند هوميروس في الإلياذة، وسوفوكل في "أوديب ملكاً" وشكسبير في "الملك لير" وفي "عطيل" وفي "هاملت"، وعند الشعراء العذريين، بل وفي حكايات ألف ليلة وليلة؟
( )
الموت هو الوجه الثالث للمرأة باعتبار أن الأمومة وجهها الأول والحب وجهها الثاني والموت أو العودة إلى رحم الأرض وجهها الثالث. هذا الصراع بين دافعي الموت والحياة، والصمت والكلام، وصل بشعر أنسي الحاج إلى موقع لغوي خاص، هو الموقع الذي يتداخل فيه الكشف والتمويه، هو الموقع الذي يلتقى، حسب تصوره، بمنابع اللغة.
فكيف يبدو لنا شعر أنسي الحاج في "ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة"؟
أول ما يلفت قارئ أنسي الحاج في هذه المجموعة غنائيتها ونزعة الإفصاح فيها. بها يخاطب الشاعر المرأة في مكاشفة واثقة وإن كانت عنيفة تقل فيها العبارات المخنوقة باللوعة، وتغلب عليها الطلاقة، بل والعذوبة
لذا انطلاقة أنسي الحاج تبدأ من التجربة في مرحلتها الحلمية حيث تقف الدوافع الغريزية وجهاً لوجه مع معركة الصمت- الكلام، تلك المعركة التي هي منبع الرمز والإلماح عند الإنسان، ومصدر اللوعة واللعثمة في الشعر وكل أثر فني وهيام ديني ويتجلى اغتراب شعر أنسي الحاج في هذه المجموعة باقترابه من "شعر المرأة" وتباعده عن شعر الحب، والفارق كبير بين الاثنين، لأن شعر الحب بعامة، وعند أنسي الحاج بالذات، هو في أبرز خصائصه، ذلك العذاب الأزلي للخروج من الذات وإصابة الآخر والتحقق في الآخر.
أما شعر المرأة، الذي يمتاز خاصة بوصف الحبيبة (حقيقية كانت أم مثالية فيدخل نطاق الغزل).
ومهما جاء هذا الوصف بارعاً أو طريفاً فلا يمكن أن يُغني تجربة أنسي الحاج، يقول في قصيدة "ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة"( ).
"جميلة كمعصية وجميلة
كجميلة عارية في مرآة
وكأميرة شاردة ومخمرة في الكرم"
ثم "جميلة كمركب وحيد يقدم نفسه"
كسرير أجده فيذكرني سريراً نسيته
جميلة كنبوءة ترسل إلى الماضي
كغمر الأغنية
جميلة كأزهار تحت ندى العينين…"
في مثل هذه الواحات الجمالية تستريح شاعرية أنسي الحاج، وهي كثرة في المجموعة الأخيرة. وفي مثل هذه الواحات بل حتى في المقاطع التي تكشف عن أبعاد تجربته نجده يصل بالعبارة الشعرية إلى نهاية الشرط عابراً المسافة كلها بين النار والرماد، بين اللوعة وراحة ما بعد الصراخ:
كان صوتك هضبة تغطيها المياه
وكانت مراكبنا سوداً
أراضينا بوراً
شموعنا صخوراً
"… وكنا نحفظ الأوراق لنحفظ
ونعبد الآثار لنعبد
ونخبئ لنخبّئ"،
حتى جئت
فلم ننظر إلى ما كان غير نظرة! ( )
ولما البحار تشققت/ وشعَّ صوتكِ
هوينا إليه كمياه
صرت المياه/ صرت المطر
ونزل الوقت
نزول الرعاة من الهضبة" ( )
فكيف بعد مغامرة الوقوف على الحافة المسنونة بين اللغة واللالغة وبعد سحب أوراق الظهور بعد هذه "الادغالية" الصميمية، تجيء المكاشفة واللغة التي لا تأنف من لهجة الملك سليمان دون أن تدخل هذه اللهجة إدخالاً سمفونياً يذوبها في لهجة الشاعر الإجمالية. وكيف بعد العري تلبس شاعريته تعابير ذات خصائص غنائية مسبقة أو جاهزة وبالتالي مستنفدة، كالوردة والذهب، الأميرة، جميلة عارية، قمر، أزهار، ندى… فضلاً عن اعتماده التسبيه بكثرة ولجوئه إلى التكرار الغنائي. وكيف تتحول بنية عباراته فتصير طويلة مستريحة واضحة بعد أن كانت مزقة مقطوعة متمنعة ومباغته؟ هل تراجع دافع الموت أمام سطوة الايروسية أو دافع الحياة ونزعتها الصاخبة المعبرة، فكان أن استراح دافع الحياة من استقصاءاته وعذاباته وخرج من مطهر الصمت إلى فردوس المطارحة؟ مع ذلك فإن في هذه المجموعة ما يدفعني الى القول إنها لخطة استراحة تنتقم من صمت السنين( ).
نصل من هذا الى نتيجة واضحة، هي أن الشعر لا يعرف الاستقرار ولا يمكن أن يستريح عند حدٍّ معين، وأن الشاعر هو الرائي أو الرائد الذي يضيء ويوحي ويكشف، ويترك الميدان لجيوش العلم والفلسفة والأخلاق والدول والسياسة والزخرفة، وكلّما اتّسمت هذه الفاعليات بالتطلّع الشعري أي كلَّما جاءت خارقة شبيهة بالخيال كانت أروع وأعظم…
وخير مثال على ما تقدّم من قول عن علاقة الفلسفة والعلم بالشعر شاعرية الشاعر أدونيس الذي
يأخذ القارئ إلى الحيرة، أي طريق يسلك أهي طريق الذاتي أم طريق الموضوعي؟ هل القصيدة قصيدة حب أم قصيدة ثورة؟
ففي قصيدته "قتلوه… لا لني أحدث عن موت صديقي"؟
هل نحن تحت سقف والمنطق أم في فضاء اللامعقول؟ هل نحن في عالم الوعي أم في عالم اللاوعي؟ من هذه المسائل يظهر مفهوم الجمال والقيم الجمالية، ومعنى التجديد والحدود التي ينبغي أن يقف عندها التجديد، ودور الشاعر، ومسألة الغمو ض، والعلاقة بين الشاعر والقارئ. نتساءل هنا ما دور الفلسفة والعلم في كينونة الشعر؟
بعد الكشوف الشعرية تجيء الفلسفة لتفسر وتنظم، ويجيء العلم ليكشف النواميس ويطبق، ويجيء الدين ليفسِّر تفسيره ويرسم الطقوس وينظم العلاقات. فقبل فرويد غزا دانتي، عالم اللاوعي، وبتعبير آخر، في كل فيلسوف شاعر، وفي كل شاعر وفي كل بني أو قديس شاعر، وفي كل قائد للشعوب شاعر. وإذا كان لا بد للفيلسوف، والعالم، والنبي، والقائد من الشعر، فإن الشاعر متى أدخل الفلسفة، أو العلم، أو التعليم الأخلاقي، أو الديني، أو السياسي في الشعر فسد شعره( ).
