النظام العالمي الجديد يشهد مخاضَه في دمشق
في العام 2011 اندلعت الأزمة في سورية ومنذ البداية اتخذت أبعادا اقليمية ودولية إذ تدخلت فيها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وتركيا والمملكة العربية السعودية وقطر ضد الحكومة السورية والرئيس بشار الأسد، فيما وقفت روسيا والصين وإيران في صفوف الدول الداعمة له. والجدير ذكره أن الأزمة ترافقت مع أزمة في النظام العالمي تمثلت في ازمة اقتصادية اندلعت في الولايات المتحدة في العام 2008، ومع عملية انتقال في بنية النظام الدولي من نظام أحادي القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب. والجدير ذكره أن الأزمة التي يمرّ بها العالم وعملية الانتقال من نظام أحادي القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب كانت ستتركز في منطقة بلاد الشام. فمنذ فجر التاريخ شكلت بلاد الشام محور الصراع الأساسي بين القوى العظمى عبر التاريخ، كالمصريين وقوى بلاد ما بين النهرين، اليونانيين والفرس الأخمينيين، ثم الرومان والبارثيين، والبيزنطيين والساسانيين، فالمغول والمماليك، إلخ. ولقد كان العامل الأساسي في ذلك هو في كون بلاد الشام قد شكلت عقدة المواصلات الدولية بين الشرق والغرب منذ فجر التاريخ. لذلك فإن كل عملية انتقال في طبيعة النظام الدولي كانت تنعكس حالة عدم استقرار في بلاد الشام، فيما كان الوضع يستقر فيها عند استقرار النظام الدولي. لذلك فلقد قدِّر للأزمة التي اندلعت في سورية في بداية العام 2011، أن تأخذ أبعاداً متشعبة وأضحت سورية محور صراع بين قوى إقليمية ودولية والبوتقة التي تشهد مخاض الانتقال من نظام أحادي القطبية تسيطر عليه الولايات المتحدة إلى نظام متعدد الأقطاب.
أزمة النظام الدولي الرأسمالي
قبل نحو قرن من الزمن كتب فلاديمير إيليتش أوليانوف (لينين) كتابه الشهير "الإمبريالية آخر مراحل الرأسمالية، وفيه حلل العوامل التي أدت إلى ظهور الإمبراطوريات والتي أدت لاحقاً إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى. بالنسبة للينين فإن الحرب العالمية الأولى كانت حرباً امبريالية، توسعية، عدوانية هدفها نهب خيرات الشعوب، بين الأطراف المتنازعة. وبالنسبة له فقد كانت هذه الحرب تهدف إلى اقتسام العالم وإعادة توزيع المستعمرات ومناطق نفوذ الرأسماليات المالية. لقد كانت هذه الحرب ناتجة عن مسار طويل ميز النصف الثاني من القرن التاسع عشر والذي شهد نمواً كبيراً في الإنتاج الصناعي في أوروبا الغربية رافقه تركيز لعملية الإنتاج في شركات كبرى والتي أصبحت من أكثر ميزات الرأسمالية لفتاً للانتباه. وقد انتقلت الرأسمالية في تلك الحقبة من مرحلة التنافس الحر إلى مرحلة ظهور الرأسمالية الاحتكارية. ويضيف لينين قائلاً:
"إن المراحل الرئيسية في تاريخ الاحتكارات هي كما يلي: (1) 1860 – 1870، وهي مرحلة الذروة في نمو حالة التنافس الحرّ فيما لا يلمس أثر لحالات الاحتكار التي كانت لا تزال في مرحلة التكوين الأولى. (2) بعد أزمة العام 1873، بدأت مرحلة نمو الكارتيلات التي كانت لا تزال هي الإستثناء لحالة التنافس الحرّ، وبالتالي فقد كانت هذه مرحلة انتقالية من طور التنافس الحر إلى الطور الاحتكاري. (3) وخلال فترة النمو الكبيرة في نهاية القرن التاسع عشر ثم خلال فترة الأزمة بين عامي 1900 و 1903 فإن الاحتكارات أضحت الميزة الأساسية للحياة الاقتصادية، وهنا تحولت الرأسمالية إلى حالة الإمبريالية".
وخلال هذه الفترة تطور القطاع المصرفي وتم تركيزه في عدد قليل من المؤسسات. تلا ذلك دمج الرأسمال المالي مع الرأسمال الصناعي ما أدى إلى صعود ظاهرة الأوليغارشية. بعد ذلك بدأت عملية تصدير رأس المال. إذن فإن:
"الشركات الرأسمالية الاحتكارية، والكارتيلات، والاتحادات والشركات المساهمة بدأت أولاً بتقسيم الأسواق المحلية في البلدان الأوروبية في ما بينها، وبالتالي تمكّنت من السيطرة على القطاعات الاقتصادية كافة في بلدانها. لكن في ظل الرأسمالية فإن السوق المحلية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأسواق الخارجية. والجدير ذكره أن الرأسمال كان قد أقام سوقاً عالمية. ومع تزايد وتيرة تصدير رأس المال، ومع توسع العلاقات الخارجية والعلاقات بالمستعمرات وتوسع مناطق النفوذ للشركات الاحتكارية الكبرى في مختلف الاتجاهات، فإن هذا أدى إلى قيام اتفاق دولي بين هذه الشركات لتشكيل كارتيلات دولية".
وقد كانت هذه آخر مرحلة في عملية اقتسام العالم بين القوى الإمبريالية. إذن فقد ظهرت الإمبريالية كاستمرار وتطوّر للرأسمالية كمرحلتها القصوى والأخيرة، حيث تنتقل الرأسمالية من حالة التنافس الحر إلى الحالة الاحتكارية. وقد لخّص لينين خصائص الرأسمالية كما يلي:
تركيز الإنتاج ورأس المال قد بلغ درجة عالية أدت الى نشوء احتكارات باتت تلعب دوراً مقرراً في الحياة الاقتصادية.
