من التدمير إلى السرقة من اليهودي شامونال حتى موشي ديان
ملخص البحث
الآخر المغتصب للأرض أو المحتل لها أو المتسلل في وديانها أو الراغب والطامع في السيطرة عليها أو المتربص بها أو القابض على مقاليد الأمور فيها لا يخفى عبر كل الحقب التاريخية القديمة والحديثة والمعاصرة، ظلت نظرته لتأريخ هذه الأمة وحضارتها وهو يتعاطى مع منجزها الإبداعي يتعامل معهُ بإقصاء وانتقاء وحسدٍ شديد وهو وإن بدا ظاهرياً يحتفي بها ويذعن لعالمها الروحي والحضاري، لكن الأمر الأكيد هو أن هذا الآخر ومنذ قصة ظهوره المختلقة عام " 972 ق.م" يحفظ عن ظهر قلب تاريخ هذه الأمة وجغرافيتها وفضلها على البشرية ويتلصص على قصها الديني وينتحل من فلسفتها الأسطورية. وانتهى منذ قرون في تحديد خرائط مدنها وكنوز آثارها وجود حضاراتها فحاول ببراعة الخبيث ومكر اللصوص أن يتناسلوا مع تاريخ هذه الأمة وان يتناصّوا على فكرها الديني والفلسفي والسياسي إبان حروبهم مع الجزريين من كنعانيين وآراميين في فلسطين وبلاد الشام أو مع عرب الرافدين أو مع فراعنة مصر، فهم تماسوا مع تاريخ هذه الأمة فأخذوا من الكاهن فيبؤ في مصر، عبور إبراهيم، وحلم يوسف وتيه موسى وسرقوا من البابليين أبان أسرهم سنة "586 ق.م" قصة خلق الكون وخلق الإنسان وكتبوا توراتهم بلغة آرامية سريانية وتشبثوا في كتاباتهم بمشجر انساب القبائل العربية فربطوا أنفسهم بالساميين، هذه الحقيقة وغيرها من الحقائق ذكرتها كثير من المصادر الآشورية والتي أفصحت بالحرف الواحد عن أن العبرانيين أقوام غرباء على جزيرة العرب وبلاد الشام، وأن الكتابات الفرعونية وصفتهم كونهم كانوا "مرتزقة يجوبون المناطق المحيطة بسيناء" والروايات اليونانية قالت عنهم إن العبرانيين أُجراء وأقوام شتات يبيعون أو يرهنون أنفسهم لمن يدفع. ان الورقة التي بين أيدينا محاولة تاريخية لتقصي حجم الأذى والمكر والتزوير والحقد الذي لقيه العرب الجزريين والشرق عامة في عصوره القديمة والحديثة فتتبين فيه بالأدلة والقرائن التاريخية ظاهرة تأصيل ظاهرة الكره والحقد العبري والإسرائيلي على العرب الجزريين ومنتقلين بعد ذلك إلى التدقيق في دور الآخر المحتل لهذه المنطقة والذي عاث دماراً بآثارها وتحفها ومخطوطاتها ونفائسها، ثم اقتفينا أثر أو الدور الذي لعبه المنقبون والمستشرقون من الأصول اليهودية ودورهم في سرقة وتهريب آثار العرب في فلسطين وبلاد الشام ومصر ثم انتهينا في الحديث عن دور الاحتلالات والحروب والخراب الذي أحدثته المنظمات الإرهابية والدور الذي لعبته كل منها في تدمير وسرقة وتهريب وتدمير آثار العرب وإن أكثره ممتدّ من سفر حسقيال والمس بيل حتى موشيه ديان عام 1967…
الآثار والكنوز التراثية العربية من التدمير إلى السرقة
من اليهودي شامونال حتى موشي ديان
الدكتور مزهر الخفاجي
جامعة بغداد
لا نأتي بجديد حين نقول إن العبريين أو الإسرائيليين أو اليهود كملةٍ أو ديانةٍ يشوب تاريخها الكثير من اللغط فلفظة عبري، مثلاً بجذرها الديني ينتسب فيها أهل هذه الرسالة إلى " العابر إبراهيم عليه السلام" إذ عُرف بالتوراة باسم إبرام العبراني، وهي تعني جغرافياً نسبةً للشخص أو الجماعة العابرة من مكان لآخر؛ وهم شتات. وهذه التسمية تاريخها ذو دلالات تاريخية، إذ ذكرتها المصادر الآشورية الرافدينية بحدود الألف الثاني قبل الميلاد وهي تسمية أطلقت على عدد من القبائل الآرامية التي قدمت من شمال الجزيرة إلى فلسطين وبلاد الشام.
المهم أن كلمة عبري في دلالاتها تؤكد على غربة شعبٍ سُمِّي بهذا الاسم. وقد ورد لفظ عبري في مواضع كثيرة من التوراة وجاءت بمعنى الغريب أو الأجنبي في سفر التكوين " 39
:14، 18، 41". وفي سفر الخروج " 1 : 29" أما تسمية إسرائيلي وهي تسمية لها دلالات عامة ودلالات خاصة؛ فالدلالة العامة تسردها لنا الرواية التاريخية في سفر التكوين " 32 : 24، 31" والتي تُذكر فيها مباركة الرب ليعقوب عليه السلام؛ فباركه بأن أطلق عليه اسم إسرائيل. وهدف هذه التسمية والتي أطلق عليها المؤرخون مصطلح أسطورة الأصل، أو الأسطورة التعليلية والتبريرية. وهي كما اتفق عليها معظم المؤرخون تأتي كمحاولة لتعليل التسمية الجديدة، وهي قد سيقت لتقول للناس إن العبريين أو الإسرائيليين لكونهم أبناء يعقوب ابن إسحاق. والمعنى الخاص لهذه الأسطورة هدفها عرقي أي جعل الخلاص الإلهي قاصراً على بني إسرائيل دون البشر جميعاً، وفيها حسّ عنصريّ جغرافيّ من خلال تغييرها اسم أرض فلسطين أو أرض كنعان إلى أرض إسرائيل. وبهذين الدافعين العام والخاص الجغرافي والعنصري أصابت العنصرية الإسرائيلية فيما أصابت فكرة التوحيد وجعلت الإله الواحد الأحد إلهاً للإسرائيليين دون غيرهم وأطلقت عليه لقب إله إسرائيل.