فعلى الشاعر أن يظل سابقاً ليظل شاعراً. فإذا سبقته الفلسفة أو سبقه العلم صار واضعاً لا شاعراً بهذا يبقى الشعر مرادفاً للإبداع، والجدّة، والنمو، والحركة الروحية. أظن هذا ما عناه أدونيس في حديث له: "الفاعلية الشعرية متجهة إلى المستقبل لا إلى الماضي. أي أن الشعر لا ينحصر فيما هو كائن بل يتجاوزه إلى ما يكون"( ).
الشعر إذن فاعلية جدلية بامتياز، في ضوء هذا أختار مثلاً في الشعر العربي شاعرين (من حيث الإحساس بالزمن): امرؤ القيس بكلمتيه "قفا نبك" لأنه خرق العادة وردّ على الحركة البدوية التي تنزلق في فعل المكان، وأقام الحوار الأول مع هذا المكان، واجتاز المسافة الزمنية في فعل الحنين، الشاعر الآخر المتنبي الذي هزّ القعود، واخترق السّمت متحركاً في اتجاه المطلق. ولا معنى بعد ذلك لأي شاعر يسير في أثر هذا أو ذاك مهما تفوق عليهما في الصياغة أو القدرة على التعبير ومهما جدد في الشكل الخارجي ما دام لم يفتح أرضاً جديدة ولم يجِئ بلهجة جديدة، ولم يخترق الأفق الذي بلغه الشاعران. ولا يكفي أن يتجاوز الذي سبقوه، بل لا بد من أن يتجاوز نفسه باستمرار، من أن يظل في حركة شوق نحو الأبعد. وإذا كان الشعر جدلياً بات من غير المفهوم وغير المقبول أن يكون الإنسان ثورياً على الصعيد الشخصي والعام، ومحافظاً على الصعيد الشعري. والمحافظة هنا لا تعني التمسك بالأدوات التعبيرية وحسب، بل تعني كذلك في الدرجة الأولى التمسك بمبدأ التقنين والاستقرار والقعود في مستنقع المفهومات( ).
ما معنى التجديد وما حدوده؟
بدأ التجديد، في المرحلة الحديثة، منذ وقف الشاعر في عصر النهضة ليضع حداً للانحراف الذي انجرف فيه الشعر العربي قروناً طويلة، وأعني المدح وما يتفرع منه، كي يوسع أبعاد العقل بما فيه أشواقاً نائمة، يثير التصور البشري باستدراجه إلى عوالم جديدة وغريبة، أو يزرع في أحداقه واقعاً يختبئ وراء الواقع، فليس للتجديد حد يقف عنده. هذا يبيح للشاعر أن ينسف المنطق الأرسطي، أن ينقض البدهيات العقلية: أن ينقض أسس الكلام والجمال، أن يتحرك في مسار الجنون. ولا أقول يدرك الجنون، لأن ما نراه اليوم تفوقاً كان سيبدو للقدامى جنوناً. بهذا المعنى يصير الجنون السبق ونقضَ المصطلحات و"خرق العادة" وتجاوز دائرة المعقول.
ففي قصيدة أدونيس "هذا هو اسمي" يستمر في تجاوز نفسه، فيثبت في موقف الشعر ويظل منسجماً في ثوريته ومواقفه الجذورية الناقدة نفسها المتجاوزة نفسها، فهذه القصيدة هدم لمبدأ الاستقرار الشعري، لمبدأ الأسلوبية ولكل اتباعيّة. هي إعلان شرعة التغيّر: ينبغي أن تتجاوز كل قصيدة ما سبق من منجزات الشعر وما حققه الشاعر نفسه، بحيث تكون كل قصيدة أرضاً جديدة تضاف إلى العالم المعروف. لذا لا استراحة ولا توقف ولا صيغة نهائية، بل الابتكار المتواصل المتجدد والمغامرة الدائمة والانطلاق الدائم بدءاً من البراءة. وكل قولبة وتقنين وموقف جاهز أو معاد يناقض احترام الطاقة الإبداعية في الشاعر والقارئ على السواء، ويُسهم في تحجير الحياة( ).
فالإبداعية تكمن في القصيدة الخالقة أرض بكر يلتقي عليها الشاعر والقارئ القصيدة إثارة دعوة إلى المغامرة والإبداع، والقارئ جزء لا ينفصل عنها، إنها تفاعل مُعلّق، طموحها أن تحيا بالقارئ. بمثل هذا تنادي جماعة Tel Quel التي تقول إن الكاتب واضع نص (Script) وكل قارئ يخلق هذا النص من جديد، أي يملؤه بأبعاده وشخصه. وهذه القصيدة إعلانُ ثورة وتحدٍّ. هي ثورة على كل سكون وتقليد، إنها تحدٍّ للقارئ المثقف. هي بهذا المعنى قصيدة عدائية ضارية لأنها تلغي الحكم القديمة: حكم الصبر والتروّي والتحمل والانتظار والمسالمة. عدائية لأنها تهاجم القارئ في عقر طمأنينته وكسله.