دمج رأس المال المالي مع رأس المال الصناعي وبناء عليه تشكيل الأوليغارشات المالية.
تصدير رأس المال فضلاً عن تصدير تصدير السلع بات يكتسب أهمية خاصة.
تشكيل احتكارات رأسمالية عالمية باتت تقتسم العالم في ما بينها
الانتهاء من الاقتسام الجغرافي للعالم بين القوى الرأسمالية الكبرى.
وبالتالي فإن الإمبريالية هي الرأسمالية في مرحلة من التطور التي تشهد هيمنة الاحتكارات والرأسمال المالي على مقدرات العالم، والتي تشهد تزايد أهمية تصدير رأس المال، وأيضاً تشهد اقتسام العالم بين الشركات الاحتكارية الكبرى. كذلك فهي المرحلة التي تشهد اكتمال عملية اقتسام العالم بين القوى الرأسمالية الكبرى.
لقد قام لينين بتحليل العوامل التي أدت إلى انهيار النظام الرأسمالي الليبرالي الذي هيمن على أوروبا في القرن التاسع عشر والتي أدت إلى الحرب العالمية الثانية، ومن ثم إلى الركود الذي ضرب العالم في العشرينيات من القرن العشرين، والتي كان من نتائجها اندلاع الحرب العالمية الثانية. وقد انتهت هذه الحرب في العام 1945 وقد كانت رغبة العالم الغربي في ألا تتكرّر هذه الحرب مرة أخرى، كما أن هذا الغرب الرأسمالي لم يشأ في أن تنتشر الاشتراكية في العالم. لذلك فوفقاً للمؤرخ البريطاني إريك هوبسباوم:
"كان هنالك أربعة عوامل أثرت على القادة وصانعي القرار في ذلك الوقت. وكان العامل الأول هو الكارثة التي ميزت مرحلة ما بين الحربين العالميتين والتي يجب عدم السماح بتكرارها، والتي كانت ناتجة عن انهيار النظام المالي والتجاري العالميين وما رافقها من حال الشرذمة التي ميزت العالم والتي أدت إلى نشوء امبراطوريات او اقتصادات وطنية ذات طابع مطلق. وقد استفاد النظام الدولي من الهيمنة البريطانية، أو اقله من مركزية الدور الذي لعبته بريطانيا وعملتها، الباوند الإسترليني. وخلال فترة ما بين الحربين العالميتين، فإن بريطانيا والباوند الإسترليني لم يعودا قويين بما فيه الكفاية للعب هذا الدور، والذي كان يمكن فقط للولايات المتحدة الأميركية والدولار الأميركي أن يلعباه . ثالثاً، فإن الأزمة الاقتصادية الكبرى كانت تعود أيضاً إلى فشل السوق الحرة التي كانت تعمل من دون ضوابط. لذلك فقد كان لزاماً على السوق أن تترافق مع عمليتي التخطيط العام والإدارة الاقتصادية. وفي النهاية، فإنه من أجل اسباب اجتماعية وسياسية، فإنه كان من المحظور عودة ظهور حالات البطالة الجماعية".
هنا قامت الحكومات الغربية بالإصلاحات الاقتصادية التي اقترحها الاقتصادي البريطاني الشهير جون ماينارد كينز. وكان كينز قد طوّر نظرية اقتصادية مرتبطة بالإنفاق العام أطلق عليها اسم "الطلب المجموعي" والمتأثرة بمزيج من مبادرات القطاع العام والخاص، حيث تقوم الحكومة باتخاذ القرارات المالية والنقدية، وتتولى الإنفاق العام على المشاريع العامة الكبرى. أما المعيار الآخر الذي تم اعتماده فكان توسيع العمل بقوانين منع الاحتكار بما يمنع ظهور الاحتكارات.
لكن مع حلول السبعينيات من القرن الماضي فإن العالم الغربي انقلب على إصلاحات جون ميانارد كينز وعاد إلى الليبرالية الكلاسيكية مع انسحاب الدولة من لعب دور فاعل في الاقتصاد. لقد كان هذا هو عصر النيوليبرالية ورمزها الأبرز ميلتون فريدمان. وقد ترافقت هذه المرحلة مع ركود عالمي ميّز مرحلة الثمانينات من القرن الماضي مع نزوع نحو تركيز رأس المال في الولايات المتحدة التي طمحت لأن تصبح امبراطورية عالمية. ومن أجل تجاوز حالة الركود هذه لجأت الولايات المتحدة إلى سياسة النهب. وحتى ذلك الوقت كانت كتلة الدول الاشتراكية هي الوحيدة التي بقيت خارج نطاق الهيمنة الرأسمالية. لهذا فإن الرئيس الأميركي رونالد ريغين (حكم 1981 – 1989) صعد سباق التسلح مع الاتحاد السوفياتي ما ساهم في إنهاك اقتصاده وبالتالي إلى انهياره في العام 1991. وقد تعرّضت روسيا والدول الاشتراكية السابقة لعملية نهب منظمة خلال التسعينيات من القرن الماضي ما ساهم في صعود نجم الرئيس فلاديمير بوتين في العام 1999 كرد فعل على هذا النهب المنظم. وقد ساهم هذا النهب المنظم في إنعاش مؤقت للاقتصاد الأميركي الذي شهد نمواً في تلك الفترة. لكن الأوليغارشيين الأميركيين، والذين كانوا لا يزالون يعتمدون السياسات النيوليبرالية، كانوا قلقين من احتمال صعود منافسين لهم على الصعيد العالمي ومن احتمال تفجر ازمة اقتصادية في الولايات المتحدة والعالم الغربي نتيجة صعود الاحتكارات وما يمكن أن يولده من ركود. لذلك فإن الحل بالنسبة للولايات المتحدة كان في أن تسيطر على التجارة الدولية، وإحدى سبل هذه السيطرة هي في احتكار الهيمنة على طرق التجارة الدولية، خصوصاً طرق الملاحة البحرية والتي يمر عبرها 80 بالمئة من التجارة الدولية. هذا يفسر الهجمة على أفغانستان والعراق في عامي 2002 و2003 وذلك للسيطرة على الشرق الأوسط وهو عقدة المواصلات العالمية منذ فجر التاريخ. لكن هاتين المغامرتين كانتا مكلفتين وقد أثرتا سلباً على الأمبراطورية الاميركية التي انطبق عليها نموذج التمدد العسكري الزائد الذي تحدث عنه المؤرخ البريطاني بول كينيدي والذي من شأنه أن يؤدي إلى انهيار الإمبراطورية.