وإن اختيار الصهاينة لتسمية بني إسرائيل يأخذُ بعداً تاريخياً يحاول أن يؤصل تاريخهم ويربط نسبهم بيعقوب عليه السلام، والذي يعود إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد. وهو تاريخ لم يكن يُعرَف فيه للعبريين ولا للإسرائيليين أي وجود. والدلالة الجغرافية الثانية في انتسابهم إلى بني إسرائيل، إنما هي محاولة تحاول ان تكرس الانتماء السياسي والتأريخي والجغرافي بعد ان ربطوا أنفسهم ببقايا شعب "مملكة إسرائيل الشمالية" وعاصمتها "السامرة" والتي كانت قد ظهرت عام " 932 ق.م" وهو العام الذي توفى فيه النبي سليمان عليه السلام وانقسمت مملكته في فلسطين إلى قسمين، "إسرائيل في الشمال" و"يهوذا في الجنوب"؟
وإن هاتين الدلالتين يتجدّد استخدامهما حديثاً مع نشأة الكيان الصهيوني الإسرائيلي في فلسطين، والذي اختار لنفسه اسم إسرائيل لما له من دلالات دينية وعنصرية وجغرافية وسياسية. أما التسمية الثالثة ونقصد بها تسمية اليهودي أو اليهودية: وفيها دلالتان عامة هدفها التوكيد على الذين يدينون أو يعتقدون في الديانة اليهودية ويؤمنون بمبادئها ويمارسون طقوسها وشعائرها؛ والدلالة الخاصة تذهب إلى أن كلمة يهودي ذات بُعد ديني، وهي تحاول ان تجذر لهذه الملة بأنهم ينتسبون إلى يهوذا وهو احد بناء يعقوب عليه السلام. والدلالة الخاصة تحاول ان تؤكد ان اليهود إنما هم امتداد لمملكة يهوذا التي تأسست "586 ق.م" في جنوب فلسطين والتي كانت ظهرت كما قلنا سابقاً بعد وفاة النبي سليمان عليه السلام. وسنتابع في هذا البحث أسباب التطاول على تاريخ هذه الأمة وتراثها وحضارتها والتي نعتقد إن مقدماتها عديدة منها:
أولاً – التشويه والحقد الإسرائيلي في التاريخ القديم:
لقد حرص اليهود على الخلط والدمج والتسويق لمصطلحات العبري أو الإسرائيلي أو اليهودي رغبة منهم في تأصيل فكرة تاريخية الوجود ذات الدلالات الدينية والتأريخية والجغرافية والعرقية والأسطورية، وهي كما يقول المفكر المصري جمال حمدان في كتابه "اليهود" من "أن اليهود والإسرائيليين أنما هم غرباء اوجدوا لهم تاريخاً في منفى الوحي ودخلاء بلا جذور، وقد حدث هذا التعدي في بيت العرب في فلسطين، حيث لا يمكن لوجودهم إلا إن يكون استعماراً واغتصاباً عنصرياً"، وهم بناءً على هذه المعطيات يحاولون أن يوصلوا لأنفسهم جذراً في الحبل السري لتأريخ هذه المنطقة. ووجد أن هذا الكيان أو هذا الدين على كونه ديانة مقفلة ومغلقة. وهذا الأمر هو الذي جعل بعض المهتمين بدراسة الأديان للقول من أن الديانات المغلقة هي على نوعين "ديانة جغرافية أو ديانة عنصرية"، وهذا الأمر هو الذي جعل الباحث الأميركي كيث وايتلام في كتابه "اختلاق إسرائيل" أن يقول: إن الديانات المغلقة ومنها اليهودية كانت قد اعتمدت على المكان ويقصد فلسطين لتؤسس منه أسطورة، وأن اليهودية كانت ديانة عنصرية في الوقت ذاته، لكونها تعتقد أن الأرض الأقدس "فلسطين" هي لليهود، وان الدين الأفضل لا يمكن أن يكون إلا لشعب "الله المختار". ولتحقيق هاتين الغايتين، ونقصد الترويج للمكان الموعود ونقصد فلسطين والدين المقدس لشعب الله المختار نجد أنهم، ونقصد زعماء الصهيونية، سرعان ما ملأوا التوراة بكثير من النبوءات وبكثير من النصوص التي تتجنّى على تاريخ هذه الأمة وتنبئ عن حقد وكره شديدين، وأن أسفارهم ومزاميرهم تمتلئ بنصوص التنكيل بهذه الأمة والتقليل من شأنها والعمل والدعوة على تدميرها. ومَن يطالع مخطوطات الأسفار في العهد القديم المكتوبة بالعبرية والتي يرجّح تاريخها للقرن التاسع الميلادي وفي مخطوطات ثلاث منها:
1- مخطوطة في مكتبة الفاتيكان مكتوبة العام 1481 ميلادية والتي يرجع تاريخها إلى القرن الرابع الميلادي.
2- والمخطوطة الموجودة في دير كاترينا القديمة في صحراء سيناء والتي يرجع تاريخها إلى القرن الرابع الميلادي والتي اقتناها المتحف البريطاني العام 1933م.
3- والمخطوطة الثالثة الموجودة في متحف البطريركية في الإسكندرية والتي يرجع تاريخها إلى القرن الخامس الميلادي يجد ما يلي في هذه المخطوطات وفي سفر التكوين بها أسفار الانبياء اليهود.
ففي سفر ايشوع نقرأ عن بشارة الإله يهوه الذي يدعو فيها إلى تدمير كل فلسطين وضرورة الانتقام من أهلها:
"اهلكوا جميع ما في المدينة من رجل وامرأة، وطفل وشيخ، حتى البقرة.. والغنم والحمير بحدّ السيف.. واحرقوا المدينة بجميع ما فيها بالنار". وحين ندقق في نبوءة أخرى لـ"النبي يونان"، وهو أحد أنبياء بني إسرائيل عاش في القسم الشمالي في فلسطين في القرن الثامن قبل الميلاد، ويقص علينا في الفصلين الأول والثالث من سفرهِ توبة أهل نينوى في العراق مما اقترفوه من ذنوب… يُشّم في هذا السفر الكثير من الانذار والوعيد لأهل هذه المدينة، ويدعوه "الاله يهوه" في أن "يقضي عليها". فتقول النبوءة: "قم اذهب إلى نينوى، ونادي عليها فقد صعد شرها أمامي".
وبعد اربعين يوماً تنقلب نينوى "وبلغ الأمر بذلك نينوى… فقام من كرسيه "يهوه" وخلع رداءه وتخطّى وجلس على الرماد" بعد أن تم تدميرها.
وأما في "سفر ناحوم" ويذكر في هذا السفر أن الإله القوشي، والقوشي هذه ربما هي مدينة القوش التي تقع في منطقة الجليل في فلسطين أو القوش الواقعة شمال مدينة الموصل، وأن الإله القوشي كان أكثر قسوة كما تذكر نبوءة النبي ناحوم، وان هذا الإله هو الذي بَشّر النبي ناحوم بسقوط نينوى عام "620 ق.م"، كما في هذا النص:
" ويل لمدينة… كلها ملآنة كذباً، سترى الأمم عورتك والممالك خزيك وسأطرح عليك أوساخاً وأهينك وأجعلك عبرةً لمن يراك".