فيبدو الفارق بين القارئ المبدع الذي يواكب الشاعر الرائد والقارئ، والكسول الذي ينتظر من الشاعر أن يطربه عن طريق إعادة تنظيم المألوف من الأقوال والأفكار، كالفارق بين شخص يرافق كولومبوس المجنون في مغامرته، وشخص يواكب سائحاً أميركياً يلتقط الصور التي طالما سمع عنها وسبقه غيره إلى تصويرها، فالسلطان الوحيد هو لقوى الحياة- الشعر المتقدمة الباحثة المتسائلة الفاعلة المغيّرة.
وفي هذا إلحاح على مبدأ الإبداع المتكامل، أي إبداع الشكل والمضمون. وهذا يفترض توحّد الشكل بالمضمون توحداً تاماً أو ما يسمى الكتابة الشعرية، ولا تجيء الرؤى أو الأفكار مجردة ثم تنزل في قالب مهيّأ مسبقاً وفقاً للنظرة القديمة التي كانت ترى الشكل كسوة المعنى، لأنه لا وجود للشكل المسبق فطبيعي بعد ذلك أن نجد قصيدة "هذا هو اسمي" تعيش في مناخ الجنون أو النار. هذه القصيدة تمحو الحكمة وتبشّر بالجنون، بالسؤال، بالمواقف العفوية، بالمواقف المبتكرة، بالمواقف المتجاوزة المتخطية الناقضة، الرافضة حدود العقل، وحدود الصبر والقناعة والترويّ، وحدود القيم والنظم وحدود المرئي والمعروف، وحدود اللغة والفن وحدود التراث والحب، وحدود الإيمان والدين. تبشّر بالجنون الذي أدين به الحلّاج، والذي أدين به غاليليو وليوناردو دافنشي ونيتشه وبليك وميشو، الجنون الذي عقله الحلم- العقل- الشوق، الجنون الذي هو إعادة سلطان( ) طبقات الوعي جميعاً ونقض للقوالب العقلية، الذي شرعُته الهدم، الحلم، الشوق، الموت، التحول، المتاه، الخزق، الابتكار. الجنون الذي هو نظافة الذاكرة من القوالب ونظافة الأعماق.
تبدو لي كلمة هيدغر "القصيدة لقاء" مناسبة جداً لتعريف هذه القصيدة. وهذه القصيدة لقاء في مناخ النور والجنون، في لحظة متحركة هي الحاضر، في ممرق هو أعماق الشاعر. في هذا المحرق يتلاقى الذاتي بالموضوعي والكوني، والآني بالمطلق. تتقاطع شخصيات متعددة عبر شخصية الشاعر، وتخترق صوته أصوات كثيرة. تبيّن ذلك متى عرفنا هوية المتكلم في القصيدة. نقرأ في المقطع الأول: "… ماحياً كلّ حكمة/ هذه ناري/ لم تبق آيةٌ/ دمتي الآية….".
من هذا الذي يجيء ماحياً كل حكمة ودمُه الآية، الذي دخل إلى حوض المرأة- الأرض؟ أهو أدونيس شخصياً؟ أهو الشاعر أدونيس؟ أهو الثائر العربي أي "الفدائي" أم هو الثائر إطلاقاً، الإنسان العربي ثائراً شاعراً غضبه وتطلعاته وأشواقه؟ الصوت الذي ينقل هذا إلينا هو صوت أدونيس، والقرائن الظاهرة تكشف مباشرة عن شخصين: الثائر الفدائي الذي أعلن "ناره" في الثورة الفلسطينية وجعل دمه "آية" الحب والحركة في اتجاه الأرض، ومن ثمّ آية توحّد الحب والموت والولادة في فعل واحد تسميّه لغة الصحافة "الفداء".
القصيدة تنتشل هذا الفعل وفاعله من إطار الموقّت والحادثة لتعطيه أبعاده المتعددة، فيصير تجربة شخصية وموقفاً إنسانياً تاريخياً هو الثورة على الظلم والذلّ والتاريخ الذي أتاح هذا الذل، ويصير إلى ذلك، فعلاً كونياً يرسم دورة الحب- الموت- الولادة. ويجيء الثائر- الشاعر على المستويات الثلاثة "ماحياً كل حكمة" بادئاً من المنطلق الأول، عائداً إلى حوض المرأة- الأم- الأرض في فعل يغسل كل ماضٍ، يستحضر "الطوفان". يصرخ: "قادرٌ أن أغيرّ: نعمُ الحضارة، هذا هو اسمي"( ).
لذا فقصيدة "هذا هو اسمي" مدخل إلى عالم أدونيس الجوّاني. وإذ نلج هذا العالم نجد الموضوعيّ وقد اخترق أعماق الشاعر وقبع هناك لكن في حالة نارية أو سيميائية. ففي هذه القصيدة- الاستدراج، القصيدة- المفتاح الغامض الذي ينزل نبا الأدراج في أحشاء أدونيس لنجو "مدينة تحت أحزانه"، مدينه فيما وراء زبد الانفعالات وبراقع الزخرفة. نجد الهموم الحقيقية التي تتآكلّه والرؤئ التي تسكن أعماقه( ). كما يمكن النظر إليها كمجموعة من التفجرات تحدث في المدن السفلى القابعة تحت الأحزان، تحت الجلد… هذا التفجر ليس من نوع التداعي المعروف بل يرجع إلى طبيعة نظام العلاقات الداخلية (correspondances) في لغة أدونيس الشعرية. فتنطلق التأثيرات مثلاً في كلمة "قتلوه"، ومنها سأبكي لأمة وُلدت خرساء…"، فكأنما يستحضر الشاعر صورة جرحة لها طاقة التحريض والتفكيك. "ماذا؟ نفوهُ أو قتلوه؟" من هذا المنفي أو القتيل؟ الصديق الثائر؟ الشاعر الثائر في "أمةٍ ولدت خرساء"؟ يوضح هوية هذا المنفي ما سيجيء من قوله" لمَ البكاء على طفلٍ على شاعرٍ". هو الثائر إذن، لأن الطفولة تمثل الجدّة ونظافة الأعماق. بفعل هذا المحرّض تشتعل المدينة السفلى، تتطايرُ صور الجمود والاستلام والسيوف التي تطيح بالرؤوس المفكرة المتسائلة الرافضة: "وضع السيّدُ الخليفة قانوناً من الماء شعبهُ المرقُ الطيّنُ سيوفٌ مصهورة"، هكذا يسقط التمويه وتعرى الحقائق "وضع السيّد تاجاً مرصّعاً بعيون الناس". هذا يستنهض التساؤلات الهذيانية المجدِّفة "هل هذه المدينةُ آيٌ؟ هل ثياب النساء…". وإذ يخترق ببصره مضيقَ الزمن الذي يجتازه شعبه ويرى ضياعه وعبثية تحرّكه يصرخ بلوعة: "من شعبي نهرٌ بلا مصبٍّ؟". بدءاً من هذه الصرخة يبدأ التفجر الهذياني الأكبر في القصيدة: "أغني لغة النّصل أصرخُ إنتقبَ الدّهرُ وطاحت جدرانه( ).