لقد شكل تفجر الأزمة الاقتصادية في الولايات المتحدة في العام 2008 ، والذي انتقل بعدها إلى عدد من الدول الغربية، النقطة التي أعلنت عن أزمة النظام الرأسمالي نتيجة حالة الاستقطاب في الاقتصاد العالمية وتركّزه في يد عدد قليل من الأثرياء في العالم وتركز الحياة الاقتصادية والثروة في عدد قليل من هذه الدول. ووفقا لمجلة "فورتشون" فإن الناتج هنالك 500 شركة عابرة للقومية تشكل عائداتها السنوية نحو 32 تريليون دولار أميركي أي ما يساوي 45 بالمئة من الناتج الإجمالي العالمي وفقاً لأرقام العام 2014. وتملك هذه الشركات فروعاً في 36 بلداً حول العالم فيما توظف نحو 65 مليون شخص. أما بالنسبة للائحة الأشخاص الأكثر ثراء في العالم فقد سجلت مجلة فوربز أن أول مئة ملياردير في العالم ينتجون ما مجموعه نحو سبعة تريليونات دولار أي ما يساوي عشرة بالمئة من مجموع الناتج العالمي لعام 2014. ووفقاً للائحة الأشخاص الأكثر ثراء في العالم فإن سبعة من أثرى عشرة رجال في العالم هم أميركيون بينهم بيل غيتس رئيس مجلس إدارة شركة مايكروسوفت مع ثروة تقدر بـ 79.2 بليون دولار، ووارين بافيت مالك شركة بيركشاير هيثاواي مع 72.2 بليون دولار ولاري اليسون من شركة أوراكل وثروة تقدر ب54.3 بليون دولار، بالاضافة ألى شارل ودايفيد كوخ من شركة كوخ للصناعة وجيم وكريستي والتون مالكي شركة والمارت. فيما سجلت اللائحة تبوّء المكسيكي كارلوس سليم المركز الثاني مع ثروة تقدر بـ 77 بليون دولار، وتبوّء الإسباني امنسيو أورتيغا مالك شركة إنديتكس للمركز الرابع مع ثروة تقدر بـ 64.5 بليون دولار، وتبوّء الفرنسية ليليان بيتانكور مالكة شركة لوريال للمركز العاشر مع ثروة تقدر بـ 40 بليون دولار.
كذلك فلقد شكل العام 2008 النقطة التي وصلت فيها الولايات المتحدة الى مداها الأقصى من حيث التمدد العسكري. لذلك أعلن الرئيس أوباما (حكم 2009 – 2017) عزمه ألا يدخل الولايات المتحدة في أي نزاع عسكري مستقبلي. هذا كان يعني أيضاً أن على الولايات المتحدة أن تتخلّى عن حلمها القديم في أن تكون الإمبراطورية التي تسيطر على العالم، والإمبراطورية التي تشكل نهاية التاريخ. لقد بدأ النظام الحادي القطبية الذي فرضته الولايات المتحدة في العام 1991 بالتداعي بعد العام 2008 مع ظهور قوى كبرى تتحدّى الهيمنة الأميركية مثل روسيا والصين. ويبدو أن هذه التعددية القطبية من شأنها أن تخدم مصالح الرأسمالية العالمية. فإذا كان الاحتكار ونظام معولم متركّز في الولايات المتحدة قد بات مكلفاً للرأسمال العالمي، فإن من شأن نظام متعدّد الأقطاب أن يخفف من أكلاف خدمة وإدارة هذا النظام الاقتصادي المعولم.
ظاهرة العولمة عبر التاريخ
من الجدير ذكره أنه إذا تجاوزنا نمط التفكير اليوروسنتري فإننا سنجد أن ظاهرة العولمة لم تكن ظاهرة حديثة برزت في نهاية القرن العشرين. فلقد كان هنالك مراحل تاريخية سابقة تمكنت فيها قوة واحدة من فرض هيمنتها على طرق التجارة الدولية والاقتصاد العالمي. ولقد كانت الإمبراطورية الآشورية ما بين القرنين العاشر والسابع قبل الميلاد أولى هذه الظواهر، تلتها عولمة الفارسية ما بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد. وقد فرض العرب نظاماً معولماً ما بين القرنين السابع والعاشر كانت عاصمته دمشق تلته بغداد. لكن في جميع هذه الحالات فإن هذه الأنظمة المعولمة رافقتها أزمات دورية كبرى أدت في المحصلة إلى كسر مركزية النظام والتحول إلى لا مركزية النظام المعولم. ففي حالة الآشوريين فإن القرن السابع قبل الميلاد شهد تمرّد معظم الشعوب التي وقعت تحت الهيمنة الآشورية ضد هذه الهيمنة، ما أدى في النهاية إلى سقوط النظام الأشوري. أما النظام الفارسي فقد تعرّض لهزات عدة كانت آخرها الهزائم التي تعرضت لها على يد الإسكندر المقدوني في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد.