وفي "سفر صفنيا": والذي ينسب إلى النبي صفنيا الذي عاش سنة "635 ق.م" والذي يرتقي نسبه إلى النبي حزقيا وسفره. وهذا كان عبارة عن نبوءة تبشر اليهود بسقوط نينوى، إذ يبدأ السفر بهذه الكلمات.
"هذه كلمة "يهوه" التي صارت إلى صفنيا بن كوشى…"
"سوف يبسط يده يهوه… ويدمر "آشور" وسيجعل من "نينوى" مكاناً مهجوراً وأرضاً قاحلة كالصحراء، وتصبح مرتعاً للبهائم وكل وحوش الأرض… وإن كل من سيمر بها سيلعنها". "سفر صفنيا: الفصل الثاني 12- 15".
"وفي سفر حزقيال" فالنبوءة كانت تدعو لدمار مصر ويقول نصها "سأجعل الخزائن في فكيك، وكل سمك في حراشيفك على وجه الجبل".
ويقول في نبوءة أخرى حول مصر:
"مصر ستُخزى ولا تسكن أربعين سنة واجعل مدنها وسط المدن الحزينة".
وفي "سفر دانيال" يذكر هذا السفر قصة يعود زمنها إلى الملك الكلدي بلشاصر. وتذكر أن الملك البابلي صنع وليمة عظيمة وشرب خمراً في تلك الساعة حتى ظهرت أصابع يد إنسان، كما تقول الأسطورة، وكتبت على الحائط والملك ينظر… فتغيّرت ملامح الملك وهيبته وأفزعته هذه الأفكار. وطلب من مستشاريه إدخال السحرة والعرافين علهم يستطيعون قراءة الكتابة أو تفسيرها، وقد أُدخل دانيال باقتراح من زوجة الملك بلشاصر والذي أخذ يقرأ الكتابة كما يلي وفسّرها كما يلي:
منا.. منا.. تقبل فرسين
فسّرها على الوجه الآتي:
منا أحصى الرب ملكك وأنهاه
تقبل: وزن ملكك موجود ناقصاً
فرسين : فقسمت مملكتك، فأعطبت كل ما فيها
وتستمر هذه القصة والتي كتبت وكأنها تستشرف تآمر اليهود الموجودين في بابل مع الأخمينيين، إذ قدموا اليهود كورش الأخميني على انه المسيح المنقذ. وانتهى الأمر بتعاونهم مع كورش الأخميني وقواته الغازية فكافآهم الأخمينيون وعاملوهم معاملة حسنة، وسمح لهم بالعودة إلى فلسطين.
نبوءة اشعيا:
عاش اشعيا في القرن الثامن قبل الميلاد، اذ ولد في القدس سنة "765 ق.م" وتوفى عام "700 ق.م"، ونسب إلى اشعيا ثلاثة مجاميع من النبوءات في الفصلين " 13- 14".
فالنبوءة الأولى، ينقل لنا فيها اشعيا ما جرى من أحداث في عهده.
أما المجموعة الثانية: فقد كانت مخصصة لأيام الأسر أو السبي في بابل والعودة.
أما المجموعة الثالثة: فكانت تتكلّم عن نبوءاته في المستقبل.
وقد بدا مقدار الكره للعرب في بابل، في هذا النص في الفصل الثالث عشر من هذه النبوءات والتي يقول نصها "ستسقط بابل غداً، وسيأخذ الغام بيد كل الأصنام العاجزة محمولة على الدواب".
وفي مقطع آخر يقول: – ها أنذا أصيح على بابل وبشرهم بقدوم الميديين الذين لا يعتدّون بالفضة ولا يُسرّون بالذهب وستعيش ببابل الممالك وسيحل بها الخراب. هذا الكره على العرب والجزريين عراقيين وشاميين ومصريين قد ظهر في كثير من قصائدهم أيضاً والتي ذكرها كثير من النصوص التي كانوا يغنونها بعد خراب نينوى وبابل. فيقول احد النصوص:
على أنهار وبابل جلسنا وبكينا على ذكرى "صيدون"
وفي وسط الضفاف علقنا أعوادنا
وأنشدنا نشيد "صهيون"، ودعاء الرب في بلد غريب.
يبدو أن الكره أو قُل الحقد، كما يقول المفكر جوستاف لوبون، سببه تاريخي إذ إن لا حضارة لليهود. وان هذا الأمر كان مدعاة حسد عندهم ويمكننا القول إنه لم يكن لليهود فنون وعلوم ولا أي شيء تقوم به حضارة. وهم لم يأتوا قط ولم يقدّموا أية مساعدة مهما صغرت في إشادة المعارف البشرية، فمن باب الحقيقة التاريخية أن يحقد هؤلاء على أصحاب الحضارة ويتفق العالم الآثاري جيمس بريستد مع ما ذهب إليه لوبون في حسد اليهود للعرب الجزريين، مؤكداً الحقيقة التاريخية التي تقول من ان بني إسرائيل عندما جاءوا إلى بلاد كنعان كانت المدن الحضارية ذات حضارة قديمة، وكانت قد أنشئت منذ ألف وخمسمئة سنة وكانت مدنهم منارات علم وهي التي جعلتهم يمتازون بالكتابة والديانة والحضارة اقتبس هؤلاء العبرانيون الكثير، لقد ظهرت لصوصية هؤلاء وتجنّيهم في كثير من النصوص وتحديداً في أسفار التكوين والأخبار والتشريع وسفر الملوك والحكمة والأمثال وسفر الاناشيد أو سفر الانشاد، وإذا كنا قد تحدثنا عن جذر الحقد التاريخي لليهود على تراث العرب الجزريين والشاميين والعراقيين والمصريين والفينيقيين، لا بدّ أن نقول إن هذا الحقد قد اكتمل في المرحلة الثانية والتي أطلقنا عليها تسمية أطماع المحتلين.
ثانياً- المحتلون وتدميرهم وسرقتهم لآثار العرب:
لقد مارس المحتل أياً كان كوتياً أو اخمينياً أو حثياً أو عيلامياً أو سلجوقياً أو بويهياً أو عثمانياً عبر أكثر من ألفي عام منصرمة شكلاً من أشكال التدمير والخراب والتهريب وبيع آثار الرب، فقد سرق العيلاميون مسلة حمورابي وتركوها في منطقة الشوش أو السوس، وحين دخل البريطانيون للعراق حملوها إلى متاحفهم، وحين احتل السلاجقة بغداد عام "447 هـ" أحرق "طغرل بك السلجوقي" العديد من خزائن المخطوطات وقد أحرق مكتبة دار العلم ببغداد، والتي كانت تضم آلاف المخطوطات والتحف الآثارية النادرة، وكذلك فعل تيمور لنك والذي أحرق العديد من دور العلم، ودمّر الكثير من مكتباتها، ويقدّر عدد الكتب التي تمّ حرقها وألقاها في النهر، كما يقول المؤرخ ابن عنبه في كتابه "عمدة الطالب" إذ رمى في النهر أكثر من "220 الف كتاب"، وكذلك أعمل العثمانيون الخراب في الكثير من المخطوطات العربية النفيسة بعد أن سلبوها من أماكنها. وتشير الكثير من الروايات إلى تعاطي الأتراك بتجارة هذه المخطوطات والآثار سراً وعلناً، والغريب أن اليهود كانوا وسطاء بين تجار الآثار والمخطوطات من الأتراك وبين التجار الانكليز، وقد أكد هذه الحقيقة جامع المخطوطات الانكليزي "ولس بيدج" والذي ذكر أن هذه الآثار والمخطوطات كانت تهرب بواسطة صناديق وتنقل عن طريق القوافل التجارية بواسطة صناديق أو بالات الصوف المعّدة للتصدير من فلسطين ودمشق وبغداد عن طريق شركة لنج البكرية لتباع في أسواق بيع الآثار في باريس ولندن أو لتوضع في متاحفهما.