بين أحشائي تقيأت، لم يعد لي تاريخٌ ولا حاضر. أنا الأرقُ الشمسيُّ والفوهةُ الخطيئة والفعلُ…". يتخلل هذه الصيحة المزلزلة الجنونية التي تتقيأُ الحاضر الفاجعَ والماضي الميت أصوت ملتاعة تجيء كالأصداء فيما وراء هذه الصيحة: "أنا الغصن لاجئاً" وهذه تحرّم العبارة التالية: "أصْغِ: هل تسمعُ هذا النّواحَ في كبدِ العالم؟".
وإذا يبلغ هذا الغضب الذروة يرتمي في حضن المرأة- الأرض، ينزرع في أحشاء الأرض- المرأة في مناخ سديميّ هذياني، ذاتي- كوني. فيه يتجاوز الشاعر اللغة بمعنى مَوضعة النار الداخلية أي نقلها إلى الحيز الخارجي المفصح. أما الإيقاع لغة معبرة وهو لا يقتصر على الصوت، إنه النظام الذي يتوالى أو يتناوب بموجبه مؤثر ما (صوتي أو شكلي) أو جوٌّ ما (حسي، فكري، سحري، روحي) وهو كذلك صيغة للعلاقات (التناغم، التعارض، التوازي، التداخل) فهو إذن نظام أمواج صوتية ومعنوية وشكلية، ذلك أن للصورة إيقاعها كما سنرى عند دراسة بعض صور القصيدة. فعلى سبيل المثال الإيقاع الصوتي عند أدونيس في قصيدته
"… وصوتي
هذيان المُغير
يكسر عكّاز الأغاني
ويقلع الأبجدية"
هنا أدونيس يأخذ التفعيلة ويتخلى عن البحر كلياً. يأخذ تفعيلات من بحور متعدّدة وينظمها تنظيماً جديداً مطابقاً للإيقاع المعنوي في القصيدة.
ففي القصيدة تتوالى المقاطع الهذيانية والغنائية، أو أمواج التوتر فأمواج الانبساط. ويحدث الانتقال بين هذا وذاك بحركة التفافية حلزونية متغوّرة، هابطة في غور الهذيان، أو التفافية إشراقية صاعدة نحو المقطع الغنائي( ).
وفي قوله "مساء الخير يا وردة الرّماد" أكتفي بالإشارة إلى تناقض الورد والرماد تناقضات عديدة. الوردة تعبير الغصن عن الفرح والحياة أي الفعل الحي الحاضر، والرماد ذكرى النار التي كانت، جثة نار كانت. في العلاقة بين هذين الحديث تصبح الولادة عزاء الرماد، حنين الرماد، والرماد مستقبل الوردة، رعب الوردة، موت الوردة. هذه العلاقة تغري الخيال بالحركة الدائمة بين الوضعين، فهو ما يزال يبين الاحتمال ويهدم ليبنيه ويهدمه. مثل ذلك الصورتان "أري ورقاً قيل استراحت فيه الحضارات/ هل تعرف ناراً تبكي؟" يقوم الصراع الداخلي بين حدّي القطب الأول نفسه، بين "حضارات" و"استراحت" لأن الحضارة حركة وقابلية شعب ما على الحركة. هذه الحركة التي متى استراحت ماتت فوق ذلك كل حركة تشتهي الراقة، كل راحة تتضمن حركة سابقة. التناقض الثاني يقوم بين النار والورق الذي استاحت فيه الحضارات. وعلاقة الشوق هنا واضحة ما دامت النار التي تبكي شهوة غائبة حاضرة، جعلها السؤال تراوح بين الحضور والغياب، مطيتها شوق آخر هو شوق الشاعر نفسه.
هذا الشوق أو النزوع إلى التأليف والعناق بين الحدود المتقابلة المتناقضة عنصر بارز من عناصر اللهجة الأدونيسية أو الإيقاع الأدونيسي، فسيمضي الشاعر في اكتشاف عالم الجنون، كل عوالم الجنون، عوالم التغيّر والوحدة، عوالم الانشطار، قبل أن تلوح نافذة الخلاص عبر جدار الصمت.
فيبتكر أدونيس في "أغاني مهيار الدمشقي" شخصية أسطورية خاصة به، وكان فيما سبق من آثاره الشعرية، يلجأ إلى صيغ أسطورية معروفة ينتزعها من حركيتها التاريخية ويعيد إحياءها بالرموز والدلالات المعاصرة رابطاً بذلك بين المفصلات الإنسانية الأزلية ومواجهات الإنسان المعاصر.
أما شخصية "مهيار" فهي أسطورة تنطلق بدءاً من أزمة الشاعر كفرد يعيش في القرن العشرين ويعاني على مستوى ثان تجربة التحول والتحرك التي يعيشها العربي، كما يعاني، على مستوى ثالث، أزمة الإنسان إذ يواجه المفصلات الكونية كالموت والحياة والحب( ).
هكذا ينقل أدونيس التجربة الشخصية والقومية إلى المسرح الكوني، وإذ تتلاقى هذه المستويات المتعددة لأزمة الإنسان عبر شخصية "مهيار" التي تتخذ أبعاداً الأسطورة، فإنها تغني بأصداء الأساطير القديمة محركة بذلك تاريخ القلق البشري هكذا يدخل سيزيف وفينيق ونوح وأدونيس واسكار والخضر وبشار والحلاج في نسيج شخصية مهيار.