في الواقع فإن غزو الإسكندر للأمبراطورية الفارسية شكل نقطة التحول في النظام الدولي آنذاك، من نظام معولم متمحور حول الأمبراطورية الفارسية إلى نظام متعدّد الأقطاب. فعقب وفاة الإسكندر تم تقسيم مملكته بين قادته العسكريين، فظهرت دول السلوقيين والبطالسة، وبعد عقود قليلة ظهرت مملكتا البارثيين والكاشيين على أجزاء من وسط آسيا وإيران وافغانستان. الأمر نفسه ينطبق على العرب الذين شهدوا تراجع دور بغداد خلال القرن العاشر وصعود نجم البويهيين والسامانيين في شمال ايران والعراق والغزنيين في جنوب ايران وافغانستان والطولونيين والإخشيديين في مصر والأغالبة ثم الفاطميين في تونس والأمويين في الأندلس.
على ما يبدو فإن قانون منع الاحتكار الذي اعتمد بشكل قوي بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، كان قد طبق سابقاً من قبل الامبراطوريات بشكل فطري قبل جون ماينارد كينز بآلاف السنين. فإذا كانت الرأسمالية تؤدي إلى قيام احتكارات تتخذ من الإمبراطوريات شكلاً سياسياً لها، فإن نظاماً متعدد الأقطاب كان العلاج السياسي للاحتكار لتفادي الأزمات العالمية. هذا يفسر لماذا، وبعد هزيمة نابوليون في واترلو في العام 1815، قام ميترنيخ في مؤتمر فيينا بفرض نظام متعدد الأقطاب في أوروبا. لقد كانت هنالك دوائر عدة في الولايات المتحدة تعي هذا الأمر منذ السبعينيات من القرن الماضي. وهي كانت تتوقع بروز قوى عدة يمكن لها أن تتحدّى الهيمنة الأميركية على مقدرات العالم. ويبدو أن تركيز هذه الدوائر انصبّ على إمكانية بروز قوى في البر الأوراسي. وبالعودة إلى التاريخ فإن القوى البرية كانت لها اليد الطولى في ما يتعلق بموازين القوى مع القوى البحرية نتيجة لغناها بالموارد الطبيعية ونتيجة كبر أسواقها المحلية. لكن القوى البحرية كانت أكثر كفاءة وفاعلية في الوصول إلى الأسواق العالمية نتيجة سيطرتها على طرق الملاحة البحرية. لقد كان هذا ما قاله كبار المفكرين الاستراتيجيين بمن فيهم الأدميرال الأميركي الشهير ألفريد ثايير مايهان الذي خدم في البحرية الأميركية في نهاية القرن التاسع عشر. وإذا كان العالم يتّجه إلى أن يكون متعدد الأقطاب، فإن على الولايات المتحدة أن تستحصل على عناصر تجعلها أكثر أهلية وقوة من القوى الكبرى. أما العنصر الأهم الذي يمكن له أن يعطي الولايات المتحدة اليد الطولى على القوى الأخرى، فهو احتكارها للسيطرة على طرق الملاحة البحرية. وهذا يمكن له أن يتحقق عبر منع اوراسيا من الاتحاد تحت مظلة دولة واحدة أو ائتلاف دولي واحد. كذلك فإن على الولايات المتحدة أن تبقي على قواعد لها في أوراسيا. وبالتالي فإن على اوروبا الغربية أن تبقى تحت الهيمنة الأميركية لأنها تشكل جسر عبور إلى أوراسيا، كما أن على روسيا والصين اللتين تحتلان قلب أوراسيا أن لا تصلا إلى منافذ مفتوحة على طرق الملاحة والتجارة البحرية.
سورية حافظ الأسد
نشأت الجمهورية العربية السورية بحدودها الحالية بعد انهيار الدولة العثمانية عقب نهاية الحرب العالمية الأولى. وبعد ثلاثة عقود من الانتداب الفرنسي نالت البلاد استقلالها، وعاشت في ظل حكومات برلمانية ضعيفة خلال الأربعينيات والخمسينيات نتيجة الصراع الإقليمي والدولي عليها، خصوصاً بين مصر من ناحية والعراق الهاشمي من ناحية أخرى. وبين عامي 1958 و1961 دخلت سورية في وحدة مع مصر انتهت بانقلاب عسكري تلته سلسلة انقلابات حتى وصول الرئيس حافظ الأسد إلى السلطة في انقلاب قام به في تشرين الثاني 1970. وقد حكم الأسد سورية حتى وفاته في العام 2000، ويفسر الكثيرون طول مدة حكمه بالمقارنة مع من سبقوه إلى قدرته على السيطرة على العاصمة دمشق عبر نسجه لتحالف مع النخبة التجارية الدمشقية، عبر ضمانه مصالحهم الاقتصادية، ولقدرته على موازنة التناقضات الداخلية بالإضافة إلى التناقضات الإقليمية والدولية بشكل فعال. فعلى سبيل المثال، حين واجه الأسد تصاعد معارضة الأخوان المسلمين لحكمه بين عامي 1975 و1982، وصولاً إلى تمرد حماه، فإن دمشق لم تشارك في هذا التمرّد، لأن الأسد كان قد عزز مصالح البورجوازية الشامية عبر رفعه لحصتها من الاستيراد من بليون ليرة سورية في العام 1975 إلى 4.17 بليون ليرة سورية في العام 1980، ما ساهم في تحييد دمشق وأقنعها بعدم الانضمام للتمرد. وخلال فترة حكم الأسد تحوّلت سورية إلى قوة إقليمية كبيرة لأول مرة في تاريخها المعاصر. وعلى الصعيد الإقليمي، نجح الأسد في تطبيع علاقاته مع المملكة العربية السعودية ومصر، بعد توتر ساد هذه العلاقات خلال فترة الستينيات. وقد شكل التقارب مع مصر والمملكة العربية السعودية مقدمة لشنه حرب العام 1973 بالاشتراك مع مصر بغية تحرير الأراضي التي احتلتها اسرائيل في العام 1967. إضافة إلى ذلك فقد سعى الأسد لحصر اسرائيل داخل حدود الـ 1967 لأنه كان مقتنعاً بأن أي مكسب اقليمي لاسرائيل لا بد ان يأتي حكماً على حساب سورية.