ويرى الرحالة "لوفتز" أن معظم المتاجرين بهذه الآثار هم من العناصر العبرية "اليهودية"، وحين ندقق بالقنوات التي سربت مخطوطاتنا وآثارنا، فهي تنقسم إلى قناتين:
الأولى/ ويعتقد العديد من خبراء الآثار والمخطوطات من أن عدد الآثار والمخطوطات التي انتزعها أو سرقها الولاة العثمانيون من المدن العربية ككل قد بلغ "ربع مليون" مخطوط. وأصرّ هؤلاء الولاة على نقلها إلى اسطنبول والبعض الآخر من هذه الآثار باعوها إلى الأوروبيين.
الثانية/ ويعتقد بعض الباحثين في الآثار والمخطوطات أن القناة الثانية لتهريب آثار العرب، إنما كان عن طريق القناصل أو السفراء الغربيين العاملين في البلدان العربية والذين كانوا يستغلون حصانتهم الدبلوماسية والسياسية، فقاموا بتهريب ما خفّ حمله وغلا ثمنه من الآثار والمخطوطات العربية، وقد حدث هذا الأمر في فترات تاريخية عديدة بدأت من القرن الثامن عشر وحتى القرن الحادي والعشرين، فعلى سبيل المثال كان القنصل البريطاني السابق ريتش في بغداد من سنة "1808، حتى 1821م" قد جمع مجموعته الخاصة من الآثار والمخطوطات من خلال قيامه بجولة سنة 1820 للبحث عن هذا التراث في مدن عراقية وشامية عديدة وكذلك فعل خليفته البريطاني "جون" والذي عمل في بغداد للفترة من عام 1843 – 1855م والذي عُرف بكونه المنقب البارز في الأشوريات، وقد جمع الكثير من الآثار العراقية والشامية ونقلها معه إلى لندن. وقد عمل بعض اليهود على سرقة كثير من الآثار القيمة منذ احتلال فلسطين عام "1948" بخاصة في المناطق غير الخاضعة للفلسطينيين آنذاك، فقد نهبوا الكثير من الموجودات الأثرية في قرية الكوم في الضفة الغربية، وتعرّضت للسرقة في فترات تاريخية عديدة، ففي العام 1967 شارك "موشيه دايان" وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك في نهب جزء كبير من الآثار الفلسطينية وتحويله إلى متحف كان يمتلكه وبيع جزء منها وفق ما يقوله الكثير من شهود العيان.
وكذلك الحال، إذ تمت سرقة الكثير من المدن الكنعانية التي يرجع تاريخها إلى "3000 ق.م"، وخاصة في قرى "الكوم" وكذلك آثار قرية "دير نظام" إلى الشمال من رام الله والتي يعود تاريخها إلى العصر البرونزي؛ وتحتوي هذه المدينة على الكثير من الآثار الفارسية والرومانية والإسلامية، وقد أولى المستوطنون اهتماماً بالغاً في قرية "دير نظام" واستولوا على مغارة "عين القوس" وحوّلوها مزارا دينيا وسياحيا ومنعوا الفلسطينيين من العمل بالقرب منها. كما عمل المستوطنون على التنقيب في الكهوف المطلة على البحر الميت والآثار المكتشفة فيه تعود إلى "3000 ق.م" وقد وجدت فيها مجموعة من التماثيل الطينية والنحاسية وتاج وصولجان يُعتقد أن هذا الموقع الآثاري يعود لأحد الملوك الآراميين وأنه كان مدفناً يستخدم للطقوس الجنائزية. ويؤكد المؤرخ الفلسطيني "سليم المبيض" ان الإسرائيليين وقبلهم المستشرقين اليهود ولصوص إسرائيل السياسيين أن أول ما فعله المحتلون هو البحث عن الآثار وسرقتها وتعود محاولاتهم إلى عام 1948 وعام 1956 وكذلك عام 1967 حتى أصبحت هذه السرقات سياسة ينتهجها الاحتلال وأن ما تعرّضت لهُ "غزة" مثلاً والتي تعتبر متحفاً مفتوحاً لحضارات العالم القديم من أهم المدن التي تعرّضت لسرقة الآثار وكذلك ما تعرضت له المدن الفلسطينية ومنها مدينة "دير البلح" في القطاع ومدن رفح والشيخ عجلين وصحراء سيناء وما تعرضت لهُ منسرقة على يد "موشي ديان" وزوجته "وود دايان" "عام 1967م" واستحواذهما على أربعة أكفان فخارية فرعونية. خير دليل على رغبة الإسرائيليين في سرقة وتدمير الآثار العربية.
ثالثا ً- دور المستشرقين والمنقبين والرحالة الأوروبيين في سرقة آثار العرب :
كانت ظاهرة التنقيب والحفريات التي قامت بها الكثير من المؤسسات الغربية البريطانية والأميركية والفرنسية في كثير من المراكز الحضارية في الوطن العربي ليست لوجه الله تعالى أو لوجه المعرفة والعلم. وهي لم تكن لتوكيد دور العرب أو الأقوام الجزرية حضارياً وفكرياً وإنسانياً بل كانت وسيلة ثالثة من وسائل تفنن فيها عقل الآخر لسرقة الآثار العربية وكانت عمليات التنقيب عن الآثار منذ مطلع القرن التاسع عشر تشهد نشاطاً ملحوظاً. وقد تنافست البعثات الأثرية الأجنبية للتنقيب عن الآثار والبحث عن المخطوطات وتهريب جلها إلى المتاحف الغربية أو المزادات الآثارية. وقد شاركت الحملات التنقيبية في سرقة آلاف القطع الآثارية في العراق وفلسطين وبلاد الشام. وقد سهّل من أمر تهريب هذه الآثار السفارات وقناصل البلدان، كما فعل كل من المستشرق الألماني "بيرت هارتمان" وكذلك المستشرق "هنري لايد" والذي كان قد أسس الجمعية الألمانية لمعرفة الإسلام عام 1900م وكان عن طريق هذا العنوان أو هذا الشعار قد هرّب آلاف المخطوطات؛ وكذلك عمل المستشرق الألماني "هايز بيتش بيترمان" الذي قدم المنطقة العربية عام 1852 لشراء الكثير من الآثار والمخطوطات العربية والتي تخص الفرق الدينية اليهودية والسامرية والايزيدية والمسيحية؛ وكذلك فعل المستشرق "لويس ماسنون" عام 1952. وقد ذكر المتخصص في بيع الآثار السيد "ويلس بيج" في مذكراته من انه نقل آثاراً إلى المتحف البريطاني؛ وكذلك فعل بعض الرحالة والمستشرقين الآف المخطوطات فيذكر مثلاً انه نقل… 15 ألف مخطوطة عربية إسلامية.