لكن كيف ذلك وبشار نقيض الحلاج، وايكار غير نوح؟ هل يعني ذلك أن مهيار بلا هوية أم أنه كائن متناقض؟ لكن ألا تمثل مواقف هذه الأساطير أو هذه الشخوص التي دخلت حيّز الدلالات الأسطورية وجوهاً وأوضاعاً متعددة للإنسان الواحد المتحرك الباحث الواقف أمام الأسرار؟ هنا يكمن سرّ هوية مهيار. فمهيار ذو هوية متحركة مسافرة، خصيصة لأنها البحث الدائم، لأنها هوية تتكامل، تصير. وهنا تكمن خصائص الحداثة في شعر أدونيس. إذ إنّ كل ولادة تجدد، وكل تجدد نقض، وكل بحث عن الحقيقة رفض للقبول بالحقائق في وضعها الراهن.
وهذا السفر الأبدي بين الشكل والسديم، هذا الرصد للتكون، رفض للعالم في أشكاله وصيغه وقيمه الراهنة الثابتة. فالرفض أو "الهدم" كما يقول هيدغر "هو لحظة بناء جديد" "La destruction est un moment de toute nouvelle fondation" أو كما يقول بول ريكير Paul Ricoeur "إن مسألة المعرفة لا تطرح إلا في ما وراء الهدم وهذا أيضاً ما يدل عليه الفكر والعقل والإيمان". منذ أغاني مهيار الدمشقي بدأت كلمة الرفض سيرورتها في الشعر العربي المعاصر وفي النقد المعاصر. والرفض هو النسخ الذي ينتظم القصائد جميعها، ويتجلى بصورة خاصة في "إرم ذات العماد" وفي التاريخ، هذا الإله النيتشوي الذي يعريه في "المراثي" في الهالات حين يجعله "يغتسل في عينيه". وهو في رفضه هذا يتجاوز الحدود المرسومة، يتخطّى شرعة المنطق، يؤلف بين التناقضات ويرفض التقسيم القديم للعالم( ).
موقف الرفض هذا موقف مأساوي، لأن الشاعر يقف في مضيق بين ما يرفض وما ينتظر، بين ماض وآت، ومن هنا كان الإحساس بالنفي والغربة.
فمهيار مغترب أبداً عما كان ليبني ما يكون. يقول في أحد المزامير: "أنا الصباح الآتي والخريطة التي ترسم نفسها" ويقول في مزمور آخر راسماً شخصية مهيار: "إنه الريح لا ترجع القهقرى والماء لا يعود إلى منبعه. نخلق نوعه بدءاً من نفسه- لا أسلاف له وفي خطواته جذوره". والحنين في "أغاني مهيار الدمشقي" ليس رجوعاً إلى ماض تاريخي، إنه الحنين إلى زمن غائب، وشهوة للقبض على حقيقة فاتنة معذبة أبدية الحركة والتحول، لتجسيدها في لحظة تجلّ إلهي أو في لحظة إبداع، في لحظة معاينة للمطلق. هذه اللحظة هي تلاقي الإنسان وذاته الغائبة أو "بلاده الثانية" وهي لذلك لحظة الشعر.
كم قلت في بلادي الثانية
وامتلأت كفّاك بالدموع
وامتلأت عيناك
بالبرق في تخومها الآتية.
الجو الذي يولد الحنين والسفر الدائم في أثر الحقيقة، والرصد الدائم للتفتحات والولادة هو جو الدهشة. والدهشة سداه كل خلق فني. فالاندهاش هو حالة الحركة والتصدع، حالة الهزة والمفاجأة وفقدان التوازن واستجماع التماسك في آن، لحظة الجرح، لحظة اللقاء الأول والانصعاق بالجديد الغريب ولوع الإحساس بهشاشة الغرابة وآنيتها.
اللغة هي الطقس الذي يستحضر الشاعر عبره هذه المعاينة. اللغة هنا تطرح قضية العلاقة بين الكلمة- الكشف وبين نعمة الحلم. فهي هنا مظل وإيحاء، إنها لغة هيولية لألفة نهائية. هذه الخاصة الهيولية ناتجة عن بنية الرمز عند أدونيس. ذلك أن ساحة الإيحاء في الرمز قد اتسعت الى حد استيعاب الدلالات المتقابلة أو المتناقضة، وهذا ما يمنح اللغة القدرة على اللحاق بموجات الحلم.
آخذ كمثال رمزاً مفرداً من أبسط رموز أدونيس في "أغاني مهيار الدمشقي" دلالات بيولوجية جزئية وكلية، وأعني بالكلية اعتبار الجرح مشروع موت ودليل حياة في آن( ).
ولنسمِّ دلالات الحد الظاهر (أ، أَ، أً… الخ) لكن إذا أمكن حصر دلالات الحد الظاهر فإن مثل ذلك غير ممكن بالنسبة إلى الحد الباطن الذي هو جانب الإبداع في الرمز. الحد الباطن موطن الوعد في الرمز وكلما كان هذا الحد غنياً بالوعود كلما ازدادت دينامية الرمز وقدرته على مخاطبة الأجيال المختلفة. من وعود الحد الباطن في رمز الجرح مثلاً، دلالة الدهشة والانفراج عن الخفي في لحظة التزعزع (ولنسم ذلك بـ ب… الخ). والجرح حنين الضفة الى الضفة، وهو الانفصال والتقارب والتنافر ورفضت الاستمرار (وليكن ج، جَ، جً… الخ) والجرح اندمة لا تشفى ونافذة على أعماق مغلقة ومطل على الانعتاق (أو د، دَ، دً… الخ) وكل دلالات هذا الرمز متأثرة بغيرها وفاعلة فيه حتى ينتج من هذا التفاعل ما ذكرته من غنى ساحة الدلالات.