اعتقد الأسد أن حرب أكتوبر 1973 ستسهم في تعزيز الدور الإقليمي لسورية وتساعدها على تحرير الجولان المحتل وحل الصراع العربي الإسرائيلي. لكن المسار الذي اتخذته الأحداث نتيجة تفرّد الرئيس المصري أنور السادات بالمفاوضات مع اسرائيل خيب آمال سورية. وفي العام 1979 وقعت مصر اتفاق سلام منفرد مع اسرائيل وخرجت من الصراع معها ما أضعف الموقف السوري. وفي العام 1975 اندلعت الحرب الأهلية في لبنان وما لبثت سورية أن تدخلت في هذه الحرب باسطة سيطرتها جزئياً على لبنان ومحاولة بسط سيطرتها على منظمة التحرير التي كانت تتخذ من بيروت مقراً لها. وقد شكل الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 أكبر تحد واجهه الأسد في تلك الفترة. وقد ساهم الإسرائيليون في انتخاب قائد القوات اللبنانية بشير الجميل المعادي لسورية رئيساً للجمهورية. لكن الجميل اغتيل بعد ثلاثة اسابيع من انتخابه ما شكل بداية تحول الأوضاع لمصلحة سورية وهو ما تم في العام 1984 مع إلغاء لبنان لاتفاق السلام مع اسرائيل واختيار حليف سورية رشيد كرامي رئيساً للحكومة التي ضمت في تشكيلتها حلفاء لسورية.
في العام 1985، جرى تحول جذري في العالم تمثل في وصول ميخائيل غورباتشوف إلى السلطة في الاتحاد السوفياتي رافقه تراجع نفوذ موسكو، وصولاً الى انهيار كتلة الدول الاستراكية في العام 1989 ثم انهيار الاتحاد السوفياتي نفسه في العام 1991 ونهاية الحرب الباردة. وقد استفادت الولايات المتحدة من ذلك لتتفرد بزعامة العالم وتحاول بسط سيطرتها المطلقة على منطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط. وقد أرادت الولايات المتحدة فرض سيطرتها على الشرق الأوسط، لأنه عقدة المواصلات العالمية ومفتاح الهيمنة على العالم.
لقد كان الأسد مقتنعاً بان الولايات المتحدة ستتفرد بزعامة العالم لعقد من الزمن على أقل تقدير. لذلك فقد سعى لتحسين العلاقات معها. وهو استفاد من حرب الخليج الثانية حين قام العراق باجتياح الكويت ما دفع بالولايات المتحدة لتشكيل ائتلاف دولي ضده. وقد أمل الأسد في أن يؤدي انضمامه للائتلاف إلى جعله شريكاً للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وإزالة اسم سورية عن لائحة الدول الداعمة للإرهاب وفتح مجال الاستثمار ونقل التكنولوجيا إلى سورية. وقد تلقت سورية مساعدات خليجية بقيمة بليوني دولار واقامت علاقات طيبة مع مصر. اضافة إلى ذلك فهي أخذت الضوء الأخضر للإطاحة بالجنرال اللبناني المتمرد ميشال عون وفرض وضع ملائم لها في لبنان تمثل باتفاق الطائف. وقد شاركت سورية في مؤتمر السلام الذي افتتح في مدريد في أواخر العام 1991 والذي نتج عنه اتفاق أوسلو بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1993 وبين اسرائيل والأردن في العام 1994.
فجر الألفية الجديدة
مع حلول الألفية الجديدة، كان على الأميركيين اتخاذ سلسلة من القرارات المصيرية بالنسبة لهم، والتي من شأنها حسم زعامة العالم لمصلحتهم. وقد شكلت الحرب على أفغانستان أواخر العام 2001 وبداية العام 2002 فرصة بالنسبة للولايات المتحدة لتحديد المدى الأقصى لهذا الشرق الأوسط الذي تريد الولايات المتحدة السيطرة عليه. إضافة إلى ذلك فقد شكلت الحرب على العراق فرصة بالنسبة للولايات المتحدة لإعطاء عمق لهذا الشرق الوسط الذي يجب أن يكون موالياً لها، إضافة لمنحها فرصة للسيطرة على نفط المنطقة. وقد كانت الخطوة الأميركية التالية هي في الإطاحة في نظامي الحكم في كل من سورية وإيران حتى تتمكن من السيطرة بشكل كامل على الشرق الأوسط. وقد كان الهدف من الثورتين الملونتين في جورجيا في العام 2003 وأوكرانيا في العام 2004 هو تأمين الجناح الأيسر لهذا الشرق الأوسط. وقد تجلت المحاولات الأميركية في استهداف سورية عبر إصدار قرار مجلس الأمن 1559 والذي دعا سورية للانسحاب من لبنان. وقد لعب رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري دوراً محورياً في إصدار هذا القرار بالاستناد إلى حليفه الرئيس الفرنسي جاك شيراك.