– و52 مخطوطة سريانية من الموصل وحلب.
– وأكثر من 1500 رقيم سومري.
– وأكثر من 49 ختماً من "الأختام الاسطوانية الأشورية". وهو قد تمكن من الحصول على ثلاث لفائف من بردي مكتوب على جانب كل منها باليونانية ومعلومات عن اليونانيين في فلسطين وبلاد الشام. وان إحدى اللفائف كانت كتاباً "لأرسطو". وأنه حصل كذلك على لفائف من البردي تحتوي بعض منها على أجزاء من أسطورة "الالياذة" ونصوص سحرية مصرية كما حصل على العديد من لفائف البردي المكتوب عليها بالهيروغليفية المصرية ولم يكتفِ ويلس بيج بسرقة آثار المسلمين بل نهب آثار المسيحيين كذلك.
– فقد تم نهب وسرقة كتب كنيسة الطاهرة الواقعة في مدينة الموصل العراقية.
– وسرقة كتب بطريركية الناظرة في الموصل.
– وكتب وآثار خزانة دير السريان في القوش.
– وسرقة العديد من الآثار والمخطوطات في منطقة الأقصر والجيزة في مصر.
– وكذلك فعلت " المس بيل" مستشارة المندوب السامي البريطاني في ثلاثينيات القرن العشرين، فقد اشتهرت هذه المرأة باهتمامها بالآثار العراقية وقد بذلت جهوداً كبيرة وكثيرة للحصول على هدايا وتهريب العديد من الآثار البابلية والأشورية إلى خارج العراق، كما يقول المؤرخ العراقي عبدالرزاق الحسني.
وقد لعب تجار اليهود في كل من العراق وبلاد الشام دوراً كبيراً من تهريب وبيع المخطوطات والآثار العراقية فقد كانوا يملكون دكاكين في العراق في منطقة السراي ومنذ العام 1923 وقد اشتهر كل من "شامونال" والذي عُرف ببيعه للمخطوطات والآثار بالحلة، بالإضافة إلى المصري "الخانجي" الذي مارس هذه التجارة عام 1925 وسهل من تهريب العديد من المخطوطات والآثار العربية.
كما تعاطى المستشرق اليهودي "لويس ماسينون" ومنذ أربعينيات القرن الماضي تجارة وتهريب وبيع الآثار والمخطوطات بين كل من العراق وبلاد الشام. وكذلك مارس المستشرق اليهودي "غوتهي لودمايل" عملية شراء وبيع الآثار وكذلك فعل المستشرق اليهودي "هلموت ريتر". ولا بد أن نذكر هنا ما قاله المؤرخ المصري "احمد راتب عرموش" بهذا الخصوص، من أن أديرة ومعابد اليهود قد مارست شكلاً من اشكال الجمع والشراء وسرقة العديد من المخطوطات والآثار، وخاصة سرقة العديد من نسخ التوراة والأسفار والتي يعود تاريخها إلى عصور بابلية قديمة تربو على ألف عام قبل الميلاد كانت موجودة هذه الكنوز الآثارية في المعابد والأديرة اليهودية في العراق وفلسطين. وقد توزّعت نسخ التوراة في مدينة "الكفل" وهي إحدى المدن التابعة إلى محافظة القادسية العراقية، (200 كيلو جنوب غرب بغداد)؛ والمدينة قد سميت بهذا الاسم نسبة إلى النبي ذي الكفل عليه السلام وقيل سُمّي بذي الكفل لتكفُّل الله تعالى في سعيه وعمله. وقد سرقت التوراة الموجودة في منطقة العزير التابعة لمحافظة "ميسان" (350 كيلو متر جنوب بغداد). وقد خطط اليهود منذ عشرات السنين على جمع كتبهم التي كتبت إبان السبي البابلي لهم عام 586 ق.م على يد "نبوخذ نصر". فقد سعوا إلى الحصول على نسخ مكتوبة بالآرامية للتلمود، وكذلك نسخ للتوراة وكتبهم الاخرى المعروفة بـ أسم "القتالة والازدهار". وتشير المصادر التاريخية من أن الكتب الدينية اليهودية هذه قد كتبت في العراق منذ القرن الخامس الميلادي بعد أن وضعها حاخام من بغداد يدعى بـ"آشمر" وقد حاولت مؤسسة الموساد اليهودية ومنذ عام 1948 سرقة الكتب اليهودية الموجودة في معابد الموصل وقد ساعدهم في ذلك القنصل البريطاني، لكنهم فشلوا في الحصول عليها. طيلة الخمسين عاماً المنصرمة لكنهم نجحوا بعد احتلال بغداد عام 2003 وعن طريق مجموعة "ميت آلفا" الأميركية والتي دخلت العراق بغطاء الأمم المتحدة وبحجة البحث عن أسلحة الدمار الشامل من العثور عليها وتسليمها لليهود ثم نقلها من واشنطن إلى تل أبيب. لقد استمر ساسة اليهود بتجارتهم أو تهريبهم إذ عمل التاجر يهودا البغدادي عام 1943 بتهريب أكثر من6 آلاف قطعة أثرية ومخطوطة عن طريق شبكة تهريب عالمية ارسلت من مناطق بلاد الشام والعراق إلى الولايات المتحدة وقامت جامعة "برستن الأميركية" بشرائها وتصنيفها حسب الحقب التاريخية ووضعها في متاحف الولايات المتحدة الأميركية، كما يقول المؤرخ "فيليب حتي".
وقد استمرت مؤسسة الاحتلال الإسرائيلية وجامعاتها العبرية في التعدي والتنقيب عن الآثار الفلسطينية إذ عملت على فتح كثير من المواقع الآثارية ونقبت فيها ونقلت العديد من الآثار الفرعونية والتلغانية والبيزنطية من حلي وأواني فخارية ووضعتها في متاحفها. وقد نُشرت صورها في مجلة "ناشينال كرافيك".
