أرحب بالقادمين الينا من بغداد ودمشق وفلسطين – مسؤولين وعلماء آثار- في هذا الزمن الذي يختلط فيه الماضي بالحاضر. نحن دمّرنا الحاضر، فأمكن لهم للظلاميين تدمير الماضي، آثاراً وتاريخاً وهوية. أرحب بالحضور الكرام فرداً فرداً الذين تشكل معاناة الأمة معاناة شخصية لكل منهم.
هذه المناسبة متعدّدة الجوانب ومثقلة بالإشارات والرموز. مناسبة وعد بلفور، ومناسبة عرض الآثار الفلسطينية المسترَدّة، ومناسبة تدمير الآثار. كتب الكثير عن المناسبة الاولى على مدى حوالي المئة عام الماضية. لن أضيف شيئاً ولكني أستذكر قولاً لأنطون سعاده وكان له من العمر إحدى وعشرين سنة، ونحن في هذه المؤسسة نفتخر بأننا نحمل تراثه الفكري، استذكر قولاً في مقال له نشر في جريدة "المجلة" الصادرة في سان بولو بتاريخ 1/5/1925 بمناسبة زيارة قام بها اللورد بلفور الى سوريا؛ قال "لا يخيف أصحاب الحركة الصهيونية التهويل من بعيد والجعجعة، بل الشيء الحقيقي الذي يخيفهم هو الموت، ولو وجد في سوريا رجل فدائي يُضحّي بنفسه في سبيل وطنه ويقتل بلفور، لكانت تغيرت القضية السورية من الوجهة الصهيونية تغيراً مدهشاً. فإن الصهيونيين عندما يرون أن واعدهم بفلسطين قد لقى حتفه، يعلمون أنهم يواجهون ثورة حقيقية على أعمالهم غير المشروعة ويوقنون أن سوريا مستعدة للمحافظة على كل شبر من أرضها. بكل ما لها من القوى".
هذا القول ربما ما كان يعني قتل بلفور جسدياً، بل قتل وعده أو مشروعه أو مخططه لإقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين، مع ما جّر، ولا يزال، على أمتنا والعالم، من كوارث وويلات.
أما مناسبة عرض الآثار الفلسطينية المسترَدّة المعروضة أمامكم في هذه القاعة، فأكتفي بسرد القصة بكل اختصار: كان موشي دايان أحد أبرز مجرمي حرب العدو الإسرائيلي مولعاً بالتنقيب عن الآثار وسرقتها والاتّجار بها والتصرّف بها تصرّف المالك بملكه. لذلك أهدى عدداً من القطع الاثرية الى بعض غلاة الأميركيين الصهاينة في خمسينيات القرن الماضي.
وبعد مضي أكثر من نصف قرن عمد أحفاد هؤلاء العتاة، عندما أضحت هذه القطع الأثرية لا تعنيهم الا بمقدار قيمتها النقدية، على بيعها بالمزاد العلني. وهكذا تمكنت المؤسسة بالاشتراك مع "جمعية إنماء" من شراء هذه القطع واستقدامها الى لبنان بالطرق القانونية المطلوبة.
اما مناسبة تدمير وسرقة الآثار، فلن أقول فيها شيئاً مكتفياً بالطبع بما سيقوله المشاركون الكرام بعد قليل.
ولكنني إزاء خسارة مداميك من الحضارة أقامها شعبنا على مر العصور، لا يعوضنا إلا ارادة شعبنا وقدرته على إقامة مداميك جديدة، علماً أن التحديات الحاضرة، على رغم فداحتها، يجب ان لا تكون إلا تحديات تنتج استجابات خلاقة وبناءة عملاً بمقولة عالم فلسفة التاريخ البريطاني ارنولد توينبي challenge and response – التحدي والاستجابة.
واسمحوا لي أخيراً أن أختم بهذه الكلمة بما فيها من إشارات ورموز.
من الخطأ القول إن فلسطين قد ضاعت، إنها سُرقت بكل ما للكلمة من معنى. اقتحمت الصهيونية فلسطين وسرقتها على مراحل، ولا تزال أعمال السرقة متمادية. سرقت فلسطين العام 48 فاستخرج أحد كبار السارقين، موشي دايان، بعضاً من تاريخها وآثارها ونقوشها وأهداه رشوة الى بعض كبار الداعمين لعملية السرقة، بهدف استمرار الدعم واستدراره. هكذا أهدى دايان رئيس صندوق النداء الموحد الصهيوني قطعاُ من آثار فلسطين. ثمار السرقة الاولى، أي هذه القطع الأثرية، كانت مدداً للإقدام على ارتكاب جرائم السرقات اللاحقة. دم الضحية استسقى مزيداً من دم الضحية ذاتها. إن استعادة قطع أثرية فلسطينية ليست بديلاً من استعادة فلسطين، في هذا المسار الانحداري للقضية الفلسطينية، إن استعادة هذه القطع هي رمز لاستعادة فلسطين. إنه الرمز المستند الى وضوح الرؤية والتشبث بالحق القومي والرهان، ربما، على أجيال قادمة لاستعادة الحق كاملاً.