والواقع أن غنى ساحة الدلالات هذه هو ما ينقذ رموز أدونيس التاريخية من كثافتها المادية، ذلك أن إشعاعية الحد الباطن وديناميته ترفعانه من التاريخية الى الكونية أو تحيلانه شيئاً آخر. أليس الفن تحويل المادة الأولى (الخام) إلى شيء غيرها؟ أليس حركة هذه المادة التاريخية أو الأرضية في اتجاه المعقول واللامحسوس وفي النتيجة صراع المادة الأولى والمثال؟ إن الشاعر، حيث ينتزع الكلمة من دورها العملي اليومي ليجعلها ملتقى لإشراقات فكره، يكون قد أقام فيها صراعاً بين مادتها الأولية وطبيعتها الغنية. وهذا التحول وهذا الصراع هما ما نعنيه بعبارة "لغة الشاعر الخاصة". هذه اللغة هي طقس الشاعر الخاص، مغامرته الخاصة في البحث عن الحقيقة. لذلك تكون لها خصوصية الحلم والتجربة، ومن هنا كان سقوط كل نتاج يحمل لغة شاعر آخر. فالحقيقة الشعرية هي في النهاية حقيقة داخلية وإن كانت تمتلك خاصة البث والاستقبال وتطمح الى أن تكون حقيقة موضوعية.
هكذا فالرمز عند أدونيس حضور يستجلي غياباً، إنه استدعاء لحضور غائب بإشارة رهن الغياب. لعبة الحضور والغياب هذه ميزة "اللغات البعيدة" لغات المستبطنين الذين يرصدون مراوحين بين الحلم والواقع، مسقطين الحلم الحميم على الزمن الآتي( ).
ولنكشف عن مرحلة التطلع إلى الفعل الثوري وما يمثله الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب، ومُوقعه من الحركة الشعرية الحديثة؟
لنبدأ بقضية العلاقة بين الشعر والثورة، إذ كيف يتصل الشعر وهو المنبعث عن الحلم، بالفعل الثوري الذي يقتضي نظراً موضوعاً يقيم الواقع والتزاماً عملياً وجسدياً بنقضه وتغييره( )؟
يقول أدونيس "الشعر رؤيا بفعل والثورة فعل برؤيا"، موضحاً بذلك الجدل بين الشعر والثورة وما في الشعر من شوق إلى الحياة المتحركة المتغيرة المتصاعدة وما في الثورة من نار الإلهام الشعري. ولقد كانت، دائماً، القفزة من الرؤيا إلى الفعل بهذه الرؤيا، طموح الشعراء الكبار، كما كان كبار الثوار حالمين كباراً. فالرؤيا هنا، أو الحلم الإبداعي، تصور للعالم ينطلق من رغبات الإنسان العميقة الأصلية في غياب كل شكل من أشكال التسلط والظلم والاستغلال والتنازل والإذعان للأمر الواقع. والشعر- الرؤيا أو الحلم، احتجاج مستمر على واقع بات واقع قهر، وهو لذلك تصحيح سلبي لهذا الواقع الفاسد، وما الثورة إلا صورته الإيجابية. بل إن هذا الحلم الضمان هو الأصلي ضد عمليات التغريب المتراكبة التي يمارسها المجتمع بفئاته المتسلطة.
يلتقي هذا مع الشعار الذي كتبه الطلاب الثائرون بباريس في أيار 1968 على أحد جدران السوربون: "انسوا كل ما تعلمتموه، ابدأوا من الحلم".
"oubliez tout ce que vous avez appris, commencez par le rêve"
العودة للبدء من مستوى الحلم ذلك هو ملتقى الشعراء والثائرين. ومن أبرز أدوار الشعراء تهجئة الأحلام واستقراء أعمقها وأكثرها التصاقاً بالطبيعة الإنسانية. حيث يتلاقى الحلم المصحح للواقع أو الشعر الطامح الى التغيير والابتكار وإعادة خلق العالم بالدعوات الثورية الى "تغيير العالم" كما عند ماركس، أو كما في الطموح غير المهجأ دائماً، الذي يشكل جوهر المقاومة كحركة، ونبض الثورات الطلابية، كما يشكل حافز الحركات الغنية. فالشعر، لصدوره عن اللاوعي أو منطقة الحلم، يقوم بدور مزدوج( ):
أ- يلتقط حركة اللاوعي الجماعي ويكشف عن أسطورة العصر غير المتبلورة في صيغة.
ب- وهو من جهة ثانية يبث حركة جديدة باعتبار اتجاهه نحو اللاوعي، أي باعتباره التواصل البشري على مستوى الجذور والماهيات، وعلى مستوى البراءة الإنسانية.
الحركة الجديدة التي يثبتها الشعر هي رسالته إلى زمانه، ورسالة الشعر العظيم ثورية دوماً لأن هذا الشعر هو أبداً هدم، أو بناء لعالم جديد.
هكذا يكون الشعر ثورياً حين يسهم في خلق "الحالة الشعرية" أي حين يملك طاقة على تحريض الحلم ونشر مناخ الأهواء الجامحة وبعث "حالة الغضب" وعبور مسافة الاختيار والقرار( ).
من هذا المنظور تبدو لي أهمية بدر شاكر السياب كواحد من أبرز روّاد الحركة الشعرية المعاصرة بوجهها الثوري. فقد حمل شعره الملامح الأولى لما نلمسه في هذه الحركة من طموح لتغيير "الحساسية العامة" والرؤية الشائعة، و"لخلخلة" القيم السائدة والمنطق القائم، ونقل "حالة الغضب" من الغموض والصمت إلى الوضوح والتعبير. مما جعله يتألف وسط الركود الذي أعقب الحرب العالمية الثانية يوم كان الشعر لاحقاً بالأحداث ينقلها ويضعها أو يطريها ويشرحها بلهجة الشكوى أو الحماسة الخطابية من دون أي اصطدام أو مساس جديّ بالتصورات القديمة أو بأسس التفكير التقليدي. وقد جاء السياب شهادة على زمانه لا بمعنى تسجيل التحركات بل بمعنى الوعي العميق للخطة التاريخية واستكناء جذورها واستشراف آمادها، بمعنى الاتصال بروح الشعب، بلا وعي الإنسان في محيطه، ومعانيه الأسطورة التي تمثل أشواق الإنسان في هذا المحيط. ويمكن القول إن رسالته الشعرية هي رسالة كشف أكثر مما هي رسالة بثّ. رسالة الكشف هذه برزت خاصة، في مرحلة من مراحل تاريخ السياب الشعري. إذ لا بدّ من الإشارة الى أن شاعريته لم ترسم خطاً استمرارياً تصاعدي الاتجاه، لأن هذا الخط أصيب في أواخر حياة الشاعر بالانعطاف نحو الشخصي- البيولوجي، فانقطع اتصاله بالكوني وغرق شعره في ما يسميه كارل جوستاف يونغ "الاعراضي" "symptomatique" متراجعاً عن "الرمز"( ).