إن محاولات كل من الإسرائيليين واللوبي العالمي اليهودي بسرقة التراث أو تهريبه واقتلاعه من حواضنه الطبيعية، انما هي محاولة لطمس الهوية الفلسطينية والهوية العربية الإسلامية وإثبات يهودية دولة فلسطين وهي جزء من نمط التدليس التاريخي واضح المعالم. والمعلومات التي أجرتها كثير من المؤسسات المعنية بالآثار والتراث العالمية تشير إلى سرقة ما نسبته 53% من الآثار في الضفة المحتلة وسيطرته على 12,216 ألف موقع آثاري في فلسطين دُمّر ونهب منها الآلاف بسبب الاحتلال وأياديه الخبيثة، وان متاحف العراق ومواقعه الآثارية التي تربو على مئة ألف موقع كان قد دُمّر أو هُرّب منذ الحرب الخليجية عام 90 ثم حرب الخليجية الثانية عام 2003 والحرب الطائفية عام 2006 ما نسبته 40% من الحضارة العراقية سومرية كانت أو بابلية أو آشورية أو كلدية أو عباسية، والتي تبلغ أكثر من نصف مليون أثر وموقع حضاري. كما أن المعلومات غير الرسمية والتي رتبت على إحصائها الكثير من المنظمات العالمية والثقافية والآثارية تشير إلى تدمير ما نسبته 54% من الآثار والمراكز الحضارية "آمورية، كنعانية، آرامية، عبرية، رومانية، يونانية، وإسلامية آمورية في كثير من مدن سوريا والتي يسيطر عليها وحوش العصر الجدد "الدواعش" في سوريا.
رابعاً- أثر الاحتلالات والحروب:
ومن نكد الدهر أن هذه الأمة والمنطقة تحديداً كانت عرضة لاحتلالا عديدة بعد "الاحتلال الاخميني"، وهي:
– الاحتلال الساساني
– الاحتلال البويهي
– الاحتلال الجلائري
– الاحتلال العثماني
– الاحتلال الانكليزي
– الاحتلال الفرنسي
– الاحتلال الإسرائيلي
– الاحتلال الأميركي.
آثار الاحتلالات :
كما مرت الأمة العربية بحروب عديدة منها حرب 48 و56 و67 و90 و 2003 والملاحظة التأريخية التي يمكن تثبيتها على هذه التكتلات والحروب أن الفاعلين المؤثرين هما الاستعمار والحروب؛ سواء كانت حروبا سياسية أو حروبا أهلية، وقد مكنت هذه الحروب المستعمرين والمحتلين واعداء الحرية واطلقت ايديهم في العبث بتراث الأمة وقد توزعت اهتماماتهم وفق ما يلي:
1- لقد نجح المحتلون والمستعمرون من سرقة وتهريب وتدمير ونقل كثير من الآثار العربية والإسلامية والمسيحية وحتى اليهودية، مستغلين حالة الغفل الثقافي للنخب السياسية والثقافية، ومستخدمين سُبلاً وأساليب شتى لتهريب آثار العرب وتراثهم الثقافي إلى أوروبا.
2- والعامل الثاني الذي سهل من تهريب وسرقة آثار العرب، إنما يعود ايضاً إلى غياب اهتمام السلطات العربية المحلية منها أو الوطنية من ردع والوقوف بوجه الآخر وحماية تراثنا من السرقة والتهريب. متناسية هذه النخب من أن المادة 27 من لائحة لاهاي التي تنص في حالات الحصار أو القصف يجب اتخاذ كل التدابير اللازمة لتفادي الهجوم على المباني المخصصة للعبادة والفنون والعلوم والأعمال الخيرية والآثار التاريخية. كما نصت المادة 56 من لائحة لاهاي لعام 1907…"انه يحظّر كل حجز أو تدمير أو إتلاف عمدي لمثل هذه المؤسسات والآثار التاريخية والفنية والعلمية وتتخذ الإجراءات القضائية ضد مرتكبي هذه الأعمال".
آثار الحروب:
لقد كان للحروب التي خاضتها الامة، كما أسلفنا سواء مع العدو الإسرائيلي أعوام 1948 و 1956 و 1967 والحروب الأهلية التي حدثت في كل من لبنان والجزائر والعراق أن تركت آثارها السلبية على حماية الآثار والمخطوطات، فقد كان من نتائج هذه الحروب ان تعرضت كثير من مواقعنا الآثارية ومعابدنا ومراقدنا الدينية ومتاحفنا الأثرية إلى التدمير القصدي أو النهب والسرقة من قبل بعض النفوس الضعيفة في الداخل، والتي مارست عملية تدمير مقصود أو تهريب منظم مع مافيا تجارة الآثار الصهيونية والأوروبية؛ وقد خضع جزء كبير من المواقع الأثرية والمتاحف لسطوة سماسرة الآثار أو ضعاف النفوس لاسيما وأن تجارة الآثار كما يقول "ستيوارت ايزنسات"، وزير مالية أميركي سابق، إن عالم التهريب والتجارة بالآثار فيه تكتنفه السرية وهي تجارة مربحة للغاية، لذلك فإنها من الأعمال التي تحظى بسرية ويقدر حجم التعامل في بيع وشراء الآثار والكنوز التاريخية بحوالي 2 إلى 4 مليار.
كما أن غياب الاحترازات الأمنية والاهتمام بالمواقع الأثرية المنتشرة على مساحة هذا الوطن قد سهل لبعض المغفلين أو بعض المحتاجين سرقة بعض الآثار والاتجار بها ووقع بين ايدي بعض المحترفين ليتم استثمارهم لتخريب ممتلكات وكنوز بلدانهم.
دور التنظيمات الإرهابية في تدمير التراث :
كانت الثقافة في الوطن العربي ومنذ فجر السلالات كما يقول عالم الآثار "هاري ساكس" إلى يومنا هذا هي المستهدف الأساس من أي أطماع خارجية أو فتن داخلية تحقيقاً لنظرية الآخر بهدف إلغاء الآخر؛ وذلك يتم عن طريق تدمير ثقافته وتراثه وبالتالي إلغاء وجوده. وما حصل في 6 حزيران عام 2014 من ممارسات بعض التنظيمات الإرهابية ومنها " داعش" هو أبشع الجرائم التي لم تشهد مثلها الإنسانية من قبل. من ذبح وقتل وحرق وسبي وتدمير لآثار العراق وسوريا ولم تنجُ منها جماعة حيث سيطرت. وكتدمير موقعي النبي يونس والنبي شيت ومزارات بعض الصحابة واقتلاع رفاتهم، كما هو الحال في قبر الصحابي "حجر بن عدي"، وتدمير الكثير من الكنائس والأديرة والمساجد في الموصل وحلب وإدلب. ويقول الباحث "باتري كوبر" في كتابه "صعود داعش" إن هنالك استراتيجية لداعش لبلوغ غاياتها تتمثل بالمغالاة وبوحشية في القتل والتدمير لكل التراث، وهو عند داعش جزء من استراتيجية بعيدة المدى للمرحلة الأولى وهي البداية من الصفر لنظام جديد وتاريخ جديد؛ وهم يشتركون بذلك مع مفهوم الصهيونية العالمية؛ فأولئك يقولون لا دين إلا اليهودية ولا شعب إلا شعب الله المختار. ويقصدون بني إسرائيل. وهؤلاء "الدواعش" يقولون لا حضارة ولا تاريخ ولا دين إلا شرائع داعش. وتقدر الدراسات الحديثة ان عدد المواقع الأثرية التي اصبحت تحت يد داعش في محافظة نينوى بحوالي 4 آلاف موقع أثري إضافة إلى مباني أثرية تعود للعصر الإسلامي العثماني وأن عدد المزارات والمساجد والكنائس التي تم تفجيرها وهدمها حتى الآن هو أكثر من خمسين مرقداً ومزاراً ومسجداً وان الدواعش في سوريا يسيطرون على أكثر من ألفي موقع تاريخي في سوريا ودمروا وخربوا 40% منها، وكذا الأمر في اليمن وفي ليبيا والتي تشير المعلومات الموثقة من أنهم قد دمّروا الكثير من الشواخص التاريخية والحضارية في مدينة "بني غازي" تحديداً.