وكان شيراك قد اختار ألا يواجه الولايات المتحدة بعد العام 2004، وذلك نتيجة العقاب الذي تعرّض له على يد جورج بوش الإبن بعد معارضته للغزو الأميركي للعراق. وقد أمل شيراك في أن يؤدي التقارب مع الولايات المتحدة إلى اعتراف أميركي بالنفوذ الفرنسي في لبنان وسورية. وكان شيراك قد دعم وصول بشار الأسد إلى السلطة في سورية في العام 2000، آملا في أن يسهم ذلك لإقناعه بالانسحاب من لبنان وقطع علاقاته مع إيران. لكن ذلك لم يحصل ما أصابه بخيبة أمل.
وقد ردت سورية على القرار 1559 بالتمديد للرئيس إميل لحود لثلاث سنوات إضافية وبالدفع لاستقالة رفيق الحريري الذي حل محله الرئيس عمر كرامي. وفي 14 شباط، تم اغتيال رفيق الحريري وقد ألقى الغرب باللائمة على سورية.
لم يكن النصر الأميركي في العراق وأفغانستان حاسماً. فقد واجه الجيش الأميركي مقاومة شرسة في هذين البلدين، وقد دعمت سورية وإيران المقاومة العراقية ما جعل الاحتلال الأميركي مكلفا جداً. كذلك فقد دعمت روسيا انقلابات مضادة في أوكرانيا ومارست ضغوطاً على جورجيا لإحداث تغيير سياسي لمصلحتها. وقد بات الأميركيون واعين لقصورهم مع وصول الرئيس باراك اوباما في العام 2009. لذلك فقد سعوا لفرض حل سياسي في العراق يمكن أن يخفف الضغط عليهم ما يجعلهم يركزون جهودهم لتشديد قبضتهم على أفغانستان. في المقابل فقد استفاد العراقيون من تراجع القوة الأميركية ليضغطوا باتجاه الانسحاب الأميركي الكامل من العراق في العام 2011. وقد استفادت إيران من ذلك أيضا لتوسيع دائرة نفوذها في المنطقة واحداث اختراقات باتجاه الوصول إلى البحر المتوسط والبحر الأحمر عبر تحالفها مع سورية ومع حزب الله اللبناني ومع حماس في غزة ومع الحوثيين في اليمن. في المقابل سعت الولايات المتحدة لمنح تركيا فرصة للعب دور في المنطقة العربية بغية احتواء التمدد الإيراني باتجاه شرق المتوسط والبحر الأحمر. وقد تجاوبت حكومة العدالة والتنمية مع هذا المسعى الأميركي، وكان لوزير الخارجية أحمد داود أوغلو الذي أصبح لاحقاً رئيساً للوزراء دور كبير في صياغة السياسة الخارجية التركية. وقد دعا في كتابه العمق الاستراتيجي إلى أن تلعب تركيا دوراً فاعلاً في منطقة البلقان ومنطقة وسط آسيا بالإضافة إلى المنطقة العربية. وقد أعلن أوغلو في كتابه أن الدفاع عن شرق الأناضول يقوم على خط يمتد من كركوك إلى الموصل مروراً بالرقة والقامشلي في شمال سورية. وقد اعتبرت حكومة العدالة والتنمية أن سورية هي المدخل إلى المنطقة العربية وقد حاولت تحسين العلاقة مع دمشق عبر سعيها للتوسط بين السوريين والإسرائيليين من أجل تحريك عملية السلام المجمّدة بينهما.
شكل الربيع العربي الذي انطلق في بداية العام 2011 النقطة التي انفجر فيها احتقان المجتمعات العربية بعد عقود من القمع وسوء الحكم. وقد سعت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى احتواء هذا الانفجار ودعمت الحركات السلفية حتى تهيمن على الساحة. وفي سورية بدأت هذه المجموعات برفع شعارات تثير الفتنة الطائفية كما حصل مع أحد المشايخ في درعا الذي توعّد بذبح العلويين والمسيحيين والدروز. والمعروف أنه عبر التاريخ كانت درعا تتفاعل مع العشائر والقبائل في الجزيرة العربية. كذلك فقد ساهم ائتلاف قوى 14 آذار في دعم وتمويل حركات الاحتجاج والمعارضة المسلحة في سورية. والدليل على ذلك هو ضبط عمليات تهريب للسلاح من لبنان إلى سورية كان أبرزها باخرة محملة بالسلاح ضبطت في ميناء طرابلس شمال لبنان. وقد وجدت الولايات المتحدة في الاحتجاجات السورية فرصة للإطاحة بالرئيس بشار الأسد وبنظام الحكم في سورية. وفي بداية الأزمة دعا أوباما الأسد إلى القيام بإصلاحات أو التنحي محذراً من أن عدم التجاوب قد يؤدي إلى تدخل دولي ضد سورية.
كذلك فقد دعت الحكومة التركية الرئيس الأسد إلى القيام بإصلاحات وسارع وزير خارجيتها أحمد داود أوغلو إلى دمشق للقاء الأسد للتعبير عن استعداد بلاده للمساعدة في عملية الإصلاح. وفي وقت لاحق اعلن رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان أن "الجرائم التي ترتكب في سورية لا تُغتفر"، داعياً الأسد إلى التخلي عن أخيه ماهر قائد الفرقة الرابعة في الحرس الجمهوري. وقد تناقلت وسائل الإعلام نية تركيا اقامة منطقة عازلة في شمال سورية. بعد ذلك بدأ التوتر يتصاعد في شمال سورية مع أحداث جسر الشغور، حيث قتلت الجماعات المسلحة 120 من رجال الأمن.