كما أن بدايته الذاتية- الرومنطيقية لا ترق إلى ما حققه في المرحلة الرمزية- التموزية( ) أو التراجيدية. ذلك أن جوهر الأثر الفني لا يكمن في الخصوصيات الشخصية ولا في ظواهر الأحداث، ما لم يتمكن الشاعر من وضعها في مدارها الكوني. ولقد أثقلت الأحداث الشخصية أو الاجتماعية شعر المرحلتين الأولى والأخيرة.
بين هاتين المرحلتين تنهض شاعرية السياب لتجعل منه شاعر الخمسينات الذي شفّ شعره عن التطورات والتناقضات الكبرى في الحياة العربية.
كانت مرحلة الخمسينات مرحلة تفتح الهوية العربية، كما كانت، من جهة ثانية، مرحلة الهوية المطعونة المهددة، حين قوطعت الحركة العربية الصاعدة بخيبة صاعقة وبحركة هابطة عام 1948، زعزعت حركة الصعود وتقاطعت معها واضعة الوجدان العربي في مركز الارتجاج. من هذه الصدوع تسربت شاعرية السياب عميقاً. جسدت الفاجعة وجاءت جواباً عن زمانها. فكما قبض غوته، في "ناوست" على أسطورة عصره وجاءت مسرحيته تشخيصاً لانتقال الإنسان من الإيمان بالغيب وطلب المعرفة عن طريق السحر أو الإلهام، إلى التخلي عن السماء وطلب المعرفة عن طريق الأرض، والغرق في الخس والتجريب بنهمٍ وعطش لا يعرفان حدوداً، وعبرت بذلك عن توثب الروح الأوروبية والألمانية خاصةً، في عصر آخذ بالتقدم العلمي مأخوذ بشهوة الاستكشاف والتخطي. هكذا جاء شعر السياب في تحركه بين الموت والولادة، راسماً الطريق التي تبدأ بالأرض وتنتهي بالأرض، مستجلياً ما في أعماق الروح العربية من تعاطف مع الموت وانفتاح على الماوراء وتمزق ما بين الزمني والأزلي، تعاطفاً يكشف عن شهوة الحركة والتحول عبر الموت المحيي، فأصالة شاعرية السياب تتجلى في ما يسمى "وحدة الخيال"، فلقد كشف حدسه الشعري المحور الذي تلتقي حوله الرموز الشخصية الصميمية والرموز الجماعية الوطنية والرموز الكونية. تتمثل "وحدة الخيال" عند السياب في دوائر الرمز المتكاملة. نأخذ مثلاً رمز الماء. إنه رمز إشعاعي يبدأ بمحور ذاتي وينتقل الى مستوى اجتماعي فكوني( ).
ذلك أن الماء هو الأم أو الرحم وهو من ثم ولادة وانبعاث، والماء دعوة الى "الحلم والسفر"( ) ورمز للموت( ) لخاصة العبور والجريان فيه، وعبوره عبور للموت وانتقال إلى الأزلي. والماء نوع من "الوطن الكوني" كما يرى باشلار، وهو الحنين( ) بما هو ماضٍ، وصيرورة بما هو حركة، فيكون بذلك صورة لوحدة الزمن.
والسياب في عودته إلى البدايات الأسطورية، وفي صعوده من الأنا واتساعها حتى الاندماج بالكوني، إنما زود الشعر العربي بدفعة أسرارية بمعنى المسار الجديد للروحي في الزمني أو كما يقول عزرا باوند، لعالم "أزلي وإلهي ينجس في العالم اليومي".
تنفذ الدفعة الاسرارية من ارتجاج الوعي العربي، من صدوع تصوره للعالم، وتحاول أن تلأم الصدع بميتافيزيا الموت والبعث، معارضة بذلك الدين بما هو عزاء وتعويض وتبرير للتناقض والعبث. وفي هذه المعارضة ينبغي أن نلتمس الموقف المأساوي عند السياب، ولا بد من معاناة خاصة وتيارات لاواعية تقوّض الأسس القائمة وتبحث عن لغة جديدة. لذا بدأ السياب بالبحث عن ينابيع لغوية عذراء، وتجلى هذا في قصائده كالنهر والموت وشناشيل بنت الجلبي، وما رأيناه عنده من "وحدة الخيال". قدمت صوراً ذات حركة إشعاعية بطنت حركة السرد، وهيأت للمحتوى الشعري القدرة على الحياة وتوليد دلالات تخاطب أجيالاً مختلفة، وهو بالتالي ما أنقذ شعره من السقوط في الواقعية الوضعية النقلية وإضاءاتها الموقتة التي وقع فيها شعراء الواقعية.
هكذا يبدو السياب ظاهرة خاصة، إنه خلاصة الأصوات الشعرية التقليدية في بحثها وفي احتضانها بذرة الثورة، أو هو طموح لغة شعرية إلى التحول، أي إلى العيش في الغد( ).
وصفوة القول إن المبدع يبلور عبر نتاجه لغة جديدة بصياغة فريدة تتجاوز المألوف بقوانين وثقافة تحمل موقفاً يقفز بعيداً ليستولد الجديد.
سنلقي الضوء على قصيدة لبدر شاكر السياب من مجموعة "أنشودة المطر" المعنونة "النهر والموت".
بوَيب….