ويؤكد خبراء الآثار والتأريخ في جميع أنحاء العالم أن التنظيم يحاول ممارسة التطهير الثقافي لمحو مراحل تاريخية كاملة من التاريخ البشري. فيؤكد السيد "جان لوك مارتينز" مدير متحف اللوفر في باريس، لقد شهدنا مجازر المتاحف الأثرية في كل من سوريا والعراق التي لا تقدَّر بثمن وأن التنظيمات الإرهابية تحاول ممارسة التطهير التأريخي والثقافي والتي يُسمّى محو مراحل تاريخية مهمة من التاريخ البشري، ولقد حذّر المتحدث في "FBI" مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي من سماسرة تجار القطع الفنية من شراء الآثار التي تعود إلى منطقة الشرق الأوسط في حين لفت المتحدث نفسه الانتباه بالقول من أننا لدينا قلق من تلقي تجار أميركان لقطع أثرية مسروقة من قبل تنظيم داعش مهربة من سوريا والعراق ومصر وحتى فلسطين، لأنها أصبحت مصادر تمويل للتنظيم.
وتؤكد كثير من المراكز الجنائية العالمية ومنها دائرة الانتربول الدولي عن وجود شبكة دولية لبيع قطع أثرية قادمة من المنطقة العربية.
وقال مدير مكتب مكافحة سرقة الآثار في "FBI" "بوني ماكينز كارد" إن تجارة بيع النفط والاتجار بالأسلحة والآثار أصبحت اليوم مصدراً مهم من مصادر التمويل وقد أكد سفير العراق في الأمم المتحدة إن تنظيم داعش يكسب "مئة مليون دولار سنوياً" عن طريق القطع الأثرية المسروقة من المواقع الأثرية في كل من سوريا والعراق والأخبار الموثقة تشير أن تنظيم داعش وإيغالاً منه في تنمية تجارته في بيع الآثار أنشأ وزارة أسماها وزارة الآثار يتلخص عملها في إدارة عمليات النهب للآثار في العراق وسوريا واليمن ومصر وأكدت صحيفة صانداي تلغراف البريطانية في أعدادها لسنة 2015 ان بيع الآثار والتحف التاريخية قد درّت عشرات الملايين من الدولارات قد تناهز المبالغ التي حصل عليها التنظيم من اختطاف وإطلاق سراح الغربيين نظير جزية مالية. والمتتبع لمزادات أوروبا الكبيرة والتي يبلغ عددها 23 مزاداً في العالم أشهرها "مزاد كرستي" الواقع في مدينة نيويورك انه يرى بيع الآثار العربية على مرأى ومسمع الجميع، دولاً ومؤسسات دولية، وكأنهم مكفولون بحماية قانونية تتيح للذي يستخرج الآثار من هذه الأراضي وتمكنه من أن يبيعها. هذا الأمر هو الذي جعل منظمة اليونسكو تسعى إلى تعديل اتفاقية التعاطي بالآثار لسنة 1970 والتي تعالج قانونياً موضوع الآثار المستخرجة من الحفر اللاقانوني والسرقات التي تمّت قبل إبرام هذه الاتفاقية والتي أتاحت "للمس بيل" مستشارة المندوب السامي وجوم فورستار المندوب السامي في سوريا ومس بيرو في مصر وموشي ديان في أن يسرقوا ويبيعوا آثار العرب في كل من العراق وسوريا وفلسطين.
إن آثار العرب في كل من "دير البلح" في فلسطين وفي "القدس القديمة" والتي هربها وتعاطى بها لصوص وفجّار الآثار اليهود والمافيات والعصابات الصهيونية التي تتعامل مع جهات رسمية إسرائيلية والتي ترسل مئات القطع إلى متحف "روكفلر" والذي كان يُسمى سابقاً بمتحف فلسطين والتابع "لمتحف إسرائيل" والذي يضم أجزاء من جداريات المسجد الأقصى وعينات من آثار ومخطوطات كنيسة القيامة؛ والغريب أن متحف "روكفلر" هذا يستغل منزل عائلة الخليل العربية ليعرض آلاف القطع الفلسطينية المسروقة وان إسرائيل كانت قد عملت على سرقتها عن طريق عملائها العديد من الآثار المصرية والتي كانت عبارة عن أغطية لتوابيت فرعونية لملوك فراعنة تمت سرقتها وبيعها في أحد اسواق القدس سعت فيه إسرائيل مقايضتها العام 2012 وقد طلب المحامي الإسرائيلي "إسحاق ملتسر" رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو"، بتعطيل إعادة أغطية التوابيت الفرعونية والتي تم ضبطها حتى عودة السفير المصري المسحوب من إسرائيل العام 2012. وطلب كذلك مبادلة هذه الآثار بعد الإفراج عن الجاسوس الإسرائيلي "عوهن انرابين" من السجون المصرية. وأخيراً لا بد الآن نقول إن الآخر غازٍ ومحتل ومستشرق ومتطرّف كان يتوقف عند تدمير آثار العرب التي نهبت والتي يبلغ عددها "10,000" قطعة أثرية وان عدد المخطوطات التي سرقت من مكتباته وكنائسه وجوامعه قد بلغ "24589" الف قطعة وان عدد الآثار والمخطوطات التي سرقت من سوريا وحدها يبلغ بحدود "11" ألف أثر ومخطوط.
أما عن القطع المسروقة والموجودة في متحف الكيان الصهيوني والذي تأسس العام 1965 في القدس، فقد بلغت أكثر من "350" قطعة شملت آثاراً وأعمالاً فنية من بينها تماثيل برونزية تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد وكتابات لقبائل كنعانية سكنت "دير البلح" وبقايا جماجم لزعماء كنعانيين وجدت في منطقة "اريحا"، بالإضافة إلى العديد من الآثار الإسلامية وأجزاء من سور القدس القديم تعود للعهد العثماني ومئات القطع الآثارية وجدت في مناطق عام "1948" وهي محتجزة وتقدم للناس كونها جزءاً من التاريخ اليهودي.