مؤيّدو بشار الأسد
في مقابل الضغوط الغربية التي واجهها الرئيس بشار الأسد كان هنالك عدد من القوى التي أعلنت تأييدها له. وكانت إيران أول الداعمين للرئيس الأسد. وكانت إيران بذلك ترد الجميل لسورية التي دعمتها خلال الحرب العراقية الإيرانية بين عامي 1980 و1988. وقد تم ترسيخ العلاقات الإيرانية السورية أيام الرئيس حافظ الأسد والإمام الخميني. وقد أتاحت هذه العلاقة التي ترقى إلى التحالف لايران أن يكون لها نافذة على العالم العربي وأن يكون لها بوابة على شرق المتوسط. كذلك فإن علاقتها بالمقاومة اللبنانية أتاحت لها اطلالة على الصراع العربي الإسرائيلي. وبالنسبة لإيران فإن خسارة سورية، في الوقت الذي كان الغرب يفرض حصاراً عليها، كانت تشكل كارثة استراتيجية بالنسبة لها، لأنه سيكون من الممكن بالنسبة للولايات المتحدة أن تخنق ايران وتزعزع نظام الحكم فيها بما يخدم استراتيجيتها العليا بحصار روسيا والصين داخل البر الأوراسي ومنعمها من الوصول إلى منافذ على طرق المواصلات البحرية. هذا يفسر إعلان وزارة الخارجية الايرانية بأن الاحداث في سورية هي "جزء من مؤامرة غربية لزعزعة حكومة تدعم المقاومة ضد اسرائيل". بعد ذلك اعربت طهران عن معارضتها لأي تدخل أجنبي في الشؤون السورية. وقد اعترضت طهران على الاتهامات الغربية لها بدعم اجهزة الأمن السورية خلال قمعها للمظاهرات. كذلك اعلن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله الذي قال صراحة إن خسارة الدعم السوري قصم ظهر المقاومة.
كانت روسيا الداعم الثاني للأسد. فبالنسبة لموسكو فإن الدعوات لتغيير النظام في سوريا ستجعلها تخسر حليفاً مهماً لها في الشرق الأوسط. وقد شكلت علاقة موسكو بدمشق الركن الاساسي في السياسة الروسية في الشرق الأوسط منذ بداية الخمسينيات من القرن الماضي. وبنتيجة العلاقة الروسية بسورية أصبح لموسكو قاعدة بحرية على ضفاف المتوسط وهو ما كانت الأمبراطورية الروسية تطمح له منذ القرن السابع عشر. وحتى قبل الأزمة السورية كانت موسكو تتذمّر من توسع حلف شمال الأطلسي الناتو شرقاً، وكانت الخديعة التي تعرضت لها أثناء الأزمة الليبية والإطاحة بالعقيد معمر القذافي في ربيع العام 2011. لذلك فهي باتت متشددة في دعمها للنظام في سورية ما جعلها تبلغ المعارضة السورية رفضها الإطاحة بالنظام ودعوتها لها للبدء بمحادثات معه. وقد أعلن وزير الخارجية الروسي أمام مجلس الأمن معارضته لإدانة النظام في سورية. وقد تلا ذلك استخدام الروس للفيتو ثلاث مرات متتالية لمنع صدور قرار في مجلس الأمن تحت البند السابع ضد سورية. فخسارة سورية تعني بالنسبة لروسيا أن الشرق الاوسط والمتوسط باتا مغلقين أمام الروس ما يتيح للولايات المتحدة استخدام تركيا كقاعدة للانطلاق باتجاه القوقاز ووسط آسيا.
أما الداعم الثالث لسورية فهي الصين التي شاركت مع الروس في وضع فيتو على مشاريع قرارات الأمم المتحدة ضد دمشق. والجدير ذكره أن الصين تاريخيا نزعت للانعزال وراء حدودها لأنها "لم تكن بحاجة لاي شيء من العالم". ومنذ القدم كان التجار العرب والفرس هم الذين ذهبوا إلى الصين للمتاجرة معها. ولم يخرج الصينيون خارج حدودهم إلا مرتين. وكانت المرة الأولى حين كانت الصين قاعدة للحكم المغولي والذين رغبوا في فتح طرق التجارة عبر البر الأوراسي والتي أثمرت توحيد معظم البر الأوراسي في ظل قوة واحدة لأول مرة في التاريخ. وكانت المرة الثانية خلال حكم أسرة مينغ التي أطاحت بالحكم المغولي، ولكن هذا كان فقط لفترة وجيزة حين قرر الأمبراطور جودي (حكم 1402 – 1424) ارسال اسطول في العام 1421 جال حول المحيط الهندي قبل عودته الى الصين. وقد دامت رحلة الأسطول لعامين ويقول البعض إن الأسطول جال حول العالم ولم يكتف بالمحيط الهندي. لكن بعد عودة الأسطول أمر الأمبراطور بتدميره "لأنه ليس هنالك في العالم ما تحتاجه الصين". وعادت الصين الى عزلتها التي دامت حتى القرن التاسع عشر. هذه العزلة أتاحت للقوى الأوروبية الالتفاف حول القارة الآسيوية ما مكنها في النهاية في التغلغل داخلها وتحويل معظمها مستعمرات في حين وقعت الصين تحت هيمنة القوى الأوروبية والغربية. لكن اليوم لم تعد الصين قادرة على الانعزال نتيجة حاجتها لاستيراد المواد الأولية ونتيجة حاجتها للأسواق لتصريف منتجاتها.