بوَيب…
أجراس برج ضاع في قرار البَحْر
الماء في الجرار، والغروب في الشّجر
وتنضح الجرار أجراساً من المطر
بلّورها يذوب في أنين:
"بويب…. يا بويب!"
فيدلهمّ في دمي حنين
إليك يا بوَيْب
يا نهريَ كالمطر
بويب… يا بويب،
عشرون قد مضى كالدهور كل عام
واليوم حين يُطبقُ الظلام
وأستقرّ في السرير دون أن أنام
فيدلهمّ في دمي حنين
إلى رصاصة يشق ثلجها الزؤام
أعماق صدري، كالجحيم يشعل العظام
لأجعل العبء مع البشر
وأبعث الحياة، إنّ موتيَ انتصار.
نستشف من النص الهمهمات البدائية الساكنة في نبض الهموم المعاصرة. أول ما يلفت هو تكرار لفظة بويب، كعنصر نغمي ضمير حيث نحس انعطافاً في اللهجة أو الدلالة وفي المسار. فهذا التكرار المنظم لكلمة بويب عبر صيغة النداء يوحي بجو طقوسي. فالشاعر يناديي النهر، والطابع الغالب على كلمات القصيدة هو طابع الماء( ).
إذن تتحرك القصيدة بين قطبين: بين سيادة الماء، وسيادة الإنسان. إذ تبدو القصيدة في مطلعها خارجة عن سديم مائي، ومن هذا السديم يتحرك ضمير المتكلم جعلنا ولادة الإنسان( ).
وفي آخر القصيدة يشكل البيت الأخير مرحلة متميزة في تصاعد الوجه الإنساني يتمحور البيت حول فعل واحد "لا بعث الحياة" به يتجاوز المتكلم- الإنسان الحد البشري ويبلغ الميتافيزيقي.
أما مصدر فعلي الموت والانتصار فيأتيان نتيجة لعملية بعث الحياة فعل الشهادة الخارق بخرق القوانين والمفاهيم وبدل أن يعني الانتصار الحياة يصبح الموت انتصاراً، وبذلك يعكس في هذه الدفعة الأخيرة العلاقة التي أوحى بها العنوان: النهر (الحياة) والموت الموت حياة.
والتعبير يخصص الموت ويحدده بربطه بياء المتكلم بينما يترك الانتصار مطلقاً بلا زمن ولا حدود( ).
لذا فالقصيدة تحضع لنظام داخلي دقيق من العلاقات يربط بين محاورها ومستوياتها ربطاً تتولد منه الدلالات أو تتكامل بفضله الدلالات، ويبطن بعضها بعضاً وقد تكشف لنا عن وجود محورين أساسيين في القصيدة هما: محور النهر، ومحور الإنسان. كما أن القصيدة تتحرك في مستويين: مستوى الحلم والأسطورة، أو مستوى اللاوعي، والمستوى الاجتماعي الواقعي أو مستوى الوعي( ).
فنلاحظ كيف تطالعنا قضية الموت والولادة أو البعث حتى في ثنايا الصور وكيف يبدو الموت والولادة ثمرة لتداخل البعدين الإنساني والطبيعي الكوني، ثم كيف أن القضية تتبع مساراً دائرياً يتطابق مع الحركة العامة للقصيدة( ).
ويمكننا أن نبني بعض الاستنتاجات، تكمن الخصوصية الغنية لهذه القصيدة في كونها عالماً متكاملاً من العلاقات، تبدعها، أو تكشف عنها. وهي تقدم هذه العلاقات في بنية شبكية دينامية، تتمثل في ما مرّ معنا أثناء التحليل من إضاءات متبادلة (نظام البدائل) وعلاقات تداخل وتواز، ومن خصائص هذه البنية الدينامية كون القصيدة بمجموعها وبأجزائها أو عناصرها حركة جدلية بين الحياة والموت والحركة الدائرية الأكثر تعقيداً، التي تدخل الصور في بنيتها، وتمثل دورة الحياة والموت في مسار آلي قدري، أو مسار صراعي مأساوي( ).
وأن تمتاز القصيدة بالوحدة العضوية يعني أن تكون نسيجاً حياً متنامياً هي القصيدة الرؤيا قراءة جديدة لتاريخ الإنسان في الكون، تفترض إبداع منظومة من القيم والعلاقات عن طريق خلق رموز أو صور، وتربط القضايا الراهنة، بجذورها النفسية والتاريخية والكونية، إنها نوع من اكتشاف العالم ومن فتح آفاق جديدة، ومن رسم طرق جديدة للقبض على المصير. فالقصيدة – الرؤيا خلق. وكما أن العلم لا يخترع الطبيعة، أو يخلق خصائص العناصر من عدم، وليس، من جهة ثانية، مجرد وصف وتسجيل وإحصاء، وإنما تأويل وتنظيم واكتشاف علاقات، ينتج عنها إبداع علاقات.
وقد رأينا في هذه القصيدة، كيف بلور الشاعر حلم الجماعة في مرحلة معينة، ونقله في حالة الحدس والتطلع المبهم، الى حالة الجواب عن مفصلات الحاضر، وكيف بعث، في أثناء ذلك، النماذج الأولى الغافية في لاوعي الجماعة، والتي تكون جذوراً تغذي هذا الحلم. كما توحد هذه القصيدة الأبعاد الذاتية، والجماعية، والكونية، لا توحيد ذوبان، بل توحيد تآصر وتفاعل، وشراكة في المحور. هذا التوحيد يتحقق عن طريق إبداع الرمز. وهو لذلك علاج لنقص المنطق، كما أنه علاج لجمود المعطيات والمفهومات الثابتة. الرمز إشارة الى احتمالات تفلت من التعبير المعقلن، وإلى غائب لا يحيط به التعبير المباشر.
والرمز الرئيس في هذه القصيدة هو رمز النهر فيحمل دلالات تتدرج من المستوى الطبيعي الواقعي الى المستوى الكوني الميتافيزيقي، حيث يصبح مرآة ومعبوداً ثم الى المستوى الذاتي الصميمي حيث نراه رحماً. فلغة القصيدة وبنيتها الحركية، هي التي تحفّز آلية الحركة الكونية طريقاً لحركة إنسانية خارقة( ).