مما تقدم يبقى السؤال مطروحاً: ترى ما هي مبررات استمرار الغزاة والمحتلين والدواعش في الإصرار على سرقة آثار وتراث الأمة وتهريبها والاتجار بها أو عرضها في غير مواطن إنباتها؟ ترى هل هي بسبب :
اولا : رغبة من الآخر في تشويه التاريخ بما يتيح للشتات والمغتصب والمستعمر والمتطرف من ممارسة شكل من أشكال التطهير التاريخي والعرقي، بما يتيح لهُ كتابة تاريخ جديد ورسم خارطة سياسية للمنطقة تأتي مدخلاً طبيعياً "لشرق أوسط جديد" تضع ملامحه "فوضى خلاقة تُرسم فيها حدود للدويلات وللممالك وطوائف جديدة رسموها بحدود الدم.
ثانياً: أم أنّ مبررات استمرار الآخر في تدمير الآثار وتشويه التاريخ يعود سببها لعقدة الآخر من العرب ورغبة منه في نسف كل شيء وقطع جذور كل شيء يوصل تاريخ هذه الأمة أو يجذّر فرضية دورها الريادي والحضاري. والدليل على ذلك اننا وجدنا ان عقدة الإسرائيليين والصهاينة لم تكن وليدة عام 1948 بل إنها تمتد في عمق التاريخ ودورهم في التآمر على بابل وإسقاطها عام 539 ق.م وإصرارهم على انتحال تأريخ جديد لهم ابتداء في عصرنا الحديث من الحفر تحت المسجد الأقصى بحثاً عن الهيكل المقدس إلا توكيد جديد منهم يؤكد رغبتهم وربط نسبهم بأهل الأرض على النحو الذين يصبح هذا الشتات، كما يدّعي، جزءاً من الساميين؛ وتصدير فرضية أنهم سكان هذه الأرض حقيقة وان التشويه والتزوير على هذه الأمة والتأريخ والجغرافية سيعمل على زرعهم في هذه الأرض وستجعلهم جزءاً طبيعياً من ناموسها الإنساني.
الخاتمة
ولا بد أن نذكر أن الانتهاكات والاعتداءات على الآثار الفلسطينية أو العراقية أو السورية العربية تُعد إحدى جرائم الحرب المستمرة؛ وقد تمثلت هذه الجرائم بأعمال الحفر الواقعة في الجهة الغربية من المسجد الأقصى وساحة "البراق" وفي أماكن أثرية أخرى من مدينة القدس المحتلة، تُعدّ استكمالاً لسعي وحوش الأرض الجدد من: أميركان وصهاينة ودواعش، وهي محاولات مسمومة لطمس المعالم العربية والإسلامية في فلسطين والعراق وسوريا ومصر واليمن وحتى لبنان رغبة منهم في نفي "يبوسية القدس" "وبابلية بابل" و"عروبية دمشق وبغداد" وأزهرية القاهرة و"حميرية اليمن". إنها رغبة منهم لإقناع العالم بالادعاءات الإسرائيلية والغربية الباطلة القائمة على فرض السيطرة العسكرية بالقوة والمبنية على التلفيق التأريخي والخرافات التوراتية المحرفة لمصلحة الأهداف "الصهيونية والانجلو أميركية" المتمثلة باليمين الأميركي والتي تسعى إلى تسطيح وعي الإنسانية وتغييب الدور الحضاري الذي لعبه العرب عبر التاريخ ودورهم الريادي والحضاري، متناسياً هذا الآخر كل الاتفاقيات المبرمة لحماية الممتلكات الثقافية والدينية العام 1954 والعام 1956 واتفاقية لاهاي والملحق بها الثاني لعام 1999 الذي جاء ملحقاً لاتفاقية لاهاي للعام 1999. والتي كفلت احترام حقوق السكان وممتلكاتهم الثقافية والدينية… ومنعت كل تخريب أو انتهاك متعمّد لهذه المنشآت والمباني التاريخية ويجب أن يحاكم فاعلها.
إننا نعتقدُ أن الحرب الثقافية حرب تدمير وتخريب وسرقة وحرق هذه الآثار إنما هي جزء مكمل من الحروب التاريخية التي استمرت من حرق أور السومرية ولن تنتهي بحرق وتدنيس المقدسات والمراقد المشرفة في العراق وسوريا ولن تنتهي بتدنيس أو حرق "بيت المقدس" التي يعد لها هذه الأيام، وأن الأمر يحتاج إلى عدة العقل وعدة العدد كي يقف الجميع ليضربوا بيد من حديد على البرابرة الجدد، حفاظاً على الحياة والفكر والتاريخ والجمال.
المصادر
1. علي هادي المهداوي: الحلة كما وصفها السواح الأجانب في العصر الحديث "بغداد 1994" ص. 27.
2. ولس بيدج: رحلاتي إلى العراق، ترجمة فؤاد جميل، بغداد1968، ص. 3.
3. جوستاف لويدن: حضارة العرب، دار النهضة، القاهرة، وبلا، ص. 81.
4. ابن عنبه: عمدة الطالب في انساب ابي طالب وبيوتها، بغداد، 2000، ص. 179.
5. كرم محمد احمد: ابن ذهبه المخطوطات العربية، تراث فلسفة الغرب بعد وسائل، القاهرة، بلا تا، ص. 229.
6. بهنام ابو الصوف: الآثار والمخطوطات العراقية، جريدة الثورة السورية، الاحد 6/6/2008، ص. 6.
7. خضير الخزرجي: كيف ينظر الرحالة والمستشرقون إلى الثقافة الإسلامية، مجلة ديوان العرب، لندن بلا، ص. 4.
8. محمد صالح خضر: الدبلوماسية في العراق، 1831 – 1914م.، بغداد بلا تا، ص.ص. 57-58.
9. محمد عبدالرحمن الخربطلي: أين المخطوطات العربية، ص. 140.
10. عبدالرزاق الحسني: تاريخ العراق السياسي، دار الرافدين، بغداد، بلا تا، ص. 86.
11. يعقوب سركيس: حريم دار الخلافة، مجلة لغة العرب، مجلة فصلية، عدد لسنة / 1927، 1928- ج. 8، ص. 249.
12. عبدالرزاق الأخضر: المستشرق تاسنون، دمشق، بلا تا، ص. 23.
13. احمد ابن عرموش: موسوعة الأديان، دار النفائس، بيروت، 2005، ص. 259.
14. خالد الناشف: تدمير التراث العراقي، بغداد، بلا تا، ص. 44.
15. فيليب حتي: تقرير فيليب حتي عن الكتب العربية في مكتبات الولايات المتحدة الأميركية، ج. 3، ص. 64.