لقد كان سقوط الأسد يعني في حال حصوله أن إيران ستصبح معزولة ونظامها معرضاً للسقوط، وبالتالي فإن الشرق الأوسط سيصبح مغلقاً امام الروس والصينيين. ومع وقوع اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والفليبين واندونيسيا وماليزيا وجنوب شرق آسيا تحت النفوذ الأميركي فإن هذا يعني أن الصين وروسيا لا يمكنهما الخروج بحرية إلى المحيط الهادئ. ومع سيطرة الولايات المتحدة على بوابة البلطيق إلى المحيط الأطلسي بحكم ان الدنمارك والنروج عضوان في الناتو، فإن هذا يعني أن روسيا والصين لن تمتلكا منفذاً على طرق الملاحة البحرية ما يعني أنهما ستكونان تحت رحمة الولايات المتحدة.
بنى بشار الأسد على الإرث الذي تركه والده عبر السيطرة على دمشق وموازنة التناقضات داخل سورية، وبين القوى الإقليمية والدولية. وحتى حزيران من العام 2012 فإن دمشق لم تكن قد دخلت في دائرة استهداف المسلحين باستثناء أحداث قليلة. كذلك فقد بقيت حلب موالية للنظام رغم احتلال المسلحين لأجزاء منها. هذا أمن للأسد قاعدة صلبة ينطلق منها لمواجهة خصومه. وبالتالي فقد استفاد من الدعم الإيراني والروسي والصيني لمواجهة الضغوط الأميركية والغربية والتركية وحتى العربية. بعد ذلك قام بسلسلة خطوات إصلاحية، رغم أنها بقيت محدودة نتيجة الأزمة. فرفع قانون الطوارئ القائم في سورية منذ العام 1963 وسمح بتأسيس أحزاب جديدة، وأصدر قرارات تتعلق بحرية الصحافة والتعبير. إضافة إلى ذلك فقد فتح المجال لاستيعاب حجم كبير من اليد العاملة في مؤسسات الدولة. وقد تلا ذلك إطلاق مئات المعتقلين بمن فيهم إسلاميون. كذلك أصدر مرسوماً بمنح الجنسية للآلاف من الأكراد، وأقال حكومة محمد ناجي عطري التي قادت سياسات اللبرلة الاقتصادية بين عامي 2003 و2011. كذلك أصدر مراسيم تسمح للمرأة المنقبة بالعمل في الوظائف الحكومية والتدريس في المدارس الحكومية، وألغى محكمة أمن الدولة العليا، ومرر قانوناً انتخابياً يسمح بمزيد من الحريات السياسية.
على الصعيد الخارجي تمكن الأسد من استخدام الورقتين العلوية والكردية في تركيا ليمارس ضغوطاً على أردوغان. ويُقدّر عدد الأكراد في تركيا بعشرين بالمئة وهم يتركزون في منطقة جنوب شرق الأناضول في ولاية ديار بكر والولايات المحاذية لها. أما العلويون من أتراك وعرب وأكراد فيقدر عددهم بخمسة عشر مليوناً. وقد ساهم الأكراد والعلويون بتراجع نسبي في وضع أردوغان خلال الانتخابات التشريعية. ورغم أن حزب اردوغان استطاع الحصول على خمسين بالمئة من اصوات الناخبين في العام 2011 بزيادة تقدّر بـ 3 بالمئة عن الانتخابات السابقة، إلا أن توزيع الاصوات في الدوائر الانتخابية جعله يخسر 15 عضواً فتراجع عدد أعضاء حزب العدالة والتنمية من 331 إلى 326، ما أعاق جهود اردوغان لتعديل الدستور وتحويل النظام في تركيا الى رئاسي تمهيداً لانتخابه رئيساً بعد انتهاء ولايته الثالثة كرئيس للوزراء. اما في العراق فقد تصاعدت المقاومة العراقية ضد الاميركيين وتم تسجيل مقتل 15 جندياً اميركياً في حزيران 2011 وحده وقد كان الرقم الأعلى من الخسائر الاميركية منذ العام 2008.
خلاصة
لقد كانت هنالك أسباب عدة لتفجّر الأزمة السورية داخلية وخارجية. ولا شك في أن عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية داخلية لعبت دوراً في تفجّر الأزمة. لكن العوامل الخارجية كانت أكثر تأثيراً وارتبطت بالتحولات الدولية الجارية، خصوصاً لجهة الانتقال من نظام أحادي القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب. فالأزمة السورية كانت في جزء منها محاولة أميركية وغربية لإغلاق المنفذ البحري الوحيد المتاح لروسيا وإيران والصين الى شرق المتوسط. لكن الأسد استطاع الصمود بدعم من حلفائه، رغم كل الضغوط. أما سبب الدعم الذي تلقاه من القوى الأوراسية وهي الصين وروسيا وإيران فناجم عن حاجة هذه القوى إلى منفذ بحري على شرق المتوسط والمياه الدافئة بعد محاولات التطويق التي قامت بها الولايات المتحدة في شرق آسيا وبحر البلطيق والبحر الأسود والخليج العربي لمنع هذه القوى الأوراسية من أن يكون لها منفذ على طرق الملاحة البحرية بما يؤدي إلى اختناق اقتصاداتها.
ويترافق هذا التنافس بين كتلة القوى البحرية بقيادة الولايات المتحدة ومعها أوروبا الغربية وتركيا مع كتلة القوى البرية الآنفة الذكر، مع عملية تحول في طبيعة النظام الدولي من نظام أحادي القطبية قادته الولايات المتحدة منذ العام 1991، وعكس حالة الاستقطاب في الاقتصاد العالمي ما أدى إلى دخوله في أزمة عميقة في العام 2008، إلى نظام دولي متعدد الأقطاب يكون فيه للنظام الرأسمالي العالمي أكثر من مركز بما يخفف من حدة الاستقطاب في الاقتصاد والثروة ويجدد شباب الرأسمالية العالمية خلال القرن الحادي والعشرين.